الأحد، 21 أبريل 2013

تفسير سورة الزمر (١-٩) / من دورة الأترجة

د. محمد بن عبد العزيز الخضيري



(تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴿١﴾ إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ﴿٢﴾ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ﴿٣﴾)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد فهذا هو المجلس الأول من مجالس تفسير سورة الزمر في هذه الدورة المباركة دروة الأترجة المقامة في جامع شيخ الإسلام محمد ابن عبد الوهاب بحي الخليج في مدينة بريدة.
 وهذه السورة من السور العظيمة التي كان النبي يقرؤها مع سورة الإسراء كل ليلة كما روى ذلك الإمام النسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها، قالت: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وكان لا ينام حتى يقرأ سورة بني إسرائيل والزمر. وهذا يدلّ على عظم أمرها وعلو شأنها ولا سيما وأنها تتحدث عن الإخلاص لله -عز وجل- فهي من سور التوحيد الخالصة لله مثل سورة الرعد وفاطر والكافرون وتبارك والصمد. هذه السور الست كلها سور أكثرت من ذكر الإخلاص وذكر توحيد الله وأدلة هذا التوحيد وعظمة الرب -جلّ وعلا- والتخويف منه -جلّ جلاله- وتحبيب العباد إليه ، وأمر العباد بالاستعصام بالتوحيد ونفي الشرك كله قليله وكثيره ،جليّه وخفيّه ،أوله وآخره.
 هذه السورة مناسبة للسورة التي قبلها فإن السورة التي قبلها، قال الله (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) فالكلام كله متصل عن هذا الكتاب العظيم.
 وأيضاً تلك السورة ذكر فيها أفواج الكفار (هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ) وذكرت خصومتهم وهم داخل النار، وفي هذه السورة ذكرت زُمرهم وهم يساقون إلى النار (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا).
وأيضاً في هذه السورة وهي سورة (ص) ذكرت الخصومة بين النبي وبين المشركين في أمر الشرك وفي هذه السورة أمر الله بإخلاص الدين لله -جلّ وعلا- فهي مؤكِّدة للمعاني التي جاءت في سورة ص.
قال الله -عز وجل- (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ)
 (تَنزِيلُ) مصدر والمعنى أن هذا القرآن أُنزل من الله تنزيلاً أو نُزّل تنزيلاً. والتنزيل -كما يقول العلماء- يدل على التقطيع والتنجيم بخلاف الإنزال، فلما كان القرآن قد أُنزل على نبينا مقطّعاً ولم ينزل جملة واحدة قال الله في كثير من المواطن: (تَنزِيلُ) 
(حم (1) تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)
(حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافر الذّنب)
 (حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الأحقاف
(حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الجاثية
قال (تَنزِيلُ الْكِتَابِ) سُمي القرآن كتاباً لأن الله شرعه مكتوباً فهو قد كُتب في اللوح المحفوظ ،ثم أُنزل إلى بيت العزة في السماء الدنيا مكتوباً أيضاً، ثم نزل به جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن تلقاه من ربه وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا أوحي إليه شيء من القرآن استمع إليه فإذا انفصل عنه جبريل وعى عنه كل ما يقول فيدعو أول ما يدعو الكاتب ليضبِط هذا الذي أوحي إليه به -عليه الصلاة والسلام- فيكتب في الرقاع واللخاف والأكتاف والعظام والجلود والصحف وغيرها.
(تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) أي ذو العزة، وعزة الله كما بينا عزة قدر وعزة قهر وعزة امتناع:
- فقدره في أعلى الأقدار بل هو أعلى شيءٍ قدراً
- وهو قاهر لكل شيء 
- وهو ممتنع عن أن يريده أحد بسوء أو أن يصل إليه أحد بضُرّ -جل جلاله وتقدست أسماؤه- مأخوذ من أرض عَزاز أي تمتنع أن تغوص فيها الأقدام.
/ قال (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) أي بالصدق وبالعدل وبالشيء الواقع الثابت الذي لا ريب فيه ولا شك. (فَاعْبُدِ اللَّهَ) توجه إلى الله بالعبادة (مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ) لا تشرك معه أحداً سواه ومن هنا قلنا إن محور هذه السورة على الإخلاص كما سيأتي بعدُ في الآيات المقبلة (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ(11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ)
(قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي(14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ)
فانظر كيف تردد أمر الاخلاص في عبادة الله وقصد وجه الله في كل شيء وأن لا يُشرك العبد في عبادته مع الله أحداً سواه.
 قال (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) له الدين الذي لا شرك فيه ولا معبود مع الله يُعبد بل لا يُعبد إلا الله . فالدين الذي لله هو هذا الدين الخالص أما الأديان التي فيها شرك فهي ليست لله سواء عُبد فيها عيسى أو القمر أو الشمس أو النجوم أو الأفلاك أو ثلاثة وثلاثين مليون إله كما هو عند الهنادكة الذين بلغت آلهتهم ثلاثة وثلاثين مليون إله يعبدون كل شيء يُحَبّ وكل شيء يُخاف وكل شيء يُرجى وكل شيء يُطمع فيه فالدجاجة إله والبيضة إله والثور والبقرة إله والذكر والفرج إله والصنم والفأر إله وعندهم معابد للفئران والجرذان والحيات والعقارب وأشياء كثيرة . نحمد الله على ما نحن فيه من نعمة التوحيد.
 قال الله -عز وجل- (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) الدين الخالص لله (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء) يقولون (مَا نَعْبُدُهُمْ) أي ما نعبد هؤلاء الأولياء (إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) يذكر الله حجّتهم في كونهم يعبدون مع الله أحداً سواه وهو أنهم يقولون نحن لسنا نعبدهم لذواتهم ولكن (لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) نقترب من الله بسببهم، نجعلهم وسائط يتوسّطون بيننا وبين الله ،ولم يجعل الله بينه وبين عباده في عبادته أحداً لا نبي مرسل ولا ملك مقرّب حتى لما جاء إلى أمر الدعاء قال (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي) لم يقل (فقل) قال (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) لئلا يُتوهم من ذلك أن هناك واسطة في الدعاء بين الله وبين عباده (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ) فنحن لا نجعل بيننا وبين الله أيّ واسطة، مباشرة نتوجه بعبادتنا إلى ربنا وهو يعلم بكل شيء يصدر منا ويقبله ولا يرضى أن نضع معه شريكاً ولو كان ذلك الذي للشريك مثقال ذرة. يقول الله في الحديث القدسي (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) وفي رواية أخرى (فهو للذي أشرك وليس لي منه شيء) أغنى الشركاء عن الشرك هو الله ولذلك لا يرضى أن يوضع معه شريك ولو في شيء يسير لا يكاد يُذكر.   / (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) الله -عزّ وجل- هو الذي يحكم بينهم في إختلافهم هذا (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) هؤلاء الذين يكذبون لا يهديهم الله وهؤلاء الذين يجحدون ويستكبرون ويستعلون على أوامر الله لا يوفّقهم الله لهداه وإلا فهدى الله واضح وبيِّن لكن من استعمل الكذب فكذب على الله وادّعى أن لله ولداً أو ادعى شيئاً من الدعاوى الباطلة أنه جعل هذا مستحقاً للعبودية لا يهديه الله وكذلك الكفّار الجحود بنِعَم الله أيضاً لا يهديه الله.
/ قال الله -عز وجل- (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء) (لو أراد) وهذا يذكر على سبيل الفرض والتنزل وإلا فالله غني أحدٌ فردٌ صمدٌ ليس بحاجة لأحد (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) ولهذا قال الله في سورة مريم (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا).
يقول الله (لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء) لاختار مما يخلق ومع ذلك لا يمكن أن يكون ولداً لأنه مما خلق. (سُبْحَانَهُ) ينزّه عن كل نقص وعن أن يكون له ولد أو صاحبة أو معين أو نصير أو ظهير (هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ) في ذاته وفي أسمائه وفي أفعاله وصفاته وفي ألوهيته وربوبيته، القهّار الذي قهر كل شيء لقوته وجبروته وخضع له كل شيء (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا).
/ قال (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) هذا الواحد كل ما ترونه هو من خلقه، السماوات والأرض خلقهما بالحق، بالعدل وبالحق الثابت فهي مخلوقة بالحق لا بالباطل من أجل أن يُعبد الله وحده وأن لا يكون للعباد ربٌ سواه.
(يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) أي يُدخِل الليل على النهار ويُدخِل النهار على الليل هما يستارعان أو يمشيان مثل الكرة وهذا يدل على أن الأرض كروية لأن التكوير لا يكون إلا في شيء مثل الكرة وهذا أمر أجمع عليه العلماء لا إشكال عندهم في أن الأرض كروية ولذلك قال (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ) يأتي الليل فيتكور على النهار ويأتي النهار فيتكور على الليل فهما يتعاقبان (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) كل واحد منهما يسعى ويلاحق الآخر.
 قال الله -عز وجل- (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) جعل لكم الشمس والقمر مسخّرين لمنافعكم ومصالحكم فلا تظنوا أن الله خلقهما عبثاً بل خلقهما مسخرين لكم ، وهذا ردٌ على من يتخذهما آلهة من دون الله، اعلموا أن الشمس والقمر إنما خلقهما لله تسخيراً لكم أيها الناس يعني خُلِقت لخدمتكم وجلب المنفعة لكم فكيف تعبدونها من دون الله والله خلقها خادمة لكم؟! وهذا كله جاء في معرض الرد على هؤلاء الذين اتخذوا أولياء يعبدونهم من دون الله. كيف تتخذون أولياء والخالق هو الله والسماوات مُلك الله والأرض مُلكه والمكور لليل على النهار والنهار على الليل هو الله والمسخر للشمس والقمر هو الله ماذا صنعت هذه الآلهة حتى تعبدونها؟!
 قال الله (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي كل من الشمس والقمر والليل والنهار يجري لأجل مسمى إلى موعد محدد إذا جاء ذلك الأجل بطل طلب الليل للنهار وطلب النهار لليل وتسخير الشمس والقمر لكم أيها العباد.
 (أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) العزيز -كما ذكرنا- ذو العزة عزة القدر وعزة القهر وعزة الإمتناع، الغفّار كثير المغفرة وإنما يقرن بينهما لأنه قلّ من تجد في المخلوقين من هو عزيز يكون غفاراً أو من هو غفار يكون عزيزاً، تجد الغفار ضعيفاً وتجد العزيز قوياً بطاشاً جباراً متكبراً لا يخضع ولا يلين قاسي القلب ، أما الله فهو عزيز ممتنع قهَّار وهو مع ذلك غفار كثير المغفرة لعباده إن هم تابوا إليه ورجعوا إليه كما قال في هذه السورة (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
 / قال الله -أيضا- مبيناً ماذا صنع أيضاً مما لم تصنعه هذه الآلهة ، ومبيناً أصل خلقتنا ومن أين جئنا (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) هذا من أوجه المناسبة بين سورة (ص) والزمر، فإنه في سورة ص ذكر خلق آدم وفي هذه السورة ذكر خلق زوج آدم (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) وأنتم تعلمون أن حواء خُلِقت من آدم فآدم خُلق من التراب وحواء خُلقت من آدم من ضِلع من أضلاعه "إن المرأة خُلقت من ضِلَع وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها وإن استمتعت بها إستمتعت بها على عِوَج".
 قال (وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) أي أنزل لكم الله رحمة منه وفضلاً من الأنعام ثمانية أزواج تستمتعون بها وتحصّلون بها خيراً كثيراً ، والأنعام مذكورة في سورة الأنعام فهي من الإبل اثنين ومن البقر اثنين ومن الضأن اثنين ومن الماعز اثنين، هذه الأزواج الثمانية. (وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) وهل هذا يدلّ على أن الأنعام منزلة من السماء؟ هذا قول وهو أن الأنعام أنزلت من السماء، وبعضهم يقول لا، وإنما المقصود أنزل أمره بخلقها والله أعلم.
 قال (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) أنتم أيها الناس المستكبرون عن عبادة الله يا أيها العباد (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ) أي مرحلة من بعد مرحلة نطفة ثم علقة ثم مضغة مخلّقة وغير مخلّقة ثم ينشئ العظام ثم يكسوها لحماً ثم ما يزال الجنين يترقى في طور من بعد طور حتى يخرج كما قال الله (قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)) أي أطواراً (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي طريق خروجه من بطن أمه يسّره (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ) ابن آدم لا يقف عند حال ولا مستوى معين، أنتم ترون الصخرة في الجبل تبقى مئات السنين هي نفس الصخرة لا تتغير ولا تزيد ولا تنقص، أما ابن آدم فلا، خلقه الله كما قال (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ) لا يبقى الإنسان ولا يدوم على حال كل يوم تتغير أنت بل كل ساعة تتغير، تتغير في خلقتك في لونك في قوتك في غناك في ديانتك في علمك في فكرك وفهمك في قوتك في كل شيء. قال الله -عز وجل- (خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ) أي يخلقكم خلقاً من بعد خلق وهذا كله من صنع الله، يعني الزوجان ماذا يصنعان؟ لا يصنعان شيئاً في هذه الخِلقة وفي هذا الأمر كله ليس لهم أي دور إلا أن الله يجمعهما لتجتمع مياههما فقط ثم كيف يتخلّقان وكيف يُصنعان وكيف تأتي العين وألأنف والأذن والقلب والدم والرجل والرئة وغيرها ليس لهم لا للأم ولا للأب من الأمر شيئاً ولذلك هم متوكلون على الله يسألون الله أن يرزقهم ولداً سليماً صحيحاً جميلاً طيباً الخ.
 قال (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ) أي هذا الخلق من بعد خلق (فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ) ما هي الظلمات الثلاث؟ قال العلماء ظلمة المشيمة وظلمة الرحم وظلمة البطن، والعجيب أن الطب الحديث أثبت أن هذه بالفعل هي الظلمات الثلاث التي يتخلّق فيها الإنسان وهي تشكِّل له ظلمة كاملة في بطن أمه ففي الرحم ظلام دامس جداً من هذه الظلمات الثلاث.
 قال (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) يعني الذي خلق ذلك وكوّنه وصوّره وقدّره (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) هو الواحد المتصرف إذاً هو الذي يجب أن يُعبد (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ). ولذلك لما أثبت لنفسه الخلق والملك والتدبير والقهر أثبت لنفسه أنه المستحق للعبودية وأنه لا تليق هذه العبودية بأحد سواه بل في أول القرآن ماذا يقول الله (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) يعني لا يستحق العبادة إلا من خلق فإن كانت هذه الأصنام تخلق وتقوى على الخلق فلها حقٌ في العبادة لكن أنّى لها ذلك؟ ليس لها من هذا الأمر شيء.
 قال (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) كيف تُصرفون عن هذا التوحيد وعن الإستجابة لأمر الله والانصياع لتوحيد الله ؟!
(إِن تَكْفُرُوا)  أيها العباد ( فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ) لا تظنوا أن الله محتاج إلى إيمانكم ومحتاج لأن تستجيبوا لأمره، الله غني عنكم ليس بحاجة إليكم ولا إلى أحد من خلقه كلهم، قريبهم وبعيدهم ،قويهم وضعيفهم ،علويهم وسفليهم (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) هو يقدّر الكفر ولكنه لا يرضى الكفر ولا يحبه، وهذا هو الفرق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية فالإرادة الشرعية لا بد أن تكون محبوبة لله أما الإرادة الكونية القدرية فإنها لا يلزم أن تكون محبوبة لله فالله قدّر الإيمان والكفر وقدّر المعصية وقدّر النفاق والشرك كل هذا من تقدير الله لكن هل أراده الله شرعاً؟ لا، ما أراده شرعاً ولذلك تأتي الإرادة (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ) فالإرادة يجب أن يُعرف معناها هل هي إرادة شرعية أو إرادة كونية؟ قدرية؟ إذا كانت فيما لا يحبه الله لا يمكن أن تكون إرادة شرعية لأن الله قال (وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) بل هي عبادة كونية قدرية. قال الله -عز وجل- (وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) يعني إن شكرتم فعبدتموه ووحدتموه وأخلصتم له العبادة رضي لكم ذلك.
(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) لا تحمل نفس وزر نفس أخرى وهذا من كمال عدل الله فإذا كان آباؤكم قد أشركوا فإن الله لا يؤاخذكم بشرك آبائكم كما لا يؤاخذكم بشرك أبنائكم وأنتم مسؤولون عن أعمالكم ولا تظنوا أنكم إذا أشركتم بحكم أن آباءكم قد أشركوا أن آباءكم يتحملون الوزر دونكم بل أنتم تتحملون وزر أنفسكم لا أحد يحمل إثما أحد (وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ) (وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى) ما لك إلا ما سعيت.
 فإن قلت أليس يكتب على الإنسان الذنب الذي يحدثه فيتبعه عليه الناس؟
قلنا نعم يكتب عليه لكن ذلك لا يعفي هؤلاء الذين تبعوه من التبعة من الذنب بل عليهم ذنب وعلى الذي فعل أولاً ذنبه وذنب من تبعه لأنه أول من سنّ ذلك الذنب "من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيء ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً".
قال (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) كلكم ترجعون إلى الله وعند الله تجدون كل أعمالكم ، لا ينقص من أعمالكم شيئاً، سبحان الله! القليل والكثير ، مثاقيل الذرّ تجدونها كما قال الله في سورة الأنبياء (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) يا الله! شيء لا يمكن أن يتصوره العقل بهذه الدقة المتناهية، إن كان مثقال حبة من خردل يؤتى به. قال العلماء : يجد الإنسان في كتابه كل شيء تلفّظ به أو قاله أو عمله حتى كلمة أفٍ ، وحرّ ، وبرد ، وإه ، وإن ، مكتوبة، فإذا اطّلع العبد عليها لا يلزم أنه يُجازى عليها كما قال في أول سورة الإسراء (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا) يقال له اقرأ فيعلم أنه لم يغادر من عمله شيئاً لا قليل ولا كثير، لا صغير ولا كبير كله موجود لكن الذي يُجازى عليه ويُحاسب ما يقع تحت الكسب والتكليف (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) نكتبه كله فلا ندع منه شيئاً. قال الله (فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) أي بالذي كنتم تعملون (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) عليم بما يقع في هذه الصدور فهو يعلم السر وأخفى.
/ قال الله (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ) الإنسان هنا المقصود به المُشرك ويأتي الإنسان مذكوراً في القرآن يراد به المشرك كما في قوله (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ) هذه مراد بها الإنسان الكافر.
 ويأتي الإنسان بمعنى عموم الناس (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا)، (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) أي كل الناس في خسر (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ).
قال (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ) أيّ ضرّ وهذه من طبيعة الإنسان أنه جزّاع يجزع لأي شيء يصيبه (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا) إذا جاءه خير منع وإذا أصابه شرّ جزع واشتكى وساءت ظنونه بالله ورأى أن الدنيا أظلمت في عينه واسودّ الزمان إلخ.
قال (وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ) أصابه أدنى ضر لم يتوجه إلا إلى الله لأن هذا هو داعي الفطرة ولأنه يعلم أن النفع والضر والخلق والأمر والملك كله بيد الله. (دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ) راجعاً إليه وحده ولم يدعو معه أحداً سواه. قال (ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ) ملّكه نعمة من عنده جلّ وعلا (َنسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ) نسي الذي كان يفرده بالدعاء وبالعبادة في وقت الضراء، من الذي أنجاك من الضراء وخلّصك مما كنت فيه من الشرور والضر؟ إنه الله، لماذا عندما جاءتك النعمة وأصابك الخير كفرت وبطرت وقلت (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)؟ قال (نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) أنظروا هذه هي حال كثير من المشركين عندما يصيبهم الضر (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) هكذا عادتهم ولذلك النبي سأل رجلاً منهم قال كم تعبد؟ قال سبعة، قال وأين هم؟ قال واحد في السماء وستة في الأرض، قال فمن هو الذي جعلت للشدة والضراء واللأواء؟ قال الذي في السماء، قال ألا تجعله لكل شيء؟ اجعله لكل عملك، هؤلاء ما الفائدة منهم؟ تشرك بهم مع الله هم لا يصنعون شيئاً ولا ينفعون في حال الشدة أين عقلك؟! لكن (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ). (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ) هذا الذي كفرت به تمتع به ولكن تمتعك به لن يكون إلا قليلاً بمقدار عيشك في هذه الحياة ولو كانت هذه الحياة تساوي عند الله شيئاً ما متّعك بها لكنها سافلة ودنيّة لا تساوي عند الله جناح بعوضة ولذلك أباح للمشرك والكافر أن يتمتع بها كيف شاء. قال (إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) لو علمت ما أعدّ الله لك لعلمت أن الذي حصلته من المتاع في الدنيا ليس بشيء ، ولاحظوا كيف أنه سماهم أصحاباً للنار والصاحب هو الملازم الذي يلازم صاحبه فهم أصحاب للنار أي سيلازمونها يبقون فيها خالدين مخلدين. ثم قال الله مقارناً بين حال هؤلاء وحال المؤمنين الموحدين الصادقين القانتين العابدين (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) أحال هذا خير أم حال ذاك الذي إذا مسّه ضرٌ دعا ربه منيباً إليه ثم إذا خوّله نعمة منه نسي ما كان يدعو من قبل وجعل لله أنداداً؟! (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ) القنوت : يأتي بمعنى الخشوع والخضوع ويأتي بمعنى طول العبادة كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (أفضل الصلاة طول القنوت) يعني أن يكون الإنسان مطيلاً مديماً للصلاة. (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ) يصحّ أن يجتمع فيها المعنيان يطيل الصلاة ويطيل الخشوع فيها، يخشع فيها ويخضع لله عز وجل.
 (آنَاء اللَّيْلِ) ساعات الليل
 (سَاجِدًا وَقَائِمًا) بدأ بالسجود لأنه أعزّ ولأن العبودية تظهر فيه أكثر ولأنه الذي يأنف منه المشركون فهم لا يرغبون في السجود لما فيه من الذلّ الذي يستكبرون عليه فبدأ بالفعل المحبوب لله "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" .
وإنما يكون فضل القيام بفضل ما فيه من القراءة، فانظروا بأي شيء فضل القيام؟ بالقراءة وبأي شيء فضل السجود؟ بالفعل بالهيئة ، هيئة الساجد أظهر في العبودية وأكمل وأدلّ على الخضوع والذل لكن الذلّ هذا لا يناسب أن يتلى معه القرآن لأن القرآن عالي ورفيع ولذلك "ألا إني نُهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً فأما الركوع فعظّموا فيه الرب وأما السجود فأكثروا من الدعاء فقمِنٌ أن يستجاب لكم" فشرف القيام بشرف المقروء فيه (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا).
 قال (وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) بدأ بالحذر قبل الرجاء لماذا؟
 قال العلماء لأن المطلوب أن يكون الإنسان في حال الحياة والصحة في خوف كثير والخوف مقدّم على الرجاء.
قال العلماء إن الإيمان لا يصح إلا بخوف ورجاء وهما كالجناحين للطائر فمن رجا ولم يخف أمِن من مكر الله ، ومن خاف ولم يرجو قنِط من رحمة الله، فلابد للإنسان لكي ينجو منهما أن يكون راجياً خائفاً لكنه في حال الصحة والأمن يغلب جانب الخوف وفي حال المرض وقرب الوفاة وفي حال الشِّدة يغلب جانب الرجاء. ولذلك قال هنا (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) لأن الحذر هو الذي يدفع الإسنان دفعاً إلى العمل، والرجاء هو الذي يُطمِع الإنسان، يهبّ من نومه ويقوم من ليله خائفاً من النار ثم يتذكر الجنة ويتذكر ما أعد الله للمتقين وما أعد الله للمؤمنين فيطمع ويرتاح ثم إذا وصل إلى منزلة الحبّ حبّ لله يتذكر صفاته وعظمته وعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه استحضر هذا المعنى فإن الإنسان يكون على أكمل ما يكون من أحوال الإنسان لأنه جمع الخوف والرجاء والحب وهذا المثلث هو مثلث الإيمان الصحيح إيمان فيه حب ورجاء وخوف.
 قال (وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) جعل الذين يعلمون هم الذين يعملون، إذاً العلم في القرآن هو العمل، ما في علم في القرآن إلا ومعه عمل ولذلك قال (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) أي هؤلاء القانتين فالعلم الذي لا يُكسبك عملاً ليس علماً، ما ينفعك بشيء، هل نفع إبليس علمه؟ ما نفع إبليس علمه! فكل علم في القرآن هو ما يؤدي إلى العمل ويُكسب الإنسان العمل. ولذلك ذكر الله الجهالة ليس فيمن يجهل الذنب ولكن فيمن يأتي إلى الذنب وهم يعلم.
قال الله -عز وجل- (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) فيعملون بعلمهم فيقومون في الليل وفي ساعات الليل يرجون رحمة ربهم ويخافون عذابه كأولئك الذين يجهلون، لا يعلمون فيشركون مع الله أحداً سواه (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) لا يتعظ ولا يستجيب إلا أصحاب الألباب أي الذين لهم لبّ واللبّ هو العقل سمي لبّاً لأنه خلاصة، لبّ فإذا كنت صاحب لبّ تعود إلى هذا اللبّ فأنت تتذكر ولا بد ، أما إذا كان عقلك لا يكون مرجعاً لك ولا تستجيب لمعادلاته ونتائجه وإنما تستجيب للعادات وللبيئة ولضغط الواقع والمجتمع مثلاً إذا عصوا عصيت وإذا قاموا قمت وإذا قعدوا قعدت وإذا ولغوا في الربا ولغت، أين اللبّ؟ أين عقلك؟ كن صاحب عقل لكي تتذكر وتتعظ بمواعظ الله وعظ بها عباده وعظ بها أنبياءه (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) جعلني الله وإياكم جميعاً منهم.
أسأل الله أن ينفعنا بما سمعنا وأن يجعلنا جميعاً من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

-----------------------------------------------------------
 مصدر التفريغ (بتصرف يسير) :
 http://www.tafsir.net/vb/forum32/thread28329-4.html#ixzz2R4qlr0B1

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق