الأحد، 8 مايو 2016

التعليق على تفسير ابن سعدي/ سورة المُلك (٦-١١)/ الشيخ عبد الرحمن بن صالح المحمود


.. الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله تعالى في تفسير سورة المُلك :
"قال الله تعالى : {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ولهذا كان أتباعهم من الكفار مثلهم قد أعد الله لهم عذاب السعير فلهذا قال: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} التي يُهان بها أهلها غاية الهوان.
{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا} على وجه الإهانة والذل {سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} أي: صوتًا عاليًا فظيعًا .
{تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} أي: تكاد على اجتماعها أن يفارق بعضها بعضًا، وتتقطع من شدة غيظها على الكفار، فما ظنك ما تفعل بهم إذا حُصِّلوا فيها؟! ثم ذكر توبيخ الخزنة لأهلها فقال: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} ؟ أي: حالكم هذا واستحقاقكم النار كأنكم لم تُخبَّروا عنها ولم تحذركم النُّذُر منها.
{قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نزلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ} فجمعوا بين تكذيبهم الخاص والتكذيب العام بكل ما أنزل الله ولم يكفهم ذلك حتى أعلنوا بضلال الرسل المُنذرين وهم الهداة المُهتدون، ولم يكتفوا بمجرد الضلال، بل جعلوا ضلالهم ضلالا كبيرًا، فأي عناد وتكبر وظلم يشبه هذا؟!
 {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} {وَقَالُوا} معترفين بعدم أهليتهم للهدى والرشاد: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} فنفوا عن أنفسهم طُرق الهدى وهي السمع لما أنزل الله وجاءت به الرسل، والعقل الذي ينفع صاحبه ويُوقفه على حقائق الأشياء، وإيثار الخير والانزجار عن كل ما عاقبته ذميمة، فلا سَمع لهم ولا عقل، وهذا بخلاف أهل اليقين والعرفان، وأرباب الصدق والإيمان، فإنهم أيدوا إيمانهم بالأدلة السمعية، فسمعوا ما جاء من عند الله، وجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم علمًا ومعرفة وعملا. والأدلة العقلية المُعرِّفة للهدى من الضلال، والحسن من القبيح، والخير من الشر، وهم في الإيمان بحسب ما منّ الله عليهم به من الاقتداء بالمعقول والمنقول، فسبحان من يختص بفضله من يشاء، ويمُن على من يشاء من عباده، ويخذل من لا يصلح للخير.
تعليق الشيخ:
... في هذه السورة سورة الملك ذكر لك الله عز وجل صُنعه وخلقه وبيّن سبحانه وتعالى أنه أحكم خلق السماوات والأرض ما ترى فيها من فطور، ما ترى فيها من شقوق جاءت الحقيقة الكبرى التي تُقررها هذه السورة العظيمة { وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ۖ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } فقررت عدة حقائق:
 الحقيقة الأولى: هي أن الله أعد النار يوم القيامة للذين كفروا، وأن هذه النار هي مصيرهم وبئس البصير -أعاذنا الله وإياكم من ذلك- وهذا مبني على أن الله لم يخلق المخلوقات عبثاً ، وإذا كان لم يخلقها عبثاً إذاً هناك نتبجة وهناك جزاء وهناك حساب، فمن يزعم اليوم أن البشرية تعيش على هذه الأرض وتأكل وتشرب وتتصارع بدون حكم رباني ؟ هذا الحكم الرباني قائم على خلقهم وخلق السماوات والأرض وأن هذا الحُكم لا بد له من يوم ينتهي فيه العباد للجزاء والحساب، هذا هو الفرق بين طريقة الأنبياء وبين طريقة الملاحدة والزنادقة وغيرهم .
الأمر الثاني : في هذه السورة أعظم وصف للنار لأن النار وُصِفت أنها حارة وفيه الأغلال وفيها وفيها وفيها، وإنما الوصف الذي جاء في سياق هذه الآيات وصف فريد من نوعه إذا رأتهم من بعيد { سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } يعني أن هذه النار إذا رأتهم يوم القيامة وقد جرى الحساب وصار هؤلاء من أهل النار إذا رأتهم من بعيد { سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا } { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } { إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا } هذه النار ما معنى أن لها هذه الصفة وهي جماد ؟ أيه والله يا أيها الأخوة هذه النار تتميز وتتقطع غيظاً وحنقاً على هؤلاء الكفار ولهذا إذا كانت تتغيظ عليهم وهي بعد لم يُقذَفوا فيها، لم يُلقَوا فيها فماذا ستصنع بهم إذا ألقوا فيها.
 تأملوا .. تأملوا هذا المدلول العميق جداً إذا رأتهم المشركون يسمعون لها تغيراً وزفيراً تكاد تميز وتتقطع من الغيظ ، إذاً ماذا ستصنع بهم إذا كسبتهم وأُلقوا فيها؟! وهل النار تتكلم؟ نعم يا أيها الأخوة في الله { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ } وهل يمكن أن يتكلم الجماد ؟ نعم، كانت الجبال تسبح مع أنبياء الله ومنهم نبي الله داؤود ، وحنّ الجذع إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم حنين ولد الناقة لمَّا تركه وصعد منبراً من خشب، بل لمّا نحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه في حجة الوداع وكان قد أهدى مائة ناقة وذبح النبي صلى الله عليه وسلم ونحر بيده ثلاث وستين ثم أوكل لعلي باقي المائة.
 تقول الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بدأ ينحر الإبل صارت الأبل تتسابق أيها أولاً، إبل عجماوات قادمة إلى نحر لكن نحر من نوع خاص بيد المصطفى صلى الله عليه وسلم ليُراق هذا الدم عبودية للواحد القهار وإذا بالأبل تتسابق كل واحدة تدلي بعنقها تريد أن تسبق الأخرى إلى المكان الذي ينحر فيه النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأبل واحدة فواحدة، من الذي علّمها ؟ رب العالمين وكذا النار من الذي جعل فيها هذه الصفة وكأنها صفة إنسان عاقل { تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } على الذين أشركوا بالله بينما المؤمنون لا المؤمنون إذا مروا من الصراط .. لا ، المؤمنون إذا مروا من الصراط تقول : يا عبد الله أسرع ..أسرع فإن نورك أطفأ لهبي. انظروا الفرق بين الشخصين .
 { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ }
 هذا الموضوع الثالث : هذه النار فيها زبانية فيها خزنة، هذه النار التي تتغيظ على هؤلاء الكفار { سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } هذا هو الاقرار { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ } { قَالُوا بَلَى } ألم تأتكم الحُجة ؟ { قَالُوا بَلَى } لكن جاءنا النذير بالبينات { قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ } بل زادوا على ذلك { أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } إنه الاستكبار على رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
 لكن المؤثر في سياق هذه الآيات هذا الاعتراف النهائي { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأصْحَابِ السَّعِيرِ } { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيِرِ } ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( أن الله أعذر لكل أحد) ما من أحد من أهل النار إلا وهو يعلم حين يدخل النار أن الله أعذر منه في إستحقاقه لدخول النار ومن هنا جاء في الحديث -وانتبهوا له - أنه (ما من مؤمن يدخل الجنة إلا ويريه الله مقعده من النار فيقول الله له : هذا مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً في الجنة ، وما من أحد من أهل النار إلا ويريه الله مقعده من الجنة ويقول له : هذا مقعدك في الجنة أبدلك الله به مقعدك في النار ) بمعنى أنك لو آمنت لكان مقعدك في الجنة والمؤمن أنك لو كفرت لكان هذا كان مقعدك من النار، يعني كل إنسان -كما دلت عليه هذه الأحاديث- كل إنسان له مقعد في الجنة ومقعد في النار فأيهما أنت تسعى إليه؟ الإعتراف المفيد لنا قولهم { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } هذا الاعتراف لكن هذا الاعتراف له زمانان زمن لا ينفع فيه الإعتراف وهو يوم القيامة أو لحظة الموت حين يموت الإنسان وزمن ينفع الاعتراف صاحبه وهو زمن المُهلة التي نحن فيها في هذه الآيام تعقلون ؟ تسمعون ؟ نعم ، إذاً سؤال لنا جميعاً ألا نسعى لأن نكون من أهل الجنة وألا نكون من أهل الجحيم ؟
هذه قضية واضحة المعالم ومن هنا يا أيها الأخوة إقرأوا سورة تبارك اقرؤا تفسيرها ، جمعت بين بيان عظمة الخالق ومنها السماء هذه السماء العظيمة من خلقها ؟ من أوجدها ؟ ثم حقائق اليوم الآخر ومنه هذا الحديث العجيب لنار جهنم يوم القيامة .
اللهم أيقظ قلوبنا اللهم أيقظ قلوبنا وأعذنا من النار اللهم أيقظ قلوبنا وأعذنا من النار اللهم إجعلنا من السامعين المطيين العاقلين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق