الجمعة، 1 أبريل 2011

الدرة القرآنية الثامنة/ قوله تعالى (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا )



حول قوله تعالى في سورة مريم ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا*أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا *كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا *وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا )

هذه الآيات من سورة مريم ، وسورة مريم سورة مكية ، وهي من السور العِتاق اللواتي من أوائل ما أُنزلن على قلب رسولنا صلى الله عليه وسلم كما أخبر بذلك الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود في قول الله جل وعلا في هذه السورة المباركة ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا ) .

ينصرف هذا الخطاب في سبب نزوله عند جماهير المفسرين إلى العاص بن وائل السهمي غير خافي عليكم أن المجتمع القرشي الذي بُعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن مُتقبِلا نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأسباب في ذلك كثيرة منها : الخوف من انقلاب المجتمع ، ومنها الحسد ، ومنها البغضاء ، ومنها أسباب عدة لكن جماعها الكفر بالله والتكذيب بآياته وردّ رسله والإعراض عن دينه .

من أولئك الذين ناصبوه العداء هو العاص بن وائل السهمي ، كان يعمل عنده الخباب بن الأرت - رضي الله عنه وأرضاه - وخباب قبل الإسلام لم يكن أكثر من مجرد أجير حداد يعمل عند العاص فلما بلغ العاص أن خبابا آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم جعل من العمل معه والأجرة والدين الذي يتقاضاه عنده سبيلا إلى أن يلوي عنقه ليرده إلى دين قريش ، فلما كان لخباب دين عند العاص بن وائل السهمي وأتاه ليتقاضاه قال له العاص ليثنيه عما هو عليه من الإيمان قال : لن أعطيك حقك حتى تكفر بمحمد ، فقال خباب : والله لا أكفر بمحمد حيا ولا ميتا .

ننيخ المطايا قبل أن نسترسل في القصة :
الإيمان بالعمق ، ومعنى ذلك أن خبابا هذا لم يكن بعد قد أنزل من القرآن الشيء الكثير ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكثر من جلوسه مع أصحابه ، هذا كله في أول الإسلام ، لم تكن قد نزلت البقرة ولا آل عمران ولا كثير من السور ولا غيرهن من الآيات ، إنما نزل أول القرآن ، والإسلام ما زال غضا طريا ومع ذلك نرى هذا الثبات من خباب رضي الله تعالى عنه وأرضاه وقد يوجد إنسان وهو منذ أن وُلد في الإسلام لكن الإيمان في قلبه لم يبلغ حدا يقينيا ، لم يبلغ عمقا ينجم عنه أثر في العمل , وهذا ما ينبغي أن يتنبه له الإنسان في حياته ،ومرد ذلك أن يرى الإنسان أين هو من العمل الصالح ، أين هو من المسابقة في الخيرات ، والمنافسة في الطاعات ، والثبات على دين الله عند حلول الشبهات أونزول الشهوات ، على ذلك كان خباب رضي الله عنه على قِصر المدة وحداثة العهد بالإيمان وأنه مكث زمنا طويلا في الجاهلية يعبد الأوثان ويطوف حولها ويؤمن بها إلا أن ذلك كله تلاشى وذهب أثره لآيات معدودات قد أُنزلت فلما قال له العاص بن وائل السهمي - والإنسان ضنين بماله - قال له : حتى تكفر بمحمد ، قال له : لن أكفر بمحمد حيا ولا ميتا هذا يدلك على ثباته .قال له خباب بعد ذلك - يتوعده - إنك ستُبعث يوم القيامة وسأقاضيك .

فالعاص أخذ هذا اللفظ من خباب وقال له : إنكم تزعمون أننا مبعوثون ، أو نحن مبعوثون ؟ قال خباب : نعم । فقال العاص : إذا يوم القيامة سيكون لي مال وولد ، ألستم تزعمون أن هناك جنة وفضة وحرير ، ( جنة ، فضة ، حرير ، هذه مفردات لم يكن العاص يعرفها ) لكن إن كنت ممن يحاول الصنعة في التفسير تعطيك أن سورة الإنسان ( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ ) قد نزل شيء منها لأن الفضة والذهب والحرير أكثر ما ذُكر في سورة الإنسان ، في سورة فاطر ، في أشباهها من السور التي تحدثت عن الجنة ونعيمها . هذه اللمحات تعينك على تفسير كلام الله جل وعلا إذا كنت متدبرا لأسباب النزول . نعود فنقول : فلما قال له ذلك قال العاص بن وائل سيكون لي مال وولد ، خلّد الله جل وعلا هذا الحدث ، وجاء به القرآن بليغا في اللفظ والمعنى . قال ربنا : ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا ) هناك كفر وفسوق وهناك عصيان أما الكفر فمادته اللغوية مأخوذة من التغطية لهذا قال الله تعالى ( كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ) ولبيد يقول : في ليلة كفر النجومَ غمامها فالغمام إذا تراكم بعضه على بعض حجب النجوم ،فهذا الكافر أخذ تلك الآيات فغطاها ، جحدها ، لم يقبل بها ، هذا هو الكفر .

وأما الفسوق : فأصله الخروج عن الحد ، يُقال فسقت البيضة أي أن الطائر الصغير الذي فيها خرج عن تلك الحدود التي كانت تحويه ، فيُقال لمن خرج في معصية ما ، خرج عن طاعة ربه قال الله جل وعلا ( إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) أي تجاوز الحد وخرج عن أمر الله جل وعلا الشرعي لا القدري ، فكل أحد داخل في أمر الله القدري ।

وهناك العصيان ، ويمكن أن يُقال في العصيان هو : عدم الانقياد ، وقد يكون ممزوجا بالإيمان لكنه قد يكون في مراتب عدة كما هو معلوم ، هناك معاصي صغار ، وكبار . هذه الألفاظ قد يُطلق بعضها على بعض ، وتُنيب هذه المفردات بعضها عن بعض لكن فرق في معناها إذا اجتمعت الثلاث ، قال الله جل وعلا ( وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ) فشتان ما بين الكفر والفسوق والعصيان في معنى هذه الآية ، لكن أحيانا ينوب بعضها عن بعض ، الله يقول ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لّا يَسْتَوُونَ ) فالفاسق هنا بمعنى الكافر لأنها جاءت مقابل كلمة مؤمن . (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا ) هو لا يتكلم عن حياته في الدنيا لأنه كان قطعا يومها ذا مال وولد ، لكنه يتكلم عن الآخرة التي لا يؤمن بها أصلا لكنه قالها تحدي ( لَأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا ) .

قال ربنا يُخاطبه ويحاوره ويرد عليه قوله ( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا ) قال العلماء من المفسرين في معنى الآية : إن هذا الذي قاله هذا الرجل وزعمه لا يُتوصل له إلا بأحد طريقين: إما أن يكون يعلم الغيب - وهذا منتفٍ - وإما أن يكون لديه عهد من عالم الغيب وكذلك هو منتفٍ .قال الله جل وعلا ( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا) ( كَلاَّ ) كلمة ردع وزجر عند جمهور البصريين كالخليل بن أحمد وسيبويه ، وذهب الكسائي إلى أنها بمعنى حقا ووافقه ابن الأنباري ، لكن ما عليه جمهور أهل البصرة هنا أقوى - والعلم عند الله - । أن نقول إنها كلمة ردع وزجر أقوى ।

( سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ ) أي يحفظ ما يقول كما قال الله جل وعلا ( كِرَامًا كَاتِبِينَ ) ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) فربنا جل وعلا يقول هنا ( سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا ) أي نضاعف له العذاب أضعافا عديدة إذا لقينا ।

( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ) الله جل وعلا وحده هو الوارث ، فهذا أملاكه ،أمواله ،أولاده في الحياة الدنيا هو سيغفل عنها سيتركها لا محالة ، لأنه ميت لا محالة .

قال ربنا ( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ ) هو يزعم أنه ذو مال وولد في الدنيا ، وهذا حق ، لكن هذ الحق الذي زعمه لن يبقى كثيرا عنده .


( وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ) وفي هذا بيان إلى أن المسؤولية يوم القيامة مسؤولية فردية ، فمن كثُر ماله أو جاهه أو سلطانه كل ذلك يهلك ، فالناس يُحشرون فرادى كما خلقهم ربهم فرادى ، أخبر الله جل وعلا عن ذلك في كتابه . هذه الآيات البينات تُبين بجلاء ما كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من الثبات ، إن خبابا لم يكن ذا مال ، وكان المال كافٍ لأن يدفعه لأن يكفر لو غلبت الشهوة عليه ، لكن الإيمان الذي كان في قلب خباب أزال الشهوة . ونحن عندما نقرأ القرآن ونذكر هذه النماذج الإيمانية الجليلة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إنما ينبغي أن يُقرأ القرآن للتدبر ويُنظر في هؤلاء القوم الأئمة الكبار رضوان الله تعالى عليهم فيُتأسى بهم ، ولن تخلو حياة المرء من فتن تظهر له ، إما شبهة وإما شهوة ، لكنه إن كان قريبا من كلام ربه وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم قارئا لأحوال الأخيار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك من أعظم عوامل الثبات على الدين ، ومن أعظم ما يزيد في القلب اليقين ، وهذا كله فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق