د. محمد بن عبد العزيز الخضيري
(قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذا هو المجلس الثاني من مجالس تفسير سورة الزمر في هذه الدورة المباركة دورة الأترجة المقامة في جامع شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في حيّ الخليج بمدينة بريدة نسأل الله أن ينفعنا بها.
وقد وصلنا إلى قول الله (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)
هذه الآية يأمر الله فيها نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للمؤمنين من عباد الله اتقوا ربكم أي خافوا عذابه واخشوا عقابه فإن تقوى الله تأتي بمعنى امتثال أوامره واجتناب نواهيه وتأتي أيضاً إذا كانت مع الأمر أو مع فعل الطاعة لترك المناهي كما في قول الله تعالى (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) فالبر بمعنى الطاعة والتقوى بمعنى ترك المعصية ، وأما إذا جاءت التقوى مفردة فالمقصود بها الدين كله.
قال (اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) أي من أحسن في عمله في هذه الدنيا فله عند الله حسنة وهي الجنة والدرجة العالية يوم القيامة.
(وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) هذه كما قال العلماء نزلت فيمن آذاهم قومهم فلم يمكّنوهم من القيام بأوامر الله ولا بطاعة الله جلّ وعلا فقيل لهم أرض الله واسعة لا تضيقوا على أنفسكم فإن الله قد جعل لكم الأرض ذات الطول والعرض من أجل أن تبحثوا عن مكان تأمنون فيه على أنفسكم فتطيعوا الله فيه وتعبدوا الله فيه حقاً. ولذلك من أوذي في بلد فلم يستطع فيه إظهار شعائر الإسلام وجب عليه أن يهاجر منه وإن ترك ذلك فإنه يعتبر ملوماً بل آثماً ومذنباً. (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً) فهذا من كبائر الذنوب أن يبقى الإنسان في أرض لا يستطيع أن يقيم شعائر الله وهو قادر على أن يهاجر. ثم استثنى الله من هؤلاء فقال (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً *فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ) فانظر كيف عذر الله هؤلاء وجاء بقوله (فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ) ليبين أن الأمر شديد والخطب كبير.
قال (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) هذه فيها مدح للصابرين الذين صبروا على طاعة الله وصبروا على مفارقة الأهل والأوطان فإن الله يوفيهم أجورهم بغير حساب أي جزاءً لا منتهى له ولا حدّ. قيل إن الله يعطيهم أجورهم ثم يعطيهم من وراء ذلك جزاءً بغير عد ولا حد، وقيل جزاؤهم عند الله بغير حساب أي لا يقابله عمل من هؤلاء الصابرين ليس مثل مثلاً المصلي أو المزكي الحسنة بعشر أمثالها بل إن الصابر يعطى عطاء من عند الله لا حد له ولا يعرفه المُعطَى .
قال الله -عز وجل- (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ) عادت إلى القضية الأولى التى افتتحت بها السورة وهي إخلاص الدين لله (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ) وهنا يعود مرة ثانية إلى هذه القضية وهي إخلاص الدين لله وهذه السورة كما ذكرنا هي سورة من سور الإخلاص مثل سورة فاطر وتبارك والصمد والكافرون والرعد ونحوها من السور التي أُفردت للحديث عن توحيد الله وعدم الإشراك به وإخلاص الدين له .
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ) أمرني الله (أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ) أن أعبده بإخلاص فلا أزيغ ولا أميل عن ذلك الصرط السوي وهو صراط التوحيد. (وَأُمِرْتُ) أيضا (لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أكون أول من يُسلم لله ويستسلم له وينقاد له بالتوحيد ويخضع له بالطاعة وقد كان النبي أول المسلمين من هذه الأمة.
(قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هذا يقوله الله -عز وجل- لنبيه في حق محمد إن عصيت فأنا لست ناجياً من العذاب لأن الله -عز وجل- ما دام قد أمرني فأنا عبده ويجب عليّ أن أنفذ أمره فإذا عصيت استحققت هذه العبودية - وحاشاه عليه الصلاة والسلام من أن يعصي ربه- لكن هذا يُقال ليُخوّف به العباد فإذا كان هذا في حق محمد عليه الصلاة والسلام ففي غيره من باب أولى وسيأتينا في آخر السورة (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ* بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ) وهذا يؤكد هذه المعاني وأن السورة تدور حولها.
(قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي) أيضاً رجع مرة أخرى وأكد على قضية الإخلاص ولكن في المرة الأولى كان يحكى أنه أُمر وفي هذه المرة يحكي أنه يفعل فهو يقول أنا أُمرت بالإخلاص وأنا الآن أُخلص ، وأنا الآن مستقيم على هذا الإخلاص لا أزيغ عنه ولا أميل عنه (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي).
ثم قال للمشركين هذه هي طريقتي أما أنتم اعبدوا ما شئتم من دونه (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ) وليس المقصود من هذا التخيير أو الإباحة بل المقصود من هذا التهديد كما قال الله (َقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) يستدل بعض الليبراليين بهذه الآية على أن الإسلام لا يأمر الناس بدين واحد بل هو يبيح الإسلام وغير الإسلام ليس هناك مشكلة، وأن الإسلام فيه حرية التدين تريد أن تكون مسلماً ، تكفر ، ترتد كل هذا مباح، نقول سبحان الله ما فهم هذا مسلم قطّ لأن الله قال (َقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ) إذن هناك حق وهناك باطل (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر) إذا ليس تخييراً للعباد وإنما تهديد لهم بدليل قوله بعدها (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً) وهكذا هنا (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ) اعبدوا أي آلهة ستعلمون أنكم إذا عبدتموها فإنكم خاسرون خساراً عظيماً وأنكم هالكون ، قال الله (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) من هو الخاسر؟ ليس الذي خسر مالاً أو متاعاً أو جاهاً أو مزرعة أو منصباً أو شيئاً من متاع الدنيا، الخاسر الحقيقى الذي خسر نفسه أولاً وخسر أهله يوم القيامة فإما أن يكون خسارته لنفسه وأهله أن يكون هو في النار ويكونون في الجنة أو يكون هو في النار وهم في النار فهذه خسارة وتلك خسارة. (خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) يعنى كل ما يسميه العباد خسراناً وخسارة فهي خسارة لا تُذكر أمام هذه الخسارة العظيمة وهى أن يخسر الإنسان نفسه. ولذلك إذا رأيت إنساناً قد خسر مالاً أو خسر منصباً أو خسر شيئاً من متاع الدنيا قل له (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) ليست الخسارة أن يضيع منك شيء من متاع الدنيا أو أن تفقد شيئاً من مناصبها أو ملذاتها أو متاعها أو شهواتها، الخسارة الحقيقية أن تخسر نفسك فتكون في نار جهنم فتذهب عليك هذه النفس التي هي أثمن الأشياء.
/ قال الله -عز وجل- (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) انظر كيف تصوير العذاب بصورة شيء يُرجى منه خير وذلك لكمال الاستهزاء والسخرية بهم لأن العادة أن الظلة تكون للشيء المريح الرطب اللين البارد ولكن الله -عز وجل- يقول لهم ظلل لا تُظلهم من العذاب ولكنها من النار مثل ما يقول (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) العادة أن البشارة تكون بما يسر ولكن يقول بشرهم على سبيل التهكم والتحقير لهم، وهنا يقول (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) فهذه النار تحيط بهم من كل جانب كما قال في سورة الأعراف (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) فمن جهنم يُمهد لهم ويُفرش لهم ومن جهنم يُغطون ويُغشون -نسأل الله العفو والسلامة- يعني العذاب يحيط بهم من كل جانب لا يأتيهم من جانب واحد كما هو حال العذاب في الدنيا يأتي من تحت أو من الظهر أو من الأمام لا، هذا من كل مكان نسأل الله السلامة.
(ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) فمن كان عنده قلب يخاف به فإنه يخشى مثل هذه العقوبة ويخاف ويستجيب لأمر الله ويذعن له، (يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ) ينادي الله العباد ياعبادي فاتقون واخشوا عذابي ولاحظوا أن كلمة التقوى ترد كثيراً في القرآن مع الأشياء المخوِّفة.
قال الله -عز وجل- (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى) لما ذكر الخاسرين ناسب أن يذكر بعدهم المؤمنين على طريقة القرآن -كما سيأتي معنا بعد قليل- في قضية المثاني وهو أنه إذا ذُكر أصحاب النار ذُكر أصحاب الجنة، وإذا ذُكرت المرغبات ذُكر بعدها المرهبات ،وإذا ذُكر المؤمنون ذُكر الكافرون ، وإذا ذُكر الهالكون ذُكر الناجون هكذا على طريقة القرآن ليستقيم الحال.
قال الله -عز وجل- (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) أي ابتعدوا عنها فصارت في شق وهم في شق جانبوها وابتعدوا عنها صارت أجنبية عنهم. والطاغوت اسمٌ لكل ما يُعبد من دون الله اجتنبوا الشرك كله ، واجتنبوا الشيطان الذي يُعبد من دون الله ، واجتنبوا كل معظّم أو متبوع سوى ما أمرهم الله باتباعه وطاعته.
(وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ) أسلموا أمرهم إلى الله ورجعوا إليه وحده دون أحد سواه (لَهُمُ الْبُشْرَى) فالبشرى إنما تكون لأمثال هؤلاء الذين حققوا أمرين تركوا الشرك وابتعدوا عنه وأنابوا إلى الله وحده ورغبوا إليه كما قال -جل وعلا- (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) فرغبتهم إلى الله وإنابتهم إليه وتوكلهم عليه وإسلامهم له وخضوعهم لجنابه .
قال (فَبَشِّرْ عِبَادِ) نسبهم إليه تعظيماً وإجلالاً وإكراماً لقدرهم بشرهم بماذا؟ البشارة لا تكون إلا بما يسر، قال (فَبَشِّرْ عِبَادِ) من هم عبادك يا الله؟ قال (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)
(يستعمون القول) قيل القول هو القرآن كما قال (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أفلم يدبروا القرآن وهذا لا إشكال فيه ، يستمعون القرآن، لكن يأتي الإشكال في قوله (َفَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) فهل في القرآن أحسن وما هو ليس بأحسن؟
نقول إما أن تكون (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) بمعنى حسنه وهذا سائغ عند العرب أن يستعملوا صيغة أفضل فيما هو فاضل فيكون(فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) فيتبعون الحسن.
وقال بعضهم إنها زائدة والقول بالزيادة هنا لا معنى له.
وقال بعضهم(فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) إذا أمر الله بأمر وأمر بما هو أحسن منه اتبعوا الأحسن يعني من شدة توقِّيهم ورغبتهم فيما عند الله إذا أمر الله بأمرين أحدهما أحسن من الآخر أخذوا بالأحسن طلباً لحُسن المعاملة مع الله فإذا قال الله (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) لا يأخذوا بأن يُجازوا بل يأخذوا بأن يعفون .
وإذ أمر الله -عز وجل- بالفريضة أو الفريضة والنافلة أخذوا بالفريضة والنافلة (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ) يقتصر على الفرائض (وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) يأتي بالنوافل مع الفرائض ويزداد بها قربى من الله، قالوا فهذا هو الأحسن.هذا إذا قلنا القول هو القرآن.
وإذا قلنا إن القول عام يستمعون القول ما يتحدث به الناس وما يتكلمون به فيتبعون أحسن ما يتحدث به الناس فلا إشكال هنا في كلمة أحسن، فإنهم يجلسون مع الناس فإذا سمعوا منهم كلاماً أخذوا أحسن ما يسمعونه من الناس مما فيه أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر أو قُرب من الله أو دلالة على الخير أو زيادة في البر أو إمعان في الإحسان أو غير ذلك.
/ قال الله -عز وجل- (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ) هؤلاء هم الذين هداهم الله ولذلك من اتبع القرآن فهو المهديّ حقاً ، ومن كان أيضاً حاله مع الناس إذا جالسهم كلما سمع منهم كلاما انتقى أحسن ما يسمعه منهم فعمل به واتبعه ، ولاحظ هنا يستمعون القول فيتبعون ، لم يقل يستمعون أحسن القول، لا، فالقرآن أحسن القول بلا شك. لكن الاتباع يكون لأحسن ما يُتبع منه ولأحسن ما يُتبع من كلام الناس فأنت تسمع من يقول المفروض الفقير تعطيه ريال والثانى يقول أنا ولله الحمد والمنّة كلما جاءني رزق قسمته أثلاثاً ثلثه لله وثلثه لي ولأولادي وثلثه أردّه في ذاك المال هذا فرق عن ذاك، هذا قال أعطي أقل القليل لئلا أخسر والآخر قال كل ما دخل علي مال قسمته أثلاثاً ثلثه لله قليلاً كان أو كثيراً فأنا أسمع هذا يتكلم وهذا يتكلم فآخذ بكلام هذا وأدع كلام هذا (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ) بهذا تُعرف هداية الله (وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) أصحاب العقول النيّرة لأنهم عملوا بأحسن ما يكون وبأفضل ما يكون.
قال الله -عز وجل- (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ) يعني أهؤلاء خيرٌ أمن حق عليه كلمة العذاب؟ كلمة العذاب التي قال الله فيها في سورة ص (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) هذه كلمة العذاب، أفأنت يا محمد تنقذ من في النار؟ لا تستطيع ذلك ولن تقدر عليه ولم يكلفك الله إياه إنما كلفك أن تنذر.
قال الله -عز وجل- (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أما المتقون (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) لهم عند الله -عز وجل- (غُرَفٌ) أي بيوت مبنية جميلة ورائعة (مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ) لبِنَة من ذهب ولبِنَة من فضة على أحسن بناء وأجمله.
(تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) الأنهار تسيل من تحت هذه الغرف وهذا شيء لا نكاد نحن نراه أو نتصوره لأن العادة عندنا أن الأنهار لها مجاري خاصة صحيح أننا نضع بيوتنا بجوار تلك الأنهار ونستلذ بذلك عندما نرى الأنهار تجري أمامنا في أخاديد، أما في الجنة فيقال إنه لا أخاديد فيها الأنهار تجري من فوق وهذا شيء غير متصور لدينا كيف يكون النهر من فوق؟! وكيف تكون الأنهار من تحت البيوت ومن تحت الناس؟! ينزل الإنسان ويغرف من نهر تحت قدميه فيه لبن وعسل وماء غير آسن وخمر من أنواع منوعة ليس فيها شيء من الأذى ولا النزف ولا ما يكون في خمر الدنيا من اغتيال العقول ونزف البطون.
قال الله -عز وجل- (وَعْدَ اللَّهِ) انتبه هذا وعد الله والله -سبحانه وتعالى لا يُخلف الميعاد (لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) إذا وعد وعداً لا يخلفه، نسأل الله الكريم من فضله.
--------------------------
مصدر التفريغ (بتصرف) :
http://www.tafsir.net/vb/forum32/thread28329-4.html#ixzz2R5JBgPJn
(قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذا هو المجلس الثاني من مجالس تفسير سورة الزمر في هذه الدورة المباركة دورة الأترجة المقامة في جامع شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في حيّ الخليج بمدينة بريدة نسأل الله أن ينفعنا بها.
وقد وصلنا إلى قول الله (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)
هذه الآية يأمر الله فيها نبيه محمداً -صلى الله عليه وسلم- أن يقول للمؤمنين من عباد الله اتقوا ربكم أي خافوا عذابه واخشوا عقابه فإن تقوى الله تأتي بمعنى امتثال أوامره واجتناب نواهيه وتأتي أيضاً إذا كانت مع الأمر أو مع فعل الطاعة لترك المناهي كما في قول الله تعالى (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) فالبر بمعنى الطاعة والتقوى بمعنى ترك المعصية ، وأما إذا جاءت التقوى مفردة فالمقصود بها الدين كله.
قال (اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ) أي من أحسن في عمله في هذه الدنيا فله عند الله حسنة وهي الجنة والدرجة العالية يوم القيامة.
(وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ) هذه كما قال العلماء نزلت فيمن آذاهم قومهم فلم يمكّنوهم من القيام بأوامر الله ولا بطاعة الله جلّ وعلا فقيل لهم أرض الله واسعة لا تضيقوا على أنفسكم فإن الله قد جعل لكم الأرض ذات الطول والعرض من أجل أن تبحثوا عن مكان تأمنون فيه على أنفسكم فتطيعوا الله فيه وتعبدوا الله فيه حقاً. ولذلك من أوذي في بلد فلم يستطع فيه إظهار شعائر الإسلام وجب عليه أن يهاجر منه وإن ترك ذلك فإنه يعتبر ملوماً بل آثماً ومذنباً. (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً) فهذا من كبائر الذنوب أن يبقى الإنسان في أرض لا يستطيع أن يقيم شعائر الله وهو قادر على أن يهاجر. ثم استثنى الله من هؤلاء فقال (إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً *فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ) فانظر كيف عذر الله هؤلاء وجاء بقوله (فَأُوْلَـئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ) ليبين أن الأمر شديد والخطب كبير.
قال (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) هذه فيها مدح للصابرين الذين صبروا على طاعة الله وصبروا على مفارقة الأهل والأوطان فإن الله يوفيهم أجورهم بغير حساب أي جزاءً لا منتهى له ولا حدّ. قيل إن الله يعطيهم أجورهم ثم يعطيهم من وراء ذلك جزاءً بغير عد ولا حد، وقيل جزاؤهم عند الله بغير حساب أي لا يقابله عمل من هؤلاء الصابرين ليس مثل مثلاً المصلي أو المزكي الحسنة بعشر أمثالها بل إن الصابر يعطى عطاء من عند الله لا حد له ولا يعرفه المُعطَى .
قال الله -عز وجل- (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ) عادت إلى القضية الأولى التى افتتحت بها السورة وهي إخلاص الدين لله (تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ) وهنا يعود مرة ثانية إلى هذه القضية وهي إخلاص الدين لله وهذه السورة كما ذكرنا هي سورة من سور الإخلاص مثل سورة فاطر وتبارك والصمد والكافرون والرعد ونحوها من السور التي أُفردت للحديث عن توحيد الله وعدم الإشراك به وإخلاص الدين له .
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ) أمرني الله (أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَّهُ الدِّينَ) أن أعبده بإخلاص فلا أزيغ ولا أميل عن ذلك الصرط السوي وهو صراط التوحيد. (وَأُمِرْتُ) أيضا (لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ) أكون أول من يُسلم لله ويستسلم له وينقاد له بالتوحيد ويخضع له بالطاعة وقد كان النبي أول المسلمين من هذه الأمة.
(قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) هذا يقوله الله -عز وجل- لنبيه في حق محمد إن عصيت فأنا لست ناجياً من العذاب لأن الله -عز وجل- ما دام قد أمرني فأنا عبده ويجب عليّ أن أنفذ أمره فإذا عصيت استحققت هذه العبودية - وحاشاه عليه الصلاة والسلام من أن يعصي ربه- لكن هذا يُقال ليُخوّف به العباد فإذا كان هذا في حق محمد عليه الصلاة والسلام ففي غيره من باب أولى وسيأتينا في آخر السورة (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ* بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ) وهذا يؤكد هذه المعاني وأن السورة تدور حولها.
(قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي) أيضاً رجع مرة أخرى وأكد على قضية الإخلاص ولكن في المرة الأولى كان يحكى أنه أُمر وفي هذه المرة يحكي أنه يفعل فهو يقول أنا أُمرت بالإخلاص وأنا الآن أُخلص ، وأنا الآن مستقيم على هذا الإخلاص لا أزيغ عنه ولا أميل عنه (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي).
ثم قال للمشركين هذه هي طريقتي أما أنتم اعبدوا ما شئتم من دونه (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ) وليس المقصود من هذا التخيير أو الإباحة بل المقصود من هذا التهديد كما قال الله (َقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) يستدل بعض الليبراليين بهذه الآية على أن الإسلام لا يأمر الناس بدين واحد بل هو يبيح الإسلام وغير الإسلام ليس هناك مشكلة، وأن الإسلام فيه حرية التدين تريد أن تكون مسلماً ، تكفر ، ترتد كل هذا مباح، نقول سبحان الله ما فهم هذا مسلم قطّ لأن الله قال (َقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ) إذن هناك حق وهناك باطل (فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر) إذا ليس تخييراً للعباد وإنما تهديد لهم بدليل قوله بعدها (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً) وهكذا هنا (فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ) اعبدوا أي آلهة ستعلمون أنكم إذا عبدتموها فإنكم خاسرون خساراً عظيماً وأنكم هالكون ، قال الله (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) من هو الخاسر؟ ليس الذي خسر مالاً أو متاعاً أو جاهاً أو مزرعة أو منصباً أو شيئاً من متاع الدنيا، الخاسر الحقيقى الذي خسر نفسه أولاً وخسر أهله يوم القيامة فإما أن يكون خسارته لنفسه وأهله أن يكون هو في النار ويكونون في الجنة أو يكون هو في النار وهم في النار فهذه خسارة وتلك خسارة. (خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) يعنى كل ما يسميه العباد خسراناً وخسارة فهي خسارة لا تُذكر أمام هذه الخسارة العظيمة وهى أن يخسر الإنسان نفسه. ولذلك إذا رأيت إنساناً قد خسر مالاً أو خسر منصباً أو خسر شيئاً من متاع الدنيا قل له (إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) ليست الخسارة أن يضيع منك شيء من متاع الدنيا أو أن تفقد شيئاً من مناصبها أو ملذاتها أو متاعها أو شهواتها، الخسارة الحقيقية أن تخسر نفسك فتكون في نار جهنم فتذهب عليك هذه النفس التي هي أثمن الأشياء.
/ قال الله -عز وجل- (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) انظر كيف تصوير العذاب بصورة شيء يُرجى منه خير وذلك لكمال الاستهزاء والسخرية بهم لأن العادة أن الظلة تكون للشيء المريح الرطب اللين البارد ولكن الله -عز وجل- يقول لهم ظلل لا تُظلهم من العذاب ولكنها من النار مثل ما يقول (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) العادة أن البشارة تكون بما يسر ولكن يقول بشرهم على سبيل التهكم والتحقير لهم، وهنا يقول (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) فهذه النار تحيط بهم من كل جانب كما قال في سورة الأعراف (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) فمن جهنم يُمهد لهم ويُفرش لهم ومن جهنم يُغطون ويُغشون -نسأل الله العفو والسلامة- يعني العذاب يحيط بهم من كل جانب لا يأتيهم من جانب واحد كما هو حال العذاب في الدنيا يأتي من تحت أو من الظهر أو من الأمام لا، هذا من كل مكان نسأل الله السلامة.
(ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) فمن كان عنده قلب يخاف به فإنه يخشى مثل هذه العقوبة ويخاف ويستجيب لأمر الله ويذعن له، (يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ) ينادي الله العباد ياعبادي فاتقون واخشوا عذابي ولاحظوا أن كلمة التقوى ترد كثيراً في القرآن مع الأشياء المخوِّفة.
قال الله -عز وجل- (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى) لما ذكر الخاسرين ناسب أن يذكر بعدهم المؤمنين على طريقة القرآن -كما سيأتي معنا بعد قليل- في قضية المثاني وهو أنه إذا ذُكر أصحاب النار ذُكر أصحاب الجنة، وإذا ذُكرت المرغبات ذُكر بعدها المرهبات ،وإذا ذُكر المؤمنون ذُكر الكافرون ، وإذا ذُكر الهالكون ذُكر الناجون هكذا على طريقة القرآن ليستقيم الحال.
قال الله -عز وجل- (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ) أي ابتعدوا عنها فصارت في شق وهم في شق جانبوها وابتعدوا عنها صارت أجنبية عنهم. والطاغوت اسمٌ لكل ما يُعبد من دون الله اجتنبوا الشرك كله ، واجتنبوا الشيطان الذي يُعبد من دون الله ، واجتنبوا كل معظّم أو متبوع سوى ما أمرهم الله باتباعه وطاعته.
(وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ) أسلموا أمرهم إلى الله ورجعوا إليه وحده دون أحد سواه (لَهُمُ الْبُشْرَى) فالبشرى إنما تكون لأمثال هؤلاء الذين حققوا أمرين تركوا الشرك وابتعدوا عنه وأنابوا إلى الله وحده ورغبوا إليه كما قال -جل وعلا- (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ) فرغبتهم إلى الله وإنابتهم إليه وتوكلهم عليه وإسلامهم له وخضوعهم لجنابه .
قال (فَبَشِّرْ عِبَادِ) نسبهم إليه تعظيماً وإجلالاً وإكراماً لقدرهم بشرهم بماذا؟ البشارة لا تكون إلا بما يسر، قال (فَبَشِّرْ عِبَادِ) من هم عبادك يا الله؟ قال (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)
(يستعمون القول) قيل القول هو القرآن كما قال (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) أفلم يدبروا القرآن وهذا لا إشكال فيه ، يستمعون القرآن، لكن يأتي الإشكال في قوله (َفَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) فهل في القرآن أحسن وما هو ليس بأحسن؟
نقول إما أن تكون (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) بمعنى حسنه وهذا سائغ عند العرب أن يستعملوا صيغة أفضل فيما هو فاضل فيكون(فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) فيتبعون الحسن.
وقال بعضهم إنها زائدة والقول بالزيادة هنا لا معنى له.
وقال بعضهم(فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) إذا أمر الله بأمر وأمر بما هو أحسن منه اتبعوا الأحسن يعني من شدة توقِّيهم ورغبتهم فيما عند الله إذا أمر الله بأمرين أحدهما أحسن من الآخر أخذوا بالأحسن طلباً لحُسن المعاملة مع الله فإذا قال الله (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) لا يأخذوا بأن يُجازوا بل يأخذوا بأن يعفون .
وإذ أمر الله -عز وجل- بالفريضة أو الفريضة والنافلة أخذوا بالفريضة والنافلة (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ) يقتصر على الفرائض (وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) يأتي بالنوافل مع الفرائض ويزداد بها قربى من الله، قالوا فهذا هو الأحسن.هذا إذا قلنا القول هو القرآن.
وإذا قلنا إن القول عام يستمعون القول ما يتحدث به الناس وما يتكلمون به فيتبعون أحسن ما يتحدث به الناس فلا إشكال هنا في كلمة أحسن، فإنهم يجلسون مع الناس فإذا سمعوا منهم كلاماً أخذوا أحسن ما يسمعونه من الناس مما فيه أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر أو قُرب من الله أو دلالة على الخير أو زيادة في البر أو إمعان في الإحسان أو غير ذلك.
/ قال الله -عز وجل- (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ) هؤلاء هم الذين هداهم الله ولذلك من اتبع القرآن فهو المهديّ حقاً ، ومن كان أيضاً حاله مع الناس إذا جالسهم كلما سمع منهم كلاما انتقى أحسن ما يسمعه منهم فعمل به واتبعه ، ولاحظ هنا يستمعون القول فيتبعون ، لم يقل يستمعون أحسن القول، لا، فالقرآن أحسن القول بلا شك. لكن الاتباع يكون لأحسن ما يُتبع منه ولأحسن ما يُتبع من كلام الناس فأنت تسمع من يقول المفروض الفقير تعطيه ريال والثانى يقول أنا ولله الحمد والمنّة كلما جاءني رزق قسمته أثلاثاً ثلثه لله وثلثه لي ولأولادي وثلثه أردّه في ذاك المال هذا فرق عن ذاك، هذا قال أعطي أقل القليل لئلا أخسر والآخر قال كل ما دخل علي مال قسمته أثلاثاً ثلثه لله قليلاً كان أو كثيراً فأنا أسمع هذا يتكلم وهذا يتكلم فآخذ بكلام هذا وأدع كلام هذا (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ).
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ) بهذا تُعرف هداية الله (وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) أصحاب العقول النيّرة لأنهم عملوا بأحسن ما يكون وبأفضل ما يكون.
قال الله -عز وجل- (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ) يعني أهؤلاء خيرٌ أمن حق عليه كلمة العذاب؟ كلمة العذاب التي قال الله فيها في سورة ص (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) هذه كلمة العذاب، أفأنت يا محمد تنقذ من في النار؟ لا تستطيع ذلك ولن تقدر عليه ولم يكلفك الله إياه إنما كلفك أن تنذر.
قال الله -عز وجل- (لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) أما المتقون (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) لهم عند الله -عز وجل- (غُرَفٌ) أي بيوت مبنية جميلة ورائعة (مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ) لبِنَة من ذهب ولبِنَة من فضة على أحسن بناء وأجمله.
(تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) الأنهار تسيل من تحت هذه الغرف وهذا شيء لا نكاد نحن نراه أو نتصوره لأن العادة عندنا أن الأنهار لها مجاري خاصة صحيح أننا نضع بيوتنا بجوار تلك الأنهار ونستلذ بذلك عندما نرى الأنهار تجري أمامنا في أخاديد، أما في الجنة فيقال إنه لا أخاديد فيها الأنهار تجري من فوق وهذا شيء غير متصور لدينا كيف يكون النهر من فوق؟! وكيف تكون الأنهار من تحت البيوت ومن تحت الناس؟! ينزل الإنسان ويغرف من نهر تحت قدميه فيه لبن وعسل وماء غير آسن وخمر من أنواع منوعة ليس فيها شيء من الأذى ولا النزف ولا ما يكون في خمر الدنيا من اغتيال العقول ونزف البطون.
قال الله -عز وجل- (وَعْدَ اللَّهِ) انتبه هذا وعد الله والله -سبحانه وتعالى لا يُخلف الميعاد (لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) إذا وعد وعداً لا يخلفه، نسأل الله الكريم من فضله.
/ ثم عادت الآيات لتذكر بقدرة الرب (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ) هذا الماء الذي نجده في الأرض كله من السماء لكن الله سبحانه وتعالى بقدرته قد جعل له مجاري في الأرض فسلكه فيها فهو يجري فيها ولذلك ينزل المطر من السماءعلى الأرض فتحفر هنا فلا تجد ماء ثم تحفر على بعد مئة متر فتجد ماء لأنها ينابيع في الأرض قد جعلها الله -عز وجل- وقسمها بحكمته وفضله ورحمته.
وأذكر مرة شاهدت هنا في القصيم رجلاً حفر بئراً ارتوازياً في مكان فخرج ماء أحمر وفيه ملوحة ثم قال المهندس احفروا في المكان الفلاني لا يبعد عن هذا المكان أكثر من 50 مترا أو100 متر ورأيتهم يحفرون فخرج الماء مختلفاً تماماً ماء صافي وعذب فتعجبت أليس الماء الذي تحتنا كله شيء واحد؟ قالوا لا، الماء في الأرض ينابيع ومجاري وأودية تحفر هنا ما تجد شيئاً وتحفر بعده بأمتار قليلة فتجد عيناً معيناً.
وانظر إلى ماء زمزم، زمزم تخرج من مكان قاحل جاف ينزل عليه المطر مرتين أو ثلاثة في العام فمن أين يأتي هذا الماء؟ ينابيع في الأرض قد جعلها الله وأمدّها برزق من عنده.
قال (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ) أي بهذا الماء يخرج زرعاً هذا الزرع مختلف ألوانه منه الأصفر والأخضر والأحمر، ومختلف طعومه وأشكاله، (ثُمَّ يَهِيجُ) أي ييبس (فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا) من يبسه، من شدة اليبس قد اصفرّ (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا) يتحطم ويتكسر فيبيد وينتهي ثم تذروه الرياح (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ من مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً) هذا يأتي الله به ليدلل على قدرته وأنه المستحق بأن يُعبد وحده دون أحد سواه .
وأيضاً ليبين أن الإنسان يمر بمثل هذه المراحل التي يمر بها الزرع فهو ينشأ قوياً ويخضر ثم يبدأ في الكهولة ثم الشيخوخة حتى ييبس ثم يموت ويتحطم.
وأيضاَ يضربه الله -عز وجل- مثلاً في كون هذه القلوب التي فينا إذا نزل عليها الوحي من السماء حييت وإذا غاب عنها ماتت ولذلك قال بعدها (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ) يتذكر بمثل هذه الآيات أولو الألباب ويأخذون منها العظات والعبر. اسمع ماذا قال بعدها (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) فالذي شرح الله صدره للإسلام فصار على نور لا يمكن أن يستوي مع من قسا قلبه فلم يستمد النور ولم يستمد الوحي من السماء، إن بينهما فرقاً كبيراً ، وبوناً شاسعاً فالمؤمن شرح الله صدره -وسّعه- ولذلك يجد المؤمن من انشراح الصدر وطيب النفس ما لو خسر معه الدنيا كلها لم يبالي بها! ولذلك تجد المؤمن يفقد الولد والمال ويذهب منه كل شيء من متاع الدنيا لكنه يجد في صدره انشراحاً لا يمكن أن يصفه ولا يستطيع أن يشرحه لأحد ويقول ما دمت على ما أنا فيه من انشراح الصدر الذي أنزله الله -عز وجل- علي ومنحنى إياه فأنا بخير، أما الكافر فتجده في سعة من الرزق وفي بسطة من الدنيا وفي شهوات مترعة ولذات وحُبور مختلف ومع ذلك في ضيق لا يعلمه إلا الله.
قال الله -عز وجل- (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ) إن الذي يشرح القلوب ويشرح الصدور ويليّنها هو ذكر الله عز وجل، فمتى قرُبنا من هذا الذكر وهو القرآن شرح الله صدورنا ونوّرها ولذلك قال الله في سورة الأنعام (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) فالقرآن نور يستنير به الإنسان يعرف من هو ويعرف من ربه ، ويعرف ما هي الآخرة وما هو مقبلٌ عليه ، وماذا يجب عليه في الدنيا ، ولماذا يبتليه الله ، ولماذا خلقه ولماذا يُميته ، وماذا يُفعل به في قبره وماذا يُفعل به يوم القيامة ، وإلى أي دار سيصير ، وإلى ماذا سيكون حال الناس يوم القيامة ، وما هي أقسام الناس في الدنيا؟ كلها هذه نور من الله. الكافر تجده يعرف دقائق عالم الذرة ويعرف العين هذه ويفني عمره في معرفة تشريحها وما فيها من قدرة الله عز وجل ولكنه لا يدري لماذا خلقه الله ولا يدري من أين جاء ولا إلى أين هو ذاهب، نحمد الله على هذا النور.
قال (َفوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ) ويل لمن قست قلوبهم لإعراضهم عن ذكر الله -عز وجل- وعدم رغبتهم في هذا النور وهذا الوحي.
قال الله -عز وجل- (أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) هذا هو الضلال البيِّن الذي ليس بعده ضلال.
ولاحظوا قبل قليل قال (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) هذا هو الخسران المبين أن تخسر نفسك وهذا هو الضلال المبين أن تضل عن ذكر الله ، ومن ضلّ الضلال المبين فإنه سيخسر الخسار المبين.
قال الله -عز وجل- (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً) لما ذكر النور في الآية السابقة وذكر الذكر بيّن ماذا أنزل من السماء قال (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) فهذا القرآن هو أحسن الحديث وهذه الآية -في نظري- تُرجح قول من قال(فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي يتبعون القرآن لأن الله وصف القرآن كله بأنه أحسن فقال (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) أحسن ما يتحدث به الخلق.
(كِتَاباً مُّتَشَابِهاً) أي يشبه بعضه بعضاً في الجودة والإحكام وأيضا في المعاني ليس متناقضاً بل هو متشابه في معانيه وفي مبانيه ولذلك تقرأ في البقرة وتقرأ في مريم وتقرأ في سورة الصافات الألفاظ والآيات ترى أن فيها اختلاف في طريقة عرضها وسياقها وجملها لكنك تعلم أن هذا قرآن، وهذا قرآن، وهذا قرآن، لأنه يشبه بعضه بعضاً.
قال (كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ) أي تُثنى فيه الأوامر أمر بعد أمر والنواهي نهي بعد نهي والأمر يعقبه النهي ، تُؤمر بالتوحيد وتُنهى عن الشرك ، وتُؤمر بالمعروف وتُنهى عن المنكر، وأيضاً تثنى فيه القصص تُذكر فيه قصة نوح مختصرة ثم مبسوطة في زاوية من زواياها ثم مبسوطة في جانب آخر في زاوية أخرى من زواياها ، وهكذا قصة موسى تتردد يُثنى فيه القصة بعد القصة لكي يتعظ الناس بها وينتفعوا بها.
قال ( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) هذا هو حال المؤمنين عند سماعهم لكلام الله لا يُصرعون ولا يغمى عليهم ولا يرتعدون ارتعاداً يخرج بهم عن الحدّ الذى وصف الله به عباده المؤمنين (تفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) ، (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) ، (َتقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) تصيبهم القشعريرة ، القشعريرة هي شيء من نفور الجلد واجتماعه يُحسّ به كل إنسان ، عندما تسمع صوتاً شديداً ومهيباً يقشعر جلدك هذه القشعريرة سببها الهيبة، هيبة الرب سبحانه وهيبة كلامه. ثم إذا قرأوا هذا الكلام ورأوا ما فيه من النور والترغيب واللذة وما فيه من مناجاة الله لانت الجلود والقلوب ، فهم لروعة الكلام تقشعر جلودهم واقشعرار الجلود بسبب الخشية ولذلك قال (َتقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) فعندنا قشعريرة في الجلد وخشية في القلب.
قال (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ) ذكر في الحالة الأولى الجلود والقلوب وذكر في الحالة الثانية الجلود والقلوب، وهذا مثل الطفل عندما يكون قد خرج وخشيت عليه أمه من أن يقع تصرخ فيه فهذا الصراخ يروّعه فيتجه الطفل إلى أمه إلى الذى صرخ فيه فكذلك الإنسان عندما يسمع القرآن تصيبه الهيبة هيبة الرب وهيبة كلامه الله يناجيني ويناديني فهو من خشيتة الله يقشعر جلده ثم إذا تلا هذا القرآن اطمأن فلان جلده ولان قلبه.
قال الله -عز وجل- (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) فلا تلين القلوب والجلود إلا بذكر الله ومن أراد أن يُلين قلبه فلن يجد أعظم ولا أجمل ولا أيسر من ذكر الله وهو القرآن قال (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء) فنسأل الله أن نكون ممن هداهم إلى كتابه وذكره. (وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) من أضله الله فلن يجد أحدا يهديه، فنسأل الله أن يهدينا ونسأل الله أن يجنبنا الضلالة.
ثم قال الله -عز وجل- (أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يعني : أحال هؤلاء الذين لانت جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله كحال أولئك الذين أعرضوا فعوقبوا بسبب إعراضهم أنهم يتقون النار بوجوهم لا يجدون شيئاً يتقون به النار إلا وجوههم!
تأملوا : العادة أن الإنسان إذا جاءه شيء يخاف منه أول شيء يبدأ به أنه يضع شيئاً يحجز ذلك الشيء عن وجهه لعظمة الوجه في نفس الإنسان ولأن الوجه شيء كبير عند الإنسان ففي يوم القيامة لا يجد الكفار شيئاً يتقون به النار إلا وجوههم! هذا الشيء الذي يقونه من أنواع العذاب في الدنيا هو الشيء الذي يكون أول ما يلقى النار ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل "وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" لأن أيديهم تسلسل فهو لا يتقي النار إلا بوجهه نسأل الله العافية والسلامة. (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ) أي كل من ظلم نفسه فأعرض عن ذكر الله وقسى قلبه يقال له ذق الذي كنت تكسبه، هذا عملك لم نظلمك شيئاً ولم نحسب عليك شيئاً لم تعمله.
/ (كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) أي هذه العادة وهي عادة التكذيب قد صارت فيمن قبلكم فلم يتركهم الله بل أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، جاءهم من حيث لا يتوقعونه ولا يقدرونه ، أتاهم العذاب من حيث لا يتوقعون ولا يحتسبون .
ولذلك لا ينبغي للإنسان أبداً أن يأمن مكر الله ، أن تظن أنك تنجو من عذاب الله أو أنك بمنأى من عذاب الله إياك والأمن من مكر الله! ولذلك المؤمن مع إيمانه وتقواه بالله تجده خائفاً (والذين يؤتون ما أتوا قلوبهم وجلة) خائفة دائماً وجلة حتى وهم يصلًون ويصومون ويزكون ويحجون خائفون أن ترد عليهم أعمالهم وخائفون من عقوبة الله وعذابه.
قال (فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) خزي الدنيا هو هذا العذاب الذي يعجله الله على بعض عباده فيجعله علامة وشعاراً للمكذبين ويُري الناس منه أسوأ الأحوال عندما ينزل به عذاب الله، هذا خزي الله في الدنيا. ولذلك المؤمن يستعيذ بالله من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، خزي الدنيا أن يعاجلك الله بالعقوبة في الدنيا فتكون نكالاً وعبرة. ( وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) لا يقوم له خزي الدنيا أبداً ولا يُقارن به (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يعلمون ما كذّبوا وما كفروا ولكنهم مع الأسف كانوا جاهلين غير عقلاء فكذبوا فاستحقوا العذاب عذاب الخزي في الدنيا وعذاب الآخرة العظيم نسأل الله العافية والسلامة.
إلى هنا نصل إلى نهاية هذا المجلس نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم وأن يجعلنا جميعا من أهل القرآن وخاصته وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لحفظ الملف الصوتي :
وأذكر مرة شاهدت هنا في القصيم رجلاً حفر بئراً ارتوازياً في مكان فخرج ماء أحمر وفيه ملوحة ثم قال المهندس احفروا في المكان الفلاني لا يبعد عن هذا المكان أكثر من 50 مترا أو100 متر ورأيتهم يحفرون فخرج الماء مختلفاً تماماً ماء صافي وعذب فتعجبت أليس الماء الذي تحتنا كله شيء واحد؟ قالوا لا، الماء في الأرض ينابيع ومجاري وأودية تحفر هنا ما تجد شيئاً وتحفر بعده بأمتار قليلة فتجد عيناً معيناً.
وانظر إلى ماء زمزم، زمزم تخرج من مكان قاحل جاف ينزل عليه المطر مرتين أو ثلاثة في العام فمن أين يأتي هذا الماء؟ ينابيع في الأرض قد جعلها الله وأمدّها برزق من عنده.
قال (ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ) أي بهذا الماء يخرج زرعاً هذا الزرع مختلف ألوانه منه الأصفر والأخضر والأحمر، ومختلف طعومه وأشكاله، (ثُمَّ يَهِيجُ) أي ييبس (فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا) من يبسه، من شدة اليبس قد اصفرّ (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا) يتحطم ويتكسر فيبيد وينتهي ثم تذروه الرياح (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ من مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً) هذا يأتي الله به ليدلل على قدرته وأنه المستحق بأن يُعبد وحده دون أحد سواه .
وأيضاً ليبين أن الإنسان يمر بمثل هذه المراحل التي يمر بها الزرع فهو ينشأ قوياً ويخضر ثم يبدأ في الكهولة ثم الشيخوخة حتى ييبس ثم يموت ويتحطم.
وأيضاَ يضربه الله -عز وجل- مثلاً في كون هذه القلوب التي فينا إذا نزل عليها الوحي من السماء حييت وإذا غاب عنها ماتت ولذلك قال بعدها (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ) يتذكر بمثل هذه الآيات أولو الألباب ويأخذون منها العظات والعبر. اسمع ماذا قال بعدها (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) فالذي شرح الله صدره للإسلام فصار على نور لا يمكن أن يستوي مع من قسا قلبه فلم يستمد النور ولم يستمد الوحي من السماء، إن بينهما فرقاً كبيراً ، وبوناً شاسعاً فالمؤمن شرح الله صدره -وسّعه- ولذلك يجد المؤمن من انشراح الصدر وطيب النفس ما لو خسر معه الدنيا كلها لم يبالي بها! ولذلك تجد المؤمن يفقد الولد والمال ويذهب منه كل شيء من متاع الدنيا لكنه يجد في صدره انشراحاً لا يمكن أن يصفه ولا يستطيع أن يشرحه لأحد ويقول ما دمت على ما أنا فيه من انشراح الصدر الذي أنزله الله -عز وجل- علي ومنحنى إياه فأنا بخير، أما الكافر فتجده في سعة من الرزق وفي بسطة من الدنيا وفي شهوات مترعة ولذات وحُبور مختلف ومع ذلك في ضيق لا يعلمه إلا الله.
قال الله -عز وجل- (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ) إن الذي يشرح القلوب ويشرح الصدور ويليّنها هو ذكر الله عز وجل، فمتى قرُبنا من هذا الذكر وهو القرآن شرح الله صدورنا ونوّرها ولذلك قال الله في سورة الأنعام (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) فالقرآن نور يستنير به الإنسان يعرف من هو ويعرف من ربه ، ويعرف ما هي الآخرة وما هو مقبلٌ عليه ، وماذا يجب عليه في الدنيا ، ولماذا يبتليه الله ، ولماذا خلقه ولماذا يُميته ، وماذا يُفعل به في قبره وماذا يُفعل به يوم القيامة ، وإلى أي دار سيصير ، وإلى ماذا سيكون حال الناس يوم القيامة ، وما هي أقسام الناس في الدنيا؟ كلها هذه نور من الله. الكافر تجده يعرف دقائق عالم الذرة ويعرف العين هذه ويفني عمره في معرفة تشريحها وما فيها من قدرة الله عز وجل ولكنه لا يدري لماذا خلقه الله ولا يدري من أين جاء ولا إلى أين هو ذاهب، نحمد الله على هذا النور.
قال (َفوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ) ويل لمن قست قلوبهم لإعراضهم عن ذكر الله -عز وجل- وعدم رغبتهم في هذا النور وهذا الوحي.
قال الله -عز وجل- (أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) هذا هو الضلال البيِّن الذي ليس بعده ضلال.
ولاحظوا قبل قليل قال (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) هذا هو الخسران المبين أن تخسر نفسك وهذا هو الضلال المبين أن تضل عن ذكر الله ، ومن ضلّ الضلال المبين فإنه سيخسر الخسار المبين.
قال الله -عز وجل- (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً) لما ذكر النور في الآية السابقة وذكر الذكر بيّن ماذا أنزل من السماء قال (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) فهذا القرآن هو أحسن الحديث وهذه الآية -في نظري- تُرجح قول من قال(فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) أي يتبعون القرآن لأن الله وصف القرآن كله بأنه أحسن فقال (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) أحسن ما يتحدث به الخلق.
(كِتَاباً مُّتَشَابِهاً) أي يشبه بعضه بعضاً في الجودة والإحكام وأيضا في المعاني ليس متناقضاً بل هو متشابه في معانيه وفي مبانيه ولذلك تقرأ في البقرة وتقرأ في مريم وتقرأ في سورة الصافات الألفاظ والآيات ترى أن فيها اختلاف في طريقة عرضها وسياقها وجملها لكنك تعلم أن هذا قرآن، وهذا قرآن، وهذا قرآن، لأنه يشبه بعضه بعضاً.
قال (كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ) أي تُثنى فيه الأوامر أمر بعد أمر والنواهي نهي بعد نهي والأمر يعقبه النهي ، تُؤمر بالتوحيد وتُنهى عن الشرك ، وتُؤمر بالمعروف وتُنهى عن المنكر، وأيضاً تثنى فيه القصص تُذكر فيه قصة نوح مختصرة ثم مبسوطة في زاوية من زواياها ثم مبسوطة في جانب آخر في زاوية أخرى من زواياها ، وهكذا قصة موسى تتردد يُثنى فيه القصة بعد القصة لكي يتعظ الناس بها وينتفعوا بها.
قال ( تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ) هذا هو حال المؤمنين عند سماعهم لكلام الله لا يُصرعون ولا يغمى عليهم ولا يرتعدون ارتعاداً يخرج بهم عن الحدّ الذى وصف الله به عباده المؤمنين (تفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) ، (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً) ، (َتقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) تصيبهم القشعريرة ، القشعريرة هي شيء من نفور الجلد واجتماعه يُحسّ به كل إنسان ، عندما تسمع صوتاً شديداً ومهيباً يقشعر جلدك هذه القشعريرة سببها الهيبة، هيبة الرب سبحانه وهيبة كلامه. ثم إذا قرأوا هذا الكلام ورأوا ما فيه من النور والترغيب واللذة وما فيه من مناجاة الله لانت الجلود والقلوب ، فهم لروعة الكلام تقشعر جلودهم واقشعرار الجلود بسبب الخشية ولذلك قال (َتقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) فعندنا قشعريرة في الجلد وخشية في القلب.
قال (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ) ذكر في الحالة الأولى الجلود والقلوب وذكر في الحالة الثانية الجلود والقلوب، وهذا مثل الطفل عندما يكون قد خرج وخشيت عليه أمه من أن يقع تصرخ فيه فهذا الصراخ يروّعه فيتجه الطفل إلى أمه إلى الذى صرخ فيه فكذلك الإنسان عندما يسمع القرآن تصيبه الهيبة هيبة الرب وهيبة كلامه الله يناجيني ويناديني فهو من خشيتة الله يقشعر جلده ثم إذا تلا هذا القرآن اطمأن فلان جلده ولان قلبه.
قال الله -عز وجل- (ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) فلا تلين القلوب والجلود إلا بذكر الله ومن أراد أن يُلين قلبه فلن يجد أعظم ولا أجمل ولا أيسر من ذكر الله وهو القرآن قال (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء) فنسأل الله أن نكون ممن هداهم إلى كتابه وذكره. (وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) من أضله الله فلن يجد أحدا يهديه، فنسأل الله أن يهدينا ونسأل الله أن يجنبنا الضلالة.
ثم قال الله -عز وجل- (أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) يعني : أحال هؤلاء الذين لانت جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله كحال أولئك الذين أعرضوا فعوقبوا بسبب إعراضهم أنهم يتقون النار بوجوهم لا يجدون شيئاً يتقون به النار إلا وجوههم!
تأملوا : العادة أن الإنسان إذا جاءه شيء يخاف منه أول شيء يبدأ به أنه يضع شيئاً يحجز ذلك الشيء عن وجهه لعظمة الوجه في نفس الإنسان ولأن الوجه شيء كبير عند الإنسان ففي يوم القيامة لا يجد الكفار شيئاً يتقون به النار إلا وجوههم! هذا الشيء الذي يقونه من أنواع العذاب في الدنيا هو الشيء الذي يكون أول ما يلقى النار ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ بن جبل "وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم" لأن أيديهم تسلسل فهو لا يتقي النار إلا بوجهه نسأل الله العافية والسلامة. (وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ) أي كل من ظلم نفسه فأعرض عن ذكر الله وقسى قلبه يقال له ذق الذي كنت تكسبه، هذا عملك لم نظلمك شيئاً ولم نحسب عليك شيئاً لم تعمله.
/ (كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) أي هذه العادة وهي عادة التكذيب قد صارت فيمن قبلكم فلم يتركهم الله بل أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، جاءهم من حيث لا يتوقعونه ولا يقدرونه ، أتاهم العذاب من حيث لا يتوقعون ولا يحتسبون .
ولذلك لا ينبغي للإنسان أبداً أن يأمن مكر الله ، أن تظن أنك تنجو من عذاب الله أو أنك بمنأى من عذاب الله إياك والأمن من مكر الله! ولذلك المؤمن مع إيمانه وتقواه بالله تجده خائفاً (والذين يؤتون ما أتوا قلوبهم وجلة) خائفة دائماً وجلة حتى وهم يصلًون ويصومون ويزكون ويحجون خائفون أن ترد عليهم أعمالهم وخائفون من عقوبة الله وعذابه.
قال (فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) خزي الدنيا هو هذا العذاب الذي يعجله الله على بعض عباده فيجعله علامة وشعاراً للمكذبين ويُري الناس منه أسوأ الأحوال عندما ينزل به عذاب الله، هذا خزي الله في الدنيا. ولذلك المؤمن يستعيذ بالله من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ، خزي الدنيا أن يعاجلك الله بالعقوبة في الدنيا فتكون نكالاً وعبرة. ( وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ) لا يقوم له خزي الدنيا أبداً ولا يُقارن به (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أي لو كانوا يعلمون ما كذّبوا وما كفروا ولكنهم مع الأسف كانوا جاهلين غير عقلاء فكذبوا فاستحقوا العذاب عذاب الخزي في الدنيا وعذاب الآخرة العظيم نسأل الله العافية والسلامة.
إلى هنا نصل إلى نهاية هذا المجلس نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم وأن يجعلنا جميعا من أهل القرآن وخاصته وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لحفظ الملف الصوتي :
--------------------------
مصدر التفريغ (بتصرف) :
http://www.tafsir.net/vb/forum32/thread28329-4.html#ixzz2R5JBgPJn
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق