الثلاثاء، 17 يونيو 2014

الفوائد التربوية من ذكر النِعم المادية في سورة النحل

* أولاً : نعمة الوجود :
 قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) [النحل/4]
المعنى الإجمالي : ركّزت الآية على مرحلة من مراحل خلق الإنسان، وكل صفات الإنسان تكون في هذه النطفة ثم تكرر تلك الخصائص والصفات في الإنسان عند وجوده(٢٧)
 ومما يلاحظ أن الولد يتولد من اختلاط ماء الرجل مع ماء المرأة مما أطلق عليه القرآن لفظ أمشاج قال تعالى : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) [الإنسان/2].
- ومني الرجل لا يتولد منه الولد ما لم يمازجه مادة أخرى من الأنثى (٢٨) والولد يتكون من جزء من الماء، يؤيد ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (ما من كل الماء يتكون الولد، إلا إذا أراد الله خلق شىء لم يمنعه شىء)(٢٩).
  الفوائد التربوية من ذكر نعمة الوجود :
 ١ - هذه نعمة تدعو للتأمل في فطرة الله، قال تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ) [الطارق/5 - 7].
ويدرك المسلم وهو يتلو هذه الآية مدى حكمة الله حيث جعل النطفة وسيلة لبقاء النوع الإنسانى عن طريق التزاوج، وهذا فيه كثير من العبر والمواعظ، ولا يمكن أن يكون هذا الخلق العظيم وُجد بدون خالق فتبارك الله الذى خلق من النطفة مخلوقا أودع فيه من أسرارعظمته، وبديع صنعه ما جعلـه إنسانا حيا ناطقا سميعا بصيرا (٣٠)، وهذه لفتة تجعل الإنسان ينظر إلى حقارة الماء الذى خلق منه لكى لا يتكبر, ويكون متواضعا، واقعيا في حياته، وإذا تواضع الإنسان وابتعد عن الكبرياء صح سلوكه واستقام. وإذا أعمل الإنسان بصره وفكره في خلق نفسه استجابة لقولـه تعالى (وَفِي أَنْفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات/ 21]
فإنه يؤمن بالله رباً وبكل صفاته الربوبية والألوهية.

 ثانياً : نعمة السمع والبصر :
 أ - قال تعالى : (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل/78].
المعنى الاجمالي : ذكر الله هذه الحواس، وهي من أهم الحواس وفيها دلالة على البقية، فزود الله الإنسان بالسمع ليسمع به الأصوات، والبصر ليدرك به الأشخاص، والفؤاد الذى يعى به الأمور ليشكر نعم الله عليه (٣١). وأفرد الله السمع في هذه الآية.

ب - قال تعالى : (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [النحل/108]
 ج - قال تعالى : (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) [النحل/65].
 المعنى الاجمالي : أي أن الله خلق السماء فينزل منها الماء فيكون سبباً للحياة بإنبات الزرع والشجر والثمر، بعد أن كانت ميتة (٣٢).

 د - قال تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [النحل / 77].
 المعنى الإجمالي : أي وما شأن الساعة في سرعة المجيء إلا كطرف العين أو رجع البصر، من أعلى الحدقة إلى أسفلها، أو هو أقرب من هذا وأسرع، لأن أمره سريع الحدوث لأنه يقول للشيء كن فيكون (٣٣).
 الفوائد التربوية من ذكر نعمة السمع والبصر :
١ - تشير الآيات السابقة إلى أن الله تعالى أودع في الإنسان هذه الحواس ليتمكن من عبادة ربه سبحانه وتعالى فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه جل علاه باستعمال كل عضو فيما خلق من أجلـه وليتمكن من عبادة ربه ويطيعه فيما أمره فلا يسمع ولا يبصر ولا يعتقد إلا حلالا مما أمر الله، وبغض الطرف، ولا يسمع المحرمات، والمعتقدات الباطلة.
 ٢ - ردّت هذه الآية الكريمة على الكافرين الذين أعرضوا عن قبول الحق, وارتدوا على أعقابهم ولم يستعملوا سمعهم وبصرهم وسائر حواسهم في الاستفادة مما حولهم من الكون فحكم عليهم بالخسارة بعد أن طبع الله عليها ذلك أن العقيدة لا يجوز أن تكون موضع مساومة وحساب للربح والخسارة، ومتى آمن القلب بالله فلا يجوز أن يدخل به مؤثر من مؤثرات هذه الأرض فللأرض حساب، وللعقيدة حساب، ولا يتداخلان (٣٤).
٣ - الله سبحانه لا يعجزه شىء، وأمره بقولـه : (كن فيكون) والله قادر على إقامة يوم القيامة في أسرع لحظة، ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا وأفكارنا هو لمح البصر ذكره تقريبا للأذهان (٣٥)، وهذا يدفع المسلم للاستعداد الدائم للقاء ربه فالله قادر أن يهلكه وقادر أن ينصره بأسرع مما يتصور بل أسرع من ارتداد بصره إليه.
٤ - زوّد الله الإنسان بأدوات تحصيل المعارف والعلوم ومنها السمع والبصر والفؤاد وهي من أهم أدوات التحصيل العلمي، وقد قدّم الله السمع على البصر للأسباب الآتية :
 - إن السمع سبب لتحصيل المعارف والعلوم فالإنسان إذا فقد بصره يستطيع تحصيل العلوم بل إن جهابذة العلماء والعباقرة كثير منهم كانوا قد فقدوا أبصارهم فالفهم والنطق يتعلقان بدرجة كبيرة بالسمع لا بالبصر.
 - السمع يشمل كل الجهات في حين البصر لا يبصر إلا أمامه.
 - تقديم السمع على البصر دليل على الأفضلية حيث إن السمع خلق قبل البصر, فالمولود يسمع قبل أن يبصر, لذا من السُّنة الأذان في أذن المولود اليمنى، وإقامة الصلاة في أذنه اليسرى، ليكون أول ما يسمع التوحيد.
- آلة السمع تعمل في النور والظلام فيما البصر لا يبصر إلا في النور. 
- السمع متعلق بالنطق فإذا فقد السمع فقد النطق، بخلاف البصر.
 وإذا تتبعنا السمع فإنه لا يأتى في القرآن إلا مفردا، بخلاف البصر فإنه يأتى بصيغة الجمع وذلك للإشارة إلى أن مدركات السمع نوع واحد, بينما البصر تتعدد مداركه فبالبصر يدرك الإنسان الضوء واللون والشكل، وقال الشوكاني : " ووحد السمع لأنه مصدر يدل على الجمع، بخلاف البصر، ولهذا جمعه "(٣٦). ونعتوا بمصدر كثيراً فالتزموا الإفراد والتذكير. وهذه قاعدة نحوية - المصدر إذا جعل اسما ذكر وأفرد (٣٧).
 وعبر القرآن بالفؤاد وبالعقل وكلاهما يشمل قوى الإلهام الكامنة المجهولة الكُنه والعمل (٣٨). والحديث أشار إلى أهمية القلب (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كلـه، وإذا فسدت فسد الجسد كلـه، ألا وهي القلب) (٣٩) وفي هذا دلالة على وجوب موافقة القول للعمل فالعبرة لما في القلب - واسناد الاطمئنان للقلب يدل على أن محل الإيمان هو القلب (٤٠) لذا يجب على المسلم أن يكون نظيفا قلبا وقالبا.
 وزود الله الإنسان بهذه الأدوات والآليات التي تمكّنه من تحصيل المعرفة وفي هذا تربية عملية للإنسان على التأمل والتفكير والملاحظة والاستنباط والمناقشة ليحصل على أكبر قدر من المعرفة والمخترعات، مما يحقق لنا التقدم العلمي والحضاري على الأمم والشعوب والإنسانية جميعا، وهذا ما فعلـه أسلافنا من قبل إلا أننا أضعناه لأننا لم نستفد من سمعنا وأبصارنا وأفئدتنا كما يريد الله تعالى.

  ثالثاً - نعمة الزواج :
 قال تعالى : (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) [النحل/72]
 المعنى الاجمالي : من رحمة الله أن جعل لنا من أنفسنا أزواجا، لتكوين الحياة الأسرية، ومن الأسرة يتكون البنين والحفدة، ورزقنا من المطاعم والمشارب. (٤١).
 الفائدة التربوية من ذكر نعمة الزواج :
١ - جعل الله الحياة الزوجية فيها مودة ورحمة من ذكر وأنثى ولو كان غير ذلك لأدى إلى النفور وعدم الاستقرار، قال تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [سورة الروم/21]. لذا حث الإسلام على الزواج ونهى عن التبتل. رُوى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :  (لم يُرَ للمتحابين مثل الزواج) (٤٢). علما أن السكون والطمأنينة الناجمة عن الحياة الزوجية، تسكن القلب عن الحرام، وتحمى الإنسان من الوقوع في الرذائل؛ فالزوجة توفر لـه الملاذ الآمن فيجد منها أٌََذنا صاغية، وقلبا حانيا، وحديثاً رقيقاً حلواً يخفف عنه، ويذهب ما به من هم وغم.
٢ - الأمة المسلمة أمة جهاد ولابد من توالد النسل وذلك من أجل الدفاع عن الاسلام، قال صلى الله عليه وسلم (تزوجوا الولود الودود، فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة) (٤٣) ولولا وجود النسل لأدى إلى فناء النوع الإنسانى، ثم إن التناسل سبب في عمارة الكون. فمن تمام السعادة الزوجية والاستقرار الأسري أن يتم الإنجاب بين الزوجين ووجود الأولاد يساعد على الترابط في الحياة الأسرية وصلاحها وتكامل البناء العائلي الذي يكون نواة المجتمع بأسره فإن صلحت الأسرة وسعدت صلح المجتمع وسعدت الإنسانية (٤٤).
٣ - ولن تتم نعمة النسل من البنين والحفدة إلا إذا كانوا صالحين (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان/74]، والمقصود أنهم من يعملون بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة. (٤٥) ويحرص الإنسان على إنجاب الولد ليكون امتدادا لـه إلى يوم القيامة حيث أن المسلم يحرص على الحياة الآخرة ويقدمها على الدنيا، فالولد إذا تربى تربية صالحة يكون خيرا لوالديه كما أشار الرسول صلى الله عليه وسلم : (إذا مات ابن آدم انقطع عنه عملـه إلا من ثلاثة صدقة جارية، أوعلم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو لـه) (٤٦). ويترتب عليه البحث عن الزوجة الصالحة وقبول تزويج صاحب الدين حتى لاتكون فتنة في الأرض (إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) (٤٧).
٤ - قرر الإسلام أن للوالدين أثراً كبيراً في سلوك أبنائهم، قال صلى الله عليه وسلم : (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) وفي لفظ "يشركانه " (٤٨) وهذا يُلقي بالمسؤلية على الآباء ليقوموا بدورهم المطلوب تجاه أبنائهم وتربيتهم تربية صالحة.
٥ - ومن الفوائد التربوية احترام المرأة وتقديرها فينبغى أن تأخذ كامل حقوقها في أمور أموالها وإرثها وزواجها وطلاقها ... الخ، وشنّع الإسلام على الجاهلية قديما وحديثا التي سلبت المرأة حقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية فحرمان المرأة من حقوقها يؤدي إلى خلل في بناء الأسر وينعكس سلباً على النسل.

 رابعاً - نعمة الليل والنهار :
 أ - قال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [النحل/12].
 ب - قال تعالى : (وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) [النحل/16].
 المعنى الاجمالي : سخر الله للإنسان نِعما يحتاج إليها من سكون الليل، وضوء النهار، والأفلاك السماوية، وفيها الدلالات الواضحة لأهل العقول.(٤٩). فالليل والنهار يتعاقبان، والشمس والقمر يدوران، لينتفع الناس والحيوان والنبات بالحرارة والضوء ومعرفة عدد السنين والشهور، ومعرفة أوقات العبادات ومعرفة أوقات نضج الثمار والزرع، وتزيين السماء بالنجوم والثوابت والسيارات، نورا وضياء ليهتدى بها في ظلمات البر والبحر (٥٠) وكل منا يسير في ملكه بنظام دقيق، وكل خاضع لقهره وسلطانه وتسخيره وتقديره. (٥١)
الفوائد التربوية من ذكر نعمة الليل والنهار :
١- الوقت ثمين في حياة المسلم ويسأل عنه يوم القيامة، لذا قال صلى الله عليه وسلم : (اغتنم خمسا قبل خمس، شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) (٥٢). قال الحسن البصرى " يا ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب يومك ذهب بعضك ".
 وتتفاوت الأوقات في بركتها، فساعة أعظم بركة من ساعة، ويوم عند الله أفضل من يوم، وشهر أكرم من شهر (٥٣) - والليل والنهار يبليان كل جديد، ويقربان كل بعيد، ويطويان الأعمار، ويشيبان الصغار، ويفنيان الكبار (٥٤)
٢ - ومما أثبته العلم أن الشمس مصدر كل حياة، ورغم أن درجة حرارتها مرتفعة إلا أن الله جعل الأرض تبعد بدرجة كافية تصلح للحياة (٥٥). فلو نقصت نسبة بُعد الأرض عن الشمس لأدى إلى تجمد كل ما على الأرض، ولزدادت البرودة، وجمدت البحار والمحيطات وانتهت كل مظاهر الحياة، ولو زادت قليلا لاحترقت الأرض وما عليها ولما وجدت الفصول الأربعة من صيف وخريف وشتاء وربيع. (٥٦) فسبحان من خلق وقدر، واستحق العبادة.
٣ - من مظاهر الانتفاع بما سخر الله ما يحدثه القمر بضوءه المنعكس عن الشمس من هدوء وراحة وسكون في ظلمة الليل والإهتداء بالقمر والنجوم نعمة عظيمة على الإنسان تمكنه من أداء معاملاته، وعباداته؛ فمن الملاحظ أن العرب قد استعانوا بالنجوم في الإهتداء إلى معرفة القبلة ومعرفة وقت الفجر بالذات سواء النجم القطبى أوالثريا أونجم الشعرى بالذات في أسفارهم إلى الشام وحتى لا يزيغ الإنسان ويضل فيعبد النجوم والكواكب كما عبد المجوس أكد الله أنه هو رب النجوم فقال تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَىٰ) [النجم/49]، فالعبادة تكون للخالق لا للمخلوق.

 خامساً : نعمة البحار والأنهار في سورة النحل :
 أ - قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ*وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [النحل/14 - 15]
  ب - قال تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ) [النحل/31].
  المعنى الإجمالي : سخر الله للإنسان البحر لينتفع بما فيه من خيرات كاللحم الطري واللؤلؤ والمرجان، والفلك المواخر للابتغاء من فضل الله ورزقه، ووصف الأكل بالطراوة لأنه سهل الأكل، ولأنه لو ترك فترة بعد استخراجه فإنه قابل للتغيير، فيسرع إليه الفساد والاستحالة (٥٧) ومما سخره الله للإنسان من البحر ماؤه الطهور المستفاد منه فهو الطهور ماؤه، وميتته الحلال، والحلي المستخرجة منه، وقال مجاهد: إن المراد بابتغاء فضل الله هو تجارة البر والبحر (٥٨).
 الفوائد التربوية من ذكر نعمة البحار والأنهار :
١ - الإنسان تطمئن نفسه إلى وجود الأنهار وذكرها في القرآن مع وجودها في الدنيا، فوجودها في الدنيا يقرب صورة الأنهار في الآخرة للذهن؛ لأن العين تراها، وتحسها النفس. (٥٩)
٢ - حل السمك وجوازه بدون ذكاة لأنه سريع فقدان الحياة ويموت بمجرد خروجه من الماء وفي طلب تذكيته مشقة، فتدبر رحمة الله بعباده. فهو الشرع الذي ليس فيه عنت ولا مشقة.
٣ - في البحر من ما خلق الله تعالى من عجائب أخرى من الحيوان والجواهر والطيبات أضعاف ما هو مشاهد على وجه الأرض وكل منها دبره البارى سبحانه وخلق منها ما يصلحه.
٤ - وجريان الفلك نعمة عظيمة، تتم بإرادة الله، الذى جعل الماء ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، لتصل السفن لكل أنحاء العالم فلو جعل الماء في ناحية واحدة، غير مفرق بين القارات، لما كان لـه نفس الأثر في حمل السفن وحمل الناس (٦١).
٥ - عقبت الآيات بقولـه تعالى : (لعلكم تشكرون)؛ للفت الانتباه لأهمية الشكر على ما أنعم به وما سخّره من هذه النعم التي عدّها في هذه الآيات (٦٢).

 سادساً : نعمة الجبال والسُبل في سورة النحل :
 لفظ الجبال ورد في الآيات الآتية :
 أ - قال تعالى : (وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [النحل/15].
 المعنى الاجمالي : ومن نعمة الله عليكم أيها الناس أن ألقى في الأرض رواسى، وهي الثوابت من الجبال، كى لا تميد بكم وتضطرب. وجعل لكم أنهارا وطرقا تهتدون بها (٦٣).

ب - قال تعالى : (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) [النحل/68].
 المعنى الإجمالي : سبق تفسيرها في الفصل الأول عند شرح نعمة الوحي.

 ج - قال تعالى : (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا) [النحل/81]. المعنى الإجمالي : جعل الله الجبال يستظل بها، ويتخذ منها حصونا، يتحصن بها الناس ضد أعدائهم، وهي مساكن يسكن الناس فيها (٦٥).
 وأما لفظ السبيل فورد في الآيات الآتية :
 أ - قال تعالى : (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) [النحل/9]. المعنى الاجمالي : السبيل القاصد : هو الطريق المستقيم، الذي لا يلتوي، والسبيل الجائر : هو السبيل المنحرف، وشاء الله أن يخلق الإنسان مستعداً لفعل الهدى والضلال، وأودع فيه القدرة على الاختيار فمنهم من يسلك السبيل القاصد، ومنهم من يسلك السبيل الجائر، وكلاهما لا يخرج عن مشيئة الله تعالى. (٦٦).

 ب - قال تعالى (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ) [النحل / 88].
 المعنى الاجمالي : أي : الذين كفروا، وأشركوا بالله، وصدوا عن الإيمان بالله ورسولـه، يضاعف الله عذابهم، فاستحقوا عذابين، عذاب الكفر وعذاب الإضلال، فهم ينهون الناس عن اتباع الحق، ويبتعدون هم عنه. (٦٧).

 ج‌- قال تعالى : (وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل / 94].
 المعنى الإجمالي : الآية تنهى عن نقض العهود والمواثيق باتخاذ الأيمان مكرا وخديعة من أجل الحصول على بعض منافع الدنيا، فتبتعدوا عن الطريق المستقيم (٦٨).
 الفوائد التربوية المذكورة في نعمة الجبال والسبل :
١ - جعل الله الجبال في الأرض لتثبتها وتحفظ توازنها، ولولا ذلك لما أمكن العيش ولا العبادة، ويتخذ المسلم من هذا التثبيت والتوازن درسا في المحافظة على ثبات سلوكه وتصرفاته، ولا يحفظ هذا الثبات إلا الإسلام، وبدونه يكون الاضطراب كما تضرب الأرض بدون الجبال.
٢ - والجبال يستظل بها ويتخذ منها حصونا، ولطالما يستعملها الناس حصونا يتحصنون بها من أعدائهم، فهى مساكن يسكن فيها الناس، قال تعالى : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ) [الشعراء/149] ويسكن فيها النحل، وهي أماكن للعبادة؛ فقصة تعبده صلى الله عليه وسلم في غار حراء مشهورة.
٣ - تُعد الجبال خزانات للماء والمنابع الأصلية للأنهار، قال تعالى : (وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا) [المرسلات / 29]. وأثبت العلم أن الجبال خزانات مائية عظيمة تتجمع فيها الينابيع، والعيون، وتجرى منها الأنهار التي تصب في المحيطات والبحار(٦٩)
وهذا ما يدفع المسلم إلى مزيد من تعظيم الله، والخشوع لـه.
٤ - وأما السُبل فقد وردت مفردة في الآيات المتقدمة وهذه تدل على الإيمان بالله والإسلام لأنه طريق واحد منفرد لا ثانى لـه بخلاف طرق الضلال فإنها متعددة قال تعالى : (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام / 153].
وأما لفظ السُبل التي وردت بالجمع مع ذكر الجبال فهي : تعني ما أودعه الله مع الجبال والأنهار من الأودية والطرق والمسالك، وذكر السبل مع الإشارة إلى الإهتداء - يشير إلى شأن آخر في العقيدة، فلعلهم يهتدون إلى سبيل يقودهم إلى الإيمان كما يهتدون في فجاج الجبال (٧٠).
٥ - في رؤية الجبال والأودية تذكير بالعبادة؛ فالمسلم إذا رأى جبلاً كبّر ربه، وإذا هبط وادياً سبح ربه، فالجبال والسبل تذكره بنعمة الله عليه، فهو كثير الغفلة وبحاجة إلى آيات منظورة تترجم الآيات المسطورة في القرآن الكريم.
٦ - هذه الجبال والسبل المتعددة لها خالق واحد، لا تعصيه، وتسبح بحمده أفلا يتعلم المسلم منها درسا في الطاعة لله، خاصة أن الانسان مهما بلغت قوته فلن يخرق الأرض ولن يبلغ الجبال طولا.

 سابعاً : نعمة الحيوانات والطيور في سورة النحل :

 ١- نعمة الأنعام :
 أ - قال تعالى : (وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ*وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ*وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) [النحل / 5 - 7].
 المعنى الإجمالي : إن الله خلق الأنعام لمصالحكم وهي الإبل والبقر والغنم، ولكم فيها ما تستدفئون به من البرد، وتفترشون من الأصواف والأوبار، وجعل لكم فيها منافع عديدة من النسل والدرر وركوب الظهر، ومن لحومها تأكلون، ولكم فيها زينة وجمال حين رجوعها من المرعى، وحين غدوها صباحاً، لترعى وتحمل الأثقال والأمتعة إلى أماكن لا تصلوها إلا بجهد ومشقة، وهذا فضل من الله ورحمة ورأفة بكم.(٧١).

 ب - قال تعالى : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ) [النحل / 66].
 المعنى الاجمالي : إن لكم أيها الناس في هذه الأنعام : الإبل والبقر والمعز والضأن لعظة وعبرة يعتبر بها العقلاء إذ نسقيكم من بعض الذي في بطونها من بين الروث والدم، الحليب الخالص، واللبن النافع (٧٢).

ج ــ قال تعالى : (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ۙ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ) [النحل/80] .
المعنى الإجمالى : هذه الآيات الكريمة تشير إلى نعمة الله التي سخرها للإنسان من الأنعام، ومن أكل لحمها أو شرب لبنها، أو الاستمتاع بجمالها، والركوب عليها وحمل المتاع والأثقال والانتفاع من جلودها وشعرها ووبرها في صنع البيوت والملابس تتمتعون بها إلى حين الموت، وفي تفسير مجاهد : إلى أن تبلى (٧٣).

 ٢ - نعمة الحيوانات من غير الأنعام :
 قال تعالى : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [النحل / 8]. المعنى الإجمالى : وهذا صنف آخر مما خلق الله سبحانه لعباده يمتن به عليهم وهو الخيل والبغال والحمير التي جعلها للركوب والزينة بها، وذلك أكبر المقاصد منها ولما فصلها عن الأنعام أفردها بالذكر (٧٤).

 الفوائد التربوية من ذكر نعمة الأنعام والحيوانات الأخرى والطيور :
١ - الأكل من اللحوم، وهو ضرورة من ضرورات الحياة لذا أفرده الله بالذكر من بين هذه المنافع، وهو ضروري لنمو جسم الإنسان ومده بالطاقة وتجديد الدم ومقاومة الأمراض، فهذا الجسد الذي ينمو من نعمة الله لابد أن يشكر الله والجسم الذي ينمو من السحت فالنار أولى به.
 ٢ - تكوين اللبن معجزة إلهية لها أثرها في النفس - فالطعام يصل إلى الأمعاء فتمتص المعويات ما فيه من غذاء، وتبقى الفضلات (الفرث) في الأمعاء وهذه هي التصفية الأولى، ثم يصل الدم إلى الغدد اللبنية فتفرز الحليب من الدم ليذهب إلى الثدي وهذه هي التصفية الثانية، وبهذا من بين فرث ودم يخرج الحليب (٧٥) وفي هذا نوع من الإعجاز الإلهي الذي يزيد المسلم ثقة بربه وقرآنه. وللّبن ميزة خاصة إذ فيه فوائد طبية ففي الحديث: (فعليكم بألبان البقر فإنها ترم من كل الشجر) (٧٦)، واللبن يحتوي على كل العناصر التي يحتاجها الجسم : من دهن وسكريات وبروتينات وأملاح معدنية وفيتامينات. فسبحان الله الذي جعل الأنعام مستودعا للأغذية.
٣ - ذكر جلود الأنعام وما يتفرع عنها من أصواف الغنم، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، فيه دلالة على التمتع والارتياح - فالآية تعرض من نعم الأنعام ما يلبي الضرورات وما يلبي الأشواق (٧٧) ولا شك أن هذا التمتع والارتياح ينعكس على نفسية الإنسان؛ إذ يُقبل على العبادات بارتياح مما يساعده على الخشوع والخضوع لله تعالى فبين الله هذا الارتياح بقوله تعالى (لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [النحل / 7]. أي لم تكونوا بالغيه إلا بالمشقة(٧٨).
٤ - ومن دواعي الارتياح والاستمتاع بالأنعام الدعوة إلى رؤيتها حين رواحها من المرعى وحين سراحها للمرعى؛ لأن الناظر لها يرى جمال خلق الله، صنع الله الذي أتقن كل شئ. وخصّ الله هذين الوقتين بالذكر لاهتمام الرعاة بهما حين الذهاب والإياب وفي ذلك مفاخرة بالقطيع يذكر بنعمة الله على الإنسان، وقدّم الرواح على الذهاب لأن الفائدة فيها أتمّ فمجيئها يدل على الشبع وكثرة الحليب مما يملأ النفوس بهجة وسروراً والعين متعة، فهي عنصر للغذاء وأداة انتاج في الاقتصاد (٧٩). فالجمال عنصر أصيل وليس الأمر متوقف على تلبية الضرورات من الطعام والشراب والركوب وسائر وجوه الانتفاع  بل في هذه تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنساني المرتفع (٨٠).
٥ - الركوب نعمة تستوجب الشكر لأنها توفر للإنسان كثيراً من الجهد والتعب، وإذا نظرنا إلى الخيل نجد أن لها أثراً كبيراً في الجهاد، ونشر دعوة الإسلام، والدفاع عن الأوطان وعن الحرمات والأعراض وكانت من وسائل نصر المسلمين على أعدائهم (٨١).
٦ - الله أباح الزينة في حدود الحلال وهذا يدل على أن المسلم لا يجوز أن يتمتع بالزينة الحرام لأن الله جعل لـه بديلا عنها بالزينة الحلال وتجاوز الحلال يدل على السلوك المنحرف الذي ينبغي أن يتنزه عنه المسلم. فمن مظاهر الانتفاع التزين بهذه الأنعام - فالتزين ضمن الحدود المشروعة أمر مباح (٨٢).
٧ - قولـه تعالى : (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) عقًب الله بها على خلق الأنعام ليظل المجال مفتوحا في التصور البشرى، لتقبل أنماط جديدة من أدوات النقل والحمل والركوب والزينة، فلا يغلق تصورهم خارج حدود البيئة، وخارج حدود الزمان الذى يظلهم، فوراء الموجود في كل زمان ومكان صُور أخرى يريد الله للناس أن يتوقعوها فيتسع تصورهم وإدراكهم، ويريد لهم أن يأنسوا بها حين توجد، أو حين تكتشف، فلا يعادوها ولا يجمدوا دون استخدامها، والإنتفاع بها (٨٣).
٨ - إذا كانت الأنعام التي سخرها الله لخدمة الإنسان تطيعه ولا تتمرد عليه فكذا حري بالإنسان أن لا يتمرد على الله ومن أجل هذا جاء التعبير بلفظ العبرة لنتعلم الطاعة لله ولا نعصيه البته.

٣ - نعمة الطيور :
 قال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [النحل/79].
 المعنى الإجمالى : تفيد الآية أن الله سخر للإنسان الطير، وفي طيرانها آية ومعجزة دلت على كمال قدرته وحكمته. وجوانب الانتفاع بها كثيرة فمنها : أكل اللحم، والانتفاع بريشها وبيضها، وما تحتويه من قيم غذائية واتخاذها زينة، واستعمالها وسيلة صيد كالصقر ونحوه، وتوظيفها كوسيلة من وسائل البريد كالحمام الزاجل، واستفاد الإنسان من طيران الطيوربأجنحتها في الاهتداء إلى صنع الطيران (٨٤).

 الفوائد التربوية من ذكر نعمة الطيور :
١ - طيران الطيور ليس بمقتضى طبعها وإرادتها بل مسخرات ومذللات بأمر الله تعالى، ولا يعلم منتهى ارتفاعها إلا الله وبقدرته تعالى تطير؛ لأنه هو الذى أعطى الآلات التي بها يتمكن الطير من تلك الأفعال (٨٥).
٢ - وفي الاستفادة من لحم الطير تشويق المسلم للآخرة بقولـه تعالى : (ولحم طير مما يشتهون) [الواقعة/ 21].

 ثامناً : نعمة النباتات الواردة في سورة النحل :
 أ‌- قال تعالى : (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النحل/11].
 المعنى الإجمالى : بعد أن ذكر الله تعالى في الآية السابقة قولـه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) [النحل/10] يمتن الله على عباده بأنه أنزل الماء من السماء فجعلـه عذبا زلالا سائغا للشاربين، ولم يجعلـه ملحا أجاجا، وأخرج به شجرا ترعون فيه أنعامكم، وأنبت به زرعا وزيتونا ونخلا وأعنابا، ومن كل الثمرات على اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها, نعمة لكم تستطيعون به تحقيق قوام الحياة. (٨٦).
 ب - قال تعالى : (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [النحل /67].
 المعنى الإجمالى : يمتن الله على عباده أن يسقيهم من ثمرات النخيل والأعناب أى من عصيرها ما أحل من ثمراته : كالخل والدبس والزبيب وهو ما وصفه بالرزق الحسن، وما حرم من شرابه كالخمر (٨٧).
 الفوائد التربوية المستنبطة من نعمة النباتات :
١ - دفع النفس الإنسانية لتعظيم الله الذي رزقنا ثمرات كثيرة متنوعة، أنبتها الله على وجه الأرض بمختلف مناخها وترابها. لذا أ شار الله في الآيتين بقولـه : ( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، ( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) وهو كثير في القرآن وذلك لأن هذه النعم آية من آيات الله ودليل على وحدانيته، فيتعظ ويتفكر في تلك الأدلة والحجج ويسلك مسلك الشكر والطاعة.
٢ - ذكر نعمة النخيل لها أثر في سلوك المسلم، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها وأنها مثل المسلم قيل ما هي يا رسول الله قال:النخلة)(٨٦)
قال ابن القيم: "وتشبيه النخلة بالمسلم لكثرة خيرها ودوام ظلها، وطيب ثمرها، ووجوده على الدوام" (٨٨)، وهكذا المسلم ينبغي أن يكون دائم العطاء في الخير لله وفي أهل مجتمعه.
٣ - ذكر هذه الثمار المتعددة وما لها من قيم غذائية، وفوائد صحية (٨٩) تؤدي إلى حفظ نعمة الوجود للإنسان، وتحقق لـه راحة نفسية تمكّنه من عبادة ربه، وتشوقه إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الآخرة.

 تاسعاً : نعمة الأطعمة والأشربة الواردة في سورة النحل :
 أ - الأطعمة والأشربة الحلال : قال تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [النحل / 114].
 المعنى الإجمالى : كلوا أيها الناس مما رزقكم الله من بهائم الأنعام، التي أحلّها لكم حلالا طيبا، مُذكاة غير محرمة عليكم، واشكروا الله على نِعمه التي أنعم بها عليكم في تحليلـه ما أحل لكم إن كنتم تعبدون الله فتطيعونه فيما يأمركم وينهاكم (٩٠).

  ب - الأطعمة والأشربة المحرمة : قال تعالى (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل / 115]. المعنى الإجمالى : ذكرت الآية أنواعا من المحرمات وهذه الأنواع أمثلة وليست على سبيل الحصر، وعُدت منها الميتة : وهي كل حيوان مات حتف أنفه أو ذكي ذكاة غير شرعية (٩٢) فالطبع السليم يستقذر منها، بالإضافة إلى ما يسببه أكلها من الأمراض والسموم والميكروبات والتى لا ينفع فيها الطهى، والدم المسفوح : أى السائل باستثناء ما خالط اللحم، والكبد والطحال قال صلى الله عليه وسلم (أحلت لنا ميتتان ودمان، فالميتتان السمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال) (٩٣).
 ما أهل لغير الله به : ما ذُبح لغير الله، وذكر غير اسم الله عليه، والإهلال : رفع الصوت. وعلة التحريم هي : علة دينية حتى لا يكون شرك مع الله.
 الفوائد التربوية المستفادة من نعمة الأطعمة والأشربة :
١ - على المسلم أن يحرص أن يكون أكلـه وشربه من الحلال فإنه لا عذر لـه يوم القيامة ولأن كان الحرام باباً واحداً فإن للحلال أبواباً عديدة. لذا يفتخر المسلم بأحكام الإسلام وتشريعاته إذ ما حرم عليهم من شيء إلا ويسر عليهم وعوضهم خيراً منه، فحرم الزنا وأباح الزواج الشرعي، وحرم الربا وأباح التجارة الحلال وهكذا (٩٤).
٢ - على المسلم أن يتقيد بشرع الله في الحلال والحرام ولا يجوز أن يشرع لنفسه قال تعالى : (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ) [النحل/116] - فينبغي مخالفة الجاهلية, فالجاهلية وسّعت دائرة الحلال بتحليل ما حرم الله والله وسّع الحلال وضيًق دائرة الحرام، وشتان بينهما. لأن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما قام الدليل على تحريمه.
٣ - تناول الطعام الحرام يؤدي إلى التوحش والخروج عن الطبع السليم. والدم يسبب وجود الميكروبات والأمراض التي تؤثر على المخ (٩٥) ولحم الخنزير حرّمه الله وذكره بعينه " ليدل على تحريم عينه ذُكّي أو لم يذك " (٩٦)  
------------------------------
(٢٧)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3 / 3062.
(٢٨)  البار، محمد علي، خلق الإنسان بين الطب والقرآن، ص109.
(٢٩)  مسلم، صحيح مسلم، كتاب النكاح، باب 22، حكم العزل، حديث رقم 133، ج2 / ص861.
(٣٠)  ابن كثير، تفسير القرآن، ج3 / ص3067.
(٣١)  الزحيلي، التفسير المنير، ج4 / ص192 - 193.
(٣٢)  الزحيلي، التفسير المنير، ج14 / ص169
(٣٣)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2 / ص674 بتصرف
(٣٤)  قطب، سيد، في ظلال القرآن، ج4 / ص2196.
(٣٥)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2 / ص764.
(٣٦) الألوسي، روح المعاني، ج14 / ص299، الشوكاني، فتح القدير، دار الفكر بيروت.
(٣٧)  الشنقيطي، أضواء البيان، ج3 / ص244.
(٣٨)  قطب، سيد، في ظلال القرآن، ج4 / ص2186.
(٣٩)  البخاري، صحيح البخاري، باب 39، حديث رقم 52 / ص34.
(٤٠)  الرازي، مفاتح الغيب، م7 / ص275.
(٤١)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2 / ص762 - 763.
(٤٢)  سنن ابن ماجه، ابن ماجه، شرح السندي، كتاب النكاح، حديث رقم (1847) ج2 / ص407.
(٤٣) الألباني، ناصر الدين، صحيح الجامع الصحيح حديث رقم (2927) ج 3 / ص40. (٤٤)  العك، خالد عبد الرحمن، بناء الأسرة المسلمة في ضوء الكتاب والسنة / ص167.  (٤٥)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج3 / ص440.
(٤٦)  مسلم، صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب 3، حديث رقم 1631.
(٤٧)  سنن ابن ماجه، باب 46، حديث رقم(1967)، ورواه الترمذي بلفظ "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه"، وقال حديث حسن غريب.
(٤٨)  الترمذي، الجامع الصحيح، باب 5، حديث رقم (2143).
(٤٩)  الشنقيطي، أضواء البيان، ج3 / ص171.
(٥٠)  الطبري، جامع البيان، م7 / ص567.
(٥١)  القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج10 / ص83.
(٥٢)  البخاري، كتاب الرقاق، باب 1، حديث رقم (6412).
(٥٣)  أبو غدة، قيمة الزمن عند العلماء، ص222.
(٥٤)  القرضاوي يوسف، الوقت في حياة المسلم، ص 18.
(٥٥)  كريس موريس، العلم يدعو إلى الإيمان، ترجمة محمد الفلكي، ص55.
(٥٦)  حوى، سعيد، الله جل جلالـه، ص40.
(٥٧)  الألوسي، روح المعاني، ج14 / ص165.
(٥٨)  الطبري، جامع البيان، م7 / ص570.
(٥٩)  قطب، سيد، مشاهد يوم القيامة في القرآن، ص43.
(٦٠)  نوفل، عبد الرزاق، الله والعلم الحديث، ص106 - 107.
(٦١)  حميد، فوزي محمد، الجغرافية القرآنية، ص256.
(٦٢)  الطبري، جامع البيان، م7 / ص570.
(٦٣)  الطبري، جامع البيان، م7 / ص 570.
(٦٤)  الطبري، جامع البيان، م7 / ص570.
(٦٥)  الرازي، التفسير الكبير، ج 20 / ص 93.
(٦٦)  سيد قطب، في ظلال القرآن، ج4 / 2162، بتصرف.
(٦٧)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2 / 768 بتصرف.
(٦٨)  الرازي، مفاتح الغيب، ج20 / ص116. بتصرف
(٦٩)  حميد، فوزي محمد، الجغرافية القرآنية، ص270 - 271.
(٧٠)  سيد قطب، في ظلال القرآن، ج4 / ص2376.
(٧١)  الجوزي، زاد المسير في علم التفسير، ج4 / ص429.
(٧٢)  الزمخشري، الكشاف، ج2 / ص615.
(٧٣)  الرازي، مفاتح الغيب، ج20 / ص93. بتصرف
(٧٤)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2 / ص742.
(٧٥)  حوى، سعيد، الأساس في التفسير، ج6 / ص2965.
(٧٦)  الألباني، صحيح الجامع الصغير، حديث رقم (2926)، ج3 / ص37.
(٧٧)  قطب، سيد، في ظلال القرآن، ج4 / ص2187.
(٧٨)  الرازي، التفسير الكبير، م7 / ص176.
(٧٩)  الزحيلي، التفسير المنير، ج14 / ص90.
(٨٠)  قطب، سيد، في ظلال القرآن، ج4 / ص2161.
(٨١)  سلامة، محمد أحمد، الخيل والفروسية، ص98.
(٨٢)  طهماز، التوحيد والشكر في سورة النحل، ص16.
(٨٣)  قطب، سيد، في ظلال القرآن، ج4 / ص2161.
(٨٤)  طنطاوي جوهري، الجواهر في تفسير القرآن الكريم، ج13 / ص183.
(٨٥)  الرازي، التفسير الكبير، م7 / ص252. بتصرف
(٨٦)  ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، ج2 / ص 744.
(٨٧)  الرازي، التفسير الكبير، م7 / ص235. بتصرف
(٨٨)  الألباني، صحيح الجامع الصغير، حديث رقم (3831) ج3 / ص10.
(٨٩)  ابن القيم، الطب النبوي، ج4 / ص326.
(٩٠)  لمزيد من معرفة الفوائد الصحية انظر : عقل منصور، النباتات في القرآن الكريم، ص 23. وعبد العزيز، الأطعمة والأغذية في القرآن، ص17 - 19.
(٩١)  الطبري، جامع البيان عن تأويل القرآن، م7 / ص657.
(٩٢)  القرطبي، الجامع، ج2 / ص217.
(٩٣)  ابن حنبل، أحمد، المسند، حديث رقم (5690) ج2 / ص230.
(٩٤)  عبد العزيز، الأطعمة القرآنية، ص110.
(٩٥)  القرطبي، الجامع، ج2 / ص222.
(٩٦)  القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام، ص61.

* الفوائد التربوية المستنبطة من سورة النحل/ د. محمد عيد الكردي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق