الأحد، 8 مايو 2016

التعليق على تفسير ابن سعدي / سورة المُلك (١-٥)/ الشيخ عبد الرحمن بن صالح المحمود


بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه نبتدئ بعون الله وفضله دروس أو نستأنف بعض الدروس في كتاب تفسير ابن سعدي رحمه الله تعالى. تفضل :

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
قال ابن سعدي -رحمه الله تعالى- :
" تفسير سورة المُلك وهيرمكية : {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
 {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} أي: تعاظم وتعالى، وكثر خيره، وعمّ إحسانه، من عظمته أن بيده ملك العالم العلوي والسفلي، فهو الذي خلقه ويتصرف فيه بما شاء، من الأحكام القدرية، والأحكام الدينية، التابعة لحِكمته، ومن عظمته كمال قدرته التي يقدر بها على كل شيء، وبها أوجد ما أوجد من المخلوقات العظيمة، كالسماوات والأرض.
{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} قدّر لعباده أن يحييهم ثم يميتهم ، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} أي: أخلصه وأصوبه وذلك أن الله خلق عباده، وأخرجهم لهذه الدار وأخبرهم أنهم سيُنقلون منها، وأمرهم ونهاهم، وابتلاهم بالشهوات المعارضة لأمره، فمن انقاد لأمر الله وأحسن العمل، أحسن الله له الجزاء في الدارين، ومن مال مع شهوات النفس ونبذ أمر الله، فله شر الجزاء.
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} الذي له العزة كلها التي قهر بها جميع الأشياء وانقادت له المخلوقات.
 {الْغَفُورُ} عن المسيئين والمقصرين والمذنبين، خصوصًا إذا تابوا وأنابوا فإنه يغفر ذنوبهم ولو بلغت عنان السماء، ويستر عيوبهم، ولو كانت ملئ الدنيا.
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} أي: كل واحدة فوق الأخرى ولسن طبقة واحدة، وخلقها في غاية الحسن والإتقان .
{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} أي: خلل ونقص. وإذا انتفى النقص من كل وجه صارت حسنة كاملة متناسبة من كل وجه، في لونها وهيئتها وارتفاعها، وما فيها من الشمس والقمر والكواكب النيرات الثوابت منهن والسيارات. ولما كان كمالها معلومًا أمر تعالى بتكرار النظر إليها والتأمل في أرجائها فقال: {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} أي: أعده إليها ناظرًا معتبرًا {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} أي: نقص واختلال. {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} والمراد بذلك: كثرة التكرار. {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: عاجزًا عن أن يرى خللا أو فُطورًا ولو حرص غاية الحرص. ثم صرح بذكر حُسنها فقال:
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ}
أي: ولقد جمّلنا {السَّمَاءَ الدُّنْيَا} التي ترونها وتليكم {بِمَصَابِيحَ} وهي: النجوم على اختلافها في النور والضياء، فإنه لولا ما فيها من النجوم، لكانت سقفًا مظلمًا لا حُسن فيه ولا جمال. ولكن جعل الله هذه النجوم زينة للسماء وجمالا ونورًا وهداية يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، ولا ينافي إخباره أنه زين السماء الدنيا بمصابيح أن يكون كثير من النجوم فوق السماوات السبع، فإن السماوات شفافة، وبذلك تحصل الزينة للسماء الدنيا، وإن لم تكن الكواكب فيها.
 {وَجَعَلْنَاهَا} أي: المصابيح {رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ} الذين يريدون استراق خبر السماء، فجعل الله هذه النجوم حراسة للسماء عن تلقُف الشياطين أخبار الأرض، فهذه الشُهب التي تُرمى من النجوم أعدّها الله في الدنيا للشياطين.
 {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ} في الآخرة {عَذَابِ السَّعِيرِ} لأنهم تمردوا على الله، وأضلوا عباده."
 تعليق الشيخ :
هذه السورة سورة تبارك جاء فيها حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : ( سورة هي ثلاثون آية شفعت لصاحبها ) ، وجاء أيضاً في رواية سُنيّة قراءتها كل ليلة وهذه السورة هي سُورة الملك لأنها سورة تُعرِّف العباد بربهم سبحانه وتعالى ومُلكه وجبروته وآياته ، تتعلق بخلق الله بالسماء، تتعلق بما خلق الله من النار -كما سيأتي التي أعدها الله للكافرين- ثم آيات الله عز وجل في الطير وغير ذلك من الآيات في هذه السورة العظيمة، ولهذا يُسَن للإنسان أن يقرأها كل ليلة .
