الاثنين، 19 سبتمبر 2011

الدرة القرآنية الثانية عشرة/ قوله تعالى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ)


سنتفيئ في هذه الدرة القرآنية ظلال قول الله تعالى في سورة الأعراف (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ) إلى قوله - تبارك اسمه - في الآية التي تليها (لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
إن من طرائق فهم القرآن ودلائل الكتاب المبين أن ينظر الإنسان إلى السياق التاريخي ، وأول أمر يُبدأ به مجال الآية في السورة نفسها ، ثم أين هذه الآية وتلكم السورة من القرآن كله .
الله - جل وعلا - قبل هاتين الآيتين ذكر خبر أن موسى - عليه السلام - وقومه جاوزوا البحر قال الله - جل وعلا - (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ) وهذا لما كانوا قد خرجوا ونجاهم الله - جل وعلا - من فرعون وبطشه وأغرق الله - جل وعلا - فرعون وقومه وبنوا إسرائيل ينظرون ، ثم إن الله - جل وعلا - قبل ذلك كتب عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة لكن أولئك القوم أبوا ( قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) فلما امتنعوا كتب الله - جل وعلا - عليهم أن يبقوا في أرض التيه قال تعالى (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ) أي الأرض المقدسة (أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) في تلك الحقبة ، في الزمن الأربعين سنة جرت لبني إسرائيل أحداث عظام ، وخطوب جسام ، كان قبل أن تنتهي الأربعين مات هارون ومات موسى لكن قول الله - جل وعلا - هنا (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ) أي من بعد أن خرج موسى إلى الميقات الزماني والمكاني الذي كلمه عنده ربه - جلّ ذكره - فليس المقصود (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ) أي من بعد موته ، ليس هذا المقصود البتة ولم يقل به أحد وسياق الآيات يأباه لكن الله - جل وعلا - ذكر قبلها أن موسى ذهب إلى ميقات ربه وجعل أخاه هارون خليفة له (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) فأمره أن يبقى خليفة بعده ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مُذكرا بشيء من هذا مع وجه شبه آخر لعلي - رضي الله عنه - ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ).
المقصود لما بقي هارون وذهب موسى إلى ميقات ربه ، في هذه الحقبة قال الله يحكي خبرها ويقصّ علينا ما كان من بني إسرائيل بعد أن ذهب موسى إلى ميقات ربه ، قال الله - جل وعلا - (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ ) قوم موسى أي بني إسرائيل ، " اتخذ " عند علماءالعربية - كما تعلم- وأرباب النحو فعل يتعدى إلى مفعولين قال الله (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً) ، " عجلا " هي المفعول الأول لكن الله - جل وعلا - لم يذكر ولم ينص هنا على المفعول الثاني لأن المفعول الثاني تقديره هو : عجلا جسدا له خوار إلها ، جعلوا ذلكم العجل إلها ، لما جعلوه إلها كان هذا فرية عظمى وشركا أكبر ومع ذلك لأن الأمر عظيم ولا يُتصور أن يتخذ أحد عجلا إلها من دون الله لم يذكر الله - جل وعلا - هذا القول ، لم يذكر الله هذا المفعول لاستعظام الأمر وشناعته وكأن الأمر لا يُعقل ولا يُقبل أن يُنقل ولا أن يُتصور مع أنه وقع. قال الله - جل وعلا - (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ) قلنا من بعد أن ذهب موسى إلى أرض الميقات المكاني إلى جبل الطور حيث كلمه ربه.
(مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ) الحلي : ما يُتزين به وغالبه يكون من الذهب والفضة . أضاف الله - جل وعلا - الحلي هنا لبني إسرائيل وقال ربنا في سورة طه (وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ) من زينة القوم أي : من زينة أهل مصر ، إنما إضافة التمليك هنا في قوله - جل وعلا - (مِنْ حُلِيِّهِمْ ) باعتبار أنها كانت الحلي في أيديهم وربما كان شيء منها مما يملكونه أصلا لكن أكثر تلك الحلي إنما أُخذ من الأقباط عندما كان بنو إسرائيل مجاورين لهم في أرض مصر قبل أن يأمرهم الله أن يخرجوا من أرض مصر فكانوا يستعيرون الحُلي فبقيت في أيديهم فتسلط عليها السامري وأمرهم أن يجعوها فجمعوها فنبذها أي طرحها وجعل منها عجلا جسدا له خوار .
في قضية معروفة ليس هذا مجالها لكنني هنا أبيّن معنى قوله - جل وعلا - (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ) فالإضافة هنا إضافة تمليك باعتبار أن تلكم الحُلي بين أيديهم وهذا نستطرد فيه فقهيا على أن هناك تملُك وهناك تمليك ، فالتملُك : ما يملكه الإنسان وربما يكون هذا التملُك قهرا أي ليس للإنسان دور فيه ، فمثلا : لو أن هناك رجلا ثريا له أبناء ، ثم إن هذا الوالد - وكل الناس على هذا الطريق - توفي فبمجرد وفاته ينتقل المال إلى ورثته ، إلى أبنائه وغيرهم من الورثة فهذا الابن الوارث لأبيه لو كان بعيدا جدا عن أبيه مكانة ، بل لو كان بينه وبين أبيه خصومة ، أو قُدر أنه لم يرَ أباه قط لكونه قد طلق أمه مثلا ، أيا كان الحال مع الأب صلاحا أم عدمه فإن هذا المال بمجرد أن مات الأب أصبح ما يخصّ الابن من الإرث مُلكا له بعد ذلك هو كبف تصرف فيه هذه مسألة أخرى فهذا مثال من المُلك الذي يأتي الإنسان قهرا ولا يستطيع أن يرده . أما التمليك فهو : أن الإنسان يُملّك الغير ، تمليك المال للغير وهذا عند الفقهاء له صور أربع ، ودائما ضبط المسائل عموما بكلياتها يُقرب المسائل إلى الأفهام ويجعل طالب العلم أنكن سبيلا وأقوم طريقا ، الفقهاء - رحمهم الله أحياء وأمواتا - يقولون : أنه يمكن تقسيم تمليك الغير إلى أربعة أقسام :- تمليك يقع بالبيع وهو تمليك عين بعوض ، رجل يملك دارا فأعطاها لغيره مقابل ثمن فالعين هي الدار والعِوض هو الثمن ، المال المقبوض فهذا يُسمى بيع ، تمليك عين بعِوض سواء أعطاه إياه بمال أو بدار أخرى ، أو أعطاه إياه بأسهم في شركات ، أو بسيارات متعددة ، أيا كان العِوض.لكن إذا كان هناك عِوض ثم مُلك العين هذا يُسمى بيع.
- إن ملّكه العين من غير عِوض هذا لا يُسمى بيع ، فإذا جاء رجل وهو يملِلك دورا كثيرة وذا ثراء ، فجاء إلى أحد الفقراء وقال خذ هذه الدار ولا أريد عِوضا فهذا يُسمى هبة ، وهو الحالة الثانية.
- الحالة الثالثة : تمليك المنفعة بعِوض مثاله :المحلات التجارية التي تؤجر أنت عندما تستأجر السيارة منها تستفيد من السيارة ، تنتقل بها مدة بقائك في الرياض ، في المدينة ، في جدة ، في أي مكان أنت فيه لكنك لا تملك العين ، لا تملك السيارة إنما تنتفع بها فهذا يُسمى إجارة ويقع هذا في أحوال شتى فمثلا في أن رجلا يعمل عند رجل فلاحا فهذا الفلاح ليس رقيقا عند صاحب المزرعة وإنما ينتفع بقوته وبقدرته وبعلمه بالزراعة فهذا الفلاح أو المكتب الذي أتى به يأخذ عوضا ، مالا ، فهذا يُسمى إجارة .
- الحالة الرابعة : تمليك منفعة بغير عِوض وهذا يُسمى عارية فمثلا : في الصورة الأولى ذكرنا السيارات كيف تؤجر لكن لو جاءك سفر عاجل فطرقت باب أحد المقربين إليك وقلت له إن سيارتك أفضل من سيارتي وأنا على أهبة سفر وليس بوسعي أن أصلح سيارتي فهلا أعرتني سيارتك ، فهو لا يقبل أن يأخذ عوضا لما بينكما من العلاقة والوشائج والذمم فيعطيك سيارته فتنتفع أنت بها ، فليست تلكم السيارة ملكا لك وإنما انتفعت بها فهو ملكك المنفعة دون العين لكنه ملكك المنفعة من غير عوض فهذا يُسمى عارية । فخلصنا الآن إلى أربع : الهبة والبيع والإجارة والعارية .
هذا استطراد حول قوله تعالى (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً) العجل : هو ولد البقر ،(جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ) هذا ظاهره أن ذالك العجل كان جسدا لكن مما هو مصنوع ؟ من الحُلي وإلا لما كان لسياق الحُلي معنى ، أما قوله (لَّهُ خُوَارٌ) فهذا يحتمل أن الريح تدخل من جهة وتخرج من جهة وتُحدث صوتا ، ويحتمل شيئا آخر ربما كان مستبعدا - والعلم عند الله - .
قال الله - جل وعلا - (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) هذا من الدلائل على غنى الله تبارك وتعالى ، وفيه إشارة إلى أن هذا لا يصلح أن يكون إلها ، وفيه دلالة على أن الله مستغني كل الغنا عن خلقه ولذلك هو المألوه حقا ، هو الله ، هو الرب حقا ولا إله سواه ولا يجوز أن يُصرف شيء من العبادة قلّ أو حقُر ، صغُر أو عظُم إلى غير الله تبارك وتعالى وهذا هو التوحيد الذي بعث الله به الأنبياء والرسل.قال الله - جل وعلا - بعدها (اتَّخَذُوهُ) فكرر الفعل " اتخذ " ومع ذلك لم يأتِ في القرآن ذِكر المفعول به الثاني (اتَّخَذُوهُ) "الهاء" المفعول الأول وهي عائدة على العجل لكن كما أنه لم يذكره في الأول لم يذكره في الثاني قلنا لشناعة الأمر وعظيم الخطب فقال (اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ) "الواو" هذه واو الحال ( وَكَانُواْ ظَالِمِينَ) كان اسمها واو الجماعة و "ظالمين " خبرها ، والجملة الأسمية ( وَكَانُواْ ظَالِمِينَ) كان وما دخلت عليه إذا اعتبرناها جملة اسمية بأصلها واقعة في محل نصب حال لكن بعض حُذاق العربية يقول أن جملة (وَكَانُواْ ظَالِمِينَ) تُشعر أن هذا الأمر منهم ليس بأول ظلم يأتونه وأنه قد مضى منهم ظلم أكثر ، ظلم مشابه أو ظلم قبل والمعنى : ليس هذا أول منكر يأتون به ومن أعظم معاني الظلم : وضع الشيء في غير موضعه ولا ريب أن عبادة غير الله هي الظلم الحق قال الله - جل وعلا - جكاية عن العبد الصالح لقمان (يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).قال الله - جل وعلا - بعدها (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) هذا وقع لما تبين لهم الأمر ، لما عاد موسى - عليه السلام - وأقام عليهم الحجة واوضح لهم المحجة قال ربنا يخبر عنهم (وَلَمَّا) أي حين (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أما الألفاظ " سقط ، في ، أيديهم " فلا خلاف أنها عربية لكن التركيب والنظم يقول أئمة اللغة إن هذا لا يُعرف في كلام العرب بمعنى أن العرب لم تستخدم هذه الكناية من قبل فقول الله - جل وعلا - (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) كناية عن الندم بالاتفاق بين أئمة هذا الشأن لكن هذا النظم لم يُعرف في لغة العرب ، لم يرد في شعرهم ولا نثرهم ، لم يرد فيما نُقل إلينا عنهم فيمكن أن يُقال كما يصطلح عليه بعض أهل التفسير المعاصرين أنه من مبتكرات القرآن بمعنى أنه نظم غير مألوف من قبل ، لم تستخدمه العرب فيما نُقل من كلامها إلينا ، فقول الله - جل وعلا - (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) إخبار عن شدة الندم لكن لمَ عُبر بهذا التعبير ؟ هذا مجال اختلف العلماء فيه : فبعضهم يقول "إن اليد هي الجارحة التي يُعبر بها عن الندم الذي في القلب واحتجوا بقول الله تعالى (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا) " هذا مخرج .
مخرج آخر يقول " (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) أن الإنسان يعض على يده إذا ندِم ومنه قول الله - جل وعلا - (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا) والعرب : غيري جنى وأنا المعذب فيكم*** فكأنني سبابة المتندم
لأن سبابة المتندم يعض عليها ندما ".
والمقصود هذا تخريج بعض علماء اللغة على قول الله - جل وعلا - (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا) تبيّن لهم الحال (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ) بعبادتهم للعجل هنا لجؤا إلى ربهم واستغفروا من ذنبهم وفاؤا إلى خالقهم (لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) وهذا من أجمع الدعاء في الاستغفار والأوبة والتوبة حكاه الله - جل وعلا - عن الأبوين آدم وحواء ، وحكى الله - جل وعلا - قريبا منه عن نبيه نوح عليه السلام والمقصود أن هذا من الدعاء الذي ظاهره التضرع والانكسار بين يدي ىالله - جل وعلا - والاعتراف بالذنب والتسليم لله والإذعان إليه والأوبة والتوبة إليه، ولا ريب أن الله قبِل منهم توبتهم .
هذا كله وقع من بني إسرائيل في الزمن الذي كانوا فيه في أرض التيه في أرض مصر جاء به السياق القرآني في سورة الأعراف وقد اشملت هذه السورة على أخبار أنبياء غير موسى - عليه السلام - لكنها جاء فيها كثير آيات عن نبأ هذا النبي الكريم موسى بن عمران - صلوات الله عليه وعلى نبينا عليه السلام .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق