‏إظهار الرسائل ذات التسميات مسائل التفسير المستخلصة من دورة في شرح ثلاثة الأصول للشيخ عبد العزيز الداخل. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات مسائل التفسير المستخلصة من دورة في شرح ثلاثة الأصول للشيخ عبد العزيز الداخل. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 17 مارس 2013

من الدرس الرابع عشر : مسائل مهمة ( 2/2) /(لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ)

1- وإنما وقعت المخاصمة في هؤلاء من كفار قريش لما نزل قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء:98] وقد جعل الله تعالى في هذا الأمر فتنة للمشركين هي من مزيد إقامة الحجة عليهم فإنها دعتهم للتفكر في ما بلَّغهم الرسول من آيات ربهم وعرفوا معانيها فقامت عليهم الحجة ولكنهم لم يؤمنوا بها ولم يستجيبوا لها ولم يحذروا مما أنذرهم الله من العذاب الشديد في نار جهنم، بل قابلوا ذلك بالمجادلة بالباطل ظلماً وطغياناً وعناداً واستكباراً، ليغرَّ بعضهم بعضاً بما استحسنوه من زخرف القول. ولو أنهم تفكروا في أنفسهم لعرفوا أن الله تعالى لا يكون في كلامه خطأ ولا قصور ، ولا يكون في حكمه ظلم ولا جهل ، لكنهم انصرفوا عما أمروا به من توحيد الله إلى مخاصمة الله ورسوله واستمرؤوا المحادَّة والمشاقَّة وفي هذا من سوء الأدب مع الله ومع رسوله ما يستحقون عليه العذاب الشديد، وقد جعل الله هذا الأمر فتنة لهم ليظهر ما في نفوسهم من الكِبْرِ والطغيان . روى الطبراني عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت : (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) قال عبد الله بن الزِّبَعْرَي : أنا أخصم لكم محمداً. فقال: يا محمد أليس فيما أنزل عليك : (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) ؟ قال : (( نعم )). قال: فهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيراً، وهذه بنو مليح تعبد الملائكة؛ فهؤلاء في النار ؟ فأنزل الله عز و جل: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ).ورواه الطحاوي في مشكل الآثار بزيادة، وفيها أنه قال: فضجَّ أهل مكةَ؛ فنزلت: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى عيسى وعزير والملائكة أولئك عنها مبعدون.
 قال: ونزلت (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) وهو الضَّجيج. (يصِدون) بكسر الصاد أي يضجّون. قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) قال الله تعالى: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) الذي ضرب هذا المثل هو عبد الله بن الزبعرى كما تقدَّم؛ فضج أهل مكة فرحاً بهذا المثل، وقالوا: إذا كان عيسى ليس في النار؛ فآلهتنا خير منه. أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ استفهام إنكاري جوابه المتقرر عندهم أن آلهتهم خير منه، حتى إنهم قدموا ذكر آلهتهم وأخروا ذكره ورمزوا له بالضمير تقليلاً من شأنه. ونسب الضرب إليهم جميعاً فقال: (مَا ضَرَبُوهُ) لأنهم وافقوه على قوله، وإن كان الضارب واحداً في الأصل، لكن لمَّا فرحوا بضرب هذا المثل نسب إليهم جميعاً. وقول الله تعالى: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) دليل على أنهم يعلمون أنهم مبطلون لا حجة لهم ، وإنما أرادوا الجدال والمخاصمة.
 قال جماعة من أهل العلم باللغة والتفسير: قوله تعالى:(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) "ما" هي لغير العاقل، فالآية لا تشمل هؤلاء الصالحين بدلالة اللفظ أصلاً ؛ لأن العرب تخبر عن غير العاقل بـ "ما" فيكون المراد بقوله: بما يعبدون من دون الله الأوثان من الأصنام والأحجار والأشجار، وأما هؤلاء الصالحين فيخبر عنهم بـ"من)" وليس بـ"ما"، ولذلك قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم) ولم يقل لها. وقال في الأوثان:(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا) فليس قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى..) الآية استثناء من الآية التي قبلها، وإنما هو تقرير لحكم هؤلاء الصالحين الذين سبقت لهم الحسنى من الله تعالى أنهم مبعدون عن نار جهنم لا يسمعون حسيسها، وأنهم آمنون يوم القيامة من الفزعٍ الأكبر الذي لا أكبر منه، وفي هذا تهديد لهؤلاء المشركين وإنذار وتخويف بأنهم إن لم يكفروا بالطاغوت ويؤمنوا بالله كانوا من المعذبين بذلك الفزع الأكبر وأنهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم، والعياذ بالله.
 2- قوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ) [البقرة:256] أي إنَّ الدين لا إكراه فيه على أحد، فلا يستطيع أحد من الخلق أن يجبر أحداً على دينٍ لا يرتضيه؛ لأن الله تعالى لم يجعل للمخلوقين سلطاناً على القلوب. وقد يسَّر الله الدين تيسيراً عظيماً؛ فمن اختار الإيمان فلا يستطيع أن يمنعه منه أحد من الخلق بإكراه على الكفر، لأن الدخول في الدين أصله الاعتقاد والقول ولو بالإسرار والإخفاء وهذا أمر لا سلطان لأحد من الخلق على منعه والإكراه عليه. وأما من اختار الكفر على الإيمان فهو كافر وإن كان مستضعفاً في الظاهر. ولذلك فإن المستضعفين الذين قصَّ الله خبرهم في القرآن في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فهؤلاء المستضعفون قد جاءهم الهدى وعرفوه ولم يؤمنوا به، بل اختاروا طاعة الطواغيت المستكبرين اختياراً قلبياً منهم ، وإلا فإن هؤلاء الطواغيت لا سلطان لهم على قلوب المستضعفين ، ولا يستطيعون أن يكرهوهم على اختيار الكفر. ولو أن هؤلاء المستضعفين آمنوا بقلوبهم لجعل الله لهم مخرجاً ولأعزهم ونصرهم، ولكنهم اختاروا الكفر إرضاء للطواغيت فاستحقوا العذاب. ولذلك قال لهم المستكبرون باستنكار: (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ) ؟ فإنه لا سلطان لهم على قلوب المستضعفين يصدونهم به عن قبول الهدى. وقال الله تعالى لنبيّه: (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ) وهذا استفهام إنكاري، أي لا تستطيع أن تكره الناس على الإيمان. فمن تمام عدل الله أن جعل الاختيار بين الكفر والإيمان لا إكراه لأحد فيه. إذا تبيَّن هذا فقوله تعالى: (لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ) يشمل معاني لا تعارض بينها: المعنى الأول: أنه لا يقع إكراه من مخلوق لمخلوق على الدين، كما سبق بيانه.
 المعنى الثاني: أنها خبر بمعنى النهي أي: لا يجوز أن يُكره أحدٌ بتهديد بضرب أو قتل أو حبس أو نحوه على الدخول في دين الإسلام. وهذا الإكراه إنما هو فعل ما يستطيعه المُكْرِه من التهديد والتعذيب؛ فإذا هدَّد أو عذَّب حتى يوافقه المُكرَه ظاهراً فهو مُكْرِه، فنُهِيَ عن هذا ، وهو لا يقتضي الإكراه على الاختيار القلبي، لأن المُكْرَه قد يوافق ظاهراً ويخالف باطناً. وهذا لا يعارضه قتال الكفار وإقامة الحد على المرتد فإن الكفار يقاتلون على منعهم تبليغ الدعوة وتمكين المؤمنين من الأرض ليحكموا فيها بما أنزل الله ويحطّموا ما أمر الله بتحطيمه من الطواغيت التي تعبد من دون الله فمن دافع عن هذه الطواغيت وقاتل في سبيلها استحق القتال، وليس قتاله على أن يكره على أن يدخل في دين الإسلام كرهاً. وكذلك المرتد يقتل تنفيذاً لحكم الله فيه.
 المعنى الثالث: (لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ) أي لا يجوز للمؤمنين أن يكره بعضهم بعضاً على أي أمر من الأمور ، فمعنى لا إكراه في الدين أي لا يجوز الإكراه في دين الإسلام لأن الإكراه إضرار، والإضرار محرم . وقد روى ابن أبي شيبة عن حنش بن الحارث النخعي عن أبيه أنه قدم المدينة مع قومه فأمرهم عمر بالمسير إلى العراق مدداً للمسلمين في القادسية؛ فقالوا: لا بل نسير إلى الشام، فقال عمر: لا بل إلى العراق فإني قد رضيتها لكم، فجادلوه حتى قال بعضهم: يا أمير المؤمنين لا إكراه في الدين.
 * قوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) أي إن طريق الرشد والصواب والخير قد تبيَّن بياناً لا لبس فيه، وكذلك طريق الغي والشر والفساد. (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) أي يكفر بما يُعبد من دون الله ، ويقوم بما يقتضيه واجب الكفر من البراءة من الكفر وأهله. (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) أي يوحد الله ويسلم وجهه وقلبه له.
 * (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى) العروة هي ما يُسْتَمْسَكُ به لطلب النجاة. وأصل هذا اللفظ أن الدلو توثق بعروة تمسكها؛ فإذا أُلْقِيت الدلو في البئر وامتلأت ماءً جذبها المستسقي بحبل قد ربطه في عروة الدلو فإن كانت تلك العروة وثيقة جيدة والحبل جيداً استخرج الدلو، وإن كانت العروة غير وثيقة انفصمت العروة فسقط الدلو.
 قال امرؤ القيس :
 كالدلو ثبت عُرَاها وهي موقرة = إذ خانها وذَم منها وتكريب
 الكَرَبُ: حبل يشدُّ به وسط العراقي، والعراقي: خشبتان متقاطعتان على شكل صليب يوضع على فم الدلو، ويكون طرف كل خشبة في أذن من آذان الدلو الأربعة.
 والوذم سيور تربط آذان الدلو بالعراقي، واحدتها: وَذَمَة.
 فالعروة اسم لهذه الأجزاء التي تتكون منها ، وهي التي تمسك الدلو . يقال: عروة وثيقة، إذا كانت قوية مأمونة؛ فتجمع بين القوة والأمان بحيث يوثق بها ويُطمئَنُّ إليها. ويقال: عروة أوثق من عروة؛ على التفاضل في صفتي القوة والأمان.
 والعروة الوُثقى هي التي بلغت الغاية في القوة والأمان فلا أوثق منها. فإذا كانت العروة وثقى، والاستمساك جيداً نجا المستمسك بهذه العروة من الهلاك فهذه العروة الوثقى التي وصفها الله بقوله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى) هي أوثق أسباب النجاة وأفضلها وأجلها, بل لا أفضل منها، ولا ينجو العبد بغيرها وهي : أن يؤمن بالله ويكفر بالطاغوت. كما يقال: الطريقة المثلى، أي التي لا أمثل منها، ولا أحسن. فالله تعالى يريد أن يقطع على الناس البحث عن أسباب نجاة أخرى؛ فإذا علم العبد أن هذا السبب هو أعظم الأسباب وأنفع الأسباب لم يلتفت قلبه إلى غيره.
 * (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ) لفظ الاستمساك فيه بناء لغوي أقوى دلالة من المَسْكِ, لأنه يجمع معاني قوة التمسك والحرص والمداومة عليه. فما دام العبد مستمسكاً بهذه العروة فالله تعالى ضامن له ألا تنفصم وألا تنقطع به دون بلوغ ما يأمل من النجاة والفوز الكبير .
 * قوله: (لا انْفِصَامَ لَهَا) تأكيد على أن هذه العروة لا تنفصم أبداً، ولا تتقطع أجزاؤها، وفي هذا ضمان عظيم لمن استمسك بهذه العروة الوثقى ألا يُخذل من جهتها أبداً. قال الله تعالى: (لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا)  دلَّ بمنطوقه على أن كل من جعل مع الله إلها آخر فهو مذموم مخذول. ودل بمفهومه على أن من وحَّد الله تعالى فلا يكون مذموماً ولا مخذولاً. فسبيل النجاة من الذم والخذلان هو توحيد الله . وإنما يقع العبد في شيء من الذم والخذلان إذا ضعف تحقيقه للتوحيد. فأما إذا أشرك بالله فقد أحاط به الذم والخذلان والخسران من كل جانب - والعياذ بالله - ، ومن حقق التوحيد فلا يخاف من الذم ولا الخذلان؛ لأن هذه العروة التي استمسك بها عروة وثقى قد ضمن الله تعالى لمن استمسك بها أن لا تنفصم به. فقوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) بيان لمعنى تحقيق الاستمساك بالعروة الوثقى ، لأن حرف "قد" يفيد التحقيق.
 * (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سميع مجيب لدعاء من يدعوه مخلصاً له الدين، عَلِيمٌ بما في قلوبهم من التوحيد والإسلام وهذا يقتضي عنايته بعباده، وأنه لا يخفى عليه شيء من أمرهم. فانظر كيف اقتلعت هذه الآية جذور الخوف من الخذلان والهلاك من قلوب أولياء الله المؤمنين الموحدين فاطمأنَّت قلوبهم بذكر الله ومعرفته والإيمان به ألا بذكر الله تطمئنُّ القلوب.
___________
ملتقى أهل التفسير
اقرأ المزيد...