المسألة الثانية: هذه الآيات أيضاً دلت على إثبات الصفات لله عز وجل لآن مُفتتح هذه السورة يقول الله فيه : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } فقوله : { بِيَدِهِ الْمُلْكُ } يدل على صفة اليد لله سبحانه وتعالى وأهل السنة والجماعة يُثبِتون لله صفة اليدين والقرآن الكريم جاء بهما كما في قوله تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وكما في قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } ، وجاءت مرة مفردة كما في مُفتتح سورة الملك التي معنا ، وجاءت بالجمع كما في قوله تعالى في سورة يس : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } والإفراد والجمع لا ينافي التثنية ، ومن ثَم فالعلماء رحمهم الله تعالى خلافاً للمعطلة من كافة الطوائف يثبتون لله عز وجل صفة اليدين كما يليق بجلاله وعظمته من غير تعطيل وتأويل وتحريف ومن غير تشبيه بصفات المخلوقين .
الأمر الثالث : قول الله تبارك وتعالى : { خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } فاستنبط العلماء من ذلك أنه كما أن الحياة كما هو ظاهر للناس مخلوقة فالموت أيضاً مخلوق خلافاً للمعتزلة الذين يقولون : إن الموت إنما هو انقطاع الحياة ليس هو شيئاً ، فاعتبروه عدماً أن الموت عدم والأدلة دلت على أن الموت خَلق ومن ثم فينزل بالأحياء الموت فيموتون، ويوم القيامة حين يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ولا يبقى أحد إلا المُخلد ، إلا المشركون المخلدون في النار والمُوحدون المخلّدون في الجنة يؤتى بالموت وليس بملك الموت، ملك الموت غير الموت ملَك الموت ملك من أشرف الملائكة من كبار الملائكة فهذا لا يُذبح وإنما يؤتى بالموت مُصوّرا لهم على صورة كبش فيقال لأهل الجنة : هل تعرفونه ؟ فيقولون : نعرفه هذا هو الموت ، ويقال لأهل النار في الطرف المقابل -أعاذنا الله وإياكم من حالهم- : هل تعرفونه ؟ فيقولون : نعرفه، فيُذبَح بين الجنة والنار ويقال : يا أهل الجنة خلود بلا موت ويا أهل النار خلود بلا موت فيزداد أهل الجنة نعيماً لأن الخلود مقتضاه أنه لا موت بعد ذلك ولا شقاء وإنما هو نعيم دائم باقٍ يتجدد مادامت السماوات والأرض عطاء غير مجذوذ لا ينقطع أبداً ، أو عذاب أليم لأهل النار، وأهل النار أيضاً يزدادون كمداً وغيظاً وتعاسةً ويكون ذلك من أشدّ العذاب عليهم لأنهم يوقنون أنهم مُخلّدون في هذه النار أبد الآباد . جاء في بعض الروايات في بعض السنن أنه ما من أحد يدخل النار إلا وهو مقتنع أنه مُستحق للعذاب في النار ، ماهي العلة ؟ العلة العدالة، يوم القيامة تُنصب الموازين والعدل والعدالة والله عز وجل لا يظلم مثقال ذرة، حتى الكافر يُوقن ويقتنع أنه مستحق للعذاب لأنه أبى لأنه استكبر، لأنه كفر، وحتى لو طلب من الله أن يعود مرة أخرى فقد قال الله عنه وعن أمثاله :{ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ } حتى هذا الإنسان الذي سيدخل النار مخلداً فيها لو أجيب طلبه بأن يرجع إلى الدنيا حتى يعبد الله لرجع -والعياذ بالله- على حالة عليا من قساوة القلب والكفر وعدم العقل والتمييز -كما سيأتينا في هذه السورة- حين يقول الكفار : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} فيقتنعون .
 الأمر الأخير في هذه الآيات وفي دلالاتها: أن السماوات زيّنها الله عز وجل بالنجوم فصارت جميلة وهذا من فضل الله على العباد، لو فُرِض أن السماء سوداء مظلمة ليس فيها نجوم ليس فيها ضياء ليس فيها أنوار كم ستكون محنة الإنسان في حياته ؟
وجعلها الله رجوماً للشياطين قال العلماء : ليس الرجوم بالكواكب ليس الرجوم بهذا الكوكب الضخم الذي يكبر الأرض مرات ومرات هو الذي يُرمَى به هؤلاء الشياطين لا ، هؤلاء أقل من ذلك وإنما هي شهب، بعضهم يقول : هي قطع من بعض النجوم، شهب قطع وهذا يذكره الفلكيون فهي قطع من النجوم إذا أراد هؤلاء يسترقوا السمع يرسل الله عز وجل عليهم هذه الشهب فتحرقهم، وقد يُوصلون الذي التقطوه واسترقوه من السماء قد يوصلونه إلى الكهان كما جاء في الأحاديث الأخرى، فهذه المخلوقات دالة على عظمة الله سبحانه وتعالى فالأولى بنا ونحن نقرأ هذه السورة سورة الملك اقرأها، اقرأ تفسيرها - أي نفسير من التفاسير- اقرأ تفسيرها وتدبر معناها لأنه -كما قلنا في بداية التعليق- جاء في الحديث أنها تشفع لصاحبها ، وجاء في الحديث أنه يُسن قراءتها كل ليلة لأنها تذكرك بالقضايا الأساسية في حياة البشر من أولها إلى آخرها، من الخلق والموت إلى آخر آيات الله عز وجل .
أسأل الله أن يرزقني وإياكم الموعظة وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق