‏إظهار الرسائل ذات التسميات تفريغ نصي لدرر قرآنية من الدر المنثور للشيخ المغامسي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تفريغ نصي لدرر قرآنية من الدر المنثور للشيخ المغامسي. إظهار كافة الرسائل

السبت، 10 نوفمبر 2012

الدرة القرآنية السابعة عشر / قوله تعالى (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى)


بسم الله نبدأ وعلى الله نتوكل
 الدرة القرآنية هذا المساء حول قول الله - جل وعلا - في حق الطاغية فرعون (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) والآية المباركة هذه نعلم أنها جزء من سورة النازعات وهي سورة مكية من قصار المفصّل فيها الآيات متتابعة ، فيها من الوعد والإنذار والوعيد ما الله به عليم . قال الله - جل وعلا - فيها (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى) وهذا إخبار للنبي - صلى الله عليه وسلم - (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى) كنا قد بيّنا في لقاءات مرارا أن الله - جل وعلا - إذا أثنى أثنى بشيء عظيم فذكر الله - جل وعلا - هنا موسى في أشرف حالاته ، في الحالة التي كلّمه الله - جل وعلا - فيها (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى*اذْهَبْ) أي يا موسى (إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) "طغى" بمعنى تجاوز الحدّ فالسيل مثلا له مجرى يجري فيه فإذا كثُر هذا السيل وعظُم وخرج عن حده يُقال له طغى ومنه قول الله - جل وعلا - (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاء حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) أي أن الماء تجاوز حده . هنا قال الله - جل وعلا - (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى*فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى*وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى*فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى) العصا وما بعدها ، لكن فرعون قابل هذا كما قال الله (فَحَشَرَ فَنَادَى) "حشر" بمعنى جمع ، "فنادى" أي في قومه قال الله - جل وعلا - (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى*فَحَشَرَ فَنَادَى*فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) قال الله بعدها (فَأَخَذَهُ اللَّهُ) أي أخذ الله فرعون (نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) .
 السؤال الذي نريد الإجابة عنه في هذا اللقاء :
 / مالمراد بالآخرة ؟ وما المراد بالأولى في قوله سبحانه (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى)؟
- ذهب بعض العلماء إلى أن الآخرة هي الآخرة المعروفة والأولى أي الحياة الدنيا ، وممن ذهب إلى هذا القول ويكاد يجزم به الحافظ بن كثير - رحمه الله - في تفسيره وقال "إن معنى قول الله - جل وعلا - (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) الآخرة ما جاء من الآيات من أن فرعون يُعذب يوم القيامة كقوله - تبارك وتعالى - (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) وما في أمثالها من الآيات ، وأما الأولى فقوله - جلّ شأنه - في خبره عن فرعون وحاله ومآله (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً)" هذا ما نحى إليه الحافظ بن كثير .
- وبعض أهل العلم واختاره ابن جرير الطبري - رحمه الله - يذهبون إلى غير هذا وإليه أميل - والعلم عند الله - وأن المراد بالآخرة والأولى كلمتان تفوه بهما فرعون أمهله الله - جل وعلا- بينهما ، أمهله في الأولى عندما قال (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) والآخرة أي الكلمة الأخرى قوله (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) ففي كلا الكلمتين قال الربوبية ونازع الله - جل وعلا - في ألوهيته فالله - جل وعلا - يُخبر أنه أمهل فرعون - على ما قيل أربعين عاما ففي الأولى لما دُعي إلى التقوى ، دُعي إلى الإيمان بالله قال لأهل مصر (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) ، في الأخرى استكبر وعاند وتجاوز وقال (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) فلما قالهما قال الله - جل وعلا - (فَأَخَذَهُ اللَّهُ) أي بسبب هذا القول (نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى) .
/ الذي يعنينا زيادة على ما نحن فيه أن نتعظ بالآية التي بعدها قال الله - جل وعلا - (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) يحسُن بالمؤمن وهو يقرأ القرآن ويتلو آياته أن يتعظ بعظاته وأن يفيء إلى وعد الله ووعيده :
 يفيء إلى الوعد بأن يأخذ بالأسباب الموصلة إليه .
 يفيء إلى الوعيد بان يسأل الله أن يُنجيه منه وأن يسأل الله ألاّ يجعله ممن ينتهكوا حرماته أو أن يتجاوز حدوده .
فقول الله (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى) بيان للناس وعظة وتذكير بالقلوب الصالحة ، المؤمنة ، المرتقبة للقاء الله تبارك وتعالى وخشية الله خوفه مع محبته مع العِلم به ، فإذا اجتمع علم ومحبة وخوف هذا الذي يُطلق عليه - في الغالب - علينا في حق الله جل وعلا يُطلق عليه خشية ولهذا قرنه الله - جل وعلا - بالعلم قال ربنا (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) هنا قال ربنا (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى).
 ليس أمرا هينا أن يُتلى القرآن علينا ويخبرنا الله - جل وعلا - بأمم غابرة وقرون خالية كيف نكّل بها ثم لا يكن منا اتعاظ بمآل أولئك ، وإنما الذي ينبغي أن يكون في قلوبنا من العظة والخوف من بطش الله - جل وعلا - وما كان منه للأمم التي كذبت رسله وجحدت ربوبيته ونازعته - جل وعلا - في ألوهيته . تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
اقرأ المزيد...

الجمعة، 15 يونيو 2012

الدرة القرآنيــ السادسة عشرــة / (22- 28) من سورة المطففين


نقول والله المستعان ما سنتحدث عنه اليوم من آيات هي قول الله - تبارك وتعالى - في سورة المطففين :
 (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ *خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ )
(وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ )هو ما سنقف عنده كثيرا .
هذه الآيات - كما تعلم أيها المبارك - من سورة المطففين يقول فيها الحق - جل شأنه - يخبر عن مآل الأبرارفي جنات النعيم قال ربنا (إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) وهذا الأسلوب أسلوب تأكيد ، فيخبر - جل وعلا - أن مقر الأبرار ومآلهم إلى نعيمه ، إلى فضله ورحمته ، ثم ذكر بعض شأنهم قال (عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ ) ولا ريب أن الإنسان حتى في الحياة الدنيا إذا بشر بخبر يسره أو أصابه مال أو نال حظوة أو ما شابه ذلك من متاع الدنيا ظهر ذلك جليا على وجهه ، فكل ما يغلب على الظن أنه مفرح يظهر ذلك على أسارير وجه الإنسان وهذا مما لا اختلاف فيه فكيف إذا كان الإنسان يومذاك - جعلني الله وإياكم من أهل طاعته - في ذلك النعيم المقيم مع لذة النظر إلى وجه ربنا الكريم - تبارك اسمه وجل ثناؤه - قال الله (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) .
 ثم قال - جل شأنه - وهذا موضع الشاهد والمقصود من الحديث هنا ، قال (يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ) يخبر ربنا أن الأبرار يسقون من رحيق مختوم هذا الرحيق ختامه مسك ، وقد مر معنا بيان ما معنى ختامه مسك إما أن يكون في أعلاه أو يكون في نهايته ليس هذا المقصود في هذه الحلقة . (يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) ثم قال (وَمِزَاجُهُ) أي هذا الرحيق ، هذا الماء المخصص أصلا للأبرار مزاجه من تسنيم ، ما تسنيم يارب العالمين ؟ قال (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) ، سنبين بالماء هذا حتى تتضح الصورة .
 تسنيم هذه عين في أعلى الجنة ، هذه العين ينزل ماؤها إلى الأبرار ، هناك أبرار وهناك مقربون ، الأبرار لهم ماء ، ينزل الماء من تسنيم يُمزج بالماء الذي يشربه الأبرار ، إذا هؤلاء الأبرار لا يشربون من تسنيم شربا صرفا يعني خالصا من أي شيء . لا ، إنما يأخذون شيئا يسيرا من تسنيم فيمزجونه بمائهم قال أصدق القائلين وأحكم الحاكمين (وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ) أي ماء الأبرار ممزوج بتسنيم ، فماء الأبرار هو الأكثر لكن التسنيم يأتيهم يسيرا ليمزج مع مائهم ( وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ) .
ثم قال : (عَيْنًا) أي أن تسنيم وصفها (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أما المقربون الذين هم في منزلة أعلى من الأبرار ، أعلى منزلة من أصحاب اليمين فهؤلاء يشربون من تسنيم شربا صرفا لا مزجا أي خالصا فكل شرابهم من تسنيم أما الأبرار فإنما يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) جملة إعتراضية للحث .
(وَمِزَاجُهُ) أي ومزاج مائهم من تسنيم (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) لعلي أوضح الصورة عمليا . شخص ما ذهب إلى مكة ، لما ذهب إلى مكة قدر له ، له علاقاته ، غرف له من زمزم ماء فوضعه في إناء ثم حمله إلى ديار أهله ، قال لأهل بيته ، لجيرانه : هذا الماء بيدي غرفته تناولته دلوا من زمزم ، قال له بعض الجيران : هب لنا من مائك هذا ، قال : ائتوني بماء لكم فأمزج ماءكم بزمزم فيبقى ماؤهم أكثر ويمزجه لهم بشيء من ماء زمزم . هذا يقرب لك معنى قول الله - جل وعلا - (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) وهذا يدلك على فضل الله ورحمته . وقد مر علينا قول بعض أهل العلم والصلاح "إن دخول الجنة بالفضل والمنازل فيها بالعدل" .
لاحظ قول الله - جل وعلا - (يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) "المقربون" اسم مفعول مفرده مقرب أي قربهم الله ، فالفضل له - جل وعلا - في أنه أدناهم من رحمته وأعلا مقامهم بما كتب لهم في الدنيا من عمل صالح وبما وفقه لهم - جل وعلا - من عمل جليل يرضى عنه بهم ربهم - تبارك وتعالى - حتى أضحوا في منازل عالية والجنة منازل كما أخبر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - .
 قبل أن أطوي هذه الدرة أقول :
 سورة المطففين يأتي فيها مسألة نحوية لتقريب معنى : قال الله - جل وعلا - في أولها (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ) معنى قوله - جل وعلا - (كالوهم) : كالوهم أصلها كالوا لهم طعاما ، كالوا لهم شيئا طعام أو غيره فالأصل الفعل "كالوا" وهو متعد بحرف الجر اللام و"هم" ضمير وقع مفعول به أول وإن قدرنا المفعول الثاني طعاما أو شيئا وقع مفعولا به ثاني ؛ أي أن "كال" تتعدى إلى مفعولين ، قلنا أصلها كالوا لهم لكنه حذفت اللام فأصبح الضمير "هم" ملتصقا بالفعل كالو لهم . هذا من كلام العرب ، جاء في شواهد العرب التي لا يُعرف قائلها قول القائل وهذا شاهد نحوي معروف يقول :
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا *** ولقد نهيتك عن بنات الأوبرِ
 معنى البيت : ولقد جنيت لك أكمؤا ، مثلها تماما قول الله - عز وجل - "كالوهم" أي كالوا لهم طعاما . في البيت : ولقد جنيت لك أكمؤا والبيت معناه : أن هذا يقول لصاحبه أن هناك كمأ جيد طيب وهو العساقل والكمأ وهناك رديء منه أمثال الحصى الصغير رديء الطعم وهذا يسمى بنات أوبر ، فليست بنات أوبر بنات عائلة معينة إنما هو نوع من الكمأة يشبه الحصى في حجمه ، صغير لكنه رديء الطعم فهو يعاتب صاحبه لا حاجة لك بهذا وقد جنيت لك كذا وكذا ، فالشاهد من الخبر كله أن الإطلاع على لغة العرب يعين على فهم القرآن ، فالشاهد فيه قوله : ولقد جنيتك أي جنيت لك أكمؤا فـ"جنى" فعل و"التاء" فاعل ، و"الكاف" مفعول به أول و"أكمؤا" مفعول به ثان ، و"عساقل" معطوفة عليها . وكذلك قول الله (كَالُوهُمْ) "كال" فعل و"الواو" فاعل ، و"هم" ضمير متصل في محل نصب مفعول به أول ، والمفعول به الثاني مقدر طعاما أو شيئا . هذا استطراد نحوي أردت منه أن أشير إلى أن للغة العرب دورا كبيرا في فهم كلام الله - جل وعلا - .
اقرأ المزيد...

الجمعة، 30 ديسمبر 2011

الدرة القرآنية الخامسة عشر مع خبر مريم عليها السلام في سورة مريم


الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات والصلاة والسلام على من ختم الله به الرسالات ، وأتم به النبوات سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه أهل الفضل والمروءات أما بعد أيها المباركون والمباركات سلام الله عليكم ورحمته وبركاته :
نمضي سويا في الدرة القرآنية مع قول الله - تبارك وتعالى - {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا }
إلى قوله تعالى {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } .الله - جل وعلا - جعل هذا الكتاب العظيم مهيمنا على الكتب كلها وقد ذكر الله فيه ثلة من الأخيار الأبرار رجالا ونساء ، ذكرهم الله في أشرف مقاماتهم وأعلى أحوالهم ، كما ذم في القرآن أقواما فمن ذمه الله - جل وعلا - في القرآن إنما ذمه لعيب فيه ونقص منه وهذا يدفعنا إلى أن نتحرز تلك الفعال ، وننأى بأنفسنا عن تلكم الخصال . وثمة أقوام أثنى الله - جل وعلا - عليهم في كتابه من النبيين والمرسلين ، والصالحين والصالحات ، ومن أولئك الصديقة مريم عليها السلام ، قال الله - جل وعلا - {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ} أي أذكر أيها النبي الكريم أنا ختمنا بك الرسالات واتممنا بك النبوات ، اذكر في هذا الكتاب العظيم الذي أنزلناه عليك ، اذكر الصديقة مريم {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} كان الأصل أن مريم تعتكف في بيتها ثم بدا لها أن تغير مكان عبادتها وأن تخرج إلى البرية فخرجت قال ربنا { إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا} أي سترا لا تريد منهم أن يُبصروا عبادتها ولا أن يتأملوا كيف تقوم لربها وتذكره حفاظا على أن تكون أبعد عن الرياء وأنأ بنفسها عن السمعة فاتخذت من دونهم حجابا فماذا كان ؟
قال الله - جل وعلا - {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} والإضافة هنا إضافة تشريف ولا ريب أن المقصود به جبرائيل عليه السلام أحد الملائكة العظام سلام الله - جل وعلا - عليه ، قال الله - جل وعلا - {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} وهذا مما آتاه الله - جل وعلا الملائكة القدرة على التشكل {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} ولم يُخبر القرآن هنا أن جبرائيل جاء منه أي طريق أو محاولة لإيذائها ، أو لم تخرج منه كلمة تنبئ عن غرض سيء ، لم يقع منه محاولة الاقتراب منها ، لم يقع منه لفظ ينبئ عن فساد طويته قال الله - جل وعلا - {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} إلا أن تلك الصديقة هتفت حتى تقطع على الشيطان حبائله ، وحتى تعصم نفسها من الوقوع في الإثم بادرت هي في الخطاب {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا} أي فاتركني واجنبني وهذا يدل على أن المرأة العاقلة لا تجعل للأشرار طريقا عليها وليس المقصود هنا - عياذا بالله - أن يوصف جبرائيل بالشر لأنها لم تكن تعلمه وإنما خاطبته على أنه رجل ظهر لها في البرية ، وما يكون في أنفس الرجال نحو النساء أمر لا يخفى ، فهي أرادت أن تقطع العلائق وتقطع حبائل الشيطان {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن} فنرى أنها سلكت طريقين : اللجؤ إلى الله - جل وعلا - وهذا يمثله قول الله - جل وعلا - {قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ} ثم اتخذت الأسباب ، ذكرته ، وعظته ، أرهبته قالت {إِن كُنتَ تَقِيًّا} لكن جبرائيل - عليه السلام - هنا كشف اللثام عن شخصيته {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} وانظر لم يقل إنما أنا رسول ربي ، أراد أن يهون الأمر عليها وأن يُخبها بلطف الله - جل وعلا - لها فاَضاف لفظ "رب" إليها {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا} فبادرته بالجواب أن هذا مُحال وأخبرت أنه لا سبيل إلى الولد إلا عن طريقين : إما عن طريق زواج شرعي أو أمر بغي وكلاهما هي بعيدة عنه {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا*قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} أي بطريق شرعي {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} أي بطريق غير شرعي ، ولا يُتصور الولد إلا من مثل هذا {وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} ، {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ} وهذا إجمال وإسناد الأمر للكبير المتعال وما بعده إنما هو تبع له لكن يكفي في الجواب أن يُقال {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ} أي هذا المولود {آيَةً لِلنَّاسِ} ولا ريب أن إخراجه من رحم امراة من دون زوج آية ، وأي آية وقد قال الله - جل وعلا - {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} ، ولا ريب أن عيسى بن مريم - عليه السلام - من أعظم الآيات .
قال ربنا - جل وعلا - {قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا} رحمة لمن ؟ رحمة على ثلاث :
/ رحمة بعيسى نفسه إذ أن النبوة من أعظم الرحمة ، كونه أن يجعله الله نبيا هذا من رحمة الله به .
/ ورحمة على مريم نفسها أن يكون منها ولد نبيّ ، فهذا يجعل لهل فخارا وذكرا حسنا في الناس ، إضافة إلى ما ينفعها ابنها به .
/ ورحمة للناس أجمعين لأن الأنبياء لا يدعون الناس إلا إلى خير ولا يرشدون إلا إلى فضل ولهذا سماهم الله - جل وعلا - رحمة قال الله عن نبينا - عليه السلام - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} هنا يقول الله - جل وعلا - {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا} . ثم بيّن لها أن هذا الأمر قد خُطّ في الأزل ، وكتبه الله - جل وعلا - من قبل { وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} حتما وقوعوه ولزاما كونه لأن الله جل وعلا - أمر به وكتبه عنده - جل وعلا - وقدّره وخلقه { وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا} ، لما كان أمرا مقضيا كان لابد أن تحمله فجاءت الآية التي بعدها {فَحَمَلَتْهُ} والمشهور أن جبريل عليه السلام نفخ في جيب درعها حتى وصلت النفخة إلى رحمها ثم حملت به قال ربنا {فَحَمَلَتْهُ} والأصل أن الحمل تسعة أشهر ولم يأتِ في القرآن والسنة ما يدل على أن حمل مريم دون ذلك .
{فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ} أي بعيسى ، أي بحملها {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} في الأول قال ربنا {مَكَانًا شَرْقِيًّا} ، هنا قال مَكَانًا شَرْقِيًّا {قَصِيًّا} لأن الأمر الأول كانت فقط تريد أن تبعُد عن العين حتى لا تُرى عبادتها عن أعين الناس ، أما الآن فهي تريد أن تنأى بعيدا لأن لا أحد يصدقها أنها حملت من غير زوج ، قال الله - جل وعلا - {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ} أجاءها المخاض بمعنى : ألزمها المخاض ، اشتد عليها المخاض ، وجع الولادة حتى ألزمها إلى جذع نخلة {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} هناك تمنت الموت خوفا أن تُفتن في دينها {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا} فإذا بها تُنادى قال الله - جل وعلا - {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا}
واختُلف من الذي ناداها :/ قال بعض العلماء إن الذي ناداها جبريل ويصبح كلمة "تحت" هنا بمعنى مريم وابنها في مكان عال وهو في مكان أدنى ، قلوا : ويؤيد هذا قول الله - جل وعلا - { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} .
لكن الذي يظهر لي - والعلم عند الله - أن الذي ناداها هو عيسى ابنها قال الله - جل وعلا - {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا } لأن قول الله - جل وعلا - في هذا السياق كله {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا } وهو يتكلم عن الولادة ومخاضها إنما ينصرف إلى المكان المعروف إلى ما عند قدميها . {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا } مكان في الغالب يُنزه جبريل أن يصل إليه ، يُنزه الملك جبريل أن يكون قريبا منه ولهذا الأرجح عندي - والعلم عند الله - أن الذي ناداها هو عيسى ، ولعل في هذا توطئة لها أن تسمع كلامه وهو قد وُلد لتوه حتى إذا تكلم في مهده بعد ذلك لا يكون في ذلك الأمر فجأة لها ونظير هذا في القرآن أن موسى - عليه السلام - ألقى العصى فأضحت حية وهو بين يدي الله فقال له ربه {خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} هذا كله بعيد عن فرعون فلما أضحى بين يدي فرعون لم يفزع موسى أن تنقلب العصا إلى حية وإنما الذي فزع فرعون ومن حوله ولعل هذا - والعلم عند الله - نظير هذا .
{فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا } أي نهرا جاريا {فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} هنا يمكن أن يُقال أن القائل ملك ويكون هناك تراخي زمني ما بين الحادثتين .
{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا } ليس صوما عن الطعام والشراب ، هذا لا يليق بالنفساء إنما صوما عن الكلام { إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} والقرينة {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} . اشتد عودها ، قامت من وجع الولادة ذهب ما يكون من أمر النفساء حملت صبيها ولابد لها أن تفد على قومها قال العلي الكبير {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} تحمل الصبي في مهده {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} أمرا عظيما بشعا مستنكرا {يَا أُخْتَ هَارُونَ} وهذا اسم لأخيها وليس هارون أخ موسى لأن بين موسى وعيسى قرونا عدة . قال الله - جل وعلا - {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} والأصل أن الإنسان في الغالب يكون فيه شيء من المكان الذي ينشأ فيه ، ولما كانت قد نشأت في قوم صالحين عابدين معروفين بالعلم والتقوى تعجبوا من كونها تأتي ببغي - حسب ظنهم وفهمهم - {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} اكتفت بالإشارة {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} ازدادوا تعجبا وإنكارا {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} أي من وجد في المهد صبيا ، فأنطقه الله {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} افتخر عليه السلام بأنه عبد لله وهذا من أرفع المقامات ، بل لا مقام أرفع منه {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ} حتى أكون على بينة من أمري فأهدي الناس على بينة من ربي {وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} أكرمني بالنبوة وهي منزل مُنيف ومعقل شريف لا يُنال بسبب من الأسباب إنما هو فضل محض يختصّ به - جل وعلا - بعض عباده {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ} . { وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ}
الرجل المبارك والمرأة المبارك أينما حلّ ونزل وحيثما جاء وارتحل يقع منه البركة على الناس ، تراه سمحا في كلامه ، سمحا في أمره ، سمحا في نهيه ، لا يرى الناس منه إلا ما ينفعهم .{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ} التي هي أعظم حقوق الله بعد التوحيد {وَالزَّكَاةِ} التي هي حق لله جعلها الله - جل وعلا - لعباده {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ* لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم} .
{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا*وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} وهذا من أعظم ما يُطلب به رضوان الله {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} لا يفرح بأنه جبار شقي إلا المحروم ، الله - جل وعلا - خاطب نبيه بقوله {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} .
{وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا*وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} أحوال ثلاثة ينتقل فيها المرء من عالم إلى عالم ، فلحظة الولادة الانتقال إلى عالم الدنيا ، ولحظة الوفاة الانتقال إلى عالم الآخرة ، ولحظة البعث الانتقال إلى عالم الخلود ، قال الله - جل وعلا هنا {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} بعد أن فصّل الله الأمر أبان للنصارى حقيقة ما وقع قال ربنا {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} اختصم الناس فيه عندك أيها النبي الكريم وتلاحوا فيه فاليهود تزعم أنها قتلته ، والنصارى تقول إنه ابن الله ، فما القول الفصل ؟ جاء به القرآن {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} فنزه الله - جل وعلا - ذاته العليةأن يكون له ولد {مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} ليس نفي الولد عن عيسى فقط أي ليس عيسى ابن الله ويُحتمل أن يكون لله ولد غيره - تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا - بل جاء النفي مطلقا {مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} ثم جاء ذكر "سبحانه" وهي مصدر جيء به هنا كجملة اعتراضية ، وهو اطناب لكنه اطناب في مكانه قال الله - جل وعلا - (سُبْحَانَهُ) ثم بين - جل وعلا - عظمته قال {إِذَا قَضَى أَمْرًا} تبارك اسمه وجلّ ثناؤه { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن} وما أجمل أن يقف الإنسان هنا {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن } ، مالذي يحصل ؟ مالذي يقع ؟ يكون الأمر {فَيَكُونُ} وجيء بصيغة المضارع حتى يُتصور وقوع الأمر للسامع { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } .هذا بعض خبر الصديقة مريم في هذه السورة المباركة التي سُميت باسمها .
اقرأ المزيد...

الاثنين، 26 ديسمبر 2011

الدرة القرآنية الرابعة عشر مع قوله تعالى (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ...) (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)


الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله بلّغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاه الله بأفضل ما جزى نبيا عن أمته ، صلى الله وملائكته والصالحين من خلقه كما وحّد الله وعرّف به ودعا إليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد أيها المباركون والمباركات : سلام الله عليكم ورحمته وبركاته :
الدرة القرآنية اليوم هي حول قوله - جلّ ذكره - (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) [الإنسان]هذه الآيات - كما هو ظاهر- من سورة الإنسان ، وسورة الإنسان ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرؤها مقرونة مع سور (الم تنزيل ) السجدة يقرأ بهما عليه الصلاة والسلام صلاة الفجر من يوم الجمعة .نحن معنيون هنا بالحديث عن قول الله - جل وعلا - (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا) الحديث عن أهل الجنة وما يكون في نعيمها ومناسبة هذه الآية لما سلف من الآيات كالتالي :ذكر الله - جل وعلا - في صدر السورة كيف ان الناس خُلقوا هذا شاكر وهذا كفور (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) ثم بيّن - جل وعلا - في هذه الآيات المباركات بعد ذلك - أي بعد آية (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) ذكر شراب أهل الجنة فقال - جل ذكره (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) ثم بيّن - جل وعلا - الآنية التي يشرب بها أهل الجنة قال ربنا ( قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا) وهنا تعجب كيف أنها قوارير من فضة لأن الفضة غليظة ، سميكة لايُرى باطنها وظاهرها لكن كونها معدنها من فضة ثم تؤول إلى قوارير هذا يدلك على عظيم النعيم وجليل الصنعة .
ذكر ربنا هنا الشراب ثم ذكر الآنية (قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ) بعد أن ذكر الشراب والآنية ذكر السُقاة فالحديث عن قوله (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي على أهل الجنة (وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ) حديث عن السُقاة الذين يقومون بخدمة أهل الجنة وهم الأبرار الذي سلف الذكر عنهم في قوله - جل ذكره - (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) ، " يطوف عليهم " أي يكونون قريبين منهم بين أعينهم غير بعيدين عنهم ، ما إن يهمّ أحدهم بالإشارة إلا وذلك الوليد واقف على رأسه ، فقول الله - جل وعلا - (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) هذا من إكرام الله لأوليائه المتقين وعباده الصالحين في جنة النعيم .
" ولدان " جمع وليد وهي في الأصل تُطلق على ما قرُب سنه من ولادته لكن هنا قد يكون في الغالب دون البلوغ وهذا حتى لا يقع في النفوس شيء وإن كانوا في الجنة أن يلحق من تبعتهم شيء فأهل الجنة مطمئنين على دخول هؤلاء الولدان عليهم ذكرانا وإناثا ، (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ) والعرب تقول للذكر وليد وللأنثى وليدة وما جاء القرآن بقريب من هذا في قول الله - جل وعلا - في سورة النبأ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا*حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا*وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا) أي متقاربات السن ، وكونهن متقاربات السن هذا يجعلهن أقدر على العشرة والتآلف بينهن وهذا ذكره في متاع الحور العين ، لكن هنا الكلام عن الولدان المخلدين قال - جل ذكره - (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ) إلا أن المشهور الظاهر من قوله سبحانه (مخلدون) ليس المقصود هو ذكر الخلود في الجنة فهذا مستفيض معلوم دلت عليه آيات أُخر ، وإنما هؤلاء الولدان لا يتقدم بهم السن ، أي لا يكبرون سنا ويبقون على تلكم النضارة ، وعلى القدرة على الخدمة وعلى القدرة على العطاء فهم خالدون في نضارتهم ، خالدون في سنهم لا يهرمون ، لا يكبرون ، وإن الإنسان قد يؤتى في الدنيا هذه بخادم يخدمه فيرى منه حُسن المنظر والقوة والقدرة على القيام بالمطلوب لكن هذا الخادم مع الأيام لا يزال يكبر فتذهب قوته ، ونضارته ، تذهب قدرته ويحتاج إلى تبديله ، فالآية هنا تُخبر أن الولدان الذين أعدهم الله خدما لأهل الجنان لا ينالهم شيء من هذا قال ربنا (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ) أي هؤلاء الولدان (حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا) اللؤلؤ وهو منثور أكمل في العين ولاحظ هنا كيف أن الله - جل وعلا - لما ذكر الحور العين أخبر بقربهن وأخبر بانتظامهن لأنهن لا يمتهن للخدمة ، أما هؤلاء الولدان فإنما جعلوا في الجنة لخدمة أولياء الله المتقين وعباده المقربين ولهذا كان نثرهم أمرا محمودا يحسن في النظر ويحسُن في الأثر ، في النظر فرؤيتهم منثورين تملأ العين ، وفي الأثر أنه متى ما احتاج إليهم فهم قائمون على خدمتهم غير متوانين عن أداء واجبهم قال ربنا (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا) ثم قال "وَإِذَا" وهي هنا شرطية كما هو معلوم (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ) بمعنى هناك (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) سنتحدث عن الإثنين : أما النعيم فلا أظنه إلا من جنس الأول مما لا يخطر على بال أحد وفي الحديث (مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) فهو نعيم من عطاء الله - جل وعلا - لأوليائه وعباده الصالحين من جنس ما أخبر الله عنه قبل ذلك ، لكن يبقى محاولة العلماء في فهم قول الله - جل وعلا - (وَمُلْكًا كَبِيرًا) وقد فُسر هذا الملك الكبير بتفسيرات عدة ، وأظهرها عندي - والعلم عند الله - أن معنى الملك الكبير : استئذان الملائكة عليهم ، وكونه ملك كبير فإن للملائكة مقاما عظيما عند ربهم ، الله يقول عنهم (لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) ثم هؤلاء الملائكة مع تلك المكانة وجليل المنزلة التي حظوا بها يستأذنون على عباد الله الصالحين وعلى عباد الله المقربين ممن كتب الله لهم الجنة وهذا يدلك على أن أولئك المتقين في مُلك عظيم ، وهذا أعظم ما يُناسب في التفسير كلمة مُلك لأن المُلك يُشعر بالعزة ، بالمنعة ، بالقوة ، بالأمر والنهي ، هذا ما تدل عليه مفردة مُلك فهذا أجمل شيء مناسب أن يُقال أن استئذان الملائكة عليهم هو الملك الكبير والمقصود بالآية ، لكن لا نصل في قولنا هذا إلى حد الجزم لغياب النقل الصحيح ومتى غاب النقل الصحيح فإن الجزم يصبح ضربا من الخبال .
نعود فنقول قال ربنا (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) نحن ينبغي أن نتساءل بم نال أولئك المتقون هذا الملك الكبير؟ ، نالوه بالليل الذي كانوا يقومونه ، وبالنهار الذي كانوا يصومونه ، وبالمال الذي كانوا ينفقونه ، وبالجار الذي كانوا يبرونه ، وبالقرآن الذي كانوا يتلونه ، فأعمالهم الصالحات أورثتهم روضات الجنات ، وفي روضات الجنات أدركوا هذا الملك الكبير حتى بلغوا من المنزلة والمكانة أن ملائكة الرحمن يستأذنون في الدخول عليهم ، هذا يدفع المؤمن إذا أدرك هذا حق اليقين أن يعلم أن ما يجده أحيانا من مغالبة النفس والهوى على طاعة من الطاعات يريدها أو معصية من المعاصي تدفعه نفسه إليها أن يتوق إلى ذلك المُلك الكبير وأن يعلم أن كل بلاء دون النار عافية ، وأن كل نعيم دون الجنة فانية فهذا هو الذي تشتاق إليه الأنفس ولا ريب أن مهره الأغلى قيام الليل بين يدي الله ، ومن الأدلة على أن مهره الأغلى والأعلى القيام بين يدي الله : أن الله لما ذكر المقام المحمود لنبيه قال
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا) .تأمل كيف أن الله هنا ذكر الشراب وذكر الآنية وذكر السُقاة ، بعد أن ذكر هؤلاء الثلاثة جاء ذكر الثياب التي يتحلون بها (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا) ليس كل ما يُعطى في الجنة مباح في الدنيا ، وليس كل ما حُرِّم في الدنيا ممنوع عن أهل الجنة ولا فصل في هذا إلا بالكتاب والسنة الصحيحة ولا دخل للعقل هنا أن يوازن ، أن يقول هذا أقرب ، هذا أمثل فالأساور من زينة النساء في الدنيا ، ومن زينة بعض الملوك فيما مضى من أيام العرب ، فنحن ممنوعون عنها لكنها في الجنة مباحة ، وأقرب من هذا مثالا وظهورا الخمر فهي محرمة في الدنيا مع أن الله ذكر أن في الجنة أنهارا من خمر كما أن الأمر يتضح بحلاء في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ذكر رحلة الإسراء والمعراج أخبر أن قلبه الشريف الطاهر غُسل في طشت من ذهب مع أن شريعتنا بلسانه - عليه الصلاة والسلام - حرمت علينا استعمال آنية الذهب والفضة لكن هذا استعمال من قبيل الملائكة لا من فعله - صلوات الله وسلامه عليه - وهذا يبين لك كما قال بعض الأصوليين أن بعض المسائل لها مشارب خاصة وجادة تليق بها فلا يصح أن تقول أشباه ونظائر في كل شيء وإنما يُحتاط في هذا الأمر ولا يؤخذ على إطلاقه ولا على سعته - والعلم عند الله - لكننا قبل أن نطوي الدرة القرآنية نقول :
هذا بعض النعيم الذي أخبر الله عنه لأهل طاعته وساكني جنته فهو يبين إكرام الله - جل وعلا - لعباده ، وهنا نقتبس كلمة جليلة للعلامة بن سعدي التي قالها - رحمه الله - عند تفسيره لهذه السورة المباركة ، قال " فكما أن الله - جل وعلا - لا نهاية لأوصافه فكذلك لا نهاية لبره وإحسانه " . جعلني الله وإياكم ممن يرفل في الدنيا والآخرة ببر الله - جل وعلا - وإحسانه .
اقرأ المزيد...

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

الدرة القرآنية الثالثة عشر قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ )


سورة التغابن وهي سورة اختلف هل هي مكية أم مدنية والأشهر أنها مكية وقيل إن بعض آياتها مدنية والعلم عند الله ، وسُميت بسورة التغابن لقول الله - جل وعلا - فيها (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ). أما الآيتان اللتان نحن بصدد الحديث عنهما فإن الله - عز شأنه -يقول ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) وقال في الآية الثانية (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) فأنت تلحظ أنه لما ذكر في الأول قال "من " وهي بعضية ويصبح المعنى إن بعض الأزواج وبعض الأولاد عدو ، أما في الثانية فقال (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)ولم يقل "من" فالأموال والأولاد فتنة على كل حال ، أما كون الأزواج والأولاد عدو فهذا ليس على كل حال ولهذا جاء بـ "من" قال - جل ذكره - (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ) .
النفس تخشى الضرر من وجهين :- ضرر على البدن وهذا غالبا يأتي من جهة الدنيا .
- وضرر على النفس والروح وهذا غالبا يأتي من جهة الدين يعني بمعنى ضرر على الدين ، يعني يُناكفك ، ينافحك في دينك .
فالآية الأولى يقول الله - جل وعلا - فيها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا نداء كرامة (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) العدو يكون عدوا لذاته ويكون عدوا بفعله ، فمن العدو للذات إبليس والحية ، فإن الحية نهشتك أو لم تنهشك ، آذتك أو لم تؤذك فهي عدو ، وفي الحديث ( ما سالمنهن منذ أن حاربنهن ) ، لكن من الأعداء ما يكون عدوا بفعله فقد تكون العداوة عداوة حقيقية غير عارضة يقول ربنا (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ) في سورة المائدة لكن هذه العداوة قد لا تصل إلى أن تكون حقيقية لكن قول الله - جل وعلا - (فَاحْذَرُوهُمْ) أي تنبه أيها المؤمن أنه لا شيء أعظم من آخرتك فلا يكن سعيك في أن تذهب عنك آخرتك ، فلربما صرفتك الزوجة أو العكس يصرف الزوج زوجته عن أعمال الطاعات وعن فعل الخيرات ، فلما يكن هذا الشخص الذي يصرفك عن الطاعات وعن أفعال الخيرات يصنع هذا الصنيع فقطعا هو عدو لأنه حال بينك وبين طاعة الله ، ولا شيء أعظم ولا أجلّ من أن تعبد الله - جل وعلا - وتطيعه فكل من حال بينك وبين طاعة الله ورضوانه وبلوغ جنته فهو عدو لك من وجه ما بقدر حيلولته بينك وبين طاعة الله - جل وعلا - .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ) وهذا يُنبئ المؤمن على أن يتوخى الحذر وهو يتعامل مع من حوله ، لكن ربنا - جل وعلا - حتى يتحقق التوازن لنفسية المؤمن جاء القرآن بقوله (وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا) فالصفح يكون بألا يكون هناك تثريب ، والمغفرة تكون بطي الأمر وقبول العذر ، وقول ربنا - جل وعلا - في الأول (وَإِن تَعْفُوا) يكون بنسيان الذنب وتركه.
أيا كان هذه الأمور الثلاثة المتتابعة قلنا يُراد بها التوازن فلا يُفهم من الأول أنك تجعل من أزواجك وأولادك عدوا تحاربهم لكن هذا الأمر الذي يُفهم في الأول جاء ما بعده مقيدا له حتى يتحقق التوازن فثمة أمور يحسًن فيها طرح التثريب ، يحسُن فيها عدم اللوم ، يحسُن فيها طي الذنب لكن ليس على كل حال فبعض الذنوب والأخطاء إن تٌركت دفعت إلى ما هو أعظم منها والعاقل يتعامل بحكمة وإدراك للمآل ، خطأ منا أن نفكر في الحال ، لابد من إدراك المآل حتى يستقيم قرارنا ورأينا في كثير من المسائل .
(إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)
من منا لا يرجو رحمة الله وغفرانه فحتى يتحقق لنا هذا من وسائل ذلك العفو عمن ظلمنا لأن الله يقول
(هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ).في الآية الأخرى التي تليها قال ربنا (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ) هذا أسلوب حصر (وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا أجر أعظم من الجنة على هذا أكثر أهل التفسير وهو الصواب . أما قول الله - جل وعلا - (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) فالمال فتنة لأن الإنسان إذا كان فقيرا ربما فقر هذا دفعه إلى أمور محرمة حتى يستغني ، وإن كان بين بين فإنه يُصاب بالشُح ولذلك هذا من أعظم أحوال الإنفاق لأنه يطمع أن يكون غنيا ، والغني يقول قد جمعت وتعبت وجهدت فيخشى من الإنفاق ، فقال ربنا- جل وعلا - وفي الخبر الصحيح (وفتنة أمتي في المال) . قال ربنا هنا (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) وأما ذكر الأولاد فيُأيده الحديث الصحيح ، حديث عبدالله بن بُريدة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد المنبر فبينما هو يخطب دخل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان فيعثران فنزل من المنبر وحملهما والتفت إلى الناس وقال صدق الله (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) لقد نظرت إلى ابني هذين يمشيان فيعثران فلم أصبر حتى نزلت وحملتهما ) صلوات الله وسلامه عليه .
الفتنة غير العدو ، فالعدو ينشأ عنه فعل ، تشعر به أنه يحول بينك وبين طاعة الله - جل وعلا - ، أولاد وزوجة يصرون عليك صباح مساء على أعمال تعلم أن فيها تعدي لحدود الله وحرماته ، أو لا يأتون لك بطريق غير مباشر - أين سنذهب هذا الصيف ؟ إلى أي الديار سنفر من برد الشتاء- وهم يعلمون أنك غير ذي مال حتى تسعى لجمع المال فتشعر أنت أنك أحيانا مجبر على أن تستدين ، وربما بعض النفوس تسرق ، بعض التفوس تختلس ، بعض النفوس تقبل الرشوة حتى يُرضي تلك الزوجة وأولئك الأولاد ، من هذا الباب هم عدو ،. فإذا صمتوا ولم يتكلموا ولم يقولوا شيئا فليسوا بأعداء لكنهم يبقون فتنة لأن كونك تراهم حالهم غير حال الناس تشعر بنقصان يعتريهم هذا فتنة واختبار لك وربما دفعتك نفسك من غير طلب منهم لا تصريحا ولا تلميحا إلى أن تصنع شيئا من الحُرمات ، تنتهك بعض الحرمات ، تتجاوز الحدود حتى تشعر بأنك قدمت شيئا لهم وهم في هذا الحال فتنة ، فهم فتنة على كل حال ولم يتكلموا ، فإن نطقوا ودفعوك إلى معصية الله فهم عدو بفعلهم .
أما المال فقد قلنا قال عليه الصلاة والسلام (وفتنة أمتي المال) وهذا واقع معاصر يشهد على هذا - عياذا بالله - فما دفع الناس إلى أن يتخلوا عما استئمنوا عليه إلا حبهم للمال وهذا حديث يستفيض فيه لكن فيما قلناه كفاية لأن الكلام الإنشائي إذا طال حول كلام الله يذهب عنه رونق التفسير وإنما يُفسر القرآن بالقدر الذي يغلب على الظن أن سامعه فقه عن الله - جل وعلا- كلامه .
اقرأ المزيد...

الاثنين، 19 سبتمبر 2011

الدرة القرآنية الثانية عشرة/ قوله تعالى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ)


سنتفيئ في هذه الدرة القرآنية ظلال قول الله تعالى في سورة الأعراف (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ) إلى قوله - تبارك اسمه - في الآية التي تليها (لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
إن من طرائق فهم القرآن ودلائل الكتاب المبين أن ينظر الإنسان إلى السياق التاريخي ، وأول أمر يُبدأ به مجال الآية في السورة نفسها ، ثم أين هذه الآية وتلكم السورة من القرآن كله .
الله - جل وعلا - قبل هاتين الآيتين ذكر خبر أن موسى - عليه السلام - وقومه جاوزوا البحر قال الله - جل وعلا - (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ) وهذا لما كانوا قد خرجوا ونجاهم الله - جل وعلا - من فرعون وبطشه وأغرق الله - جل وعلا - فرعون وقومه وبنوا إسرائيل ينظرون ، ثم إن الله - جل وعلا - قبل ذلك كتب عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة لكن أولئك القوم أبوا ( قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) فلما امتنعوا كتب الله - جل وعلا - عليهم أن يبقوا في أرض التيه قال تعالى (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ) أي الأرض المقدسة (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) في تلك الحقبة ، في الزمن الأربعين سنة جرت لبني إسرائيل أحداث عظام ، وخطوب جسام ، كان قبل أن تنتهي الأربعين مات هارون ومات موسى لكن قول الله - جل وعلا - هنا (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ) أي من بعد أن خرج موسى إلى الميقات الزماني والمكاني الذي كلمه عنده ربه - جلّ ذكره - فليس المقصود (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ) أي من بعد موته ، ليس هذا المقصود البتة ولم يقل به أحد وسياق الآيات يأباه لكن الله - جل وعلا - ذكر قبلها أن موسى ذهب إلى ميقات ربه وجعل أخاه هارون خليفة له (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) فأمره أن يبقى خليفة بعده ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مُذكرا بشيء من هذا مع وجه شبه آخر لعلي - رضي الله عنه - ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ).
المقصود لما بقي هارون وذهب موسى إلى ميقات ربه ، في هذه الحقبة قال الله يحكي خبرها ويقصّ علينا ما كان من بني إسرائيل بعد أن ذهب موسى إلى ميقات ربه ، قال الله - جل وعلا - (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ ) قوم موسى أي بني إسرائيل ، " اتخذ " عند علماءالعربية - كما تعلم- وأرباب النحو فعل يتعدى إلى مفعولين قال الله (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً) ، " عجلا " هي المفعول الأول لكن الله - جل وعلا - لم يذكر ولم ينص هنا على المفعول الثاني لأن المفعول الثاني تقديره هو : عجلا جسدا له خوار إلها ، جعلوا ذلكم العجل إلها ، لما جعلوه إلها كان هذا فرية عظمى وشركا أكبر ومع ذلك لأن الأمر عظيم ولا يُتصور أن يتخذ أحد عجلا إلها من دون الله لم يذكر الله - جل وعلا - هذا القول ، لم يذكر الله هذا المفعول لاستعظام الأمر وشناعته وكأن الأمر لا يُعقل ولا يُقبل أن يُنقل ولا أن يُتصور مع أنه وقع. قال الله - جل وعلا - (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ) قلنا من بعد أن ذهب موسى إلى أرض الميقات المكاني إلى جبل الطور حيث كلمه ربه.
(مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ) الحلي : ما يُتزين به وغالبه يكون من الذهب والفضة . أضاف الله - جل وعلا - الحلي هنا لبني إسرائيل وقال ربنا في سورة طه (وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ) من زينة القوم أي : من زينة أهل مصر ، إنما إضافة التمليك هنا في قوله - جل وعلا - (مِنْ حُلِيِّهِمْ ) باعتبار أنها كانت الحلي في أيديهم وربما كان شيء منها مما يملكونه أصلا لكن أكثر تلك الحلي إنما أُخذ من الأقباط عندما كان بنو إسرائيل مجاورين لهم في أرض مصر قبل أن يأمرهم الله أن يخرجوا من أرض مصر فكانوا يستعيرون الحُلي فبقيت في أيديهم فتسلط عليها السامري وأمرهم أن يجعوها فجمعوها فنبذها أي طرحها وجعل منها عجلا جسدا له خوار .
في قضية معروفة ليس هذا مجالها لكنني هنا أبيّن معنى قوله - جل وعلا - (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ) فالإضافة هنا إضافة تمليك باعتبار أن تلكم الحُلي بين أيديهم وهذا نستطرد فيه فقهيا على أن هناك تملُك وهناك تمليك ، فالتملُك : ما يملكه الإنسان وربما يكون هذا التملُك قهرا أي ليس للإنسان دور فيه ، فمثلا : لو أن هناك رجلا ثريا له أبناء ، ثم إن هذا الوالد - وكل الناس على هذا الطريق - توفي فبمجرد وفاته ينتقل المال إلى ورثته ، إلى أبنائه وغيرهم من الورثة فهذا الابن الوارث لأبيه لو كان بعيدا جدا عن أبيه مكانة ، بل لو كان بينه وبين أبيه خصومة ، أو قُدر أنه لم يرَ أباه قط لكونه قد طلق أمه مثلا ، أيا كان الحال مع الأب صلاحا أم عدمه فإن هذا المال بمجرد أن مات الأب أصبح ما يخصّ الابن من الإرث مُلكا له بعد ذلك هو كبف تصرف فيه هذه مسألة أخرى فهذا مثال من المُلك الذي يأتي الإنسان قهرا ولا يستطيع أن يرده . أما التمليك فهو : أن الإنسان يُملّك الغير ، تمليك المال للغير وهذا عند الفقهاء له صور أربع ، ودائما ضبط المسائل عموما بكلياتها يُقرب المسائل إلى الأفهام ويجعل طالب العلم أنكن سبيلا وأقوم طريقا ، الفقهاء - رحمهم الله أحياء وأمواتا - يقولون : أنه يمكن تقسيم تمليك الغير إلى أربعة أقسام :- تمليك يقع بالبيع وهو تمليك عين بعوض ، رجل يملك دارا فأعطاها لغيره مقابل ثمن فالعين هي الدار والعِوض هو الثمن ، المال المقبوض فهذا يُسمى بيع ، تمليك عين بعِوض سواء أعطاه إياه بمال أو بدار أخرى ، أو أعطاه إياه بأسهم في شركات ، أو بسيارات متعددة ، أيا كان العِوض.لكن إذا كان هناك عِوض ثم مُلك العين هذا يُسمى بيع.
- إن ملّكه العين من غير عِوض هذا لا يُسمى بيع ، فإذا جاء رجل وهو يملِلك دورا كثيرة وذا ثراء ، فجاء إلى أحد الفقراء وقال خذ هذه الدار ولا أريد عِوضا فهذا يُسمى هبة ، وهو الحالة الثانية.
- الحالة الثالثة : تمليك المنفعة بعِوض مثاله :المحلات التجارية التي تؤجر أنت عندما تستأجر السيارة منها تستفيد من السيارة ، تنتقل بها مدة بقائك في الرياض ، في المدينة ، في جدة ، في أي مكان أنت فيه لكنك لا تملك العين ، لا تملك السيارة إنما تنتفع بها فهذا يُسمى إجارة ويقع هذا في أحوال شتى فمثلا في أن رجلا يعمل عند رجل فلاحا فهذا الفلاح ليس رقيقا عند صاحب المزرعة وإنما ينتفع بقوته وبقدرته وبعلمه بالزراعة فهذا الفلاح أو المكتب الذي أتى به يأخذ عوضا ، مالا ، فهذا يُسمى إجارة .
- الحالة الرابعة : تمليك منفعة بغير عِوض وهذا يُسمى عارية فمثلا : في الصورة الأولى ذكرنا السيارات كيف تؤجر لكن لو جاءك سفر عاجل فطرقت باب أحد المقربين إليك وقلت له إن سيارتك أفضل من سيارتي وأنا على أهبة سفر وليس بوسعي أن أصلح سيارتي فهلا أعرتني سيارتك ، فهو لا يقبل أن يأخذ عوضا لما بينكما من العلاقة والوشائج والذمم فيعطيك سيارته فتنتفع أنت بها ، فليست تلكم السيارة ملكا لك وإنما انتفعت بها فهو ملكك المنفعة دون العين لكنه ملكك المنفعة من غير عوض فهذا يُسمى عارية । فخلصنا الآن إلى أربع : الهبة والبيع والإجارة والعارية .
هذا استطراد حول قوله تعالى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً) العجل : هو ولد البقر ،(جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ) هذا ظاهره أن ذالك العجل كان جسدا لكن مما هو مصنوع ؟ من الحُلي وإلا لما كان لسياق الحُلي معنى ، أما قوله (لَّهُ خُوَارٌ) فهذا يحتمل أن الريح تدخل من جهة وتخرج من جهة وتُحدث صوتا ، ويحتمل شيئا آخر ربما كان مستبعدا - والعلم عند الله - .
قال الله - جل وعلا - (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) هذا من الدلائل على غنى الله تبارك وتعالى ، وفيه إشارة إلى أن هذا لا يصلح أن يكون إلها ، وفيه دلالة على أن الله مستغني كل الغنا عن خلقه ولذلك هو المألوه حقا ، هو الله ، هو الرب حقا ولا إله سواه ولا يجوز أن يُصرف شيء من العبادة قلّ أو حقُر ، صغُر أو عظُم إلى غير الله تبارك وتعالى وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به الأنبياء والرسل.قال الله - جل وعلا - بعدها (اتَّخَذُوهُ) فكرر الفعل " اتخذ " ومع ذلك لم يأتِ في القرآن ذِكر المفعول به الثاني (اتَّخَذُوهُ) "الهاء" المفعول الأول وهي عائدة على العجل لكن كما أنه لم يذكره في الأول لم يذكره في الثاني قلنا لشناعة الأمر وعظيم الخطب فقال (اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ) "الواو" هذه واو الحال ( وَكَانُواْ ظَالِمِينَ) كان اسمها واو الجماعة و "ظالمين " خبرها ، والجملة الأسمية ( وَكَانُواْ ظَالِمِينَ) كان وما دخلت عليه إذا اعتبرناها جملة اسمية بأصلها واقعة في محل نصب حال لكن بعض حُذاق العربية يقول أن جملة (وَكَانُواْ ظَالِمِينَ) تُشعر أن هذا الأمر منهم ليس بأول ظلم يأتونه وأنه قد مضى منهم ظلم أكثر ، ظلم مشابه أو ظلم قبل والمعنى : ليس هذا أول منكر يأتون به ومن أعظم معاني الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ولا ريب أن عبادة غير الله هي الظلم الحق قال الله - جل وعلا - جكاية عن العبد الصالح لقمان (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).قال الله - جل وعلا - بعدها (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) هذا وقع لما تبين لهم الأمر ، لما عاد موسى - عليه السلام - وأقام عليهم الحجة واوضح لهم المحجة قال ربنا يخبر عنهم (وَلَمَّا) أي حين (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أما الألفاظ " سقط ، في ، أيديهم " فلا خلاف أنها عربية لكن التركيب والنظم يقول أئمة اللغة إن هذا لا يُعرف في كلام العرب بمعنى أن العرب لم تستخدم هذه الكناية من قبل فقول الله - جل وعلا - (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) كناية عن الندم بالاتفاق بين أئمة هذا الشأن لكن هذا النظم لم يُعرف في لغة العرب ، لم يرد في شعرهم ولا نثرهم ، لم يرد فيما نُقل إلينا عنهم فيمكن أن يُقال كما يصطلح عليه بعض أهل التفسير المعاصرين أنه من مبتكرات القرآن بمعنى أنه نظم غير مألوف من قبل ، لم تستخدمه العرب فيما نُقل من كلامها إلينا ، فقول الله - جل وعلا - (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) إخبار عن شدة الندم لكن لمَ عُبر بهذا التعبير ؟ هذا مجال اختلف العلماء فيه : فبعضهم يقول "إن اليد هي الجارحة التي يُعبر بها عن الندم الذي في القلب واحتجوا بقول الله تعالى (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) " هذا مخرج .
مخرج آخر يقول " (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أن الإنسان يعض على يده إذا ندِم ومنه قول الله - جل وعلا - (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا) والعرب : غيري جنى وأنا المعذب فيكم*** فكأنني سبابة المتندم
لأن سبابة المتندم يعض عليها ندما ".
والمقصود هذا تخريج بعض علماء اللغة على قول الله - جل وعلا - (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا) تبيّن لهم الحال (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ) بعبادتهم للعجل هنا لجؤا إلى ربهم واستغفروا من ذنبهم وفاؤا إلى خالقهم (لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وهذا من أجمع الدعاء في الاستغفار والأوبة والتوبة حكاه الله - جل وعلا - عن الأبوين آدم وحواء ، وحكى الله - جل وعلا - قريبا منه عن نبيه نوح عليه السلام والمقصود أن هذا من الدعاء الذي ظاهره التضرع والانكسار بين يدي ىالله - جل وعلا - والاعتراف بالذنب والتسليم لله والإذعان إليه والأوبة والتوبة إليه، ولا ريب أن الله قبِل منهم توبتهم .
هذا كله وقع من بني إسرائيل في الزمن الذي كانوا فيه في أرض التيه في أرض مصر جاء به السياق القرآني في سورة الأعراف وقد اشملت هذه السورة على أخبار أنبياء غير موسى - عليه السلام - لكنها جاء فيها كثير آيات عن نبأ هذا النبي الكريم موسى بن عمران - صلوات الله عليه وعلى نبينا عليه السلام .
اقرأ المزيد...

الثلاثاء، 7 يونيو 2011

الدرة القرآنية الحادية عشرة/ قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء )



نبدأ مستعينين بالله بالدرة القرآنية وهي آيات كريمة من سورة الأنعام قال ربنا - جل وعلا - ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ *فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ *فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ *فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )
هذه الآيات الكريمة البيّنات الأربع من سورة الأنعام نفيئ إليها :
قال الله - جل وعلا - في أولها (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ) فهذا تثبيت لقلب رسولنا - صلى الله عليه وسلم - وإخبار أن الذي يُرسل ويبعث هو الله - جل وعلا - وحده وأن الرسل عليهم البلاغ وأن الأمم قبل هذه الأمة أمم شتى ، وأن الرسل كُثُر فقال - جل وعلا - يُخبر عن سننه تبارك وتعالى في خلقه وقدرته على عباده قال ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ) أي أخذنا تلك الأمم التي سلفت وغبرت ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ) كلمتا البأساء والضراء تأتي في القرآن بمعان عدة وإنما يُعرف المعنى من السياق .
ذهب القرطبي - رحمه الله - وبعض من وافقه من المفسرين إلى أن البأساء والضراء هنا :
البأساء : الابتلاء في الأموال ، والضراء : الابتلاء في الأبدان فيشمل الأسقام والأمراض وما شابهها ويشمل الابتلاء في الأموال ما يقع من هلاك الزرع وذهاب الثمر وتصرف ما يُمكن أن يُجمع.
/ قال الله - جل وعلا - (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) فدلّ قوله - جلّ شأنه وتباركت أسماؤه - (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) على أن التضرع إلى الله العليّ الكبير من أعظم مقاصد الشرع ومما دلّ القرآن على أنه مقصد مطلوب عظيم الشأن جليل القدر عند الله - جلّ وعلا - فأهل التضرع في كل أحوالهم على منقبة عظيمة وعلى مدرجة جليلة عند ربهم - تبارك وتعالى - لكن أولئك الأمم ومن مضى ممن أخبر الله - جل وعلا - عنهم لم يفقهوا عن الله - جل وعلا - مُراده ، ولم يفقهوا عن الله - تبارك وتعالى - كلامه فرغم أن الله - جل وعلا - أخذهم بالبأساء والضراء ، حينا بالرخاء وحينا بالشدة وحينا بالمنع وحينا بالعطاء رجاء أن يتضرعوا قال - جل وعلا - (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) "لولا" هذه للتحضيض لكن الإتيان بها قال بعض أهل الشأن في هذا المجال إن الله - تبارك وتعالى - لما قال ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) فيه إخبار أنه ما من مانع يمنعهم أن يتضرعوا إلا ما فُطرت عليه قلوبهم من القسوة وما كان من تزيين الشيطان لهم ولقد جعل الله قسوة القلب عقوبة في نفسها فأقرب الخلق إلى الله من كان متضرعا ، وقد بيّنا في مجالس أُخر أن إخواننا المعروفين إصطلاحا بالمُعاقين هؤلاء لو لم يكن في الإعاقة منقبة إلا أنهم دائموا التضرع لله تعالى لكفى بذلك نعمة .
قال الله - جل وعلا - (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ) أي كان اللائق بهم ، كان الحري بهم ، كان الذي ينبغي عليهم أن يتضرعوا إلى ربهم ومولاهم أن يرفع البأساء ويدفع الضراء وأن يُنعم عليهم لكن الله قال (وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي أن المانع الحقيقي قست قلوبهم وما قسوة القلب إلا بقدر الله ( وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) تمادوا في عصيانهم ، بقوا على فسقهم ، أصروا على كفرهم قال الله - جل وعلا - ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ) ذكرناهم بالبأساء والضراء ، بالآيات البيّنات ، بتتابع الرسل ،بإتيان الرسل إليهم .

/ ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ) لا يكون فتح إلا بعد إغلاق فهم بالبأساء والضراء أصابهم شيء من الإغلاق فكان حري بهم أن يزدلفوا إلى ربهم ويلجؤا إلى خالقهم لكن الشيطان زيّن والقلوب قست ، فلما وقع هذا منهم قال العلي الكبير يُبيّن كيف أن الله استدرجهم بمكره وفتنهم - جل وعلا - أيّما فتنة قال (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ) بعد ذلك الإغلاق فتحنا عليهم كل ما يطلبون ، كل ما يريدون وهذا من استدراج الله - جل وعلا - لبعض خلقه .
/ ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى ) بلوغ الغاية ( حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ ) ظنوا أن هذا حقا علينا ولِزاما علينا وهم أهله ( حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً ) على غير توطئة ، فجأة على غير تمهيد وهذا من أقسى أخذ الله للعبيد .
/ ( حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ) آيسون ، منقطعون ، آيسون من كل خير ، منقطعون عن كل بِر ( حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ) قال ربنا بعدها ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ) هذا يدل على أن العذاب هنا عذاب اسئصال ، وهذا هو المعنى لقول الله ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ) ثم ذُيلت هذه الآية الكريمة بقول الحق - جل شأنه ( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فحمد الله - جل وعلا - هنا دلالة على وجود نعمة ووجود النعمة مفاده هنا في الآية أن هلاك الظالمين من أعظم النِعم ولهذا قيل ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فالله - جل وعلا - يستأصل الظالمين وفي استئصال الظالمين قطع لدابرهم وفي قطع دابرهم نعمة على الناس ، وفي تلك النعمة ما يوجب استحقاق الحمد لله وإن كان ربنا - جل شأنه - يُحمد على كل حال ونعوذ بالله من حال أهل النار فقال الله - جل وعلا - (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).ممكن هنا أن نخرج بالسياق القرآني إلى أن كيف يتعامل العالم الموفق و الخطيب المسدد مع آيات القرآن .
عام خمسمائة وثلاثة وثمانين للهجرة في السابع والعشرين من شهر رجب منّ الله على أهل الإسلام بفتح بيت المقدس ودخول المسلمين تحت لواء الناصر صلاح الدين - رحمه الله تعالى رحمة واسعة - دخلوا بيت المقدس في السابع والعشرين من شهر رجب في يوم جمعة قبل صلاة الظهر لكن حال المسجد الأقصى يوم دخول المسلمين آنذاك لم يكن يُعين على إقامة الصلاة فيه فصلوا ظهرا إذ كان النصارى قد صنعوا بالمسجد الأقصى ما صنعوا فهيئ المسجد للجمعة التي تليها ، فلما كانت الجمعة التي تليها في الرابع من شعبان من العام نفسه ولم يكن بعد قد هيأ صلاح الدين - رحمه الله - أمور بيت المقدس نظاميا إداريا فأوكل إلى خطيب موفق اسمه محيي الدين الزكي أن يخطب الجمعة وهي أول جمعة أُقيمت في المسجد الأقصى بعد تحريره على يد صلاح الدين . فلما فُتح الجامع وفُرشت البُسط وتُلي القرآن ، فلما فُتح الجامع سالت لرقة القلوب المدامع كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فما أن شرع المؤذنون بالأذان عند الزوال إلا وأصاب المسلمون من الفرح على تلك الحال لأنه بعد انقطاع قرابة تسعين عاما عادوا يُصلون ويقرؤن القرآن في مسجد أسرى الله به إلى نبيه .
أين هذا كله من قول الله - جل وعلا - (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الآية التي نحن نتفيؤ الحديث عنها ؟
الخطيب محيي الدين - رحمه الله - لما قام وصعد المنبر وبدأ خطبة الجمعة بدأ الخطبة بهذه الآية ، تلا قول الله - جل وعلا - (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) وهذا والله توفيق من الله وأي توفيق .
الآية كل حُفاظ القرآن يحفظونها لكن من ذا يؤتيه الله فطنة ، فهم ، فقه ، توفيق أن يقولها في مثل هذا الموطن (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) لك أن تتمثل كيف كان حال المصلين وهم يسمعون الخطيب أول ما يصعد منبر الجمعة يريدون أن يسمعوا أول الكلِم ، وأول الكلِم أكثر ما يعلق في الأذهان ولها وزنها في أُذن السامع ، والمسلمون عطشى لأن يسمعوا خطيبا يرقى هذا المنبر بعد تسعين عاما من الانقطاع عن المسجد الأقصى ، فبدأ الخطبة - رحمه الله - بقوله (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ثم أردف ذلك بأن ذكر جميع آيات الحمد في القرآن ثم قال بعد أن فرغ منها : " الحمد لله مُعِزّ الإسلام بنصره ،ومُذل الشرك بقهره ،ومصرف الأمور ،بأمره ومستدرج الكافرين بكفره ،الذي جعل الأيام دولا بعدله وجعل العاقبة للمتقين بفضله " ثم أردف بالشهادتين وترضى على الصحابة الأربعة الكبار جميعا بلا استثناء ثم بيّن فضيلة ما هم فيه من عطاء ربهم - جل وعلا - وليس المقام مقام ذكر الخطبة ولا الحديث عنها لكنني لما ذكرت قول الله - جل وعلا - (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) بيّنت لك أيها المبارك كيف وُفق ذلك الخطيب في أن يقوم ويأخذ هذه الآية ويبدأ بها الخطبة العظيمة في قضية المسجد الأقصى . وما يمر على أسماعنا اليوم مما يقع في بيت المقدس في القدس في فلسطين كلها من صنائع يهود يوم يضمون المقدسات ويوم ينتهكون الحُرمات ويوم يبنون المستوطنات ، ينبغي أن يُعلم أن سبيل الأمة الوحيد إلى أن تُعيد أقصاها وغير أقصاها هو قائم على أمرين : التوحيد والسُنة ، ولا فلاح للناس في أمر الدنيا والدين إلا بأن يجمعوا ما بين التوحيد والسنة ( تركت ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي ) بأيديهما نوران ذِكر وسنة *** فما بالهم في حالك الظلمات
فالتوحيد والسُّنة هما الكفيلان بأن تُعيدا للإسلام عزته ، الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين ولا يمكن أن يُبطله مُبطل عبر التاريخ كله لكن أي أمر نريد أن ننشئه ، نقوم به لابد أن نقيم أولا التوحيد والسُّنة ثم نتفرغ لكثير من قضايانا أو لكلها على هذا الطريق القويم والمنهج العظيم .هذا ما أراد الله أن ييسر قوله حول الدرة القرآنية .
اقرأ المزيد...

السبت، 4 يونيو 2011

الدرة القرآنية العاشرة / قوله تعالى (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)



سنأخذ آية مباركة من سورة الزمر ، قال ربنا وهو أصدق القائلين ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) .
هذه الآية المياركة من سورة مباركة هي سورة الزمر ، وسورة الزمر سورة غنية بالمسائل العقدية وبأخبار اليوم الآخر وأحوال النار وخُتمت بأحوال أهل الجنة . وهذه السورة المباركة سورة مكية فبدهي جدا أن يكون إثبات الألوهية وإثبات النبوة وإثبات المعاد من أعظم قضاياها لأن هذا هو الشأن الغالب على السور المكية .
قال ربنا في هذه الآية (وَلَئِن سَأَلْتَهُم ) أي يا نبينا (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) فجوابهم لا تردد فيه ، يُجيبونك قطعا دون أن يترددوا أن الله - جل وعلا - هو الخالق المدبر للسموات والأرض ، وهذا الذي ذكره الله - جل وعلا - إنما يُراد به التوطئة بما لا نزاع فيه إلى ما فيه نزاع . وطالب العلم وأهل الأصول على وجه الخصوص وأهل المناظرات يقتبسون هذا من فيء القرآن ، والعجب كل العجب أن بعض العلماء أو طلاب العلم ينشغل بالمتون العلمية أكثر من إنشغاله بالقرآن يريد أن يلتمس منها ويقتص منها أخبارا وطرائق يُجادل من خلالها ، ولا ريب أن هذا حسن لكن الأحسن والأكمل أن يفيء المؤمن إلى ينهل منه . فربنا - جل وعلا - هنا يُبيّن لنا كيف نناظر غيرنا فأتى بهذا الأمر العظيم والخطب الجليل قال - سبحانه - ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) فالجواب أتوا به ، فهم يؤمنون ، يُقرون ، يشهدون ، بأن الله هو خالق السموات وخالق الأرض - جل جلاله . -
قال الله - جل وعلا - بعدها ( قُلْ ) أي يا نبينا لهم ( أَفَرَأَيْتُم ) والهمزة للاستفهام الإنكاري . (قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّه ) هذه الأصنام ، تلكم الأوثان التي نصبتموها آلهة من دون الله تعبدونها مع الله أو تعبدونها من دون الله ( قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ) هذا السؤال تلحظ أن الله - جل وعلا - لم يذكر له إجابة عنهم ، يعني ذلك أن القوم القرشيين المخاطبين بهذا القرآن لم يُجيبوا ، سكتوا ، لماذا لم يُجيبوا ؟ لأنه يلزم من إجابتهم أحد حالين : إما أن يُجيبوا بالحق وإما أن يُجيبوا بالباطل فإن أجابوا بالبااطل سيقولون نعم ، معن كلمة نعم أن هذه الأصنام التي نعبدها من دون الله تدفع الضر عنك وتُمسك الرحمة عنك ، وهذه لم يقولوها ، لم يُجيبوها لأنهم إن قالوها فهذا يلزم منه التناقض مع الإجابة الأولى وهي إجابتهم أن الله خلق السموات والأرض ، أي يُصبح هناك تناقض في الإجابتين لذلك امتنعوا عن الإجابة الثانية لأنهم لو قالوا أن تلك الأصنام تضر وتنفع لناقض قولهم هذا أن الله - جل وعلا - هو الخالق المدبر القائم بالأمر كله ، وإن أجابوا بالحق وهو أنهم قالوا أن تلكم الأصنام لا تدفع ضرا ولا تُمسك رحمة فهذا يلزم منه بطلان دينهم وهم لا يريدون أن يُبطلوا دينهم ، يريدون أن يُبقوا أنفسهم على الباطل الذي هم فيه فلهذا لم يُجيبوا ولم ينقل الله - جل وعلا - تبعا لذلك إجابتهم .
( قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ) وفي تقديم الضر على إمساك الرحمة دليل على ما ذهب إليه علماء الأصول من أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ولهذا أدلة كُثر لكن هذا منها .
ثم قال الله (قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) تكرار فعل الأمر " قل " هنا يدل على أن قوله - جلّ ذكره - (قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) ليس جوابا للقرشيين ، والمعنى - أيها الأخ المبارك - أن ما قد سلف بيانه من قول الله - جل وعلا - (قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ ) إلى آخر قوله - جلّ ذكره - ( مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ) هذا وحده كافٍ في الرد عليهم ، هذا وحده كاف في الإجابة عليهم أما قوله - جلّ شأنه - بعدها (قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) فليس المراد من إيراده الرد عليهم لأنهم قد أُلقموا حجرا ولم يبقَ لهم ذريعة ولا أي أمر يتشبثون به أو يتكئون عليه أو يلجئون إليه وإنما قول الله - جل وعلا - (قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) هذا استئناف جديد أيها العبد ، أيها النبي ، أيها المبارك عندنا اعلم أن حسبك الله ، قل حسبي الله والمعنى اتخذ هذا اللفظ اعتقادا لك وشعارا لك تُنبئ به غيرك ممن اتبعك من المؤمنين ليكونوا على محجتك ، وتُنبئ به غيرك ممن لم يؤمن بكتابنا ولم يؤمن بك حتى يعلم على أي طريق سلكت وأي سبيل اتخذت - صلوات الله وسلامه عليه - .
(قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) الحسب في اللغة هو الكافي ،لكن تلحظ أن قول الله - جل وعلا - (حَسْبِيَ اللَّهُ) لم يأتِ به المُتعلق ، لِمَ لم يأتِ به المتعلق لأن المتعلق هنا متعلق بالعموميات ، بعمومات كُثر بل فلنقل متعلق بكل شيء ، ما معنى متعلق بكل شيء؟ يُصبح المعنى للآية : قل حسبي الله من كل شيء وعلى أي حال فالله - جل وعلا - يكفيني ما أهمني على أي حال كنت عليها ولهذا لم يذكر الله - جل وعلا - المتعلق هنا .
( قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ) ثم قال - جل ذكره - ( عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) هذا اللفظ القرآني المبارك ( عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) هو هنا في هذا السياق أحد أمرين أو يُراد به أحد أمرين : إما أن يُراد به أن يكون تذليلا وإما أن يكون يُراد به أن يكون تعليلا .
فأما إذا أردنا أن نقول إنه تذليل فيُصبح المعنى : إن الله - جل وعلا - يكفيني ويكفي جميع من توكل عليه من المؤمنين ، وإن أردنا التعليل يُصبح المعنى : أن الله - جل وعلا - حسبي وهو يكفيني ، وهذا شأن المتوكلين أي لا يتوكلون إلا على الله ، ولما كان شأن المتوكلين أنهم يتوكلون على الله يصبح المعنى لِزاما : أنا إمام الناس ، سيد الخلق وأشرفهم ، خاتم النبيين - صلوات الله وسلامه عليه - فبدهي جدا أن أكون مُندرجا معهم ، وهذا قريب من معنى قول الله - جل وعلا - ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) .
هذه هي الآية المباركة من سورة الزمر التي قال العلي الكبير فيها ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) إذا انتقلنا مما استنبطناه من الآية من طرائق المناظرة وإقامة الحجة على المخالف يجب أن نستسقي منها مسألة إيمانية وهي :أن التوكل من أعظم أعمال القلوب والمؤمن كلما ازداد علما بالله ومعرفة بخالقه إزداد صدق توكله على الله ، يتوكل على الله في كل شأنه يعلم أن الأمور لا يمكن أن تقوم ولا أن تتم إلا بعون من الله - تبارك وتعالى - ولعل هذا هو المعنى الآخر لقولنا - كما علمنا نبينا - لا حول ولا قوة إلا بالله فهي عنوان التوكل الحق في حديث الإسراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم أخبر أن إبراهيم - عليه السلام - أخبره أن الجنة قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله .
اقرأ المزيد...

الثلاثاء، 24 مايو 2011

الدرة القرآنية التاسعة/قوله تعالى (إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا)



قال ربنا - جلّ ذكره - وهو أصدق القائلين ( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ *نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ *نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ )
هذه الآيات الثلاث من سورة فُصّلت فيهن بيان عظيم ، ذلك أن الإنسان إذا نشأ على التوحيد والتزم بالسنة كانت ساعة الاحتضار التي هي الفارق ما بين الانتقال من العالم السُفلي - العالم الأرضي - إلى العالم العلوي ، كانت تلك الساعة هينة لينة عليه .
يخبر - جل ذكره - هاهنا أن الملائكة تتنزل على قلب المؤمن وأمام عينيه ساعة الاحتضار ، ساعة الاحتضار هي مرحلة الانتقال تكون آخرعهد الإنسان بالدنيا وأول عهده بالآخرة ، فينزل ممن هم في الملكوت العلوي ، تنزل ثلة ، طائفة من الملائكة أوكل الله - جل وعلا - إليها قبض الأرواح يتقدمهم ملك وُكل إليه نفخ - لعل الشيخ يقصد قبض - الروح ، لكن هذا المَلَك دلّ القرآن على أنه ليس لوحده قال ربنا ( تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ) وهذا يدلّ على أنهم كثرة ، وهم لا يتولون الوفاة مع المؤمن فقط ، ويتولون قبض الروح ، لكن تلك النفس التي عرفت التوحيد ولزِمت السنة واستقامت على الطريق وجاهدت نفسها في مراحل شتى حتى آل بها الأمر إلى أن تحين ساعة الأجل وتنقضي ساعة العمل ، فتأتي هذه الملائكة من الملكوت الأعلى ، من المحل الأسنى مُبشرة .
/ يقول ربنا ( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ) بـ ( أَلاَّ تَخَافُوا ) مما أنتم مقبلون عليه لأن الإنسان حينها يشعر بالانتقال ،ولهذا لما ذكر الله الكريمين يحيى وعيسى قال في حق يحيى ( وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا ) وقال في حق عيسى ( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) لأن هذه المواطن مواطن انتقال عظمى ، فهؤلاء الملائكة الصفوة الكرام ينزلون على هذا العبد ألا تخافوا مما أنتم قادمون عليه والإنسان قد ترك وراءه ما ترك من زوجة أو أولاد أو أبوين أو عشيرة أو خُلطاء أو قُرناء أو أشياء تعلّق بها قلبه بها في الدنيا شيئا ما فيحزن على فراقها ، أولا يدري ماذا سيكون مآلها من بعده ، فهؤلاء يُنزلون السكينة على قلبه ويُطمئنونه أنه لا خوف يعتريك فيما هو قادم ، ولا حزن ينتابك على ما قد فات ، وهذا هو الذي يحتاجه المرء حين ذلك ، والله رؤوف رحيم بعباده ، والعطايا إذا وافقت حاجة ووافقت ساعة طلب كانت أعظم نفعا وأشدّ أثرا وذلك الذي يشعر بالارتحال ، بالانتقال وهو يسمع في أيام حياته وسني عمره أن هناك شيء اسمه الموت فكم حمل على كتفيه من أعواد عليهن الرجال
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته *** يوما على آلة حدباء محمول
وكم مضى يسمع أن في مسجد فلان جنازة يريد أن يُصلي عليها ، وكم ذهب إلى دور وبيوت عزى . لكن هذا اليوم لكن يكون مشغولا بغيره لا بصلاة ولا بتعزية ، إنما هو مشغول بنفسه ، فنفسه الآن تريد أن تُفارق جسده فما أحوجه في كل آن وحين إلى رحمة رب العالمين لكنه هاهنا يرى هو أنه أحوج فتنزل تلك الملائكة ( أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ) ولا تكتفي الملائكة بأن تنفي عنه الخوف والحزن وإن كان هذا مطلبا عظيما لكنها ترزقه البشارة ، وربما ظهرت أمارات البشارة على وجهه.
/ (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) مامن مؤمن إلا وهو يوعد بالجنة سواء في القرآن أو على ألسنة الرسل ( رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ ) . (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) .
/ ثم يزيدونه طمأنينة ( نحن ) أي معشر الملائكة المرسلة من قِبل الله (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) هذا تبع لولاية الله فالله - جلّ وعلا - قال ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ ) وقال ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ) وشعور أي أحد بأن هناك وليا معه هذا يؤنسه ، يقويه وقد قالت اليهود لنبينا - عليه السلام - بعد أن سألته أسئلة ، قالت : من وليّك من الملائكة حتى نفارقك أو نتبعك ؟ فقال : وليي من الملائكة جبريل ، ففارقوه موضع الشاهد منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرّ أن جبرائيل وليه وهذا تبع لولاية الله - تبارك وتعالى- لأن جبريل رسول رب العالمين من الملائكة .
فالمقصود أن الملائكة تقول هنا لذلك المُتوفى ساعة احتضاره ( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) فرحمة الله بكم جعلت أولئك الملائكة يأتي منهم اللمة والدفع إلى الخيرات ، كما يكون الأزّ - عياذا بالله - من الشياطين । والنبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات يوم ليلا فرأته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فكأن الغيرة دبت إليها فلما رأى ما صنعت قال : أغرتي ؟ قالت : يارسول الله وكيف لا يغار مثلي على مثلك ، فقال - صلى الله عليه وسلم - أوقد جاء شيطانك ؟ فقالت : يارسول الله أولي شيطان ، أومعي شيطان ؟ فزادت في السؤال ، تدرجت ، ومع كل إنسان ؟ قال : نعم . هذا دفعها إلى أن ترتقي في السؤال فتكون أكثر جرأة وصراحة ، قالت : ومعك يارسول الله ؟ قال : ومعي لكنه استدرك - صلوات الله وسلامه عليه - ولكن الله أعانني عليه فأسلم .
إذا كما يوجد شياطين تؤز ,توجد ملائكة تدفع المؤمن إلى الخيرات وتزينه له فهذا معنى ( نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) وأما في الآخرة فهذا يبدأ من تلكم الساعة التي فيها قبض الأرواح بالبشارة والطمأنينة والسكينة وربما ظهر هذا جليا على وجه المتوفى كما يُرى أحيانا على وجوه بعض الصالحين من العباد حال وفاتهم .
/ ( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ *نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا ) أي في الجنة لما قال (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ) ,( مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ ) الجنة فيها ما لاعين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، (مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) ثم بيّنوا أن هذا عطاء فضل من رب العالمين - جلّ جلاله - ( نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ) .
/ وذُيلت الآية باسمين كريمين من أسماء الله الحسنى هو قوله ( نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ) حتى يُعلم أن ذلك العبد الذي تولته الملائكة وبُشر ساعة الاحتضار وطُمئن ألا يخاف ولا يحزن لا يعني ذلك أنه لا ذنب له أصلا ولم يرتكب خطيئة يوما ، هذا محال .هذا لا يكون إلا للصفوة الذين هم أنبياء الله ورسله وربما قاربهم بعض الشيء بعض الصديقين لكن تلك الخطايا ، تلك الذنوب كان المؤمن يكرهها إذا فعلها ، يُبادر بالتوبة إذا وقعت منه يلجأ إلى ربه إذا حلّت به ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ ) وإلا :
إن تغفر اللهم تغفر جمّا *** وأي عبد لك ما ألمّا
ولهذا قال هنا ( نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ) على أن النُزُل أول ما يُقدم للضيف وهذا إخبار بالأمر في مبتدئه وإلا بعد ذلك فإن من عطايا الله ما لا يمكن حصره ولا معرفته حتى يُرى حقيقة، الله تبارك وتعالى أظهر لنا بعضا مما وعد به عباده كما أخفى آخر كما في الآية ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) .
اقرأ المزيد...

الجمعة، 1 أبريل 2011

الدرة القرآنية الثامنة/ قوله تعالى (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا )



حول قوله تعالى في سورة مريم ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا*أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا *كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا *وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا )

هذه الآيات من سورة مريم ، وسورة مريم سورة مكية ، وهي من السور العِتاق اللواتي من أوائل ما أُنزلن على قلب رسولنا صلى الله عليه وسلم كما أخبر بذلك الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود في قول الله جل وعلا في هذه السورة المباركة ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا ) .

ينصرف هذا الخطاب في سبب نزوله عند جماهير المفسرين إلى العاص بن وائل السهمي غير خافي عليكم أن المجتمع القرشي الذي بُعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن مُتقبِلا نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأسباب في ذلك كثيرة منها : الخوف من انقلاب المجتمع ، ومنها الحسد ، ومنها البغضاء ، ومنها أسباب عدة لكن جماعها الكفر بالله والتكذيب بآياته وردّ رسله والإعراض عن دينه .

من أولئك الذين ناصبوه العداء هو العاص بن وائل السهمي ، كان يعمل عنده الخباب بن الأرت - رضي الله عنه وأرضاه - وخباب قبل الإسلام لم يكن أكثر من مجرد أجير حداد يعمل عند العاص فلما بلغ العاص أن خبابا آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم جعل من العمل معه والأجرة والدين الذي يتقاضاه عنده سبيلا إلى أن يلوي عنقه ليرده إلى دين قريش ، فلما كان لخباب دين عند العاص بن وائل السهمي وأتاه ليتقاضاه قال له العاص ليثنيه عما هو عليه من الإيمان قال : لن أعطيك حقك حتى تكفر بمحمد ، فقال خباب : والله لا أكفر بمحمد حيا ولا ميتا .

ننيخ المطايا قبل أن نسترسل في القصة :
الإيمان بالعمق ، ومعنى ذلك أن خبابا هذا لم يكن بعد قد أنزل من القرآن الشيء الكثير ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكثر من جلوسه مع أصحابه ، هذا كله في أول الإسلام ، لم تكن قد نزلت البقرة ولا آل عمران ولا كثير من السور ولا غيرهن من الآيات ، إنما نزل أول القرآن ، والإسلام ما زال غضا طريا ومع ذلك نرى هذا الثبات من خباب رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقد يوجد إنسان وهو منذ أن وُلد في الإسلام لكن الإيمان في قلبه لم يبلغ حدا يقينيا ، لم يبلغ عمقا ينجم عنه أثر في العمل , وهذا ما ينبغي أن يتنبه له الإنسان في حياته ،ومرد ذلك أن يرى الإنسان أين هو من العمل الصالح ، أين هو من المسابقة في الخيرات ، والمنافسة في الطاعات ، والثبات على دين الله عند حلول الشبهات أونزول الشهوات ، على ذلك كان خباب رضي الله عنه على قِصر المدة وحداثة العهد بالإيمان وأنه مكث زمنا طويلا في الجاهلية يعبد الأوثان ويطوف حولها ويؤمن بها إلا أن ذلك كله تلاشى وذهب أثره لآيات معدودات قد أُنزلت فلما قال له العاص بن وائل السهمي - والإنسان ضنين بماله - قال له : حتى تكفر بمحمد ، قال له : لن أكفر بمحمد حيا ولا ميتا هذا يدلك على ثباته .قال له خباب بعد ذلك - يتوعده - إنك ستُبعث يوم القيامة وسأقاضيك .

فالعاص أخذ هذا اللفظ من خباب وقال له : إنكم تزعمون أننا مبعوثون ، أو نحن مبعوثون ؟ قال خباب : نعم । فقال العاص : إذا يوم القيامة سيكون لي مال وولد ، ألستم تزعمون أن هناك جنة وفضة وحرير ، ( جنة ، فضة ، حرير ، هذه مفردات لم يكن العاص يعرفها ) لكن إن كنت ممن يحاول الصنعة في التفسير تعطيك أن سورة الإنسان ( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ ) قد نزل شيء منها لأن الفضة والذهب والحرير أكثر ما ذُكر في سورة الإنسان ، في سورة فاطر ، في أشباهها من السور التي تحدثت عن الجنة ونعيمها . هذه اللمحات تعينك على تفسير كلام الله جل وعلا إذا كنت متدبرا لأسباب النزول . نعود فنقول : فلما قال له ذلك قال العاص بن وائل سيكون لي مال وولد ، خلّد الله جل وعلا هذا الحدث ، وجاء به القرآن بليغا في اللفظ والمعنى . قال ربنا : ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا ) هناك كفر وفسوق وهناك عصيان أما الكفر فمادته اللغوية مأخوذة من التغطية لهذا قال الله تعالى ( كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ) ولبيد يقول : في ليلة كفر النجومَ غمامها فالغمام إذا تراكم بعضه على بعض حجب النجوم ،فهذا الكافر أخذ تلك الآيات فغطاها ، جحدها ، لم يقبل بها ، هذا هو الكفر .

وأما الفسوق : فأصله الخروج عن الحد ، يُقال فسقت البيضة أي أن الطائر الصغير الذي فيها خرج عن تلك الحدود التي كانت تحويه ، فيُقال لمن خرج في معصية ما ، خرج عن طاعة ربه قال الله جل وعلا ( إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) أي تجاوز الحد وخرج عن أمر الله جل وعلا الشرعي لا القدري ، فكل أحد داخل في أمر الله القدري ।

وهناك العصيان ، ويمكن أن يُقال في العصيان هو : عدم الانقياد ، وقد يكون ممزوجا بالإيمان لكنه قد يكون في مراتب عدة كما هو معلوم ، هناك معاصي صغار ، وكبار . هذه الألفاظ قد يُطلق بعضها على بعض ، وتُنيب هذه المفردات بعضها عن بعض لكن فرق في معناها إذا اجتمعت الثلاث ، قال الله جل وعلا ( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ) فشتان ما بين الكفر والفسوق والعصيان في معنى هذه الآية ، لكن أحيانا ينوب بعضها عن بعض ، الله يقول ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لّا يَسْتَوُونَ ) فالفاسق هنا بمعنى الكافر لأنها جاءت مقابل كلمة مؤمن . (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا ) هو لا يتكلم عن حياته في الدنيا لأنه كان قطعا يومها ذا مال وولد ، لكنه يتكلم عن الآخرة التي لا يؤمن بها أصلا لكنه قالها تحدي ( لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا ) .

قال ربنا يُخاطبه ويحاوره ويرد عليه قوله ( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) قال العلماء من المفسرين في معنى الآية : إن هذا الذي قاله هذا الرجل وزعمه لا يُتوصل له إلا بأحد طريقين: إما أن يكون يعلم الغيب - وهذا منتفٍ - وإما أن يكون لديه عهد من عالم الغيب وكذلك هو منتفٍ .قال الله جل وعلا ( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) ( كَلاَّ ) كلمة ردع وزجر عند جمهور البصريين كالخليل بن أحمد وسيبويه ، وذهب الكسائي إلى أنها بمعنى حقا ووافقه ابن الأنباري ، لكن ما عليه جمهور أهل البصرة هنا أقوى - والعلم عند الله - । أن نقول إنها كلمة ردع وزجر أقوى ।

( سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ) أي يحفظ ما يقول كما قال الله جل وعلا ( كِرَامًا كَاتِبِينَ ) ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) فربنا جل وعلا يقول هنا ( سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ) أي نضاعف له العذاب أضعافا عديدة إذا لقينا ।

( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ) الله جل وعلا وحده هو الوارث ، فهذا أملاكه ،أمواله ،أولاده في الحياة الدنيا هو سيغفل عنها سيتركها لا محالة ، لأنه ميت لا محالة .

قال ربنا ( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ) هو يزعم أنه ذو مال وولد في الدنيا ، وهذا حق ، لكن هذ الحق الذي زعمه لن يبقى كثيرا عنده .


( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ) وفي هذا بيان إلى أن المسؤولية يوم القيامة مسؤولية فردية ، فمن كثُر ماله أو جاهه أو سلطانه كل ذلك يهلك ، فالناس يُحشرون فرادى كما خلقهم ربهم فرادى ، أخبر الله جل وعلا عن ذلك في كتابه . هذه الآيات البينات تُبين بجلاء ما كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من الثبات ، إن خبابا لم يكن ذا مال ، وكان المال كافٍ لأن يدفعه لأن يكفر لو غلبت الشهوة عليه ، لكن الإيمان الذي كان في قلب خباب أزال الشهوة . ونحن عندما نقرأ القرآن ونذكر هذه النماذج الإيمانية الجليلة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إنما ينبغي أن يُقرأ القرآن للتدبر ويُنظر في هؤلاء القوم الأئمة الكبار رضوان الله تعالى عليهم فيُتأسى بهم ، ولن تخلو حياة المرء من فتن تظهر له ، إما شبهة وإما شهوة ، لكنه إن كان قريبا من كلام ربه وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم قارئا لأحوال الأخيار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك من أعظم عوامل الثبات على الدين ، ومن أعظم ما يزيد في القلب اليقين ، وهذا كله فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
اقرأ المزيد...