الأحد، 27 يناير 2013

من الدرس الثالث عشر / ثلاث بشارات عظيمة

1- قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) [النساء -175].
ثلاث بشارات عظيمة كل واحدة منها خير من الدنيا وما فيها. وتأمل قول الله تعالى: (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ) فكأن الرحمة والفضل يحيطان بهم من جميع جوانبهم يتقلبون فيهما كيف يشاؤون.
(وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) وهذه هداية خاصة تقربهم إلى الله تعالى وتدنيهم منه وتعرّفهم بما يحبه الله ويرضاه وتعرّفهم بما لم يكونوا ليهتدوا إلى معرفته لولا فضل الله  من أسباب رحمته وتوفيقه وفضله العظيم في الدنيا والآخرة.
 والاعتصام بالشيء اتخاذه عاصماً ومانعاً مما يخشى ضرره، وقد أمر الله تعالى بالاعتصام به، وفي ضمن ذلك وَعْدُه لمن اعتصم به أن يعصِمَه مما يخاف ضرره. وقد قال الله تعالى : (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) فالاعتصام بالله يكون باتباع هدى الله ، في ما بينه في كتابه الكريم وفي ما بيَّنه الرسول ، لأن الضرر الذي يخشى في الدنيا والآخرة قد بيَّن الله تعالى في كتابه وفي سنة نبيه أسباب العصمة منه؛ فمن فعل ما أُمر به وانتهى عما نُهِيَ عنه فقد أخذ بأسباب العصمة، ومن أعرض عن الكتاب والسنة أو وقع في مخالفة الأمر وارتكاب النهي لم يكن معتصماً. وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر بن عبد الله أن النبي قال لأصحابه في خطبة الوداع: (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني؛ فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. وقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد) ثلاث مرات.
وفي مستدرك الحاكم وسنن البيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: (إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله و سنتي و لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض). صححه الألباني.
 والاعتصام بالكتاب والسنة أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة ، وتنبني عليه مسائل كثيرة من مسائل الاعتقاد، وقد ضلَّت طوائف من أهل البدع بسبب ضعف اعتصامهم بالكتاب والسنة، بل من الطوائف من قدمت عقولها وأراءها على الكتاب والسنة، ومنها من قدمت أهواءها وأقوال معظميها على صريح دلالة الكتاب والسنة، ومنهم من وقع بسبب ذلك في فتنة التأويل المذموم، ومنهم من وقع في فتنة التفويض. ومنهم من وقع في فتن أخرى. ولا عصمة لأحد في اعتقاده إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة ؛ فالمعتصم مهتدي، والمفرّط في الاعتصام عرضة للضلالة - والعياذ بالله-.
 وأمر الاعتصام بالكتاب والسنة ميسَّر ليس فيه عنت ولا مشقة، وما جعل الله علينا في الدين من حرج.
 2- قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) [المائدة:3] ، اليوم المقصود به يوم عرفة من حجة الوداع ، وهو اليوم الذي أنزلت فيه هذه الآية كما في الصحيحين من حديث طارق بن شهاب قال : (جاء رجلٌ من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين آيةٌ في كتابكم تقرءونها لو علينا -معشر اليهود - نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: أي آية؟ قال: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي ، وهو قائم بعرفة يوم جمعة). فقد جمع الله لنزول هذه الآية خير الأيام من أيام الأسبوع، وخير الأيام من أيام السنة، وخير الأركان من أركان الحج، وأفضل جمع اجتمع من خير أمة أخرجت للناس، فامتنَّ الله تعالى على المسلمين في ذلك اليوم بإكمال الدين وإتمام النعمة وَرِضَاه لنا بدين الإسلام ديناً، والمقصود بالإسلام هنا الدين الذي أنزله الله على محمد بإجماع العلماء. قال ابن كثير: "وقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) هذه أكبر نعم الله على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحلّه، ولا حرام إلا ما حرّمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف، كما قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا) أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي. فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم؛ ولهذا قال (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه".
 قوله : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) النعمة المرادة هنا هي النعمة الخاصة التي اختص الله بها أولياءه وهي نعمة الهداية. فإن إنعام الله تعالى على عباده على نوعين:
 النوع الأول: إنعام عام، وهو إنعام فتنة وابتلاء ، كما قال تعالى: (فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) الآيتين.
 وقال: (فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) وهذا الإنعام عام للمؤمنين والكافرين كما قال تعالى: (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا) وهذا الإنعام حجة على العباد ودليل على المنعم ليخلصوا له العبادة ويشكروه على نِعَمِه كما بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)، وقال: (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) .
النوع الثاني: الإنعام الخاص، وهو إنعام منَّة واجتباء ، وهو الإنعام بالهداية إلى ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، وما يمنُّ به على بعض عباده من أسباب فضله ورحمته وبركاته وهذا الإنعام هو المقصود هنا ، وفي قول الله تعالى في إرشاده لعباده في أم القرآن: (اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ*صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) وهو المقصود في قوله تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) فقوله تعالى: (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) أي نعمة بيان الهدى إلى ما يحبه الله ويرضاه ؛ فهي نعمة تامة غير ناقصة ، شاملة جميع ما يحتاجه المسلمون أفراداً وجماعات في أي شأن من شؤونهم، كما قال الله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) حذف متعلق أفعل التفضيل لإرادة العموم ؛ أي أقوم في كل شيء يُحتاج إليه من أبواب الدين في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك والدعوة والسياسة وغيرها مما تتعلق به حاجة الفرد أو الأمة إلى الهداية إلى ما ينفع ويقرب إلى الله ، وتتحقق به النجاة والسلامة مما يخشى ضرره كما قال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) . وقال: (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، وقال: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى) فدلت الآية على كمال الدين وتمام النعمة الخاصة التي اختص الله بها هذه الأمة، فمَنْ قَبِلَها وشكرها كان موعوداً بالخير والفضل العظيم في الدنيا والآخرة، ومن بدَّلها وكفرها كان متوعداً بالعذاب الشديد ، والخسران المبين، كما قال الله تعالى: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، وقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ)
 فبيَّن الله تعالى في هذه الآيات غاية الكفر وغاية الشكر
 * فغاية الكفر: هو تبديل النعمة بالكفر والتعرض لسخط الله ومقته بالشرك به .
 وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام فمن رفضه فقد بدَّل النعمة أقبح تبديل، وسمِّي ذلك تبديلاً للنعمة لأن من فعل أسباب سلب النعمة وإحلال النقمة محلها مبدِّل للنعمة كما بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فمن كان على فطرة الإسلام إذا فعل ما يستحق به سلب هذا النعمة فهو مبدّل لهذه النعمة.
 ومن أتاه البيان إلى ما يحبه الله ويرضاه وما يفوز به العبد في دنياه وأخراه ثم رفضه فهو مبدل للنعمة. فإنه لما جاءته نعمة الهداية والبيان فردها وزاغ قلبه عنها قصداً وعمداً أزاغ الله قلبه جزاء وفاقاً (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين).
 ومن كان على دين الإسلام ثم ارتد عنه فهو مبدّل للنعمة أقبح تبديل.
 فهذا بيان أنواع غاية الكفر، وهو الكفر الذي يخرج به من الملة ويستحق به صاحبه الخلود في النار والعياذ بالله ، وهو الذي وصفه الله بقوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ...) الآية .
وأما غاية الشكر: فما أرشد الله تعالى إليه من إقامة الصلاة والإنفاق في سبيله سراً وجهراً خوفاً وطمعاً وهذا يستلزم تحقيق الإخلاص، ومن فعله فهو من أهل الإحسان في الإسلام.
 وبين هاتين المرتبتين -غاية الشكر وغاية الكفر - درجات كثيرة ومنازل للناس يتفاوتون فيها كما سبق تقرير نظائره في مسائل كثيرة.
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سميع) لما يقوله المؤمنون من حمده ، ولما يقوله الكافرون من نسبة النعمة إلى غيره ظلماً وعلواً. عليم بما في قلوبهم وما تعمله جوارحهم من الشكر أو الكفر.
 فتبيَّن بهذا التقرير وبما تقدم من الأدلة أن الناس يتفاضلون في نصيبهم من هذه النعمة الخاصة على تفاضلهم في طاعة الله والرسول. وتبيَّن أن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله هي الشكر الذي يحبه الله ويرضاه. وتبيَّن أن كمال الدين لا يقتضي كمال جميع المنتسبين إليه، وذلك لتفاوتهم في الطاعة؛ فمن أتم الطاعة فقد استكمل دينه، ومن نقص نقص من دينه بقدره.
 قوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) -يدل بمنطوقه- على أن ما رضيه الله تعالى لنا فهو خير لنا وأصلح وأقوم، لأنه رضا عن علم وحكمة ورحمة؛ فدين الإسلام خير الأديان وأصلحها وأفضلها لنا ، وهو دين قد رضيه الله ، والله تعالى لا يرضى بما فيه شرٌّ ومفسدة وظلم.
 -ويدل بمفهومه- على أن غير دين الإسلام لا يرضاه الله لنا. فكل دين غير دين الإسلام فالله تعالى لا يرضاه، وما لا يرضاه الله فهو غير مقبول ولا نافع لمن اتبعه. وكمال دين الإسلام يستلزم اعتقاد كمال بيان النبي لأمور الدين، وأن بيانه لأمور الدين أتم البيان وأحسنه. وهذا أصل مهم يرد به على أهل البدع والأهواء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية : 
"(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فلم يترك شيئا من أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بيَّنه وبلَّغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لا خلاف بين فرق الأمة أنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال".
 وقال أيضاً: "ومما جاء به الرسول: إخباره بأنه تعالى قد أكمل الدين بقوله سبحانه: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا) . ومما جاء به الرسول : أمر الله له بالبلاغ المبين كما قال تعالى : (وما على الرسول إلا البلاغ المبين) وقال تعالى : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) وقال تعالى : (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس)  . ومعلومٌ أنه قد بلَّغ الرسالة كما أُمِر، ولم يكتم منها شيئًا ؛ فإنَّ كتمان ما أنزله الله إليه يناقض موجب الرسالة ؛ كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة . ومن المعلوم من دين المسلمين أنه معصومٌ من الكتمان لشيء من الرسالة كما أنه معصومٌ من الكذب فيها . والأمة تشهد له بأنه بلَّغ الرسالة كما أمره الله وبين ما أنزل إليه من ربه، وقد أخبر الله بأنه قد أكمل الدين ؛ وإنما كَمُلَ بما بَلَّغه ؛ إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه؛ فعُلِمَ أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده كما قال صلى الله عليه وسلم: ( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالكٌ ). وقال : ( ما تركت من شيءٍ يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، وما تركت من شيءٍ يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به).
 وقال أبو ذر : (لقد توفي رسول الله وما طائرٌ يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا)". 
اقرأ المزيد...

الجمعة، 23 نوفمبر 2012

من الدرس الثانى عشر : بيان الأصل الثالث وهو معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم

- قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} [المدثر:1-7]
 هذه الآيات هي أول ما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم -  بعد فترة الوحي الأولى، كما تقدم بيانه.
 والمدَّثر  أصله : (المتدثّر) ثم أدغمت التاء في الدال وشدِّدَت.
 والمدثر هو : المتغطي بالدِّثَار وهو لباس يكون فوق الشعار ؛ فالشعار هو اللباس الذي يلي الجسد ، والدّثار لباس فوقه . ومنه قول النبي : ((الأنصار شعار والناس دثار)) متفق عليه من حديث عبد الله بن زيد .
- قال الفراء وأبو معمر وابن قتيبة وابن جرير وغيرهم : المدثر هو المتدثر بثيابه إذا نام ، وقال إبراهيم النخعي : كان متدثراً بقطيفة.
 - قوله: وَمَعْنَى: (قمْ فَأَنْذِرْ) يُنْذِرُ عَنِ الشِّرْكِ، وَيَدْعُو إِلى التَّوْحِيدِ.
 قال ابن جرير: " وقوله: (قُمْ فَأَنْذِرْ) يقول - تعالى ذكره - لنبيه محمد : قم من نومك فأنذر عذابَ الله قومك الذين أشركوا بالله، وعبدوا غيره ".
 والإنذار يكون من العذاب وسببه؛ فالشرك سبب للعذاب، والنار وما يعاقب الله به المشكرين عذاب، ويقع الإنذار من هذا وهذا.
- قوله: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أَيْ: عَظِّمْهُ بِالتَّوْحِيدِ .
 قال ابن جرير: " وَرَبَّكَ يا محمد فعظم بعبادته، والرغبة إليه في حاجاتك دون غيره من الآلهة والأنداد ". فالتكبير هو التعظيم كما قال الله تعالى: (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)
 قال الشنقيطي: " (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا) أي: عظمه تعظيماً شديداً، ويظهر تعظيم الله في شدة المحافظة على امتثال أمره واجتناب نهيه، والمسارعة إلى كل ما يرضيه : كقوله تعالى: (وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ) ، ونحوها من الآيات ".
- قوله: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أَيْ: طَهِّرْ أَعْمَالَكَ عَنِ الشِّرْكِ.
 هذا أحد الأقوال في تفسير هذه الآية، أن الطهارة فيه معنوية، والعرب تسمي الرجل الذي يتعفف ويتنزه عن المعايب والفواحش والمكاسب المحرمة نقي الثياب، وطاهر الثياب، وطيب الأردان ومنه قول امرئ القيس:
ثِيابُ بَني عَوفٍ طَهارى نَقِيَّةٌ = وَأَوجُهُهُم عِندَ المُشاهدِ غِرّان
 كما يسمون الفاجر والغادر والفاحش وآكل السحت دنس الثياب، ومنه قول الشاعر فيما أورده ابن قتيبة:
 لاهمَّ إن عامر بن جهم = أوذمَ حجاً في ثياب دُسْمِ
أوذم : أي عزم . والثياب الدسم هي المتسخة .
 وقد روى ابن جرير عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) قال: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة ثم أنشد قول غيلان الثقفي:
 وإني بحمد الله لا ثوب فاجر = لبست ولا من غدرة أتقنع
 والمقصود أن تطهير الثياب يراد به تطهير النفس من النجاسات المعنوية، وأشدها الشرك.
- قوله: (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) الرُّجْزُ: الأَصْنَامُ، وَهَجْرُهَا: تَرْكُهَا وَأَهْلِهَا، وَالبَرَاءَةُ مِنْهَا وَأَهْلِهَا، وَعَدَاوَتُها وَأَهْلِهَا، وَفِرَاقُهَا وَأَهْلِهَا).
 والرّجز: الأوثان، تضم الراء وتكسر، وهما قراءتان. وقد قال الله تعالى: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) ، قال ابن المبارك اليزيدي: " الرجز والرجس واحد . وقد قيل في اشتقاق هذه العبارة أن هذا الأصل الذي هو الـراء والجيم والزاي (ر ج ز) يفيد الاضطراب, ويفيد المهانة أيضا, فيه معنى الاضطراب وفيه معنى الامتهان, لأن أصل الرجز في اللغة هو داءٌ يصيب أعجاز الإبل فتضطرب منه أي: تتحرك حركة مضطربة قال ابن فارس: (الراء والجيم والزاء أصلٌ يدلُّ على اضطرابٍ. من ذلك الرِّجَزُ: داءٌ يصيبُ الإبلَ في أعجازِها، فإذا ثارت النّاقةُ ارتعشَتْ فَخِذاها. ومن هذا اشتقاق الرِّجَزِ من الشِّعر؛ لأنه مقطوع مضطرب).
 والشرك فيه اضطراب لأنه على غير قرار ولا يستند لحجة ولا يطمئن قلب صاحبه، بل هو مضطرب في اعتقاده، مضطرب في سلوكه، قال الله تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)
 وقال: (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ).
وفيه أيضاً معنى الامتهان: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) ولا يسلم العبد من هذا الاضطراب والامتهان إلا بالتوحيد. فإنه بالتوحيد يتطهر ويزكو ويطمئن ، فيكون طيباً مباركاً ثابتاً على يقين وبينة من أمره، يمشي سوياً على صراط مستقيم.
____________________________________________________
Read more: http://www.tafsir.net/vb/tafsir29650/#ixzz2CVvSYF4I

اقرأ المزيد...

الجمعة، 5 أكتوبر 2012

من الدرس الحادى عشر : الأصل الثانى وهو معرفة الإسلام بالأدلة (3/3)

1- وقد وعد الله تعالى المحسنين في الإنفاق بالفضل العظيم كما قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) )[البقرة] .
وهذا المثل من أبلغ الأمثلة وأعظمها عبرة، والعرب تشّبه قليل الخير والبركة من الناس بالصفا الأصلد الذي لا ينبت كلأً ولا يوري ناراً. قال تأبط شراً:
 وَلَستُ بجلبٍ جلبِ ريحٍ وقرَّةٍ = وَلا بصَفاً صَلدِ عَنِ الخَيرِ معزلِ
 الجِلْبُ: هو السَّحَاب المعترض كأنه جَبَل يُرى عظيماً ولا ماءَ فيه ولانفع، وإنما يجلبُ الريح والبرْد، ويُضْرَبُ مثلاً للذي يَعِدُ الوعود العظيمة وهو في حقيقة الأمر يؤذي ولا ينفع. كما قال نهشل الدارمي:
 كَجِلبِ السوءِ يُعْجِبُ مَنْ رآهُ = وَلا يَسْقِي الحَوَائِم مِن لَمَـاقِ
 الحوائم: الطيور الحائمة، واللَّماق: المُذْقَة اليسيرة. والشاهد قوله: "ولا بصفا صلد عن الخير معزلِ" والصفا الصلد هو الحجر الكبير الصلب الأملس لا ينبت كلأ ولا يوري ناراً، تجعله العرب مثلاً للرجل الذي لا ينتفع به. ومما يوضح هذا المعنى قول الحطيئة:  لا يُبعِدِ اللهُ مَن يُعطي الجزيلَ ومَن = يَحبو الجَليلَ وما أَكْدَى وَلا نَكدا
وَمَن تُلاقيهِ بِالمَعـروفِ مُبتَهِجـاً = إِذا اجرَهَدَّ صَفا المَذمُومِ أَو صَلَدا
 وقال الأصمعي: "صَلَدَ الزّنادُ إذا صَوَّت ولم يخرج ناراً".
 فقوله تعالى: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا)  أي إن مثل هذا المنفق المغترّ بنفقته، ويظنّ أنها تنفعه، وهو قد أبطلها بالمنّ والأذى كمثل صفوان صلد لا نفع فيه ولا خير، إذْ كان مافعله من الخير باطلاً، وإنما هو كتراب غطَّى الصفوان فلما أصابه المطر تبيَّنت حقيقته وبقي صلداً. فهذا مثَل المسيء في نفقته، وأما مثل المحسن فكما قال الله تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) نسأل الله من فضله.
 وتأمَّل كيف شبَّه الله تعالى آياته ومواعظه بالماء الذي إذا نزل على مكان طيّب صالحٍ للنبات قد ثُبّت غرسه فإنه ينفعه ويثمره وينميه ، وأما الصفوان الأصلد الذي غطي بالتراب فإنه يكشفه على حقيقته ويعرّيه.
  فالمحسن في نفقته كالذي يغرس في جنة طيبة مباركة، قد ثبت غرسها تثبيتاً حتى استقر في تلك الأرض الطيبة فكان ما يصيبها من الماء نافعا لها منبتاً لغرسها حتى ينمو نباتها ويؤتي ثماره ضعفين.
 وأما المسيء في نفقته فمحلّ غرسه خبيث لا يستقر فيه الغرس وإنما هو كتراب على صفوان؛ يغترّ به صاحبه فإذا أصابه المطر تركه صلداً لا أثر فيه لنبات ولا غرس، ولا تُرجى منه ثمرة، ولا يقدر منه على شيء.
 فانظر إلى اختلاف آثار آيات القرآن الكريم على قلوب العباد فمنتفع بها مبارك له فيها، ومحروم من بركتها معذَّب بها، والعياذ بالله.
 2- قوله تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
 فالدعاء هنا يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة. ومن قام بهذه الأمور التي أمر الله بها فهو من أهل الإحسان.
 قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وقوله : (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فيه تنبيهٌ ظاهرٌ على أن فِعْلَ هذا المأمور هو الإحسان المطلوب منكم، ومطلوبكم أنتم من الله رحمته، ورحمته قريبٌ من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه تضرعًا وخفيةً وخوفًا وطمعًا . فَقَدْرُ مطلوبكم منه - وهو الرحمة - بحسب أدائكم لمطلوبه، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم . وقوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) له دلالةٌ بمنطوقه ودلالةٌ بإيمائه وتعليله ودلالةٌ بمفهومه:
- فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان.
 - ودلالته بإيمائه وتعليله على أن هذا القرب مستحق بالإحسان، وهو السبب في قرب الرحمة منهم.
 - ودلالته بمفهومه على بعده من غير المحسنين .
 فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة ؛ وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة لأنها إحسانٌ من الله أرحم الراحمين وإحسانه إنما يكون لأهل الإحسان ؛ لأن الجزاء من جنس العمل وكلما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته. وأما من لم يكن من أهل الإحسان؛ فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة، بُعْدٌ ببُعْدٍ وَقُرْبٌ بقُرْب؛ فمن تقرب إليه بالإحسان تقرب الله إليه برحمته، ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته. والله سبحانه يحب المحسنين، ويبغض من ليس من المحسنين، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيءٍ منه، ومن أبغضه الله فرحمته أبعد شيءٍ منه.
والإحسان هاهنا هو فعل المأمور به سواءٌ كان إحسانًا إلى الناس أو إلى نفسه؛ فأعظم الإحسان: الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله تعالى والإقبال إليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالًا ومهابةً وحياءً ومحبةً وخشيةً؛ فهذا هو مقام الإحسان كما قال النبي -  صلى الله عليه وسلم - وقد سأله جبريل عن الإحسان -؛ فقال : (( أن تعبد الله كأنك تراه)) فإذا كان هذا هو الإحسان فرحمته قريبٌ من صاحبه ؛ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه".ا.هـ
-----------------------------------------------------------------------
 المصدر: http://www.tafsir.net/vb/tafsir29650/#ixzz26nkJSNpH
اقرأ المزيد...

الاثنين، 1 أكتوبر 2012

من الدرس العاشر : الأصل الثانى وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة (3/2)

وهذا التفريق بين الإسلام والإيمان استُدِل له بآيات من القرآن الكريم منها:
 قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات:14] وهذه الآية للسلف في تفسيرها قولان مشهوران:
 القول الأول: أن الإسلام المثبَت لهم هو مرتبة الإسلام ، وأنهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان. القول الثاني: أن الإسلام المثبَت لهم هو الإسلام الظاهر الذي لا يقتضي أن يكون صاحبه مسلماً حقاً في الباطن ، وذلك كما يحكم لأهل النفاق بالإسلام الظاهر ، وإن كانوا كفاراً في الباطن؛ لأن التعامل مع الناس هو على ما يظهر منهم ؛ فمن أظهر الإسلام قبِلنا منه ظاهره ووكلنا سريرته إلى الله ، فيعامل معاملة المسلمين ما لم يتبين لنا بحجة قاطعة ارتداده عن دين الإسلام.
 القول الأول: هو قول الزهري وإبراهيم النخعي وأحمد بن حنبل واختاره ابن جرير وابن تيمية وابن كثير وابن رجب.
 والقول الثاني: هو قول مجاهد والشافعي والبخاري ومحمد بن نصر المروزي وأبي المظفر السمعاني والبغوي والشنقيطي واستدلوا بقوله تعالى: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) قالوا : فهؤلاء لم يدخل الإيمان في قلوبهم بنص القرآن ، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فليس بمسلم على الحقيقة، وإنما إسلامه بلسانه دون قلبه.
 وأصحاب القول الأول يقولون إن الإيمان المنفي عنهم هو ما تقتضيه مرتبة الإيمان ، فهم لم يعرفوا حقيقة الإيمان وإنما أسلموا على جهل فيثبت لهم حكم الإسلام ،(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي لم تباشر حقيقة الإيمان قلوبكم.
 وابن القيم قال بالقول الأول في بدائع الفوائد، وقال بالقول الثاني في إعلام الموقعين. والتحقيق أن دلالة الآية تَسَعُ القولين، فإذا أريد بنفي الإيمان في قوله تعالى: (لَمْ تُؤْمِنُوا) نفي أصل الإيمان الذي يَثبت به حكم الإسلام ؛ فهؤلاء كفار في الباطن ، مسلمون في الظاهر، فيكون حكمهم حكم المنافقين، وقد يتوب الله على من يشاء منهم ويهديه للإيمان. وإذا أريد بنفي الإيمان نفي القدر الواجب من الإيمان الذي مدح الله به المؤمنين وسماهم به مؤمنين؛ فهذا لا يستلزم نفي أصل الإيمان والخروج من دين الإسلام، فيثبت لهم حكم الإسلام، وينفى عنهم وصف الإيمان الذي يطلق على من أتى بالقدر الواجب منه.
 وهذا كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((والله لا يؤمن! والله لا يؤمن! والله لا يؤمن!)) قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)). فهذا نفى عنه حقيقة الإيمان والقدر الواجب منه الذي مدح الله به المؤمنين وسماهم به، ولا يقتضي أن من فعل ذلك فهو خارج عن دين الإسلام. والذي يوضح هذا الأمر أن قول (أَسْلَمْنَا) قد يقوله الصادق والكاذب؛ فإذا قاله الكاذب فهو منافق مدَّعٍ للإسلام مخادع للذين آمنوا، يُظهر الإسلام ويبطن الكفر. وإذا قاله الصادق فهو مسلم ظاهراً وباطناً، ومعه أصل الإيمان. ولهذا قال الله تعالى: (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فعلّق وصف الإيمان بالصدق؛ فمن صدق منهم فهو من أهل الصنف الأول، ومن لم يصدق منهم فهو من أهل الصنف الثاني، وهذا يبيّن جواز أن يكون فيمن نزلت فيهم هذه الآيات من هو من أصحاب الصنف والأول، ومنهم من هو من أصحاب الصنف الثاني، وشملت هذه الآيات الصنفين كليهما.
 وهذا مثال بديع لحسن بيان القرآن الكريم، ودلالته على المعاني العظيمة بألفاظ وجيزة. والمقصود أن الآية على القول الأول في تفسيرها فيها دلالة على التفريق بين مرتبة الإسلام ومرتبة الإيمان. قال محمد بن نصر المروزي: "نقول إن الرجل قد يسمى مسلما على وجهين:
 أحدهما: أن يخضع لله بالإيمان والطاعة تدينا بذلك يريد الله بإخلاص نية.
 والجهة الأخرى: أن يخضع ويستسلم للرسول وللمؤمنين خوفا من القتل والسبي؛ فيقال قد أسلم أي خضع خوفا وتقية، ولم يسلم لله، وليس هذا بالإسلام الذي اصطفاه الله وارتضاه الذي هو الإيمان الذي دعا الله العباد إليه".
 وكذلك قوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات: 35-36] نجَّى الله جميع المؤمنين من العذاب كما قال تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). وقوله : (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)  دليل على أنه لم يكن في قرى قوم لوط إلا بيت واحد على الإسلام، وهو بيت لوط . وأهل لوط كلهم مؤمنون إلا امرأته كانت كافرة بنص القرآن كما في قوله تعالى: (ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط) ، لكن اختلف أهل العلم: هل كانت مسلمة في الظاهر أو كانت على دين قومها ظاهراً وباطنا على قولين:
 القول الأول: أنها كانت على دين قومها، وإنما كانت خيانتها أنها تدل قومها الذين يعملون السوء على أضياف لوط، وهذه خيانة له.
 القول الثاني: أنها كانت تظهر الإسلام وتبطن الكفر.
 والقول الأول أصح وأشهر وهو المأثور عن ابن عباس وسعيد بن جبير.
 فإن قيل: كيف يبقيها في ذمته وهي كافرة؟
 قيل: إن ذلك كان جائزاً في شريعتهم، كما كان جائزاً في أول الإسلام ثم نسخ. وسواء أكانت امرأة لوط مسلمة في الظاهر أم غير مسلمة في الظاهر؛ فإن ذلك لا ينقض الحكم على البيت بأنه بيت إسلام،كما أن وجود بعض الكفار في بلاد الإسلام لا يجعلها بلاد كفر. ومقصود الآية أن قرى قوم لوط لم يكن فيها بيت على الإسلام إلا بيت لوط .
 وهذه الآية فيها لطيفة وهي أن المؤمنين موعودون بالنجاة ، والمسلم غير المؤمن ليس له عهد بالسلامة من العذاب والنجاة منه؛ فقد يعذب بمعاصيه في الدنيا وقد يعذب في قبره وقد يعذب في النار ، لكنه لا يخلد فيها. وهذا نظيره ما ورد في قصة أصحاب السبت فإن الله تعالى أنجى المؤمنين الذين ينهون عن السوء وسكت عن الساكتين عن إنكار المنكر وأخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس، فتبين أن أصحاب الكبائر من المسلمين ليس لهم عهد أمان من العذاب كما جعل الله ذلك لأهل الإيمان؛ فقد يُعذَّبون، وقد يعفو الله عنهم بفضله وكرمه، وهذا يبين لك الفرق العظيم بين مرتبة الإسلام ومرتبة الإيمان. فالمؤمن له عهد أمان بأن لا يعذبه الله ولا يخذله، وأنه لا يخاف ولا يحزن، ولا يضل ولا يشقى، وقد تكفل الله له بالهداية والنجاة والنصر والرفعة . وهو في أمان من نقمة الله تعالى وسخطه، وفي أمان من عذاب الآخرة كما قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) .
 وفي هذا القدر كفاية في بيان الفرق بين مرتبة الإسلام ومرتبة الإيمان.
------------------------------------------------------------------------
 المصدر: http://www.tafsir.net/vb/tafsir29650/#ixzz26nk6uQ00
اقرأ المزيد...

الأحد، 30 سبتمبر 2012

الدرس التاسع : الأصل الثانى وهو معرفة دين الإسلام بالأدلة ( 3/1)

1- قوله تعالى: (إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ) [آل عمران:19]
الإسلام في هذه الآية المراد به الإسلام الشرعي العام الذي هو دين الأنبياء جميعاً وهو التوحيد ، وعلى هذا تفاسير السلف لمعنى الإسلام في هذه الآية.
 قال قتادة في قوله تعالى: (إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ) "الإسلام: شهادة أنّ لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه، لا يقبل غيرَه ولا يجزى إلا به". رواه ابن جرير. وفيه دلالة على وجوب التوحيد وأنه الدين الذي يقبله الله تعالى، والإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم أصله التوحيد لله . قال ابن القيم : "وقد دل قوله: (إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ) على أنه دين جميع أنبيائه ورسله وأتباعهم من أولهم إلى آخرهم، وأنه لم يكن لله قط ولا يكون له دين سواه".
 - قال أول الرسل نوح (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)
- وقال إبراهيم وإسماعيل: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)
 - (وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)
 - وقال يعقوب لبنيه عند الموت : (مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ إلى قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)
 - وقال موسى لقومه : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ)
 - وقال تعالى : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)
 - وقالت ملكة سبأ : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فالإسلام دين أهل السموات، ودين أهل التوحيد من أهل الأرض، لا يقبل الله من أحد ديناً سواه).
 وقال ابن كثير : "قوله (إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ) إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين، حتى خُتموا بمحمد صلى الله عليه وسلم، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد ، فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا بدِين على غير شريعته، فليس بمتقبل. كما قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ".ا.هـ.
 2- قوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ في الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرينَ) [آل عمران:85] .
وللسلف في المراد بالإسلام في هذه الآية قولان :
القول الأول: أنه دين الإسلام الذي بعث به محمد ، وأصله الشهادتان، وعليهما مدار التوحيد، وأن هذه الآية نسخت جميع الأديان السابقة من اليهودية والنصرانية والصابئية وبقايا الحنيفية.
 القول الثاني: أن المراد به الإسلام العام الذي هو دين جميع الأنبياء، وهو توحيد الله . قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِيناً) الآية ، عام في الأولين والآخرين بأن دين الإسلام هو دين الله الذي جاء به أنبياؤه وعليه عبادة المؤمنون كما ذكر الله ذلك في كتابه من أول رسول بعثه إلى أهل الأرض نوح وإبراهيم وإسرائيل وموسى وسليمان وغيرهم من الأنبياء والمؤمنين".
 وأجمعوا على أن المراد بالإسلام في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) هو دين الإسلام الذي بعث به محمد .
 3- قوله تعالى: (شَهدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلَّا هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ) [آل عمران:18].
- لفظ الشهادة وما تصرّف منه يطلق على معنيين مشهورين:
 المعنى الأول: الحضور والمعَاينَة والإبصَار، كما في قوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).
 المعنى الثاني: الإخبار البيّن الجازم عن أمرٍ ذي شأن ، وهو المراد هنا كما في قوله تعالى: (شَهدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلَّا هُوَ) . وقد اجتمع المعنيان في قوله تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) 
"أَشَهِدُوا" استفهام إنكاري، أي: هل حضروا خلقهم وعاينوه؟ وشَهَادَتُهُمْ أي إخبارهم الجازم في هذا الأمر العظيم.
 والمقصود أن الشهادة بالمعنى الثاني تتضمن معاني الإخبار والبيان والجزم عن أمر ذي شأن. فإذا تحققت هذه الأوصاف سمي شهادة وإن لم يكن فيه لفظ الشهادة ، ولذلك سمى الله تعالى هذا الزعم منهم شهادة. والشهادة إذا لم تكن بحق فهي شهادة زور.
 - وسمي قول "لا إله إلا الله" شهادة لأنه إخبار بيّن جازم عن أمر ذي شأن.
 - قوله تعالى: (شَهدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلهَ إلَّا هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ) أي أن الله تعالى وملائكته وأولوا العلم يشهدون أنه لا إله إلا الله.
 قال ابن القيم : "وقوله تعالى: (قَائِماً بِالْقِسْطِ) القسط هو العدل؛ فشهد الله سبحانه أنه قائم بالعدل في توحيده، وبالوحدانية في عدله. والتوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال؛ فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال والجلال والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحد سواه. والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب وموافقة الحكمة".
 4- قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي) [الزخرف:27] تضمنت البراءة مما يعبد من دون الله ، وإثبات العبادة لله وحده، وهذا هو معنى التوحيد، لا بد فيه من نفي وإثبات، نفي استحقاق غير الله للعبادة والبراءة مما يعبد من دون الله. وإثبات العبادة لله وحده. فلا يكون موحّداً إلا من جمع بين النفي والإثبات. وهذا أمر يدل عليه المعنى اللغوي للتوحيد ، فجعل الشي واحداً يستلزم إثباتاً ونفياً إثبات الوحدانية له، ونفي مشاركة غيره له.
 5- وأما قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَينَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إلَّا اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:64] السواء في لسان العرب: النَّصَف والعدْل، وأصل ذلك أن العرب إذا تنازعوا وحصل بينهم من القتل والجراحات ما يحصل وأرادوا الصلح تداعوا إلى السَّواء فيصطلحون على أمر يكون فيها إنصاف للمتنازعين يسوَّى فيه بينهم في الدماء والحقوق. قال زهير ابن أبي سلمى:
 أَرونا سُنَّةً لا ضيـم فيهـا = يُسَوّى بَينَنا فيهـا السَّـواءُ
 فَإِن تَدَعُوا السَّواءَ فَلَيسَ بَيني = وَبَينَكُمُ بَني حِصـنٍ بَقـاءُ
 ومن العرب من تأخذه العزة بالإثم والبطر بالقوة فيأبى الدعوة إلى السَّواءِ، كما قال عنترة:
 أبينا فما نُعطي السَّواءَ عدوَّنا = قياماً بأعضادِ السراء المعطّفِ
 والعرب يمتدحون من يعطي السَّواء ويرضى به لأنه أرضى للنفوس وأقرب لمكارم الأخلاق والشيم . وقد خاطبهم الله تعالى بما يعرفون فقال: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَينَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إلَّا اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) قال ابن جرير: "(إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ) يعني: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، والكلمة العدل، هي أن نوحِّد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئًا".
 والكلمة تطلق في اللغة على الجملة المفيدة، وأما اصطلاح النحويين على أن الكلمة اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فيجعلون الاسم كلمة، والفعل كلمة والحرف الذي جاء لمعنى كلمة؛ فهذا اصطلاح حادث ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، لكن ليتفطَّن إلى أن معنى الكلمة في لسان العرب ليس هو المعنى الاصطلاحي عند النحاة ، قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) فسمَّى هذه الجملة المفيدة كلمة، والأدلة والشواهد على هذا الإطلاق كثيرة جداً. فكلمة التوحيد هي: كلمة (لا إله إلا الله). والكلمة السواء التي دعا الله تعالى إليها هي: (أَنْ لاَ نَعْبُدَ إلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ ) وهذه الآية بيَّنت معنى التوحيد ، وأن تفسيره الصحيح الذي لا يصح غيره أنه عبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة من كل ما يعبد من دون الله (أَنْ لاَ نَعْبُدَ إلَّا اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً).
 قوله تعالى: (وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) قال ابن عطية: "واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً هو على مراتب: أعلاها اعتقادهم فيهم الألوهية وعبادتهم لهم على ذلك، كعزير وعيسى ابن مريم ، وبهذا فسَّر عكرمة ، وأدنى ذلك طاعتهم لأساقفتهم ورؤسائهم في كل ما أمروا به من الكفر والمعاصي والتزامهم طاعتهم شرعاً، وبهذا فسَّر ابن جريج. فجاءت الآية بالدعاء إلى ترك ذلك كله".
 ودلَّ قوله تعالى: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) على أن من قام بذلك فهو من المسلمين، ومن أبى وتولَّى فليس بمسلم.
--------------------------------------------------------------------
 المصدر: http://www.tafsir.net/vb/tafsir29650/#ixzz26njsvsu0
اقرأ المزيد...

الأربعاء، 25 يوليو 2012

من الدرس الثامن : بيان معنى العبادة وأنواعها (3/3)

1- قوله تعالى : ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) [الأنبياء:90] هذا ثناء من الله تعالى على أنبيائه بأنهم يدعونه رغباً ورهباً وحث على الاتساء بهم . والدعاء في الآية يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة والرغب والرهب من صفات العبادة الملازمة لها، فكل عابد راغب راهب.
 قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وكل داع فهو راغب راهب طامع خائف. وكل سائل راغب راهب فهو عابد للمسؤول، وكل عابد له فهو أيضا راغب وراهب يرجو رحمته ويخاف عذابه؛ فكل عابد سائل، وكل سائل [أي بهذا المعنى] عابد؛ فأحد الاسمين يتناول الآخر عند تجرده عنه، ولكن إذا جمع بينهما فإنه يراد بالسائل الذي يطلب جلب المنفعة ودفع المضرة بصيغ السؤال والطلب، ويراد بالعابد من يطلب ذلك بامتثال الأمر وإن لم يكن في ذلك صيغ سؤال. والعابد الذي يريد وجه الله والنظر إليه هو أيضا راج خائف راغب راهب يرغب في حصول مراده ويرهب من فواته، قال تعالى: ( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) وقال تعالى: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب ومن الخوف والطمع" .
 فالرغبة والرهبة بهذا المعنى عبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى قال تعالى: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) تقديم الجار والمجرور يدل على الحصر، أي لا ترغب إلا إلى الله. وفي الصحيحين من حديث البراء بن عازب قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمنِ ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مت من ليلتك فأنت على الفطرة واجعلهن آخر ما تتكلم به)). فهذه الرغبة والرهبة عبادة لما تحمله من المعاني التعبدية من التذلل والخضوع والمحبة والتعظيم والرجاء والخوف ، وهذه عبادات يجب إخلاصها لله . فمن صرفها لغير الله فقد أشرك بالله شركاً أكبر مخرجاً عن الملة والعياذ بالله. وهذا أمر تشاهد آثاره فيمن يعبد غير الله من عباد القبور والأولياء والجن والأشجار والأحجار وغيرها ، يكون في قلب العابد لها رغبة ورهبة تعبدية مشتملة على التذلل والخضوع والمحبة والرجاء والخوف. ويجب على العبد أن يخلص الرغبة والرهبة لله تعالى ولا يشرك به شيئاً فيها؛ فمن لم يخلص الرغبة والرهبة فهو مشرك كافر، ومن أخلصها لله تعالى فهو مسلم موحد ، والمسلمون يتفاضلون في درجة أداء هذه العبادات كما تقدم بيانه؛ وكلما كان العبد أعظم رغبة في فضل الله تعالى ورحمته كان أكثر تعبداً من هذا الوجه.
 2- قال تعالى: (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى) [الأعلى:9] وهذا وعد من الله لأهل خشيته أنهم سيذكرون وينتفعون من كتابه أعظم انتفاع. والتذكر المراد هنا يشمل ثلاثة أمور:
الأمر الأول : التذكر الذي يحمل على محبة الله ، ومحبة لقائه والتقرب إليه من تذكر صفات الله وكرمه وفضله وإحسانه فإن العبد إذا عظمت محبة الله تعالى في قلبه أحب ما يذكره به ومن أحب ذكر الله أحبَّ الله له أن يتذكر ، ومن كره ذكر الله كان جزاؤه من جنس عمله إلا أن يعفو الله عنه ويتوب عليه. وصدق المحبة يحمل على الخشية من الانقطاع عن الله والحرمان من رضوانه، ولذلك إذا بلغهم من نصوص الكتاب والسنة أن من عقوبة بعض الذنوب أن صاحبها لا يكلمه الله ولا ينظر إليه أورثهم ذلك خشية خاصة يجدونها في قلوبهم لما وقر فيها من معرفة الله ، واليقين بأن الحرمان من تكليمه والنظر إليه عقوبة عظيمة لا يحتملها من صدقت محبته لله .
الأمر الثاني : التذكر الذي يحمل على الرجاء في فضل الله وحسن ثوابه؛ فإنه إذا تذكر ما أعده الله لعباده من الثواب والفضل العظيم دعاه ذلك إلى الازدياد من الأعمال الصالحة لما يرجو من حسن ثوابها. وصدق الرجاء يحمل على الخشية من فوات ثواب الله وفضله.
الأمر الثالث : التذكر الذي يحمل على الخوف من الله تعالى والخوف من سخطه وعقابه ، وهذا ما يزجره عن ارتكاب المحرمات والتفريط في أداء الفرائض . والخوف الصادق يحمل على خشية التعرض لسخط الله وعقابه.
 وهذه الأمور الثلاثة (المحبة والرجاء والخوف) هي أركان العبادة، وعليها مدراها، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالخشية كما سبق بيانه، وبهذا تعلم شيئاً من الفرق بين الخشية والخوف، وأن خشية العبادة لها لوازم تعبدية من المحبة والخوف والرجاء.
 قال ابن كثير: "وقولُه: (سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى) . أي: سَيَتَّعِظُ بما تُبَلِّغُه يا محمدُ, مَن قَلْبُه يَخْشَى اللَّهَ ويَعْلَمُ أَنَّه مُلاقيهِ". فالذي تقوم في قلبه خشية العبادة لله تعالى من محبته والتذلل له والتعظيم والانقياد والرغبة والرهبة ورجاء لقائه وفضله العظيم والخوف من سخطه وعقابه والخوف من أن يتخلى عنه ربه ووليه إذا هو ارتكب ما يسخطه، من قام في قلبه هذا المعنى كان من أكثر الناس حظاً وانتفاعاً بالقرآن العظيم ، لأنه يقرأ القرآن ويسمعه وقلبه متطلع إلى مزيد من الهدى ليتعرف به على أسباب التقرب إلى الله تعالى والفوز برضوانه وفضله العظيم والسلامة من سخطه وعقابه. ومن كان هذا حاله فهو موعود بما يسره ويرضيه، من الهداية لما يقربه إلى الله تعالى ويدنيه ، ويسعده في الدنيا والآخرة ولا يشقيه ، وتأمل وصف الله تعالى لحال أهل خشيته عند تلاوتهم وسماعهم لآيات الله تتلى عليهم ومعرفتهم بأنهم هم المعنيون أولاً بما فيه من العبر والبينات، قال الله تعالى: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)
 3- قال تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ * وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ * ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ * إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) [فاطر].
 جمع الله لهم مواضع الاعتبار والتفكر ووعدهم أن يوفيهم أجورهم ويزيدهم زيادة من عنده تليق بفضله وكرمه سبحانه لم يبينها لهم بل أخفاها لهم ليتشوقوا إليها، وأخبرهم أنه غفور شكور ، فيغفر لهم ذنوبهم وسيئاتهم ويفتح لهم أبواب الرجاء في مغفرته وعفوه وتجاوزه ، وهو تعالى شكور لا يضيع لهم أي عمل صالح يعملونه ولو كان مثقال ذرة، بل يقبله منهم وينميه لهم ويضاعف لهم مثوبته.
وأرشدهم الله تعالى إلى التفكر في آياته الكونية المخلوقة وآياته المتلوة ، فهذا الماء الذي ينزل من السماء هو ماء واحد وتخرج به ثمرات مختلف ألوانها؛ فكذلك وحي الله تعالى المنزل هو وحي واحد ولكن انظر إلى اختلاف آثاره في قلوب الناس وأعمالهم ؛ فمنتفع ومحروم، ومستقل ومستكثر، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى.
4- قَوْلُهُ تَعَالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) [الزمر:54] قال قتادة في قوله تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ) : أي أقبلوا إلى ربكم. وقال عبد الرحمن بن زيد : " الإنابة : الرجوع إلى الطاعة، والنزوع عما كانوا عليه، ألا تراه يقول: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) .
 5- وقد أمر الله تعالى عباده بالإنابة إليه فقال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ) [الزمر] فجمع الله تعالى في هاتين الآيتين الأسباب الثلاثة الحاملة على الإنابة وهي :
السبب الأول : تحبيبهم إليه تعالى، وتذكيرهم بصفاته المقتضية لمحبته فهو ربهم وهم عباده، وهو الرحيم الذي لا يؤيس عباده من رحمته، الغفور الذي يغفر الذنوب جميعاً مهما بلغت فلا يستعظمه ذنب أن يغفره، وهو الودود الذي تودد إلى عباده بحسن مخاطبتهم رحمة بهم وإحساناً إليهم وهو الغني عنهم ، ورفع من شأنهم إذ أضافهم إليه في خطابه لهم يَا عِبَادِيَ. فمن تأمل هذه الأسماء الحسنى والصفات العليا وآثارها أحبَّ الله تعالى وأناب إليه.
السبب الثاني : الرجاء في رحمته ومغفرته وفضله العظيم (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) .
 السبب الثالث : التخويف من عذابه (مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ) .
فمن تدبر هاتين الآيتين عرف أسباب الإنابة، وأنها ترجع إلى المحبة والخوف والرجاء التي هي أصول العبادة. وقال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )
 6- قوله : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ) [الحجر:21] وتقديم الظرف للحصر . وقوله : (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى) [النجم:42] قال ابن القيم : " (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ) متضمن لكنز من الكنوز وهو أن كلَّ شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيديه، وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه. وقوله: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى) متضمن لكنز عظيم وهو أن كل مراد إن لم يُرَد لأجله ويتصل به وإلا فهو مضمحل منقطع؛ فإنه ليس إليه المنتهى، وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها؛ فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه؛ فهو غاية كل مطلوب. وكل محبوب لا يحب لأجله؛ فمحبته عناء وعذاب، وكل عمل لا يراد لأجله؛ فهو ضائع وباطل، وكل قلب لا يصل إليه؛ فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه. فاجتمع ما يراد منه كله في قوله: (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ) واجتمع ما يراد له كله في قوله: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى) فليس وراءه سبحانه غاية تطلب، وليس دونه غاية إليها المنتهى. وتحت هذا سرٌّ عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقرُّ ولا يطمئنُّ ولا يسكن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يحب ويراد؛ فمراد لغيره، وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى، ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين، كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين؛ فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه، ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعمته ولذته وبهجته وسعادته أبد الآباد" ا.هـ.
 7- قال الله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162] قوله: (وَنُسُكِي) النسك هو كل ما يُتعبَّد به، وأشهر ما يطلق عليه لفظ النسك: الذبح، وبه فسر هذه الآية جماعة من السلف منهم مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة. والنسيكة: الذبيحة، جمعها نُسُك وَنَسَائِك.
- فالذبح الذين يكون على وجه التقرب أو يذكر عليه اسم فهو عبادة من صرفه لغير الله فهو مشرك كافر سواء أكان المذبوح من بهيمة الأنعام أم غيرها. والسبب في ذلك أن الذابح إذا أهلّ باسم غير الله فقد أشرك به، وإذا قصد تقديم هذه الذبيحة قرباناً لغير الله فهو مشرك كافر بهذا التقرب.
 8- لكن أنبه إلى أن الوفاء بالنذر شأنه عظيم ، وإخلافه كبيرة من الكبائر؛ فقد مدح الله عباده الذين يوفون بالنذر فقال تعالى: (إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا  * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ) [الإنسان] فجعل من أول صفاتهم أنهم يوفون بالنذر؛ والوفاء بالنذر في هذه الآية يشمل أداء الفرائض التي أوجبها الله عليهم، وما أوجبوه على أنفسهم تقرباً لله .
 قال ابن كثير: " وقوله : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا) أي: يتعبدون لله فيما أوجبه عليهم من الطاعات الواجبة بأصل الشرع، وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر". وقال تعالى في الحُجّاج  (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (29) [الحج]
قال مجاهد : "(وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) نُذر الحجّ والهَدي، وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحجّ". (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) واللام هنا للأمر . فالوفاء بالنذر من صفات الأبرار الذين مدحهم الله وشكر سعيهم وذكر ثوابهم العظيم. وعدم الوفاء بالنذر من خصال المنافقين المذمومة، بل هو من أسباب النفاق والعياذ بالله؛ كما قال تعالى: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ) [التوبة:75/77] ، وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين أن رسول الله قال : ((خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - قال عمران: لا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - ثم يجيء قوم ينذرون ولا يَفُون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السِّمَن)) فجعل من أول صفاتهم أنهم ينذرون ولا يوفون .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر وبيَّن أنه لا يأتي بخير ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أنه قال: (نهى النبي عن النذر وقال: إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل).
وفي رواية في صحيح مسلم: ((النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخره، وإنما يستخرج به من البخيل)).
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدَر شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل)).
 وفي مصنف ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إياكم والنذر؛ فإنَّ الله لا ينعم نعمة على الرُّشا، وإنما هو شيء يستخرج به من البخيل)).
فمن نذر نذراً معلقا بشرط حصول نعمة أو اندفاع نقمة؛ فإنَّ النذرَ لا يغيّر من القَدَر شيئاً، وإنما يستخرج به من البخيل على نفسه بالتقرب إلى الله تعالى، لأنه إذا حصلت هذه النعمة وجب عليه الوفاء وإلا ارتكب كبيرة من الكبائر بإخلاف وعدِه لله.
_________________________________
 المصدر: http://www.tafsir.net/vb/tafsir29650/#ixzz21g5YFecc
اقرأ المزيد...

الأحد، 24 يونيو 2012

الدرس السابع : بيان معنى العبادة وأنواعها (2/3)

1- قوله تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60] . دَاخِرِينَ صاغرين. هذا أمر من الله بدعائه وهو يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة، والاستجابة لدعاء المسألة تكون بإعطاء المسؤول سؤله. والاستجابة لدعاء العبادة بقبولها والإثابة عليها. قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "ومن ذلك قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ) فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر ؛ ولهذا أعقبه : (إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتي) الآية . ويفسر الدعاء في الآية بهذا وهذا ".
 وقال ابن القيم : "والدعاء نوعان : دعاء عبادة ودعاء مسألة، والعابد داع كما أن السائل داعٍ، وبهما فسر قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ)، قيل: أطيعوني أثِبكم، وقيل: سلوني أعطِكم، وفُسِّرَ بهما قوله تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) " .
روى البخاري في الأدب المفرد والترمذي في سننه من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -  أنه قال: ((مَن لم يسأل الله غضب الله عليه)).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وهو سبحانه كما أخبر عن نفسه (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) وقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبرُونَ عَنْ عِبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((ما مِن داع يدعو الله بدعوة ليس فيها ظلم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدّخِر له من الخير مثلها وإما أن يصرف عنه مِن الشر مثلها)). فالدعوة التي ليس فيها اعتداء يحصل بها المطلوب بها أو مثله وهذا غاية الإجابة؛ فإن المطلوب بعينه قد يكون ممتنعا أو مفسدا للداعي أو لغيره، والداعي جاهل لا يعلم ما فيه المفسدة عليه، والرب قريب مجيب، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والكريم الرحيم إذا سئل شيئا بعينه وعلم أنه لا يصلح للعبد إعطاؤه أعطاه نظيره، كما يصنع الوالد بولده إذا طلب منه ما ليس له فإنه يعطيه من ماله نظيره، ولله المثل الأعلى".
2- قَوْلُهُ تَعَالى: (إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أوْلِيَآءَهُ فَلاَ تَخَافُـوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:175] يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ أي يعظمهم في نفوسكم حتى تخافوهم. فهذا الخوف من أولياء الشيطان محرم لا يجوز. بل قد يصل الخوف من غير الله تعالى بالعبد إلى الكفر والعياذ بالله ؛ كمن يحمله الخوف على الرضا بالكفر واختياره خوفاً وجبناً كما قال الله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وهذا هو أصل خوف الأتباع من المتبوعين من أئمة الكفر كما قال الله تعالى فيهم : (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
 وقال تعالى: (وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) فهؤلاء حملهم خوفهم الطبيعي على الكفر والعياذ بالله.
3- قَوْلُهُ تَعَالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبهِ فَلْيَعمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بعِبَادَةِ رَبهِ أَحَداً) [الكهف: 110] . الرجاء نقيض اليأس، وهو طمع القلب في حصول منفعة. قال الله تعالى: (وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين) وقال عن أوليائه المتقين: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون) والرجاء على قسمين:
القسم الأول : رجاء العبادة.
 القسم الثاني : رجاء نفع الأسباب.
- فرجاء العبادة لا يجوز صرفه لغير الله ، ومن صرفه لغير الله تعالى فهو مشرك لأنه يحمل معاني العبادة من التذلل والخضوع والمحبة والانقياد واعتقاد النفع والضر وتفويض الأمر وتعلق القلب والتقرب إلى المعبود ، وهذه كلها عبادات عظيمة تقتضيها عبادة الرجاء فمن صرفها لغير الله فهو مشرك كافر. وهذا كرجاء المشركين في آلهتهم التي يعبدونها من دون الله أنها تشفع لهم عند الله أو أنها تقربهم إلى الله زلفى ، وكرجاء بعض عباد الأولياء والقبور بأنهم ينجونهم من الكربات ويدفعون عنهم البلاء ويجلبون لهم النفع ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
 - رجاء نفع الأسباب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله . وهذا على ثلاث درجات:
/ الدرجة الأولى : رجاء جائز، وهو رجاء نفع الأسباب المشروعة مع عدم تعلق القلب بها، فهذا جائز ، وليس بشرك ، وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -  قال: ((خيركم من يُرجى خيره ويُؤمَنُ شرُّه، وشرُّكم من لا يُرجَى خيره ولا يُؤمن شره)) . وإسناده صحيح. فهذا الرجاء ليس هو رجاء العبادة، وإنما هو رجاء نفع السبب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله .
 / الدرجة الثانية : رجاء محرم، وهو الرجاء في الأسباب المحرمة ليستعين بها على معصية الله .
/ الدرجة الثالثة : شرك أصغر، وهو تعلق القلب بالأسباب؛ كتعلق بعض المرضى بالرقاة والأطباء تعلقاً قلبياً يغفلون معه عن أن الشفاء بيد الله ؛ فهذا من شرك الأسباب كما تقدم شرحه. وهذه العبادات قاعدتها واحدة من فقهها سهل عليه معرفة هذه التقسيمات وتيسر له ضبط مسائلها إن شاء الله تعالى .
وهو أن هذه الألفاظ : المحبة والخوف والرجاء والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والرغبة والرهبة والخشية ونحوها تطلق في النصوص على معنيين:
/ المعنى الأول : ما كان يحمل معنى العبادة من التذلل والخضوع والمحبة والتعظيم والانقياد واعتقاد النفع والضر فتكون حينئذ عبادة من صرفها لغير الله فقد أشرك الشرك الأكبر والعياذ بالله، ويكون بذلك كافراً خارجاً عن الملة. وإذا أردت أن تعرف هذا المعنى فانظر إلى ما يفعله مَن أثنى الله عليهم من الموحدين في هذه العبادات، وما يفعله مَن ذمهم الله من المشركين بهذه العبادات. وبذلك تعرف المعنى التعبدي فيها الذي لا يجوز صرفه لغير الله .
/ المعنى الثاني : ما ليس فيه معنى العبادة ، وإنما هو سبب من الأسباب فهذا حكمه بحسب ما يترتب عليه فإن استعين به على طاعة الله فهو طاعة وقربة، وإن استعين به على محرم فهو حرام، وإن حمل على فعل محرم أو ترك واجب لا يعذر بتركه فهو محرم؛ فأما إن تعلق القلب بالسبب وصار فيه نوع تذلل له مصحوب بخوف ورجاء فيكون حينئذ شركاً أصغر، وهو من شرك الأسباب كما سبق بيانه في الدرس السابق.
 لم يذكر المؤلف (المحبة) وهي عبادة من أجل العبادات، بل هي أصل هذه العبادات، وأعلاها شأناً وقد قال الله تعالى : (والذين آمنوا أشد حباً لله) والمحبة العظيمة التي تحمل معنى العبادة من التذلل والخضوع والتعظيم والانقياد لا يجوز صرفها لغير الله . وسبق بيان القاعدة في هذا الباب.
 واعلم أن هذه العبادات الثلاثة : المحبة والخوف والرجاء هي أصول العبادات وعليها مدارها. قال ابن القيم : " القلب في سيره إلى الله عز و جل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه؛ فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان؛ فهو عرضة لكل صائد وكاسر". وبيان ذلك أن ما يدفع القلب للعمل ثلاثة أمور: المحبة ، والخوف ، والرجاء فمن أحب الله أطاعه ، ومن خاف الله أطاعه، ومن رجا ثواب الله أطاعه فمن المؤمنين من يغلب عليه دافع المحبة فيطيع الله محبة له، مع خوفه من الله ورجائه له ، لكن الذي يغلب على قلبه المحبة وصدق التقرب إلى الله .
 ومن المؤمنين من يغلب عليه الخوف من الله فيطيع الله خوفاً منه ، سواء خاف عقابه الدنيوي أو عقابه الأخروي؛ فالذي يحمله غالبا على فعل الطاعات واجتناب المحرمات خوفه من الله.
ومن المؤمنين من يغلب عليه رجاء ثواب الله فتجد أن أكثر ما يحمله على فعل الطاعات واجتناب المحرمات هو رجاء ثواب الله وفضله. والكمال أن يجمع العبد بين هذه الثلاثة ، فيطيع الله محبة له، وخوفاً منه ، ورجاء لثوابه وفضله.
 المحبة أعلى مرتبة من مرتبة الخوف والرجاء إذا أردنا المفاضلة بينها ، لأن المحبة تبقى في الدنيا والآخرة ، وأما الخوف فإنه يزول في الآخرة. والجمع بين هذه الثلاثة هو منهج السلف الصالح وهو الذي عليه هدي النبي وقال بعض ضلال الصوفية بالتفريق بينها وزعموا أن من يعبد الله محبة له فقط أعلى وأكمل ممن يعبد الله رجاء لثوابه أو خوفاً من عقابه ، حتى كان بعضهم يدعو: " اللهم إن كنت تعلم أني أطيعك رغبة في جنتك فاحرمني منها!!" وهذا ضلال مبين وخسران عظيم - إن لم ي لجهله وقلة عقله - فإن الله أمر بسؤاله من فضله ورغَّب في ثوابه فمن ترك رجاء الله فقد عصى الله. وحذر الله من عقابه وعذابه فمن لم يخف الله فقد عصى الله. والمقصود أن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهدي أصحابه الجمع بين هذه العبادات العظيمة فيعبدون الله محبة له كما وصفهم الله بقوله: (والذين آمنوا أشد حباً لله) ويعبدون الله خوفاً من عقابه كما أمرهم الله بقوله: (وخافون إن كنتم مؤمنين) وجعل صفة الرجاء فرقاناً بين المؤمنين والكافرين فقال: (وترجون من الله ما لا يرجون) ورغَّبهم في ثوابه وأمرهم بسؤاله من فضله فقال تعالى : (واسألوا الله من فضله) . فاللهم إنا نسألك من فضلك يا ذا الفضل العظيم.
 ولتوضيح منازل هذه العبادات العظيمة والتلازم الشرعي بينها ، وحاجة المؤمن إليها جميعاً في سلوكه الصراط المستقيم يقال:
إن من أحب الله سار إليه وتقرب إليه ، والسير إليه يكون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه فهو سير معنوي على الصراط المستقيم الذي هو الطريق إلى المحبوب الأعظم. فمحبة الله تدفع العبد إلى التقرب إليه، وعلى حسب قوة المحبة وضعفها تكون مسارعة العبد في الطاعات ومسارعته في الكف عن المحرمات. وخوفه من الله يمنعه من الانحراف عن الصراط المستقيم فلا يتعدى حدود الله وهو يخاف عقاب الله. ورجاؤه لفضل الله يحفزه لفعل الطاعات ويؤمله لقاء الله تعالى والفوز بقربه والتنعم بعظيم ثوابه. نسأل الله تعالى من فضله وبركاته.
 4- قَوْلُهُ تَعَالى: (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة:23]
وَقَوْلُهُ تَعَالى: (ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3] .
التوكل : طلب الوكالة من الوكيل ، والوكيل والمتوكل بالأمر هو الذي يضمن القيام به. فالوكيل هو الذي يُسند إليه الأمر ويُفوَّضُ إليه ويعتمد عليه فيه. والمتوكِّل هو المعتمِد والمفوِّض. فالتوكُّل على الله تعالى حقيقته : الاعتماد على الله وتفويض الأمر إليه ثقة في حسن تدبيره واعتقاداً بأن النفع والضر بيده وحده سبحانه.
 - قال الله تعالى: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) فقدم الجار والمجرور لإفادة الحصر، كما صرح به في قوله تعالى: (ولا تتخذوا من دوني وكيلا) .
 - وقال تعالى: (قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) .
- وقال: (فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم)
- وقال: (وعلى الله فليتوكل المتوكلون)
- وقال الله تعالى: (وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) قال الإمام أحمد: "التوكل عمل القلب" وثواب التوكل على الله عظيم جليل جزيل إذ جعل الله ثواب المتوكل أن الله هو حسبه وكافيه وفي ذلك غَناء له عن كل ما تتطلبه النفس، فليس وراء الله مذهب، ولا بعده مطلب. قال الله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب) فجعل هذا من ثواب التقوى وهو تفريج الشدة وحصول الرزق أيا كان نوعه، أما التوكل فثوابه أعظم : (ومن يتوكل على الله فهو حسبه). وقد أثنى الله تعالى على نفسه بأنه نعم الوكيل وهذا الثناء يفتح لأولي الألباب أبواباً من المعاني الجليلة التي يستلزمها هذا الثناء الجميل فيثمر التفكر فيها من اليقين والإيمان ما يحمل العبد على الثقة بالله . فكونه نعم الوكيل يستلزم علمه بحاجة من اتخذه وكيلاً، وعلمه بما يرجوه ويخافه كما قال الله تعالى (والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيرا) ويستلزم قدرته على تحقيق ما ينفع عبده ودفع ما يضره، ويستلزم نصره لعبده، ولطفه به ورحمته وإحسانه إلى غير ذلك من المعاني الجليلة التي يكفي فيها وصف نعم الوكيل ليحصل للنفس المؤمنة من اليقين والسكينة، والأمن والطمأنينة، والثقة العظيمة بالله ما لا تقوم له هموم الدنيا لو اجتمعت. ولذلك تجد هذه العبارة "حسبنا الله ونعم الوكيل" يقولها أناس فتبلغ بهم من رضوان الله والقرب منه والزلفى لديه منزلاً عالياً جداً، ويقولها أقوام لا تجاوز حناجرهم . وسر ذلك ما وقر في القلب من أنواع العبودية لله . يقولها أقوام وهمهم النكاية بآخرين لأمر من أمور الدنيا غضبوا لأجله، وقد يكون هذا الأمر محرماً في أصله أو في التعلق به، وقد يكونون هم الظالمين المسيئين، ويقولها أقوام وهمهم إعلاء كلمة الله ونصرة دينه وتحقيق العبودية له وطلب كفايته والاستغناء به والأنس به وعبادته على الوجه الذي يحبه ويرضاه، وأن يكفيهم ما يحتاجون إليه من أمور الدنيا . فالتوكل على الله تعالى لا يختص بالأمور الدنيوية كما يتوهمه بعض الجهال، بل التوكل على الله في الأمور الدينية من أداء واجبات العبودية لله تعالى والجهاد في سبيله في جميع مراتب الجهاد والتوكل عليه في طلب الهداية في جميع الأمور كبيرها وصغيرها أولى وأعظم. وإن كان التوكل على الله في المصالح الدنيوية مطلوباً ومثاباً عليه بل قد يجب أحياناً، لكن التوكل على الله في أمور الدين أعظم وأنفع. قال ابن القيم - رحمه الله تعالى - "التوكل على الله نوعان :
 أحدهما : توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.
والثاني : التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه.
وَبَيْنَ النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله؛ فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية، ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه.
- فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم" ا.هـ.
5- قول الله تعالى : (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 131-134].
تأملوا التأكيد على أن لله ما في السماوات وما في الأرض ثلاث مرات في هذه الآيات، والتأكيد على غناه بأكثر من وجه، وترغيبه عباده أن يسألوه من خير الدنيا والآخرة، وما في ضمن ذلك من وعده الكريم بتحقيق ما يأملون إن هم استجابوا له واتبعوا هديه، وأنه لن يضيع شيئاً من دعائهم ولا يفوته شيء من ذلك فهو السميع البصير. كل هذه المعاني إذا تأملها المؤمن أورثته يقيناً وإيماناً وإخباتاً وإنابة لله . وعلم أن الله تعالى هو نعم الوكيل وكفى بالله وكيلا.
------------------------------------------------------------
اقرأ المزيد...