‏إظهار الرسائل ذات التسميات القصص القرآني. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات القصص القرآني. إظهار كافة الرسائل

الأربعاء، 5 أكتوبر 2016

تدبر قصة مريم عليها السلام -٢- / د. أحمد القاضي


بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
 معشر المؤمنين والمؤمنات، الصائمين والصائمات، القائمين والقائمات، المتدبرين كتاب الله والمتدبرات ..
رأينا في الآيات السابقات في المجلس الماضي كيف أن الله سبحانه وتعالى قلب المِحنَة إلا مِنحة والضراء إلى سراء وتوالت البشارات لهذه الفتاة الحَصان الرزان مريم بنت عمران فقيل لها :
اقرأ المزيد...

الأحد، 2 أكتوبر 2016

تدبر قصة مريم ـ١ـ / د. أحمد القاضي

بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد..
 فقد روى الإمام أحمد والبيهقي في دلائل النبوة في قصة هجرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة (أن النجاشي قال لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه : هل معك شيء مما جاء به نبيكم؟ قال نعم فتلا عليه صدر سورة مريم ـ التي نحن بصددها ـ فبكى النجاشي وأخضل لحيته بالبكاء وبكت بطارقته وأخضلوا مصاحفهم ثم قال : والله إن هذا الذي جاء به نبيكم والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة).
اقرأ المزيد...

الأربعاء، 22 مايو 2013

دروس وعبر من قصة سبأ


د.عمر المقبل

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا وإمامنا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته أيها الإخوة ، وإنني لأحمد الله -عزّ وجل- ثانيا وابتداء وأثناء وانتهاء على نِعمه العظيمة والتي منها تيسير هذا اللقاء ... لنتذاكر شيئا من معاني الوحي الذي نزل على قلبه بأبي هو وأمي -عليه الصلاة والسلام- فإن الله -سبحانه وتعالى- قال له فيما قال (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ومن المُسلم به أن الله -عزّ وجل- لا يقصّ علينا قصة في القرآن طالت أم قصُرت ، لا يقُصها علينا لأجل أن نضيف إلى رصيدنا الثقافي والمعرفي مجرد معلومات ، لا، إنما يقُصّها الله -عزّ وجل- علينا لغايات وحِكم منها ما أشارت له الآية الكريمة ( لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) وآية في آخر سورة يوسف تحكي أو تُذكر بأنواع من العِبر أو بأنواع من الحِكم ينبغي ألاّ تغيب عن ذهن المؤمن وهو يقرأ القصص قال الله -عزّ وجل- في خاتمة سورة يوسف ، في آخر آية منها (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ) ماذا ؟ (عِبْرَةٌ) لمن؟ (لِّأُولِي الأَلْبَابِ) أصحاب العقول (عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ) ، (وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فكلما مرت عليك قصة في القرآن فانظر مواضع الهداية منها ، وانظر كيف تستجلب رحمة الله بها ، وانظر كيف أثر الإيمان في قلبك بعد تلاوتها وتأملها وهذا لا يكون إلا بالتفكر الذي قال الله فيه (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) ولا يكون التفكّر بالقراءة السريعة والهذرمة وإنما يكون بالتأمل وتحديق النظر ، هذه نقطة مهمة فيما يتعلق بالقصص القرآني.
 النقطة الثانية : شُغف كثير من الناس وهو يقرأ قصص القرآن بشيء وهو البحث عن تفاصيل أخفاها القرآن عمدا فينشغل بغير المهم عن المهم فمثلا : في قصة سبأ ما نسب سبأ التاريخي ؟ يذهب إلى كتب التاريخ ويبدأ يتكلم على سبأ وكم هم القبائل ؟ ست ، مالذي بقي منها في اليمن ؟ وما الذي خرج منها خارج اليمن ؟ حتى انطبق عليهم المثل المشهور تفرقوا أيدي سبأ ..وهكذا . فيدخل في هذه التفاصيل ، معرفتها جيدة لكن المشكلة تأتي حينما يُغرق في الدخول في التفاصيل التي إنما عُمدت الكلام فيها على كلام يذكره بعض المؤرخين لا مُستند له وإن شئت فقل لا حاجة للدخول في تفاصيله .
مثال آخر: في قصة يوسف -عليه الصلاة والسلام- تجد بعض الناس انشغل بأسماء إخوة يوسف من هم ؟ ما اسم المرأة التي راودت يوسف ؟ وأين كان يسكن يوسف ؟ وهنا يختصم المصريون فيه - وحُق لهم أن يختصموا- في الفيوم وإلا في مدينة أخرى . لا يُهمنا هذا ولا نبحث عمّا وراءه ، ولا ندخل في أسئلة جدلية لأننا نقطع - وهذه أيها الإخوة من القواعد المهمة في الانتفاع بقصص القرآن - نقطع يقينا أن الله -عز وجل- إذا أخفى علينا شيئا من التفاصيل في القصة أنه لو كان لها أثر في انتفاعنا بها لذُكرت لنا ، فإذا أخفاها الله فلا نُشغل أنفسنا ، إن مرت أو ذكرها بعضهم فالحمد لله أما أن نُمضي وقتا طويلا في البحث عن تفاصيلها بحيث نغفل عن المقصد الأكبر وهو الاعتبار فهذا نقص بيّن .
خذ مثالا ثالثا وأختم به هذه المقدمة : في قصة أصحاب الكهف ، من هم ؟ ما أسماؤهم ؟ كلبهم ما لونه ؟ وسبحان الله يأتي التوجيه في نفس سورة الكهف (فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا) فيه جدل وأخذ ورد ، الإنسان بطبيعته -سبحان الله- يحب البحث عن التفاصيل ولكن من تأمل في طريقة العلماء الربانيين في تناولهم لمعاني القرآن الكريم وجدهم لا يدخلون في هذه التفاصيل ولا يُغرقون فيها ولا يبحثون إلا عمّا يمكن أن يكون سببا معينا على فهم هذه القصة وأمثالها .
أيها الأحبة : اخترت قصة سبأ لحقيقة مهمة أو لسبب مهم وهو : أن الخير الذي عاشت فيه تلك المملكة التي ذهبت في غابر التاريخ وكان مقرها اليمن بل قال بعضهم إن سبأ هي صنعاء نفسها ، العاصمة هذه التي هي من أقدم عواصم الدنيا ، اخترتها لوجود تشابه كبير بين ما كانوا عليه وبين ما نحن عليه من نِعمٍ تترى ، نُزار ، يُجبى إلينا ثمرات كل شيء ، ونجد أنه يُتخطف الناس من حولنا ، نحن نعيش في نِعم إن لم نشكرها فإنه يُخشى علينا من عواقبها ومآل عدم شُكران النِعم . ومن تأمل هذه القصة وتدبرها وتأمل سبب ورودها في هذه السورة العظيمة لاشك أنه سيُحدث ذلك له أثرا عمليا وإن لم يُحدث فتفكُره ناقص. وهذا يدعونا إلى أن نطرح السؤال التالي : كون أن السورة تُسمى بهذه القصة هذا له دلالته عند أهل العِلم ، دائما السور خصوصا تلك السور التي ليس لها إلا اسم واحد ، كما هو معلوم بعض السور تُسمّى بأكثر من اسم لكن السور التي ليس لها إلا اسم واحد ومنها سورة سبأ -فيما أحسب الآن- هذه لاشك أنها تبعث على التأمل ما سر اختيار هذا الاسم لهذه السورة؟ خذوا مثال : البقرة لها أكثر من اسم لكن أشهر اسم لها هو البقرة ، ما معنى أن يُختار اسم البقرة لتكون علما على أطول سورة في القرآن ، وسورة من أعظم سور القرآن ؟ ما ذاك إلا لرسالة ينبغي أن تفهمها هذه الأمة وهي : ألاّ يسلكوا طريق أصحاب البقرة الذين لما جاءهم الأمر من الله تلكؤا فيه ، ما لونها ؟ ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ؟ لو ذبحوا أي بقرة لحصل المطلوب فهي رسالة لهذه الأمة إذا أتاكم الأمر من الله افعلوه مباشرة ولا تتلكؤا ولذلك قال الله في خاتمة السورة (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) هذا من فضائل هذه الأمة ، عكس بني إسرائيل الذين عانا منهم موسى ما عانا . أعود وأقول : كل سورة سبأ ليس لها إلا هذا الإسم وهذا يجعلك تتفكر في أن هذه القصة تُشكّل العمود الفقري ، وإن شئت فقل تشكّل الرسالة القوية التي ينبغي أن يعيها المؤمن من خلال هذه السورة . وهذا يدعونا إلى أن ننتقل إلى سؤال آخر : ما هو مقصود السورة ؟ ما هو الموضوع العام الذي يشملها ؟ من أولها إلى آخرها .
أقول -والله أعلم بمراده- : من تأمل السورة وتدبرها ولاحظ مُفتتحها ومُختتمها وأثناءها وجدها تتحدث عن معنى -أرجو أن يكون صوابا- وهو : قدرة الله -عزّ وجل- على تبديل الأمور من حال إلى حال ، من حال الرخاء إلى حال الشدة والعكس ، وذكر الله -عزّ وجل- نموذجين ظاهرين للعبد الشاكر وللأمة الكافرة وكيف آل أمر هذا وأمر هؤلاء ، أُناس على حال فاضلة وحسنة من النعمة بدّل الله عليهم لما بدلوا ، وعبد صالح وهو داود -عليه السلام- شكر فأنعم الله -عزّ وجل- عليه بأنواع من النِعم من أجلّها ولد من صُلبه يكون نبيا ويؤتيه الله ملكا لم ينبغي لأحد من بعده وهكذا . 
إذا هذه القصة جاءت في العهد المكي وهي رسالة لأهل مكة الذين قيل لهم (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) وقال الله لهم (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) رسالة إلى أهل مكة ولكل قرية ومملكة ودولة ، سمّها ما شئت من بلاد الدنيا لا تستقيم على أمر الله ، المصير واحد ، والسّنة الإلهية لا تُحابي أحدا ، ولا تُجامل أحدا . فهي رسالة واضحة إلى أهل مكة إن لم تفعلوا فسيكون مصيركم مصير هذه المملكة وهي مملكة سبأ .
سبأ : هي قبيلة نُسبت إلى رجل من العرب تكاثرت ذريته فكانوا عدة قبائل منها : حِمير وفيرها من القبائل ، لكن كان من شأنهم -وهذا الذي يهمنا هنا- أن الله -عزّ وجل- أرغد عليهم ، كانوا قد سكنوا بين واديين عظيمين وكانت السيول تأتيهم من كل جهة فعملوا ردما حتى يستطيعوا أن ينتفعوا بهذه السيول في كل وقت في العام حتى قال بعض المؤرخين : إنهم وضعوا في السدّ ثلاثة أبواب فإذا ارتفع الماء جدا فتحوا الباب الأعلى حتى يفيض ما فيه فإذا نقص أو احتاجوا فتحوا الباب الثاني إلى الباب الثالث ، وكانوا -بزعمهم- أحكموا السدّ إحكاما شديدا حتى يستمر لهم ما هم فيه من نعيم وترف و...و...الخ ، وكان من شأن هذه القرى -أيضا- وهذه المملكة -مملكة سبأ- أنهم كما قال الله -عزّ وجل- (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ) هذه عُدوة الوادي الذي كانوا يسكنونه عن يمين وشمال ، هنا يأتي التوجيه الرباني (كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ) وتلحظ أن الله أضاف الرزق إلى صفة الربوبية لأن هذا من آثار ربوبيته -عزّ وجل- ولم يقل (كلوا من رزق الله) إشارة إلى منتِه عليهم -عزّ وجل- وأن هذا من آثار ملكه ومن آثار ربوبيته . هذه واحدة.
ثم لما أمرهم بأكل الرزق أمرهم بالشكر فقال (وَاشْكُرُوا لَهُ) وهنا إذا نظرت إلى هذا الأمر ونظرت إلى قول الله -سبحانه وتعالى- في قصة داود (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا ...) الخ (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا) آل داود ، لم يقل داود ، كل آل داود قال (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) هؤلاء القلة داود وآل بيته ، ومن الكثرة الكافرة بنِعم الله سبأ.
(كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) هل الطيب هنا يعود إلى نفوس هؤلاء أم يعود إلى طيب البيئة والطبيعة التي عاشوا فيها؟ الثاني -بلاشك- وإلا لو كانوا طيبين معنويا لما استحقوا العذاب . 
(بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) وهنا التمس العلماء حكمة في ختم هذه الآية الكريمة بهذا الاسم العظيم (وَرَبٌّ غَفُورٌ) الله -عزّ وجل- إذا قست ما أنعم به من النِعم على ما يأتي من عباده من الشّكر فلا مُقارنة (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا) فضلا عن أن تقدروا على شكرها ومع ذلك فربنا -عزّ وجل- غفور وربنا شكور يقبل من عباده أن يأتوا بالواجبات ويتركوا المحرمات ، فهو -عزّ وجل- مع كثرة كرمه وإِنعامه وإِفضاله فإنه -عزّ وجل- يرضى من عباده بالقليل ومع ذلك أدرك هذه القرية والمملكة الخذلان ، ويقال أنه جاءهم عدة رسل وأنبياء ، المقطوع به أنهم لم يشكروا نعمة الله فاستعلنوا بالمعاصي وكفروا نعمة الله -عزّ وجل- كما سيأتي إن شاء الله في سياق القصة- .
ثم قال الله -عزّ وجل- بعدها (فَأَعْرَضُوا) وهذا كما يقول العلماء : أحد الأصلين الكبيرين في تكذيب جميع الأمم ، فالأصل الأول : الإعراض ، والأصل الثاني هو: التكذيب. وهذا كثير جدا قال الله -عزّ وجل- في سورة الليل (لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى*الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى)        هذه جمعت أصلي الكفر عند الأمم التكذيب والإعراض. (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا) وفي إبراز سبب الكفر حكمة ومعنى ينبغي أن ننتبه لها وهو: أن الله لا يظلم الناس شيئا ، لم يُعذبهم الله هكذا بل عذبهم الله بما كسبت أيديهم ، وفي هذا مما يُلتمس أنك -ولله المثل الأعلى- إذا أردت أن تُعاقب أحدا فبيّن له سبب العقوبة حتى لا يظن أنك ظلمته أو بهته . والله -سبحانه وتعالى- لو عذب لم يُعذب إلا من يستحق ومع هذا يُبرز الله -عزّ وجل- لنا في هذه القصة أكثر من سبب من أسباب تعذيبهم (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ) .
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) هم لما بنوا السدّين الضخمين يُقال أن الله -عزّ وجل- أراد أن يُبيّن هشاشة ما بنوا فأرسل على أصل السدّ فأرة نقبت هذا السدّ ولهذا يشتهر كثيرا المثل السائر (نقب أو ثقب في سدّ مأرب) ويُشار به إلى عدم الاستهانة بالذنب الصغير أو بالعمل الصغير الذي قد يتطور إلى أن يصل إلى هدم سدّ وإغراق بلد كاملة ، فأحيانا بعض الذنوب خاصة إذا استُعلن بها ولم تُنكر فإن عاقبتها قد تكون وخيمة جدا .
فأرسل الله عليهم هذا السيل العرِم الذي أتى على بيوتهم وأتى على ثمارهم ، وأتى على أشجارهم وأنهارهم وأتى على كل النِعم التي كانوا فيها ، فالثمار فسدت والأشجار اقتُلعت ، والأنهار طُمرت ، وحصل من الفساد شيء لا يخطر لهم على بال .
قال الله -سبحانه وتعالى- (وَبَدَّلْنَاهُم) وهذه عقوبة لكن الله -سبحانه وتعالى- لا يُعاقب إلا بعد قيام الحجّة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ*جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا) هنا لما بدلوا بُدل عليهم ، بدلوا الشكر بالكفر ، بدلوا الإقبال بالإعراض ، بدلوا الطاعة بالمعصية ، بدلوا الإيمان بالكفر والتكذيب فبُدلت حياتهم ، وهذه -والله- لا تقتصر على هؤلاء القوم لكن من الناس من يعمى ويظن أن عقوبات الله تعالى محصورة في أشياء حسية يراها الناس كهدم أو غرق أو أشياء من هذا القبيل ، لا ، عقوبات الله تتنوع ، أحيانا قد تأتي عقوبات تستنزف اقتصاد الناس ، تاتي عقوبات بأن يُسلط الله الناس بعض الناس على بعض ، تأتي عقوبات أخرى كثيرة تُشغل الناس وتُشغل الناس بعضهم ببعض ، وتُشغل الحكومات والدول حتى تأتي مشاكل تتتابع وتتراكم على بعضها لا يخطر لهم على بال أنها وصلت إلى هذه المرحلة وإذا فتشت وإذا هي ذنوب على ذنوب ، ومظالم على مظالم ، ومعاصي على معاصي ، ومنكرات لم تُنكر ومعروف لم يؤمر به حتى يأتي أمر الله وتحِق عليها السُنن قال الله -عزّ وجل- (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) وقال الله -عزّ وجل- (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) والتدمير -كما قلنا- قد يأتي بهذه الصورة التي وقعت لسبأ وقد يأتي بالتدمير الاقتصادي ، وقد يأتي بالتدمير النفسي ، وقد يُسلط على الناس من سوى أنفسهم عدوا يستبيح بيضتهم -والعياذ بالله- فليحذر الإنسان ولا يأمن مكر الله فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون .
فلما بدلوا بُدل عليهم -كما قلنا- فقال الله -عزّ وجل- (وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) جزاء وفاقا (ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) وكلها أشجار -إذا قرأت في كلام المفسرين- وجدت أنهم يدورون على أنها أشجار -في الأعمّ الأغلب- كريهة الرائحة لا يُنتفع بها ، بعد أن كانت تلك الأودية والقرى فيها من أنواع الثمار ما الله به عليم حتى قال الحسن البصري -رحمه الله- : إن المرأة تخرج ومعها مغزلها وتحمل فوق رأسها المِكتل فلا تحتاج أن تقطف ثمار فقط بمجرد أن تمشي في هذه الأودية وهي مشغولة بمِغزلها يمتلئ المِكتل من كثرة ما يسقط فيه من الثمار والنِعم. فلما بدلوا بُدل عليهم .
وهذا -أيها الإخوة- كما يكون على مستوى الأمم فهو كذلك على مستوى الأفراد ولهذا تلحظ في القصة الآن نموذج للعبد الشاكر ، فعندنا عبد شاكر وأسرة شاكرة داود وآله ، وعندنا أمة كافرة ، هذا -كما قلنا- في حال الأمم فكذلك العبد نفسه إذا بدّل بدّل الله -عزّ وجل- عليه ، كم من إنسان من الصالحين والأخيار والأفاضل كان يعيش لذة مناجاة الله -عزّ وجل- ، كات يعيش لذة قراءة القرآن الكريم وتدبره ، كان يعيش لذة الصيام ، لذة القيام في الليل ، لذة البكاء من خشية الله -عزّ وجل- فلم يشكر هذه النعمة ، كيف؟ مثلا : بدأ يُطلق بصره فيما حرمه الله -عزّ وجل- ، أو بدأ يُطلق لسانه في أعراض الناس فبدأ ينتقصهم ويذكر عيوبهم فيعاقبه الله من حيث لا يشعر ، تخبو جذوة الإيمان في قلبه شيئا فشيئا حتى يُحرم من هذه النِعم ، هذا -والله أيها الإخوة- من أعظم ما يكون من العقوبات حتى يقسو قلبه ولا يكاد يعتبر بشيء -نسأل الله السلامة والعافية- فينتبه العبد كما أن الحديث عن كفران الأمم والدول والجماعات فكذلك نستفيد منه هنا فيما يتعلق بالأفراد والله تعالى يقول (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ) وهذه كما تكون في الأقوام تكون في الأفراد ، فمن غيّر غيّر الله -عزّ وجل- عليه ولا يظلم ربك أحدا .
قال الله -عزّ وجل- (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا) يعود التذكير بسبب العقوبة حتى يعتبر الناس ، وهنا تعليل آخر لجريان سنة الله -عزّ وجل- عليهم ، و"الباء" هنا المصلة بـ"ما" سببية أي بسبب كفرهم ، وأغلب آيات القرآن تُبيّن أن هلاك القرى إنما هو بالظلم إلا في هذه الآية فقد بيّنت أن سبب هلاكها هو الكفر فإذا اجتمع في دولة أو جماعة أو أمة من الأمم الظلم والكفر فقد استجمعوا أسباب الهلاك ، وقد يُهلك الله القرى بالظلم ولو لم تكن تُعلن الكفر والعكس كذلك قد يُهلك الله الأمم بالكفر وإن لم تُعلن الظلم لكن يقرر شيخ الإسلام -رحمه الله- قاعدة أو سنة مشهورة ومعروفة "أن الهلاك بالظلم أعمّ وأشمل من الهلاك بالكفر" وذكر كلمته المشهورة : إن الله قد ينصر الدولة الكافرة إذا كانت عادلة مع شعبها ورعيتها ، وقد يُهلك الله الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة ، تدين بالإسلام لكن ينتشر فيها الظلم ويفشو فشوا عظيما فهذا مؤذن بالعقوبة قال الله تعالى (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) وتتنوع الآيات في هذا ، وهذا -أيها الإخوة- كما نتحدث فيه عن السنن الماضية في الأمم والجماعات فكذلك الناس الذين يُمارسون الظلم في مُحيطهم الصغير ، قد يتسلط زوج على زوجته ، رجل يتولى مال أيتام أو رعاية أيتام فيظلمهم ، مدرس يظلم الطلاب الذين تحت يده ، مدير دائرة يظلم الموظفين الذين تحت يده فلا يُعاملهم بالعدل ، هذا مؤذن أيضا بسلب نعمة الله -عزّ وجل- عليه فالسنن تمضي ولا يظلم ربك أحدا.
قال الله -سبحانه وتعالى- (وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ) استفهام يريد الله -سبحانه وتعالى- منه أن نعتبر ليُقرر لنا -عزّ وجل- هذه الحقيقة ، وفي قراءة (وهل يُجازى إلا الكفور) والمعنى: لا يُجازى إلا هذا ، إلا من سلك هذه الطريقة ، إلا من كفر نعمة الله -سبحانه وتعالى- . ثم قال الله -عزّ وجل- مُبيّنا شيئا من سيرة هذه الدولة وهذه المملكة وهي مملكة سبأ فقال الله -عزّ وجل- (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً) والمعنى -كما أشرت قبل قليل- في كلمة الحسن ، كان بين هذه القرى مسافات ظاهرة بعض العلماء يقول مرتفعة وبعضهم يقول معروفة وكلا المعنيين صحيح فهي مرتفعة -بارزة- وهي معروفة حتى قالوا إن الإنسان منهم إذا سافر لم يحتج أن يتزود ، وقيل : إن الإنسان منهم يمشي مسيرة قليلة ثم يقف ، قليلة ثم يقف ، لماذا؟ قالوا : إن الإنسان عادة لا يمُد في سيره ويُسرع إلا خشية قلة الزاد فيحاول أن يستدرك الوقت ويستبق الزمن لأجل أن يصل إلى المكان الذي يأمن فيه على نفسه وعلى .. ، يعني الأمن الغذائي والأمن النفسي ، هم لا ، متى ما شاء سار ومتى ما شاء وقف (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) هي قرى الشام كما قال غير واحد من السلف ، فبينهم وبين هذه القرى قرى ظاهرة (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) فجمع الله لهم بين الأمن وبين النعمة وهذه غاية ما تكون (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ*إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ*فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) وقال الله -سبحانه وتعالى- (أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا) فالمقصود : أن هذه النعمة التي عاشتها سبأ أشبهتها بعض الشيء مكة شرفها الله فكانت الرسالة واضحة وهي رسالة لكل أمة ولكل جماعة يُنعِم الله -عزّ وجل- عليهم ألاّ يسلكوا هذا السبيل ، ولهذا في خواتيم سورة النحل التي يُسميها سُفيان بن عُيينه وغيره من السلف سورة النِعم ختمها الله بعد أن ذكر جملة طويلة من النِعم قال (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ) ماذا فعلت ؟ (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) ثم انظر جمال وروعة التعبير القرآني (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ) اختيار كلمة "اللباس" دليل -والعياذ بالله- على شمول العقوبة ، الإنسان إذا لبس فإنما يكسو جسمه كله فكأنما صار الجوع والخوف غطاهم ولم يُبقِ موضعا إلا وقد أتى عليه (لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) ثم انظروا طريقة القرآن (بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) لم يظلمهم الله -عزّ وجل- .
قال الله تعالى هنا (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا) -والعياذ بالله- ملّوا النعمة ، والإنسان إذا عاش في بيئة وطالت عليه المدة ربما -والعياذ بالله- يصل به الفِسق ، يصل به الطغيان إلى أن يطلب من الله -عزّ وجل- أن يرفع هذه النعمة عنه وهو لا يعرف عاقبة هذا السؤال ، فطلبوا هذا فعُقبوا ولهذا ينبغي أن يحذر الإنسان أن يدعوا على نفسه أو على ماله أو على ولده كما جاءت بذلك السُنة كما في صحيح مسلم من حديث أبي حُميد الساعدي -رضي الله عنه- (لا تدعوا على أنفسكم ولا على أولادكم ولا على أموالكم توافقون ساعة من الله تعالى فيُستجاب لأحدكم) ، هم هنا دعوا على أنفسهم من باب الطغيان والشعور بأن هذه النِعمة لا يمكن أن تُفارقهم ، وأن هذا قدر لازم لا يمكن أن تتحول عنهم فاستفتحوا -والعياذ بالله- على أنفسهم فأتاهم العذاب (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ) وفي هذا إشارة إلى السبب الثاني من أسباب عقوبتهم ، الأولى أشارت إلى الأصل الأكبر في عقوبتهم هو الكفر وهذه الآية تُشير إلى سبب آخر وكل كافر ظالم وليس كل ظالم كافر، فاجتمع فيهم السببان العظيمان من أسباب هلاك الأمم وعقوباتها .
قال الله -عزّ وجل- (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) أصبحوا حديثا يتحدث به الناس وتتحدث به القرى وتتحدث به الأمم كيف كانوا في نعيم وانواع من النِعم ثم تبدل حالهم قال الله -عزّ وجل-    (وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) قال أهل العلم : تفرقت هذه القبائل منها ما بقيت في اليمن ، ومنها من ذهب إلى عُمان ، ومنها من ذهب إلى دول أخرى وحضارات أخرى ، والمهم أصبحوا بعد ذلك مثلا يُضرب حتى قالوا في المثل العربي المشهور "تفرقوا أيدي سبأ" غذا كانت جماعة مجتمعة ثم تفرقوا يُضرب بسبأ في تمزقهم وتفرقهم في البلدان بعد أن كانوا مجتمعين في قرى منعّمة أصبحوا حديثا للناس قال الله -عزّ وجل- (وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ) وهذا -أيها الأخوة- هو المحل الذي ينبغي أن يتوقف عنده الإنسان (لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) صبّار على أوامر الله لأن الأوامر فيه كُلفة -بلاشك- ولذلك يُسميها العلماء الأحكام التكليفية ، فيها تكليف تحتاج إلى صبر ومصابرة ، والنِعم تحتاج إلى شكر ، ومن قرن بين هاتين الخصلتين فقد سلك طريق الأنبياء واقرؤا إن شئتم فواتح سورة الإسراء قال الله -عزّ وجل- (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) وقال الله في هذه القصة (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قالت له أمنا عائشة -رضي الله عنها- يارسول الله -وانظروا إلى هذا الجواب المدهش العجيب- لما قالت له يا رسول الله بعد أن رأته وقد تفطّرت قدماه من طول القيام : أتفعل هذا وقد  غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فماذا قال ؟ (أفلا أكون عبدا شكورا) هذا مقام عالٍ من مقامات العبودية ألا وهو مقام الشّكر ، هنا لم يُنكر عليها النبي -عليه الصلاة والسلام- سؤالها ولم يقل لها إنني أخشى ذنبا ، نعم الله غفر لي ، لكن النبي -عليه الصلاة والسلام- لا يقتصر في عبوديته لله على هذا المقام كما هو حال كثير من الناس فقط وهو مقام ليس محذور شرعا لكن فرق بين هذا المقام والمقام الأعلى ، وبعض الناس لا يدفعه إلى العمل أحيانا إلا الخوف من العقوبة فقط لكن فرق بين هذا وبين من يفعل العبادة حُبّا ، وبين من يفعل العبادة شُكرا لله -عزّ وجل- وهذا الذي قاله -عليه الصلاة والسلام- (أفلا أكون عبدا شكورا) غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لكنه يريد أن يترقى في مقامات الشُكر . ولهذا -أيها الأكارم- من كان يأتي إلى العبادة والطاعة وهو يستحضر هذا المعنى ستكون العبادة مهما ثقُلت على الناس من أخفّ الأشياء عليه بل وينتقل إلى مرحلة وهي أنه يجد اللذة العجيبة في أدائها - ولله المثل الأعلى- حينما يُحسن إليك أحد من الناس بمعروف كبير ، تصور أحد التجار الكبار أهداك خمسمائة ألف ، مليون ، وأنت عُشر هذا المبلغ يصنع في حياتك شيئا كثيرا ثم وجدت أنت أن من المروءة ومن حُسن الخلق أن ترُد هذا المعروف في بعض المناسبات فرأيت مثلا أنك تأتي لهذا التاجر بتُحفة من التمر الفاخر  فذهبت إلى منطقة بعيدة كالقصيم مثلا أو منطقة أخرى -وأنتم أهل نخيل- لكن تريد أن تُتحفه بتحفة ، ذهابك إلى البلد هناك ورجوعك هل ستجد فيه تعب وأنت تستذكر منته عليك ؟ لا ، بل تستلذ كل تعب يصيبك في الطريق من أجل أن تهدي له هدية تُعبر له عن شكرك له على هذا المعروف . 
يا أيها الإخوة : من يستحضر آلاء الله -عزّ وجل- ونِعمه عليه ، آلاء الله -عزّ وجل- في بدنه ، في جوارحه ، آلاء الله عليه في النِعم التي أولاه إياها في هدايته للإيمان ، في هدايته للسنة ، في حمايته في أمور كثيرة ، في ستره عليه مرارا وتكرارا يعصي والله يستره ، إذا استحضر هذه المعاني -والله- تهون عليه العبادة بل يجد لذة كما قلت .
هذه المقامات ينبغي أن يستحضرها العبد وهو يقرأ مثل هذه الآيات (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) فالمستحضر للنِعم يتحرك لسانه بالشكر ، وهنا الشكر -كما هو معلوم- ليس مقتصرا على مجرد القول ، القول ركن من أركان الشكر لكن لابد من تواطؤ الثلاثة الأمور : الجوارح واللسان والقلب كلها تتواطأ على شُكر المُنعم -عزّ وجل- ومن أعظم صور ذلك : ألاّ يُسخر الإنسان نعمة الله -عزّ وجل- عليه في معصيته ، ولهذا كان بعض السلف يعظ شابا لما جاءه وقال عظني ، أحاول أن أترك المعصية فعظني قال : تذكر أنك لا تعصي الله إلا بنعمة من نعمه فإن نظرت إلى الحرام فإنما تعصي بنعمة النظر ، إن عصيته بسمع محرم فإنما تعصيه بنعمة السمع ، إن عصيته بكتابة محرمة بالجوال أو الكمبيوتر ، بالنت ، بغير ذلك إنما تعصيه بهذه اليد التي حركها لك ، وإنما تعصيه بالفكر والعقل الذي أعطاك حتى تكتب ، وإذا ذهبت إلى مكان محرم فإنما تعصيه بالقدم التي حركها الله لك حتى لو شاء لجعلك مشلولا لا تستطيع أن تتحرك ، وأنت إذا تأملت هذا يستحي الإنسان ، إذا استحضر الإنسان هذا المعنى يستحي أن يعصي الله بنعمة الله ، هذه المعاني إذا تذكرها العبد أقول يهون عليه ترك المعصية ويهون عليه فِعل الطاعة بعون الله وتوفيقه .
ثم قال الله -عزّ وجل- مُعقِبا كما قال بعض العلماء إن القصة انتهت عند الآية تسعة عشر لكن التعقيب على القصة بدأ من الآية عشرين (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال أهل العلم : المراد بهذا -وفيها كلام- لكن من أقرب ما يُقال : إن إبليس لما أقسم بعزة الله وقال (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) هذا مما تحقق فيه القسم لكن أراد الله -عزّ وجل- أن يجعل للناس -كما يُقال نافذة أمل وبوابة فأل- فمع وجود هؤلاء الكفار بنعمة الله -عزّ وجل- إلا أنه بقي فيهم بقية باقية لم يسلكوا هذا الطريق وفي هذا درس في الفأل وفيه أن الله -سبحانه وتعالى- لا يظلم أحدا وأن الله -عزّ وجل- حقق موعوده لأن إبليس لما أقسم بعزة الله قال الله (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) وفي هذه الإضافة (إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) وفي قوله تعالى (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) إذا جمعنا هذه الأوصاف خرجنا بالأسباب التي تُعين على التخلص من إغواء الشيطان وإضلاله فالله -عزّ وجل- هنا لم يصف هؤلاء إلا بوصف واحد وهو الإيمان فقال (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) هم الذين قال الله فيهم (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) وهذا نستفيد منه درسا عظيما وهو أنه بقدر تحقيقك للعبودية يضعف سلطان الشيطان عليك ، كلما كانت عبوديتك لله أعظم وإيمانك بالله أقوى ضعف سلطان الشيطان عليك . ولاشك  (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) سلطان التغلب ، سلطان التسلط الذي يستمر ، لا ، هذا لا يكون أما الوسوسة العارضة فلا يكاد يسلم منها أحد إنما المقصود السلطان الذي يحصل به جر الإنسان من دائرة الإيمان إلى دائرة الكفر ، من دائرة الأولياء لله -عزّ وجل-  إلى دائرة أولياء الشيطان ، هذا لا يكون على من حقق العبودية ولهذا إذا وجدت أن الشيطان يتسلل إلى قلبك كثيرا فتفقد إيمانك ، تفقد عبوديتك ، كما أننا هنا أهل سبأ نفذ إليهم فأر هدم سدهم فانتبه لا يدخل الشيطان عليك من هذه الثغرات ، قد يدخل الشيطان على بعض الصالحين من ثغرة العين وما أكثر من ضاع بسببها ، قد يدخل عليه من ثغرة الأذن ، قد يدخل من ثغرة اليد ، الرِجل ، وأخطر شيء من ثغرة القلب حينما يمتلئ -والعياذ بالله- من أمراضه وأدوائه ولهذا في مثل هذه المقامات يضرع الإنسان لربه -عزّ وجل- وينكسر ويحني جبهته ويسجد ويتضرع بين يدي ربه -عزّ وجل- أن يحميه من كيد هذا الشيطان الرجيم الذي أقسم ألاّ يترك مجالا إلا سلكه (ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) انظروا إلى بروز قضية الشكر في هذه المقامات ، ففي قصة إبليس (وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) هنا نجد المثال واضحا لم نجد أكثرهم شاكرين بل وجدنا أكثرهم كافرين وكما قال الله -سبحانه وتعالى- (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) .
 قال الله -سبحانه وتعالى- (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ) وهذا سبب آخر بارز في قضية السلامة من كيد الشيطان وضعف سلطانه على العبد وهو حضور الآخرة في حياته ، فمن كانت الآخرة حاضرة في حياته كان تأثير الشيطان عليه وسلطانه أضعف وأبعد وهذا شيء معروف ، المحاكم الآن تمتلئ بقضايا -أزعم أنا- أن أكثر هذه القضايا أن أحد الطرفين يعرف أنه كاذب أو على الأقل ليس له حق ظاهر وإنما -والعياذ بالله- مبدأ إن حصل شيء وإلا لن أخسر شيئا -نسأل الله العافية- هؤلاء لو حضرت الآخرة في نفوسهم والله ما تجرؤا على ذلك ولما صاروا جنودا للشيطان في تحقيق مآربه من التفريق ، من إيجاد الضغائن والشحناء وأخذ أموال الناس بالباطل إلى غير ذلك ، فلو حضرت الآخرة في حياتنا ، حضرت الآخرة ونحن نصلي ، حضرت ونحن في خلواتنا ، حضرت الآخرة في علاقاتنا والله لقلّت أكثر المشاكل الموجودة اليوم بين الناس .
قال الله تعالى (إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) الله -سبحانه وتعالى- يُحصي على العباد أعمالهم فمن شكر فإن الله -سبحانه وتعالى- أكرم وأعظم شكرا ، ومن كفر فالويل له عمله محفوظ وقد يُعاقب وقد تؤخر عقوبته لكنه لن يُفلت لأن الله -سبحانه وتعالى- حافظ أعمال العباد وسيحاسبهم عليها وهذا من مقتضى حفظه -سبحانه وتعالى- .
هذا أيها الإخوة جزء من المعاني التي يمكن الوقوف عليها وأنا موقن بأن القصة تستحق أكثر من ذلك لكن هذه وقفات عابرة وكتاب الله -عزّ وجل- كنز وبحر لا تفنى فوائده ، وهنا حقيقة معنى نسيت أن أُشير إليه وهو يتعلق بهذه القصة وهو أن جمال الأرض وقيام الحضارة المادية ليس دليلا على حب الله تعالى لتلك البلد أو لتلك الدولة أو لتلك الأمة من الأمم بل قد يُنعِم الله -عزّ وجل- على بعض الأمم الكافرة ويحرِم بعض الدول المؤمنة ابتلاء منه -سبحانه وتعالى- وهذه من صور الابتلاء ، فالله -عزّ وجل- هنا أنعم بما أنعم -سبحانه وتعالى- على سبأ بهذه النِعم العظيمة التي لا يكاد يوجد لها نظير لكن هل هذا دليل على أن الله يحبهم ؟ الجواب لا ، ولهذا الدنيا يُعطيها الله من يُحب ومن لا يُحب لكن الآخرة والطاعة لا يُعطيها الله -عزّ وجل- إلا من يُحب فانتبه لا تستبدل توفيق الله لك بهذه الطاعة وتُفسده بما أشرنا إليه آنفا بل الزمها واشكر ، اعتبر أيضا بأن هذه الدنيا قد يعطيها الله -عزّ وجل- من لا يحب ولهذا لما دخل الفاروق -رضي الله عنه- على النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو في مشربة له -في مكان مرتفع- لما اعتزل نساءه ، دخل عليه وإذا جنبه الشريف لما غير من تُكأته رأى أثر الحصير على جنبه الشريف -بأبي وأمي ونفسي وما أملك صلوات الله وسلامه عليه- فدمعت عينا عمر قال : يا رسول الله أنت فيما أنت فيه وأنت رسول الله وكسرى وقيصر على عروش الذهب والفضة ، فقال له -عليه الصلاة والسلام- الذي لا تساوي الدنيا عنده شيء ، والذي قلبه معلق بالآخرة : يا عمر أما ترضى أن تكون لهم في الدنيا ولنا في الآخرة ؟-الجواب بلى- فسكت عمر -رضي الله عنه- وأثرت هذه السيرة في حياة عمر حتى إنه فُتح من الفتوح أضعاف أضعاف ما فُتح في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- وجُلبت إليه كنوز كسرى وقيصر وما أثرت فيه ، خطب -رضي الله عنه- وثوبه فيه أكثر من رقعة على المنبر وهو أمير المؤمنين ، وبالمقياس الجغرافي اليوم نصف الدول العربية كانت تحت امرته -الشام ، الخليج ، العراق ، جزء من بلاد فارس ، مصر ، جزء من أفريقيا وهي تونس وتلك المناطق - كلها تحت إمرته وما تغير عنده شيء ، تعلقت نفسه بالآخرة ، يأتي رسول كسرى ويجده قد توسد شحنة صغيرة من الرمل ما أثرت فيه ، وهكذا القلب -أيها الإخوة- إذا تعلق بالآخرة لم ينفتن بما يأتيه من الدنيا ولا يعتبر هذا التوسع علامة مطلقة على الرضى ويستخدمها في طاعة الله -عزّ وجل- فهذا هو التوفيق وهذا هو السداد .
هذا ما تيسر ذكره في هذا المقام والقصة تستحق أكثر من ذلك وفيها مجال للتأمل والنظر وأنا أدعو الإخوة والأخوات إلى أن يكون جزء مما تُعمر به مجالسهم في البيوت أن يتداولوا مثل هذه القصص مع أبنائهم ومع بناتهم ، يقرؤا ما تيسر من كتب التفسير الموجودة التي -بحمد الله- تيسر كثير منها الآن . يقرؤا في بعض الكتب المعاصرة التي كُتبت بطريقة سهلة ليتدارسوا هذه المعاني ويغرسوا في نفوس أبنائهم وبناتهم هذه المعاني الكبار فما رُبيت والله البيوت وما عُمرت بخير من تلاوة كتاب الله وتدبر معانيه كما قال الله لزوجات نبيه -عليه الصلاة والسلام- (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا) والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 
        
اقرأ المزيد...

الثلاثاء، 30 أبريل 2013

كيف نستفيد من قصص القرآن


 د. عمر المقبل

 الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا وإمامنا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
لنتذاكر شيئا من معاني الوحي الذي نزل على قلبه بأبي هو وأمي -عليه الصلاة والسلام- فإن الله -سبحانه وتعالى- قال له فيما قال (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ومن المُسلم به أن الله -عز وجل- لا يقُصّ علينا قصة في القرآن -طالت أم قصُرت- لا يقُصّها علينا لأجل أن نضيف إلى رصيدنا الثقافي والمعرفي مجرد معلومات ، لا ، إنما يقُصّها الله -عز وجل- علينا لغايات وحِكم منها ما أشارت له الآية الكريمة (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ، وآية في آخر سورة يوسف تحكي أو تذكر بأنواع من العِبر أو بأنواع من الحِكم ينبغي ألاّ تغيب عن ذهن المؤمن وهو يٌقرأ القصص قال الله -عز وجل- في خاتمة سورة يوسف في آخر آية منها  (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) 
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ) ماذا ؟ (عِبْرَةٌ) لمن ؟ (لِّأُولِي الأَلْبَابِ) أصحاب العقول (وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فكلما مرت عليك قصة في القرآن فانظر :
/  مواضع الهداية منها
/ وانظر كيف تستجلب رحمة الله بها 
/ وانظر كيف أثر الإيمان في قلبك بعد تلاوتها وتأملها 
وهذا لايكون إلا بالتفكر الذي قال الله فيه (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) ، ولا يكون التفكر بالقراءة السريعة والهذرمة وإنما يكون بالتأمل وتحديق النظر . هذه نقطة مهمة فيما يتعلق بالقصص القرآني .
النقطة الثانية : شُغف كثير من الناس وهو يقرأ قصص القرآن بشيء وهو البحث عن تفاصيل أخفاها القرآن عمدا فينشغل بغير المهم عن المهم فمثلا : في قصة سبأ ما نسب سبأ التاريخي ؟ يذهب إلى كتب التاريخ ويبدأ يتكلم على سبأ وكم هم القبائل ؟ ست ، مالذي بقي منها في اليمن ؟ وما الذي خرج منها خارج اليمن ؟ حتى انطبق عليهم المثل المشهور تفرقوا أيدي سبأ ..وهكذا . فيدخل في هذه التفاصيل ، معرفتها جيدة لكن المشكلة تأتي حينما يُغرق في الدخول في التفاصيل التي إنما عُمدت الكلام فيها على كلام يذكره بعض المؤرخين لا مُستند له وإن شئت فقل لا حاجة للدخول في تفاصيله .
مثال آخر: في قصة يوسف -عليه الصلاة والسلام- تجد بعض الناس انشغل بأسماء إخوة يوسف من هم ؟ ما اسم المرأة التي راودت يوسف ؟ وأين كان يسكن يوسف ؟ وهنا يختصم المصريون فيه - وحُق لهم أن يختصموا- في الفيوم وإلا في مدينة أخرى . 
لا يُهمنا هذا ولا نبحث عمّا وراءه ، ولا ندخل في أسئلة جدلية لأننا نقطع - وهذه أيها الإخوة من القواعد المهمة في الانتفاع بقصص القرآن - نقطع يقينا أن الله -عز وجل- إذا أخفى علينا شيئا من التفاصيل في القصة أنه لو كان لها أثر في انتفاعنا بها لذُكرت لنا ، فإذا أخفاها الله فلا نُشغل أنفسنا ، إن مرت أو ذكرها بعضهم فالحمد لله أما أن نُمضي وقتا طويلا في البحث عن تفاصيلها بحيث نغفل عن المقصد الأكبر وهو الاعتبار فهذا نقص بيّن .
مثال ثالث : في قصة أصحاب الكهف ، من هم ؟ ما أسماؤهم ؟ كلبهم ما لونه ؟ 
وسبحان الله يأتي التوجيه في نفس سورة الكهف (فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاء ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا) فيه جدل وأخذ ورد ، الإنسان بطبيعته -سبحان الله- يحب البحث عن التفاصيل ولكن من تأمل في طريقة العلماء الربانيين في تناولهم لمعاني القرآن الكريم وجدهم لا يدخلون في هذه التفاصيل ولا يُغرقون فيها ولا يبحثون إلا عمّا يمكن أن يكون سببا معينا على فهم هذه القصة وأمثالها .   
اقرأ المزيد...

الأربعاء، 25 يوليو 2012

ترتيب القصص القرآني في السور

هناك قصص لغير الأنبياء ذكر في العهد المكي، لم يذكر سوى مرة واحدة كخبر أصحاب الجنة (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ) ، وقصة أصحاب الكهف وذي القرنين وسيظهر لك:
 1 ـ أن بعض القصص القرآني موزع على القرآن مكيه ومدنيه، وإن كانت مساحته في العهد المكي أوسع منها في العهد المدني.
2 ـ أن هناك سوراً قرآنية لم يذكر فيها شيء من القصص، كما أن هناك سوراً ذكرت فيها قصة واحدة، ولو أننا استقرأنا القرآن الكريم لوجدنا أن نصف السور المكية تقريباً لم تخل من ذكر هذا القصص، سواء كان ذلك موجزاً أم مفصلاً . وأما السور المدنية فإن بضع سور فقط هي التي ذكر فيها شيء من القصص بإيجاز، اللهم إذا نظرنا إلى ما ذكر من أخبار بني إسرائيل في سورة البقرة.
 3 ـ إن هذا القصص كان موزعاً توزيعاً موضوعياً على السور القرآنية. فسورة آل عمران مثلاً فُصل فيها نبأهم، وسورة مريم فُصل فيها نبأ إبراهيم وبنيه، وذريته ومنهم مريم ـ بالطبع ـ وقصص الأنبياء العرب فُصل أكثر ما فصل في السورة المكية، هذا على سبيل الإجمال.
 أما من حيث التفصيل فنقول : إن السبع الطوال التي تبدأ بسورة البقرة وتنتهي بسورة براءة كانت أكثر سورة فيها نالت نصيباً من القصص سورة الأعراف، وذلك لأنها جاءت تعالج موضوع العقيدة من حيث تاريخها البعيد، لذلك نجدها ابتدأت بقصة آدم، ثم ذكرت قصة نوح بعد فصول كثيرة من الآيات، وبعد قصة نوح مباشرة ذكرت قصة هود وصالح ولوط وشعيب، وموسى مع فرعون ومع بني إسرائيل، ونلحظ أن القصص في سورة الأعراف عدا قصة آدم كانت جميعها حديثاً عن الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم، وما لقي هؤلاء من أولئك من شدة وعنت.
 أما السورة المكية الثانية في السبع الطوال فهي سورة الأنعام، وهذه جاءت تتحدث عن العقيدة من حيث ردُ الاقتراحات التي اقترحها المشركون، وعلاج الشبهات التي أثاروها، وما يتصل بذلك من أدلة الوحدانية والرسالة والبعث، ومن حيث ما حرمه المشركون على أنفسهم دون دليل، ومن هنا لانجد في هذه السورة سوى قصة إبراهيم عليه السلام، ولكنها ذكرت من حيث استدلاله عليه السلام على الإله الحق وهو متسق تماماً مع موضوع السورة الكريمة . وبقية السبع الطوال كلها سور مدنية، والقصص التي ذكرت في بعضها مع قلتها كانت حديثاً عن بني إسرائيل فحسب .
فإذا تجاوزنا السبع الطوال وجدنا أن سورتي يونس وهود تحدثنا عن بعض القصص، وإن كان نصيب الثانية أكثر من نصيب الأولى فسورة يونس حدثتنا موجزاً عن نوح عليه السلام ، وقد بدأت به السورة ثم حديثاً فيه بعض التفصيل عن قصة موسى مع فرعون، لكن سورة هود بدأت بالحديث عن قصة نوح مفصلة تفصيلاً تاماً، ثم جرت على هذا الترتيب التاريخي فذكرت قصة هود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب واشارة موجزة لقصة موسى، ولكن قصة إبراهيم في سورة هود لم تكن عما جرى بينه وبين قومه، وإنما عما كان بينه وبين الرسل من الملائكة، وكأنما ذكرت مقدمة لقصة لوط التي فصلت الحديث عنه مع قومه بعض التفصيل.
 ثم جاءت سورة يوسف وهي كما نعلم خاصة به عليه الصلاة والسلام ، لكن سورة الرعد خلت من ذكر هذا القصص القرآني.
 حدثنا القرآن الكريم عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بأنه أُمة وأنه أبو الأنبياء ، لأن أكثر الأنبياء الذين أرسلهم الله من بعده من ذريته إن لم يكونوا جميعاً وما نعرف ممن قص الله علينا نبأهم بعده عليه السلام . أقول : ما نعرف واحداً ليس من ذريته ابتداءً بإسماعيل وإسحاق، وختماً بسيد البشر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
 وسورة إبراهيم، السورة التي سميت باسمه أرادها الله أن تكون أمة في السور كذلك فلها من اسمها نصيب. من أجل ذلك وجدنا هذه المحاضرة والمحاورة التي تنسب إلى الرسل، وما كان بينهم وبين أقوامهم، ولم نجد مثلها في غير هذه السور الكريمة . إنهم تجمعوا ولكن في هذه السورة كما يتجمع الأبناء في بيت الأب . إن الإشارة في قصة موسى في سورة إبراهيم كانت لبني إسرائيل دون فرعون وجميل أن يذكر في قصة إبراهيم بنو إسرائيل الذين ينتسبون إليه دون فرعون، وليس هذا فحسب، بل إن ما يدعو للإعجاب حقاً ويطرب له كل فؤاد أن الرسل الذين جاؤوا بعد إبراهيم هم أبناؤه وذريته، ولنستمع إلى ما تقصه علينا سورة إبراهيم : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ) [آية 9] وهؤلاء كانوا قبل إبراهيم ـ بالطبع ـ ويستأنف الكلام فيقول الله : (وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ) الذين من بعد قوم نوح وعاد وثمود، وهم الذين لايعلمهم إلا الله لكثرتهم وتعدد منازلهم، واختلاف لغاتهم، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة. ولكن ما بال أولئك؟ (جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ) الآيات الظاهرة، فماذا كان منهم؟ يقول الله : (فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ)، وهي كناية عن التقنيط والتيئيس، والحسد والغيظ، وهذا شبيه بقوله تعالى: (عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) وهكذا ردّ أولئك الأقوام أيديهم في أفواههم، معلنين للرسل أنهم لن يؤمنوا برسالتهم، وما كان ذلك إلا حسداً وغيظاً وكراهية للحق ، أو ردّوا أيديهم في أفواه الرسل حتى لا يتكلم الرسل (وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ) بهذه الصراحة الوقحة (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) عجيب أمر أولئك جعلوا قضية الرسل المشرقة الواضحة قضية تدعو إلى الريبة والتهمة والقلق . ويرد الرسل جميعاً هذا الباطل (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) لاينبغي أن يكون في الله شك، وهو فاطر السماوات والأرض (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) ، (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى)، ولكن مع هذا التحبب والتلطف لا يزيد الفريق الآخر على أن يقول للفريق الأول، وهم الرسل عليهم السلام: (إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا) وهذه هي التهمة الأولى .
 وأما الثانية : (تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) . ثم يأتي دور التمحل فرغم الحجج الواضحة ولكنهم مع ذلك لايكتفون (فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) وترد الرسل مقالة أولئك : نحن لاننكر أننا بشر، نحن معترفون بهذه البشرية وهل ادعينا غيرها، ولكن أكل البشر سواء؟ ألستم تزعمون أنتم أنكم خير من غيركم فما دمتم ترون أنفسكم أفضل من غيركم، فلماذا تنكرون على غيركم أن يمنّ الله عليهم بمننه وكرمه؟.
 أما ما طلبتموه من سلطان فمع أنه تمحل منكم، ولكن مع ذلك ما كان لنا أن نأتيكم بشيء مما طلبتم إلا بإذن الله، عليه نتوكل وعليه وحده يتوكل المؤمنون، ولماذا لا نتوكل عليه، وأي شيء يمنعنا من ذلك وقد أكرمنا بالهداية. أما ما يلحقنا من إيذاء فلنصبرن عليه وعلى الله يتوكل المتوكلون.
وبعد تلك الرقة في القول والإقناع في المنطق بعد ذلكم القول الذي يمتع العواطف ويقنع العقول، ويوقظ المشاعر ويهز النفوس، يقول أولئك الكافرون لرسلهم بعد كل هذا (لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) وهنا يعرض المتكبرون عضلاتهم ويلوحون بعصا القوة (لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا) سمعناها من قوم شعيب، وقالها قوم لوط ولكنها هنا يقولها فريق الكفر مجتمعاً (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) وليس معنى هذا أن الرسل عليهم السلام كانوا على ملة أقوامهم ـ فمعاذ الله أن يكونوا كذلك ـ ولكن معنى الآية الكريمة ـ والله أعلم ـ أو لتصيرن في ملتنا. وهنا تدرك الرسل العناية الإلهية (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) أوحى إليهم ربهم الذي أكرمهم بعنايته ورسالته، رباهم وتعهدهم وتولاهم (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) يا لفظاعة الظلم! إنه أساس الدمار والبوار والانحراف (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ) وصدق الله وعده، فنجى رسله، وأسكنهم وأورثهم الأرض، والأرض لله.
 وذلك التأييد إنما يكون للرسل ولمن كان على نهجهم فمن اجتمع له هذان الأمران:
 1 ـ أن يخاف مقام الله تبارك وتعالى، أي أن يخاف ذلك الموقف في الآخرة الذي سيقفه، أو يخاف مقام الله : أي يخاف مراقبة الله تبارك وتعالى، وقيامه سبحانه وتعالى عليه بكل ما كسب (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت).
2 ـ أن يخاف وعيد : أن يخاف ما توعده الله تبارك وتعالى به.
 ويستفتح الرسل يطلبون من الله أن يحكم بينهم وبين أقوامهم (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) وفتح الله بينهم (وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) خاب أولئك الجبابرة المتعالون على الحق، المعاندون في آيات الله، وهو أن خسر في دنياه، فإن هناك خسارة أعظم (مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ) أي بين يديه سيلاقيها، ويعرض عليها ويدخلها (وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ) وأنّى له أن يسيغ مثل ذلك، نعوذ بالله ونستجير به سبحانه (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ). من كل مكان يأتيه الموت!! ما أبدعه من تصوير وما أشد وقعه على النفس!! أسباب الموت من كل ناحية وجانب ولكن لا موت.
(وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ) تلك محاورة بين رسل الله، أهل الحق، وبين أهل الباطل. وهذه المحاورة بين الرسل الكرام يختار لهما المكان اللائق بها بيت الشيخ بيت الأب العظيم سورة إبراهيم عليه السلام وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على أن الأنبياء جميعاً أمة واحدة مهما اختلفت أزمنتهم وأمكنتهم، وإن أهل الباطل كذلك.
أما سورة الحجر، فبعد أن ذكرت قصة آدم انتقلت بعد فاصل قصير إلى الحديث عن إبراهيم عليه السلام ، ولكن لا من حيث ما كان بينه وبين قومه، وإنما من حيث مجيء الرسل وتبشيرهم له، ثم تحدثت عن قصة لوط وأشارت إشارتين موجزتين خاطفتين إلى أصحاب الحجر الذين سميت السورة باسمهم وأصحاب الأيكة.
 وإذا جاز لنا أن نقسم ما حدثت عنه السورة تقسيماً جغرافياً فإن الذين حدثتنا عنهم سورة الحجر كانوا جميعاً في منطقة واحدة، وأمكنة متقاربة فقرى قوم لوط وثمود ومدين كلها في شمال الجزيرة، وكأن الحديث عنها كان تذكرة لأهل مكة، لأنهم يمرون بطريقهم على هؤلاء الأقوام، وعلى هذه الأمكنة.
أما سورة النحل ، وهي سورة النعم، فلم نر فيها شيئاً من هذا القصص، اللهم إلا بعض الآيات ثناءً على إبراهيم عليه السلام .
 وتأتي سورة الإسراء، ولا نقرأ فيها إلا لمحة عن قصة آدم، وهذا يتلاءم مع موضوع السورة، ثم اشارة متلائمة أيضاً مع موضوع السورة إلى الآية التي أعطيتها ثمود، وإشارة كذلك إلى الآيات التي أعطيها موسى لفرعون.
 أما سورة مريم، فلقد بدأت الحديث عن زكريا عليه السلام وبشارته بيحيى عليه السلام ، ثم جاءت قصة مريم، وهذا على عكس ما جاء في سورة آل عمران حيث بدأ الحديث عن مريم، لأن السورة الكريمة سميت باسمها، وبعد هذا حدثتنا السورة عن إبراهيم وأبيه ، موسى وأخيه وبعض أنباء إبراهيم ولكن لا من حيث ما كان بينهم وبين أقوامهم، وإنما هي إشارات ثناء على أنبياء الله عليهم السلام، ونلحظ أن الذين حدثتنا السورة عنهم كانوا من ذرية إبراهيم، اللهم إلا ما جاء من اشارة موجزة عن إدريس إذا لم نقل إنه إلياس. وتأتي سورة طه، ويكون الحديث فيها عن موسى عليه السلام ، وعن أكثر من جانب في حياته : رسالته وإرساله إلى فرعون ، وخبره مع بني إسرائيل ، ثم وبعد فاصل من الآيات الكريمة تحدثنا عن قصة آدم .
 أما سورة الأنبياء، ولها من اسمها نصيب، فلقد كان الحديث فيها عن الأنبياء ـ عليهم السلام ـ ثناءً ومنّةً وفضلاً... ولكن كان الحديث فيها موجزاً إيجازاً تاماً، بدأ الحديث فيها عن موسى عليه السلام بآيتين اثنتين، وهكذا كان الحديث عن لوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وغيرهم. كان كله موجزاً مركزاً والرسول الوحيد الذي فصلت عنه السورة الكريمة سورة الأنبياء كان إبراهيم عليه السلام ... وليس في ذلك شيء من العجب فإبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء.
وتأتي سورة الحج، فلا نقرأ فيها شيئاً من القصص، ولعل اسمها يشير إلى الحكمة في ذلك، أما ما ذكر عن إبراهيم فإنما كان حديثاً ذا صلة بالحج.
 وتأتي سورة المؤمنون، والمؤمنون تكفيهم الإشارة فتحدثنا السورة بإيجاز يكفي المؤمنين للعبرة عن نوح وهود، ولمحة عن موسى وهارون، وجعل ابن مريم وأمه آية. إن ذلك متلائم تماماً مع اسم السورة الكريمة وموضوعها.
 أما سورة النور، فنظن أن موضوعها الذي جاءت تتحدث عنه جعلها خالية من هذا القصص، وسورة النور هي السورة المدنية بين سور مكية.
أما سورة الفرقان، فلقد جاءت علاجاً للشبهات التي أثارها المشركون حول الرسالة والرسول، وما ذكر فيها من إشارة عن السابقين لم يكن عما جرى بين الأنبياء وأقوامهم من حوار وجدال، وإنما كان بياناً لما حل بأولئك بعبارات قصيرة موجزة.
وتأتي الطواسين الثلاث : الشعراء والنمل والقصص .
أما سورة الشعراء: وهي أكثرها تعداداً لقصص الأنبياء، فبعد ذكر القرآن والنبي وأهل مكة، ابتدأت الحديث عن موسى عليه السلام مع فرعون، وفصلت بعض التفصيل تفصيلاً لانكاد نجده في غير سورة الأعراف أعني في شأن فرعون، وبعدها تنتقل السورة للحديث عن إبراهيم عليه السلام ، ولكن هذا الحديث يكون أكثر ما يكون عن تمجيد إبراهيم لربه. ثم تحدثنا السورة عن قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، ثم تنتقل إلى القرآن الكريم، وتنزيله بالحق: (وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) .
 أما سورة النمل، فبعد أن تحدثنا عن القرآن والنبي تذكر شيئاً عن قصة موسى عليه السلام ومبدأ رسالته، ولكن بإيجاز ثم تذكر داود وسليمان وتفصل الحديث عن سليمان وما كان من ملكة سبأ. ثم تحدثنا عن ثمود وقوم لوط... ولكن بما ليس فيه تفصيل، وإنما هو أقرب إلى الإيجاز.
 أما سورة القصص: وهي آخر الطواسين، فالحديث فيها إنما هو عن موسى عليه السلام منذ ولادته إلى أن أرسل إلى فرعون. حتى ما جاء في آخر السورة كان حديثاً عن قارون الذي هو من قوم موسى، لكن السورة تبدأ بالحديث عن القرآن، وتنتهي كذلك ونلحظ ما يلي: الطواسين وطه، كان الحديث فيها بادئ ذي بدء عن موسى عليه السلام ، بل إن منها ما اقتصر على الحديث عنه أو أطال كـ (طه) والشعراء والقصص، ونتساءل: هذه الطواسين حتى طه هذه السورة التي ابتدأت بحرف (الطاء) جميعاً بدأت الحديث عن موسى عليه السلام ، ولكن كان للحديث عن القرآن الكريم فيها شأن كذلك.
 وتأتي سورة العنكبوت، والإشارات إلى الأنبياء فيها موجزة، وقد حدثتنا عن نوح وإبراهيم ولوط وآية واحدة جمع فيها عاد وثمود، وآية واحدة عن قارون وفرعون وهامان، واشارة موجزة لمدين. سورة العنكبوت سورة الدعاة ولا أدل على ذلك من بدايتها وخاتمتها، أما بدايتها : (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أما خاتمتها، فهي قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
 أما سورة الروم، فقد اكتفت أن يُشار فيها إلى الروم، وغلبتهم، ولم يذكر فيها شيء من القصص: وكذلك السورة التي بعدها سورة لقمان اكتفت أن تحدثنا عن وصية لقمان لابنه، وكذلك سورة السجدة لم تحدثنا عن شيء من هذا القصص، اللهم إلا بدء خلق الإنسان من طين.
 وتأتي سورة الأحزاب المدنية ونِعم ما ذكرته لنا من نصر الله المؤمنين وقد ابتلوا وزلزلوا زلزالاً شديداً فالله نصرهم على الأحزاب، والحمد لله أولاً وآخراً.
 وتأتي سورة سبأ، وسبأ كما نعلم كانت لها شهرتها (جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ)، ولكنهم أعرضوا فأرسل عليهم سيل العرم، وبُدلوا بجنتيهم ذواتي الثمر الزكي الشهي، بُدلوا بجنتيهم جنتين أُخريين ذواتي أكل خمط وأثل، وشيء من سدر قليل، (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ). سورة سبأ هذه ذكرت فيها قصة واحدة قصة داود وسليمان، ومن عجيب شأن القرآن وروعة نظمه وبديع صنعته، وجميل موضوعاته، ورائق معانيه أن تجد هذا الترتيب المحكم. آية إعجاز ودليل صدق، وبرهان حق، ذكرت فيه قصة داود ثم اتبعت بقصة سبأ، ولكن هل تعلم أن قصة داود في سورة سبأ ذكرت من حيثية يهدف لها القرآن، إن الله ذكر داود في سورة سبأ ليبين أنه أنعم الله عليه فشكر (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ). فسورة سبأ تذكر لنا فريقين من الناس أنعم الله عليهما، لكن منهم من شكر النعمة، ومهم من كفرها. ولهذا يذكر عقب هاتين القصتين قول الله تعالى: (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ).
 أما سورة فاطر، فكان الحديث فيها عن آثار فاطر السماوات والأرض، ولم يأت فيها شيء من القصص.
 أما سورة يس، و(يس) قلب القرآن، فلم يذكر فيها إلا المثل لأصحاب القرية (إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ).
لكن سورة الصافات ذكر فيها الأنبياء من حيث الثناء عليهم والنبي الذي فُصل خبره هو إبراهيم عليه السلام .
 وتأتي سورة (ص)، فلم يكن الحديث فيا عما جرى بين الأنبياء وبين أقوامهم، وإنما عن بعض ما ابتُلي به بعض الأنبياء كداود وسليمان وأيوب كل ذلك كان تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وثناء بإيجاز على إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل.
أما سورة الزمر ، فلم يذكر فيها شيء من قصص الأنبياء ـ عليهم السلام ـ .
وتأتي الحواميم السبع :
 فيكون الحديث في السورة الأولى وهي  سورة غافر (المؤمن) عن نبأ موسى، وتفيض في الحديث عن مؤمن آل فرعون.
أما سورة فصلت ففيها إشارة في معرض الحديث عن أهل مكة ووعيدهم إن أعرضوا. وأما سورة الشورى فليس فيها شيء من القصص القرآني.
وتأتي سورة الزخرف، وفيها اشارة عن إبراهيم عليه السلام تتلاءم مع موضوعها، وشيء عن خبر موسى مع فرعون، وما كان من اعتزاز فرعون وفخره بنفسه وبملكه، وهو متلائم مع موضوع السورة كذلك.
 وتأتي سورة الدخان فتحدثنا شيئاً عن خبر فرعون متسقاً مع ما أصيب به أهل مكة حينما دعا النبي -صلى الله عليه وسلم - عليهم بسنين كسنين يوسف.
 لكن سورة الجاثية نجدها خالية من القصص، اللهم إلا إشارة موجزة عن بني إسرائيل وما خصهم الله به، ولكنهم اختلفوا.
 وتأتي سورة الأحقاف وهي السورة الأخيرة في الحواميم، وفيها إشارة ساكني الأحقاف وهم عاد.
 ثم تأتي ثلاث سورة مدنية : وهي سورة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وسورة الفتح المبين الذي أكرمه الله به، ثم سورة الحجرات ـ وبالطبع ـ لايكون فيها شيء من هذا القصص.
 ويبدأ المفصل فنجد إشارة موجزة في بعض سوره ـ كما في سورة (ق) والقمر، وكما جاء من ذكر موسى وقومه في سورة الصف، ومن خبر أصحاب الجنة وصاحب الحوت في سورة (ن)، ومن اشارات في سورة الحاقة.
 والسورة الوحيدة في المفصل التي فصل فيها، كانت سورة نوح، حيث كانت كلها حديثاً عنه عليه الصلاة والسلام . كل ما في المفصل إذن كان اشارات. كما جاء في سورة المزمل وسورة الفجر والشمس والبروج عن أصحاب الخدود. وهناك سورتان كان فيهما بعض التفصيل عن بعض الأنبياء وهما: سورة الذاريات حيث فصلت في نبأ إبراهيم، وبعض إشارات إلى قوم لوط وفرعون وعاد وثمود وسورة النازعات التي أجملت الحديث عن خبر موسى عليه السلام مع فرعون.
-----------------------------------------------------------
المصدر : القصص القرآني ـ إيحاؤه ونفحاته / د.فضل حسن عباس
اقرأ المزيد...

الجمعة، 2 سبتمبر 2011

أنواع وفوائد القصص في القرآن


قصص القرآن أصدق القصص لقوله تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) وذلك لتمام مطابقتها للواقع .
وأحسن القصص لقوله تعالى : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) وذلك لاشتمالها على أعلى درجات الكمال في البلاغة وجلال المعنى .
وأنفع القصص لقوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ) وذلك لقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق .

- أنواع القصص في القرآن -
القصص في القرآن ثلاثة أنواع :
النوع الأول : قصص الأنبياء ، وقد تضمن دعوتهم إلى قومهم ، والمعجزات التي أيدهم الله بها ، وموقف المعاندين منهم ، ومراحل الدعوة وتطورها وعاقبة المؤمنين والمكذبين . كقصة نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وهارون ، وعيسى ، ومحمد ، وغيرهم من الأنبياء والمرسلين ، عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام .
النوع الثاني : قصص قرآني يتعلق بحوادث غابرة ، وأشخاص لم تثبت ثبوتهم ، كقصة الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت . وطالوت وجالوت ، وابني آدم ، وأهل الكهف ، وذي القرنين ، وقارون ، وأصحاب السبت ، ومريم ، وأصحاب الأخدود ، وأصحاب الفيل ونحوهم.
النوع الثالث : قصص يتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كغزوة بدر واُحد في سورة آل عمران ، وغزوة حنين وتبوك في التوبة ، وغزوة الأحزاب في سورة الأحزاب ، والهجرة ، والإسراء ، ونحو ذلك .

- فوائد قصص القرآن -
للقصص القرآني فوائد نجمل أهمها فيما يأتي :
1- إيضاح أسس الدعوة إلى الله ، وبيان أصول الشرائع التي يبعث بها كل نبي : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : 25].

2- تثبيت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلوب الأمة المحمدية على دين الله وتقوية ثقة المؤمنين بنصرة الحق وجندة ، وخذلان البطل وأهله: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 12] .

3- تصديق الأنبياء السابقين وإحياء ذكراهم وتخليد آثارهم .

4- إظهار صدق محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته بما أخبر به عن أحوال الماضين عبر القرون والأجيال .

5- مقارعته أهل الكتاب بالحجة فيما كتموه من البينات والهدى ، وتحديه لهم بما كان في كتبهم قبل التحريف والتبديل ، كقوله تعالى : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)[آل عمران: 93].

6- والقصص ضرب من ضروب الأدب ، يصغى إليها السامع ، وترسخ عبره في النفس : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ) [يوسف: 111] .

7- بيان حكم الله تعالى فيما تضمنته هذه القصص لقوله تعالى : (وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّنَ الأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ*حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ) .

8- بيان عدله تعالى بعقوبة المكذبين لقوله تعالى عن المكذبين : (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) .

9- بيان فضله تعالى بمثوبة المؤمنين لقوله تعالى : (إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ*نِعْمَةً مِّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ) .

10- تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - عما أصابه من المكذبين له لقوله تعالى : (وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ*ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ) .

11- ترغيب المؤمنين في الإيمان بالثبات عليه والازدياد منه إذ علموا نجاة المؤمنين السابقين وانتصار من أمروا بالجهاد لقوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) .

12- تحذير الكافرين من الاستمرار في كفرهم لقوله تعالى : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا).

13- إثبات رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن أخبار الأمم السابقة لا يعلمها إلا الله عز وجل لقوله تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا ) وقوله ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ) .

-------------------------------
القصص في القرآن الكريم / إسلام محمود دربالة ( بتصرف في الآيات)
اقرأ المزيد...

أهمية القصص القرآني / د. محمد بن عبد العزيز الخضيري

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا أما بعد :
أحبتي الكرام : إن من أعظم ما تحصل به الهداية ويكون به التأثير في النفوس عامة المؤمنين والكفار ، الرجال والنساء ، الكبار والصغار هي القصص فلها أثر كبير على الإنسان في توجيهه وإرشاده وتعديل سلوكه ودعوته وإقناعه بالحق ورده عن الباطل وبيان خبرات الأمم وتجارب السابقين وما حدث فيه . ثم إنها لا تحكي أو لا تُحدثك بالحقائق مجردة بل تذكرها مقرونة بواقع كأنما تمشي على الأرض وهذا يجعل لها ميزة ويجعل لها رونق ولذلك نجد جميع الناس ينجذبون للقصص ويحبونها ، لا فرق بين الأطفال والعلماء ، اجلس عند عالم وقل له يا شيخ أنا حصلت لي قصة في زواجي فيقول لك : ما هي ؟ ثم ابدأ حدثه بالقصة ستجد أنه لو جاءه اتصال هاتفي يقول لك أكمل ، واصل لكن لو تقول : يا شيخ عندي فائذة يقول هاتها فإذا قطعه قاطع أو شغله شاغل قام ولم يستمع إلى بقيتها إلا أن تكون في تخصصه أو شيء يهتم به أو يعتني به اعتناء كبيرا ، هذا العالِم ، أما الطفل فحدث ولا حرج فالطفل يفهم القصة ولا يفهم الحقيقة ومنجذب إليها إنجذابا كبيرا . ولذلك هي أسلوب عظيم من أساليب التربية . ويكفينا يا إخواني لنعرف أثر القصة في التربية وبناء الشخصية والتأثير على النفوس وتغيير العادات والسلوك وتوجيه الناس ودعوتهم إلى الله - عز وجل - أن ثلث القرآن في القصص ولذلك قال العلماء القرآن ثلاثة أقسام :
القسم الأول : توحيد
القسم الثاني : أحكام
القسم الثالث : قصص وأخبار
فمن قرأ سورة الإخلاص فكأنما قرأ ثلث القرآن لأنها جاءت بالتوحيد ، ومن آمن بسورة الإخلاص فقد آمن بثلث ما أُنزل من القرآن وهو : توحيد الله - عز وجل - ولذلك هذه السورة تعدل ثلث القرآن والثلثان الباقيان هما : الأحكام والشرائع المُنزلة من الله - عز وجل - على عباده ، والثاني الأخبار والقصص ، هذه التي أخذت حيزا كبيرا من كلام الله - جل وعلا - وصارت وسيلة عظيمة من أعظم وسائل القرآن لاقناع الناس وإيصال الحقائق ، تربيتهم ، توجيههم وإرشادهم ، دعوتهم إلى الله - عز وجل - ، وبيان نصر الله لرسله وأوليائه والمؤمنين برسله ، وبيان عاقبة المكذبين ، ماذا حلّ بهم من النكال والعقوبة في الدنيا . كل ذلك يُحكى لنا عبر القصص ، قصص يحكيها الله بنفسه (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) .
إذا فقصص القرآن أحسن القصص وأعظمها واجلُّها وأجملها (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)

---------------------
بتصرف يسير
اقرأ المزيد...