الثلاثاء، 7 مارس 2017

نبذة عن كتاب الجامع لأحكام القرآن للقرطبي

اسمه: هو الإمام الفقيه المالكي المُفسر المشهور محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح أبو عبدالله الأنصاري الخزرجي القرطبي. 
مولده: ولد في قرطبة في الأندلس وتعلّم فيها القرآن الكريم وقواعد اللغة العربية وتوسّع في دراسة الفقه والقراءات والبلاغة وعلوم القرآن، وتعلّم الشِعر ، وانتقل إلى مصر واستقرّ بمنية بني خُصيب -المنية حاليا شمال أسيوط-.
من مصنفاته: تفسيره المشهور المُسمى [الجامع لأحكام القرآن]، وله كتب أخرى مثل: [الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة] وغير ذلك.
 قال عنه الإمام الذهبي رحمه الله: إمام متفنن -صاحب عدة فنون- متبحر في العلم له تصانيف مفيدة تدل على كثرة اطلاعه ووفور فضله.
 توفي بالمنية بمصر في شوال سنة ٦٧١ للهجرة رحمة الله عليه.
يعتبر تفسير القرطبي من أهم كتب تفسير الأحكام، فالقرطبي علَم واضح في مدرسة تفسير الأحكام، قال الذهبي رحمه الله: "وقد سارت بتفسيره العظيم الشأن الرُكبان وهو كامل في معناه".

أبرز ما يميزه الاهتمام بأحكام القرآن وهذا ظاهر من اسم الكتاب [الجامع لأحكام القرآن]، قال ابن فرحون في وصفه: "وهو من أجلّ التفاسير وأعظمها نفعا، أسقط منه القصص والتواريخ - طبعا التوسع كما يفعله بعض القُصّاص ومن هذا شأنه - قال: " أسقط منه القصص والتواريخ وأثبت عوضها أحكام القرآن واستنباط الأدلة وذكر الإعراب والقراءات والناسخ والمنسوخ."
وقد قال القرطبي نفسه في وصف كتابه: " رأيت أن اشتغل به مدى عمري واستفرغ فيه منتي -قوتي وهمتي- بأن أكتب تعليقا وجيزا يتضمن نكتا -فوائد- من التفسير واللغات والإعراب والقراءات والرد على أهل الزيغ والضلالات وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات جامعا بين معانيهما ومبيّنا ما أشكل منهما بأقاويل السلف ومن تبعهم من الخلف".

منهج الإمام القرطبي في تفسيره: عندما نتكلم عن هذا أولى أول من يُرجع إليه في هذا المؤلف نفسه، فقد بيّن شرطه ومنهجه في مقدمة تفسيره ويمكن أن يُلخص ذلك بالنقاط التالية: 
 ١- إضافة الأقوال إلى قائليها والأحاديث إلى مصنفيها.
٢- الإضراب عن قصص كثير من المفسرين وأخبار المؤرخين إلا ما لابد منه وما لا غنى عنه للتبيين.
٣- تفسير آيات الأحكام والتوسع فيها. فمسائل كثيرة تُذكر بمناسبة آية في حكم معين.
٤- إن لم تتضمن الآية حكما ذكر ما فيها من التفسير والتأويل.
٥- ذكر أسباب النزول والقراءات والإعراب وبيان الغريب من الألفاظ مع الاستشهاد بأشعار العرب.

عقيدته: تأثر الإمام القرطبي رحمه الله بمنهج الأشاعرة ونقل عن أئمتهم كالجويني والباقلاني والرازي ولذلك ينتبه طالب العلم عند مروره في تفسير القرطبي بآيات الصفات، يحذر ولابد أن يدقق هنا حتى لا يروج عليه شيء من الأقوال غير المقبولة في صفات الله تعالى.
على سبيل المثال: 
/ في تفسير قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ) لما نقل مذهب المتكلمين ومذهب السلف في مسألة الاستواء. طبعا نعرف الحق في المسألة استوى على العرش استواء حقيقيا يليق بجلاله وعظمته، ونعرف معنى استوى في اللغة: قصد .. ارتفع .. علا، استوى على العرش تعالى. القرطبي رحمه الله قال: "فعلو الله وارتفاعه عبارة عن" لاحظ كلمة (عبارة عن) هذه معناها فيها عدول عن الظاهر الذي ينبغي أن نأخذ به في كلام الله وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم. كلام بليغ عربي في غاية الفصاحة، يعني الله لن يعجزه ولا يعجزه إذا أراد معنى آخر أن يذكر له لفظا يعبر عنه، فلا داعي لأن نقول هذه استوى [يعني .. عبارة عن ] مثلا استولى. 
هو قال : " فعلو الله وارتفاعه عبارة عن علو مجده وصفاته وملكوته " يعني المقصود الهرب من موضوع عُلو الذات -وهذا الذي يثبته السلف- علا على عرشه علا بنفسه تعالى كما أراد كما يليق بجلاله وعظمته. فهو رحمه الله قال: "عُلوه عبارة عن علو مجده وصفاته وملكوته أي ليس فوقه فيما يجب له من معاني الجلال أحد" مع أنه قال: " أظهر الأقوال" ثم وضع جملة اعتراضية - وإن كنت لا أقول به ولا أختاره- "أظهر الأقوال وإن كنت لا أقول به ولا أختاره أظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي والأخبار والفضلاء والأخيار أن الله سبحانه على عرشه كما أخبر في كتابه بلا كيف معلوم لنا -هناك كيف يعلمه نحن لا نعلمه- بائن من جميع خلقه ، هذا جملة مذهب السلف الصالح ". 
وحتى بعض الأئمة تعقبوه على هذه الكلمة. فالإمام السفارين رحمه الله تعالى -مثلا- في كتابه لوائح الأنوار علّق على كلام القرطبي وقال: " قوله وإن كنت لا أقول به غاية العجب" لأنه اعترف بتظافر الآيات القرآنية عليه ودلالة الأخبار النبوية إليه وتعويل السلف الصالح الأخيار عليه فكيف يليق من مثله؟! - يعني القرطبي على جلالة قدره وعلو منزلته وعلمه - أن يقول : "وإن كنت لا أقول به ولا أختاره" مع الدلالات القرآنية والأحاديث النبوية وكونه معتقد الرعيل الأول.
ملاحظة: طبعا تنبيهنا على هذا لا يُنقص من قدر الإمام ولا كتابه، وهناك عوامل معينة جعلت الأئمة أو بعض العلماء يتأثرون بأخطاء كانت موجودة في أجواء أو بيئات معينة.

ويمكن الكلام عن منهجه بالتفصيل في النقاط الآتية: 
/ هذا التفسير غني بالفوائد ، فيه علم غزير وجودة في التصنيف ومن ذلك أنه يُقسِّم الآية إلى مسائل بحسب الأحكام التي تتضمنها فيقول مثلا : " وفيها سبع وعشرون مسألة، وفيها عشرون مسألة" وهكذا. وهذه المسائل لا تكون كلها في الأحكام الفقهية بل قد تشتمل على فضائل وربما ذكر فيها أمورا تتعلق بالعقيدة أو مباحث في اللغة أو البلاغة والبيان ونحو ذلك لكن أكثرها فقهية وأصولية.
/ يتميز التفسير بمراعاة الدليل وعدم التعصب للمذهب، فبالرغم من أن الإمام القرطبي رحمه الله تعالى مالكي إلا أنه لم يتعصب للمذهب المالكي عند كل مسألة - يقرر المذهب مهما كان - لا. فيلاحظ عند ذكره لمسائل الخلاف أنه يتجرد مع الدليل حتى يصل إلى ما يراه أنه الحق وهذا من مناقبه.
 فمثلا : لما تكلم عن مسألة تقديم الحلق على الذبح في يوم النحر وضّح أن ظاهر المذهب المنع من تقديم الحلق على الذبح إن كان عامدا قاصدا ثم قال والصحيح الجواز. يعني حتى لو تعمّد الحاجّ أن يقدم هذا على هذا فله ذلك لماذا؟ قال: لحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال: لا حرج ) كما في البخاري ومسلم. فخالف مذهبه في هذه المسألة لأجل الدليل.
/ يتميز بأنه يحقق مذهب المالكية لأن المذهب فيه روايات وأقوال، المذهب نفسه المذهب الواحد فيه روايات وأقوال. طيب ما هو المعتمد فيها؟ ما هو الذي يصح أن يقال هذا المذهب في هذه المسألة؟ هذا يحتاج إلى تحقيق وهذا التحقيق يحتاج إلى أهل تحقيق، فالإمام القرطبي رحمه الله يذكر روايات مالك في المسألة وقول أئمة المذهب ومن وافق ومن خالف ويُرجح، قد يُرجح.
/ تفسير القرطبي فيه ذكر الشواهد من أقوال العرب وأشعارهم والاهتمام بالإعراب فمثلا : في قوله تعالى (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ) قال: السِنة : نعاس ، قال زهير بن أبي سلمى: 
لا سِنة في طوال الليل تأخذه ** ولا ينام ولا في أمره فند 
وفي قوله تعالى (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) قال: ذواتا ظل وأغصان، ألم تسمع إلى قول الشاعر: 
ما هاج شوقك من هديل حمامة ** تدعو على فنن الغصون حمامة
تدعو أبا فرخين صادف طائرا ** ذا مخلبين من الصقور قطاما
/ الاعتناء بالقراءات الواردة في الآية. يُعد القرطبي رحمه الله من أوسع التفاسير التي اهتمت بالقراءات ويستقصي، يستقصي القراءات في الكلمة القرآنية وينسب كل قراءة إلى صاحبها ويبين درجة القراءة ويذكر توجيهها -يعني ماذا يكون المعنى على هذه القراءة وماذا يكون على هذه القراءة وخاصة إذا كان لهذا تعلّق بالمسألة الفقهية.
فمثلا : في قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) قال : " قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَه) قرأ الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء، وأصله (يطوِّقونه) ونقلت الكسرة إلى الطاء وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. ومشهور قراءة ابن عباس (يُطوَّقونه) بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو بمعنى يكلفونه. إذا (يطوِّقونه) يعني يطيقونه ، (يُطوَّقونه) بالفتح يكلفونه. وقد روى مجاهد (يطيقونه) - بالياء بعد الطاء - قال : وهي باطلة ومُحال لأن الفعل مأخوذ من الطوق فالواو لازمة واجبة فيه ولا مدخل للياء في هذا المثال.
هذا مثال على إيراد القرطبي رحمه الله للقراءات والاعتناء بذلك وخصوصا عندما تترتب على القضية أحكام فقهية.
-----------------------------------------
*الشيخ / محمد صالح المنجد (أكاديمية زاد)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق