الثلاثاء، 7 يونيو 2011

الدرة القرآنية الحادية عشرة/ قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء )



نبدأ مستعينين بالله بالدرة القرآنية وهي آيات كريمة من سورة الأنعام قال ربنا - جل وعلا - ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ *فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ *فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ *فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )
هذه الآيات الكريمة البيّنات الأربع من سورة الأنعام نفيئ إليها :
قال الله - جل وعلا - في أولها (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ) فهذا تثبيت لقلب رسولنا - صلى الله عليه وسلم - وإخبار أن الذي يُرسل ويبعث هو الله - جل وعلا - وحده وأن الرسل عليهم البلاغ وأن الأمم قبل هذه الأمة أمم شتى ، وأن الرسل كُثُر فقال - جل وعلا - يُخبر عن سننه تبارك وتعالى في خلقه وقدرته على عباده قال ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ) أي أخذنا تلك الأمم التي سلفت وغبرت ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء ) كلمتا البأساء والضراء تأتي في القرآن بمعان عدة وإنما يُعرف المعنى من السياق .
ذهب القرطبي - رحمه الله - وبعض من وافقه من المفسرين إلى أن البأساء والضراء هنا :
البأساء : الابتلاء في الأموال ، والضراء : الابتلاء في الأبدان فيشمل الأسقام والأمراض وما شابهها ويشمل الابتلاء في الأموال ما يقع من هلاك الزرع وذهاب الثمر وتصرف ما يُمكن أن يُجمع.
/ قال الله - جل وعلا - (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) فدلّ قوله - جلّ شأنه وتباركت أسماؤه - (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ) على أن التضرع إلى الله العليّ الكبير من أعظم مقاصد الشرع ومما دلّ القرآن على أنه مقصد مطلوب عظيم الشأن جليل القدر عند الله - جلّ وعلا - فأهل التضرع في كل أحوالهم على منقبة عظيمة وعلى مدرجة جليلة عند ربهم - تبارك وتعالى - لكن أولئك الأمم ومن مضى ممن أخبر الله - جل وعلا - عنهم لم يفقهوا عن الله - جل وعلا - مُراده ، ولم يفقهوا عن الله - تبارك وتعالى - كلامه فرغم أن الله - جل وعلا - أخذهم بالبأساء والضراء ، حينا بالرخاء وحينا بالشدة وحينا بالمنع وحينا بالعطاء رجاء أن يتضرعوا قال - جل وعلا - (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) "لولا" هذه للتحضيض لكن الإتيان بها قال بعض أهل الشأن في هذا المجال إن الله - تبارك وتعالى - لما قال ( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ) فيه إخبار أنه ما من مانع يمنعهم أن يتضرعوا إلا ما فُطرت عليه قلوبهم من القسوة وما كان من تزيين الشيطان لهم ولقد جعل الله قسوة القلب عقوبة في نفسها فأقرب الخلق إلى الله من كان متضرعا ، وقد بيّنا في مجالس أُخر أن إخواننا المعروفين إصطلاحا بالمُعاقين هؤلاء لو لم يكن في الإعاقة منقبة إلا أنهم دائموا التضرع لله تعالى لكفى بذلك نعمة .
قال الله - جل وعلا - (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ) أي كان اللائق بهم ، كان الحري بهم ، كان الذي ينبغي عليهم أن يتضرعوا إلى ربهم ومولاهم أن يرفع البأساء ويدفع الضراء وأن يُنعم عليهم لكن الله قال (وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي أن المانع الحقيقي قست قلوبهم وما قسوة القلب إلا بقدر الله ( وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) تمادوا في عصيانهم ، بقوا على فسقهم ، أصروا على كفرهم قال الله - جل وعلا - ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ) ذكرناهم بالبأساء والضراء ، بالآيات البيّنات ، بتتابع الرسل ،بإتيان الرسل إليهم .

/ ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ) لا يكون فتح إلا بعد إغلاق فهم بالبأساء والضراء أصابهم شيء من الإغلاق فكان حري بهم أن يزدلفوا إلى ربهم ويلجؤا إلى خالقهم لكن الشيطان زيّن والقلوب قست ، فلما وقع هذا منهم قال العلي الكبير يُبيّن كيف أن الله استدرجهم بمكره وفتنهم - جل وعلا - أيّما فتنة قال (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ) بعد ذلك الإغلاق فتحنا عليهم كل ما يطلبون ، كل ما يريدون وهذا من استدراج الله - جل وعلا - لبعض خلقه .
/ ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى ) بلوغ الغاية ( حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ ) ظنوا أن هذا حقا علينا ولِزاما علينا وهم أهله ( حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً ) على غير توطئة ، فجأة على غير تمهيد وهذا من أقسى أخذ الله للعبيد .
/ ( حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ) آيسون ، منقطعون ، آيسون من كل خير ، منقطعون عن كل بِر ( حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ) قال ربنا بعدها ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ) هذا يدل على أن العذاب هنا عذاب اسئصال ، وهذا هو المعنى لقول الله ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ) ثم ذُيلت هذه الآية الكريمة بقول الحق - جل شأنه ( وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) فحمد الله - جل وعلا - هنا دلالة على وجود نعمة ووجود النعمة مفاده هنا في الآية أن هلاك الظالمين من أعظم النِعم ولهذا قيل ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فالله - جل وعلا - يستأصل الظالمين وفي استئصال الظالمين قطع لدابرهم وفي قطع دابرهم نعمة على الناس ، وفي تلك النعمة ما يوجب استحقاق الحمد لله وإن كان ربنا - جل شأنه - يُحمد على كل حال ونعوذ بالله من حال أهل النار فقال الله - جل وعلا - (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).ممكن هنا أن نخرج بالسياق القرآني إلى أن كيف يتعامل العالم الموفق و الخطيب المسدد مع آيات القرآن .
عام خمسمائة وثلاثة وثمانين للهجرة في السابع والعشرين من شهر رجب منّ الله على أهل الإسلام بفتح بيت المقدس ودخول المسلمين تحت لواء الناصر صلاح الدين - رحمه الله تعالى رحمة واسعة - دخلوا بيت المقدس في السابع والعشرين من شهر رجب في يوم جمعة قبل صلاة الظهر لكن حال المسجد الأقصى يوم دخول المسلمين آنذاك لم يكن يُعين على إقامة الصلاة فيه فصلوا ظهرا إذ كان النصارى قد صنعوا بالمسجد الأقصى ما صنعوا فهيئ المسجد للجمعة التي تليها ، فلما كانت الجمعة التي تليها في الرابع من شعبان من العام نفسه ولم يكن بعد قد هيأ صلاح الدين - رحمه الله - أمور بيت المقدس نظاميا إداريا فأوكل إلى خطيب موفق اسمه محيي الدين الزكي أن يخطب الجمعة وهي أول جمعة أُقيمت في المسجد الأقصى بعد تحريره على يد صلاح الدين . فلما فُتح الجامع وفُرشت البُسط وتُلي القرآن ، فلما فُتح الجامع سالت لرقة القلوب المدامع كما يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فما أن شرع المؤذنون بالأذان عند الزوال إلا وأصاب المسلمون من الفرح على تلك الحال لأنه بعد انقطاع قرابة تسعين عاما عادوا يُصلون ويقرؤن القرآن في مسجد أسرى الله به إلى نبيه .
أين هذا كله من قول الله - جل وعلا - (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) الآية التي نحن نتفيؤ الحديث عنها ؟
الخطيب محيي الدين - رحمه الله - لما قام وصعد المنبر وبدأ خطبة الجمعة بدأ الخطبة بهذه الآية ، تلا قول الله - جل وعلا - (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) وهذا والله توفيق من الله وأي توفيق .
الآية كل حُفاظ القرآن يحفظونها لكن من ذا يؤتيه الله فطنة ، فهم ، فقه ، توفيق أن يقولها في مثل هذا الموطن (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) لك أن تتمثل كيف كان حال المصلين وهم يسمعون الخطيب أول ما يصعد منبر الجمعة يريدون أن يسمعوا أول الكلِم ، وأول الكلِم أكثر ما يعلق في الأذهان ولها وزنها في أُذن السامع ، والمسلمون عطشى لأن يسمعوا خطيبا يرقى هذا المنبر بعد تسعين عاما من الانقطاع عن المسجد الأقصى ، فبدأ الخطبة - رحمه الله - بقوله (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) ثم أردف ذلك بأن ذكر جميع آيات الحمد في القرآن ثم قال بعد أن فرغ منها : " الحمد لله مُعِزّ الإسلام بنصره ،ومُذل الشرك بقهره ،ومصرف الأمور ،بأمره ومستدرج الكافرين بكفره ،الذي جعل الأيام دولا بعدله وجعل العاقبة للمتقين بفضله " ثم أردف بالشهادتين وترضى على الصحابة الأربعة الكبار جميعا بلا استثناء ثم بيّن فضيلة ما هم فيه من عطاء ربهم - جل وعلا - وليس المقام مقام ذكر الخطبة ولا الحديث عنها لكنني لما ذكرت قول الله - جل وعلا - (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) بيّنت لك أيها المبارك كيف وُفق ذلك الخطيب في أن يقوم ويأخذ هذه الآية ويبدأ بها الخطبة العظيمة في قضية المسجد الأقصى . وما يمر على أسماعنا اليوم مما يقع في بيت المقدس في القدس في فلسطين كلها من صنائع يهود يوم يضمون المقدسات ويوم ينتهكون الحُرمات ويوم يبنون المستوطنات ، ينبغي أن يُعلم أن سبيل الأمة الوحيد إلى أن تُعيد أقصاها وغير أقصاها هو قائم على أمرين : التوحيد والسُنة ، ولا فلاح للناس في أمر الدنيا والدين إلا بأن يجمعوا ما بين التوحيد والسنة ( تركت ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي ) بأيديهما نوران ذِكر وسنة *** فما بالهم في حالك الظلمات
فالتوحيد والسُّنة هما الكفيلان بأن تُعيدا للإسلام عزته ، الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الدين ولا يمكن أن يُبطله مُبطل عبر التاريخ كله لكن أي أمر نريد أن ننشئه ، نقوم به لابد أن نقيم أولا التوحيد والسُّنة ثم نتفرغ لكثير من قضايانا أو لكلها على هذا الطريق القويم والمنهج العظيم .هذا ما أراد الله أن ييسر قوله حول الدرة القرآنية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق