الاثنين، 16 يونيو 2014

تفسير سورة فصلت / دورة الأترجة

د.ناصر بن محمد الماجد


(حم ﴿١﴾ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿٢﴾ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴿٣﴾ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ﴿٤﴾ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴿٥﴾ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ﴿٦﴾ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴿٧﴾ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴿٨﴾)
 بسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد. فلازال حديثنا في ضمن هذا اللقاء العلمي وقد كنا بحمد الله قد أنهينا الكلام عن سورة غافر ونبتدئ -إن شاء الله- في هذا اللقاء بالكلام عن سورة فصلت سائلين الله عز وجل التوفيق والإعانة والتسديد.
هذه السورة الكريمة سورة فصلت هي سورة مكية بإجماع المفسرين وهي من ضمن سور الحواميم السور التي استفتحت بالحروف المقطعة (حم) وهي ثاني سورة من سور الحواميم. وهذه السورة كغالب السور المكية تنحو منحى تقرير الألوهية والرد على المشركين في تكذيبهم وشكهم في الله ورسله لكنها تركز في هذا السياق على قضية شكهم بالقرآن الكريم وتكذيبهم له وموقفهم منه وسنرى في أثناء استعراضنا للسورة مظاهر شكهم في القرآن، مظاهر تكذيبهم له. أيضاً سنرى موقفهم من القرآن وطريقة تعاملهم معه يمكن يرد لنا وقفات خاصة بهذا الموضوع في ثلاث مواضع أو أربع مواضيع في هذه السورة.
 وأول هذه السورة حديث عن القرآن الكريم، حديث عن فضل القرآن الكريم، حديث عن منزلته، حديث عن مكانته وشرفه ولذلك استفتح عز وجل السورة قال(حم ﴿١﴾ تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿٢﴾ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا) هذا القرآن، هذا الكتاب هو تنزيل من الرحمن الرحيم وإذا كان تنزيلاً من الرحمن الرحيم فلا شك أن هذا الكتاب سيكون فيه الرحمة وسيشتمل على الرحمة ويدعو إلى الرحمة ولهذا قال (كتاب) يعني هو كتاب، هذا التنزيل كتاب (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ). بدأ بذكر الرحمن الرحيم ولعله تقدّم في هذه الدورة العلمية الوقوف عند معنى الرحمن الرحيم وأنهما اسمان لله عز وجل مشتقان من الرحمة، وقوله الرحمن هذه يشير إلى الذات والرحيم يشير إلى آثاره عز وجل في رحمة خلقه جميعاً فهو الرحيم بكل خلقه حتى بالكافر منهم حتى بالفاجر هو رحيم عز وجل بهم ولذلك يرزقهم ويمتن عليهم ويعافيهم ولكن أكمل رحمته أتمها تكون للمؤمنين.
 ثم قال عز وجل (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) هذا التنزيل هو كتاب فصلت آياته (قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). (فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) التفصيل يعني التوضيح والتبيين لأن فصل الشيء عن الشيء إبانة له فإذا فصلت هذا عن هذا ميّزته ومن آثار هذا التمييز أن يكون بيناً ولهذا قال (كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فمعنى فُصِّلت بينت آياته فآيات القرآن غاية في البيان غاية في الوضوح في ذاتها هي بينة وفيما تدل عليه وترشد إليه هي أيضاً بينة ولذلك قال (قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) هذه أوصاف كريمة للقرآن:
 أولاً تنزيل، من الرحمن الرحيم، كتب، فصلت، قرآن، عربي، لقوم يعلمون، والصفة الأخرى (بَشِيرًا وَنَذِيرًا) لأنه لما كان الكلام على ذكر صفة القرآن وما تضمنه استفتح أنه بشير ونذير (بَشِيرًا وَنَذِيرًا) وهذا هو الأصل في مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وفي الكتاب المنزل أن يكون أولاً بشيراً لمن أطاع ونذيراً لمن كذب. هذا القرآن الذي احتف بهذه الصفات الكريمة بكل هذه الصفات العظيمة كيف كان موقف كفار مكة ومن تابعهم منه؟ قال عز وجل (بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) أكثر الكفار أعرضوا لا يسمعون، أعرضوا عن سماعه، أعرضوا عن قبوله، أعرضوا عن الاهتداء به.
 (أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) نفى السمع عنهم مع أنهم يسمعون لانتفاء فائدة السمع ولذلك قال عز وجل (لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) [الأعراف:179] أثبت لهم الجارجة، جارحة القلب وجارحة العين وجارحة الأذن لكن نفى الفائدة منها فإذا انتفت الفائدة منها كأنها لم توجد ولذلك يصح نفيها لا يبصرون، لا يسمعون، لا يفقهون، لا يعقلون، لأنهم لم ينتفعوا بها وهكذا كل من ملك نعمة فلم ينتفع بهذه النعمة فكأن قد فقدها ولذلك قال (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) وإذا كنا قلنا في بداءة الكلام عن السورة أن السورة تركز على موقف المشركين من القرآن فإن السورة استفتحت بهذا الموقف ولذلك ذكرت أوصاف القرآن ثم ذكرت موقفهم منه، الأول الإعراض.
 ثم قالوا بعد ذلك يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) انظر كيف هذه الأغشية التي جعلوها على أنفسهم وقلوبهم وعقولهم قالوا (قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ) في غطاء ما يستكنّ به الإنسان ويقيه إما لفح الشمس أو شدة البرد مما يستكن به الإنسان(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ) 
في مثل الغطاء فلا يخلُص لها هذا القرآن الذي تقول وتقرأ (وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ) ثِقل، ثقيلة آذاننا وهذا كناية عن عدم السمع قالوا لا نسمع (وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) القلوب مغلقة والآذان لا تسمع ولم يكتفوا بهذا بل قالوا (وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) يعني لا مجال لأن نقبل منك ولا أن نسمع منك وهل هذا موقف العاقل؟! العاقل إذا سمع كلاماً يزنه إن رآه حسناً قبِلَه وإن رآه سيئاً ردّه لكن لا يقول أنا لا أسمع منك لأني أنا بيني وبينك حجاب وأنا لا أسمع وأنا لا أفقه، كل ذلك تردّ ما يأتي به هذا دلالة على ضعفك وشكّك فيما عندك ولأجل هذا تضعف عن مواجهة هذا الذي جاءك ويدعوك ولهذا قالوا له (وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) دعك أنت في حالك ونحن في حالنا، لا تدعونا ولا تخاطبنا وهذا يشير – ويمكن إن شاء الله أن يأتي في الآيات ما يؤكد هذا الأمر – يشير إلى شعور الكافرين بعجزهم المفظع أمام القرآن الكريم ما استطاعوا أن يواجهوا ما فيه من الحق، ما استطاعوا أن يواجهوا ما فيه من الهدى والنور ولذلك ما وجدوا سبيلاً إلا أن أغلقوا أعينهم وصموا آذانهم وغطوا قلوبهم عن سماعه وسيأتي في الآيات الكريمة ما يشير إلى أمر مضحك يدل على العجز المفظع في مواجهة الحق الذي جاء به القرآن الكريم فيما نستقبل من الايات الكريمة.
ثم قال عز وجل يرشد نبيه ليجيب عن قولهم هذا (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ﴿٦﴾ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴿٧﴾ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ﴿٨﴾) فيرشد الله نبيه إلى أن يرد عليهم ومعنى هذا الرد ومقتضاه أنني لا أملك هدايتكم، لا أملك أن أُدخل الإيمان في قلوبكم فأنا بشر مثلكم. وهذا مع ما فيه من دلالة على تواضع النبي صلى الله عليه وسلم وهو الخُلُق الذي يجب أن نتربى عليه، أن نتربى على معنى التواضع مهما بلغنا من العلم والشأو والمكانة فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق يقول له الله عز وجل (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ولكن الذي ميّزني أني يوحى إلي (يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) لا أملك أن أهديكم ولست ملكاً أو أملك القدرة على تغيير قلوبكم، كلا، فأنا بشر مثلكم لكن الله أوحى إليّ أن أبلغكم (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) التعدية بحرف (إلى) ليبين عن المقصود غاية الاستقامة، ليس الغرض أن تستقيم فقط فقد تستقيم إلى طريق غير موصل إلى الغاية ولذلك قال (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) عدّاه بـ(إلى) الدالة على أن هذه الاستقامة تنتهي إلى الله عز وجل ولذلك قال (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) فأمرهم بالاستقامة إلى الله عز وجل، والاستقامة: دوام اللزوم لزوم طريق الحق الموصل وأن لا يحيد عن هذه الاستقامة وسيأتي أيضاً ما يدل على معنى الاستقامة في السورة الكريمة فقال (وَاسْتَغْفِرُوهُ) من تقصيركم وذنوبكم ثم قال (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) الويل هو: النار وقيل هو الثبور ومعناها واحد.
 (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) من هم المشركون؟ صفاتهم (الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) فهم لا يؤتون الزكاة، والزكاة الأصل في اللغة: التطهير والنماء. زكى الشيء بمعنى طهُر، وزكى بمعنى نما والمقصود في الآية مطلق الزكاة، مطلق تزكية النفس وتزكية المال ولا يقصد بها الزكاة المعروفة لأن الزكاة المعروفة نزلت بعد ذلك وكما قلنا السورة نزلت مكية فهي تشير إلى مطلق التزكية يبدأ الإنسان من ماله الذي أعطاه الله عز وجل دون تقييد بصفة وقدر معين.
 (وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) المجيء بضمير الفصل "هم" للتأكيد ومزيد التشنيع عليهم بسبب كفرهم وفي مقابلهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) غير مقطوع ولا ممنوعين منه. جاء في خبر وقع للنبي صلى الله عليه وسلم مع عتبة بن ربيعة وكان من وجهاء قريش ومن عظمائهم وهي تحكي صورة من اضطراب المشركين من النبي صلى الله عليه وسلم ومما يدعو إليه فقالوا لو ذهبنا إلى رجل عالم بالكهانة عرف كلام الكهان وعرف كلام السحرة فكلّمه فلعله يرجعه عما فيه، قال عتبة والله قد خبرت السحر وخبرت الكهان وعرفتهم – وذكر من فضله ومكانه- فذروني فآتِه فذهب إليه وقال يا محمد قال أأنت خير أم قصي بن كلاب؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أأنت خير أم عبد الله؟ ثم بدأ يتكلم مع النبي صلى الله عليه وسلم قال إن كان بك رئي من جن أو مس طلبنا لك طبيباً، وإن كنت تريد النساء زوجناك من عشر من كِرام نسائنا، وإن كنت تريد المال جمعنا لك، وإن كنت تريد الرئاسة..، لم يتكلموا معه فيما كان يدعو إليه لأنهم أصيبوا بالعجز عن مواجهة ما يدعو إليه فانتقلوا إلى مرحلة إغرائه وإطماعه في الدنيا، ما الذي تريده نفعله. جاء في بعض الروايات أن سكت النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليه ولم يجب فلما فرغ قال أفرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، فافتتح النبي صلى الله عليه وسلم فقال (حم (1) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ثم بدأ يقرأ الآيات الكريمة وهم أهل اللسان يعرفون ما تدل عليه هذه الآيات من المعاني العظيمة فلما بلغ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فقام عتبة بن أربيعة فأمسك بفم النبي وقال ناشدتك الرحم ألا تُكمل!. وقد نستغرب لما قال هذا الكلام؟ يقول في الرواية – وهو خبر طويل - أنه رجع إلى قومه وكانوا ينتظرون وفي رواية أنه رجع إلى بيته ما كلّم أحداً لأنه صدمته هذه الآيات بمعانيها ودلالالتها وفي بعض الروايات أن أبا جهل دخل عليه فرأى أن وجهه تغيّر قال أصبأت؟ أغرّك محمد بطعامه؟ فأغضبه حتى أخذته الحمية فخرج وقال في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وفي بعض الروايات أنه رجع إلى ناديهم فقالوا والله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به -تغير- حتى جاء في بعض الروايات – وهو يحكي ما كان منه - قال فوالله استفتح فقرأ حتى بلغ (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فأمسكت بفمه وناشدته الرحم خوفاً عليكم فوالله ما تكلم بشيء إلا وفّى به فخفت أن تنزل بكم الصاعقة. فهم يعلمون صدقه وأنه جاء بالحق وأنه لا يكذب لكن قلوبهم مغلقة لا يقبلون الحق ولا ينقادون إليه.
 بعد أن ذكرت الآيات واستفتتحت بذكر القرآن الكريم ومكانته وشرفه ومنزلته وذكر تكذيبهم انتقلت الآيات الكريمة إلى ذكر بعض مظاهر قدرة الله في الكون الدالة على استحقاقه للعبوية وحده دون سواه فقال عز وجل مرشداً نبيه أن يقول:
(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴿٩﴾ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ
﴿١٠﴾ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴿١١﴾ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴿١٢﴾)
يقول الله عز وجل لرسوله قل لهم يا كفار مكة إنكم لتكفرون بالله عز وجل بالخالق، تكفرون بالذي خلق الأرض التي أنتم عليها في يومين (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا) أصل الندّ في اللغة المماثل، فلان ندّ فلان يعني مماثله، (وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا) يعني شركاء وأمثال (ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) عود الإشارة في "ذلك" إلى الذي خلق الأرض في يومين.
 (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا) المقصود بالرواسي هنا المثبتات التي ترسيها فلا تضطرب ولا تميد ولا تتحرك وهي الجبال  (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا).
(وَبَارَكَ فِيهَا) أولا خلق الأرض وثبتها مستقرة وبارك فيها، ملأها بالخيرات وأنواع الرزق من مطعوم ومشروب ومأكول وغير ذلك مما ينتفع به فهذه الأرض كلها خيرات وأنواع الانتفاع بما في باطن الأرض. دعك من الزروع ومن الطعام ومن الشراب بل باطن الأرض من أنواع المعادن مما ينتفع به الناس نفعاً عظيماً وهذا كله من البركة التي بثها الله عز وجل في الأرض (وَبَارَكَ فِيهَا).
 ثم قال (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) التقدير أصله القضاء المستقيم (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا) يعني قضى الأقوات والأرزاق (فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) فقدر فيها أرزاق الخلق ومعاشهم وغذاءهم وما يصلح أحوالهم في تمام أربعة أيام.
 قوله (سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ) يعني ليستوي فيها كل من يسأل ليستوي في العلم بهذا الخلق وهذا التقدير على هذا المدة كل من يسأل، هذا جواب لكل من يسأل وهو جواب يستوي فيه كل من يسأل لأنه حقيقة، فكل من سأل تجيبه بهذا الجواب لأن هذا هو الحق لا يوجد شيء غيره(سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ).
(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) معنى استوى هنا بمعنى قصد الاستواء يأتي في اللغة بمعنى القصد وبمعنى العلو والارتفاع فاستوى هنا بمعنى قصد، قصد إلى السماء وهي دخان (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) (وَهِيَ دُخَانٌ) مع أننا لا نريد أن ندخل في تفاصيل النظريات الحديثة المعاصرة في نشأة الكون وسبب وجوده لكن مما يقولون – والله أعلم بصحة هذا لكن القرآن يشهد له- أن الكون كان قبل ذلك سديم دخان أسود قبل أن تتشكل الكواكب والأفلاك وظاهر الآيات الكريمة يشير إلى هذا المعنى (وَهِيَ دُخَانٌ) الدخان فيه معنى الظلمة والأبخرة (فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا) إئتيا مستجيبين أمري لكما إن شئتما طوعا إن شئتما كرهاً فعلى الحالين لا بد أن تأتيا ولا يسعهما إلا الاستجابة لخالقهما عز وجل. فانقادتا مذعنتين لله عز وجل (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) ذالّين منقادين لأمره عز وجل.
 قوله (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ) قضى بمعنى قدر وحكم (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا) ما أمر به وما قضاه وما قدره عز وجل (وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فبعد أن قدرهن سبع سموات وقضى في كل سماء أمرها قضى فيها ما قدّره فيها من الأفلاك وما فيها مما لا نعلمه ومما لا يعلمه الخلق ثم قال عز وجل (فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) قضى الله عز وجل السموات سبع سموات بمعنى قضى وحكم أن تكون سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء من هذا السموات السبع أمرها ما قضى فيها وما قدره فيها من الخلائق والأكوان ومما لا نعلمه مما يوجد في هذه الأفلاك والأموا مما لا يحيط بعلمه إلا الله عز وجل.
 (وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا) السماء القريبة من الأرض ( السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وحِفْظاً) المصابيح زيناها بهذه النجوم التي من وصفها أنها مصابيح تضيء وأنها أيضاً تحفظها (وحِفْظاً)  فهي نجوم مضيئة وهي أيضاً حافظة من الشياطين ولهذا قال في آية أخرى (وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ) [ الملك:5] فبهذه النجوم تتحقق زينة للسماء تكون بالمصابيح المضيئة وتحفظها من الشياطين الذين يسترقون السمع.
 ثم قال (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ذلك الخلق البديع المحكم المتقن هو تقدير الله العزيز في ملكه الذي لا يعجزه شي العليم الذي أحاط بكل شيء علماً. وتأملوا هذين الوصفين اللذين ختمت بهما الآية (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) فإن الخلق المتقن يحتاج إلى هذين الوصفين وصف العزة والعلم أما العزة دال على كمال القدرة الذي يحتاجه من يخلق، والعلم دال على كمال الخبرة حتى يتقن خلقه. لأن الإنسان قد يكون عالماً غير قادر، أو يكون قادراً غير عالم فينقص، ولكن القرن بين هذين الوصفين إشارة إلى كمال القدرة مع كمال العلم وبهما يكون الخلق متقناً محكماً ولهذا قال (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).
 بعد ذكر هذه الآيات وذكر صفة القرآن وموقفهم منه والاستدلال بعض مظاهر الكون يقول عز وجل (فَإِنْ أَعْرَضُوا) بعد هذا كله إن أعرضوا (فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) إن أعرض هؤلاء المكذبون من كفار مكة ومن كان على شاكلتهم فقل إنني جئتكم منذراً لكم بصاعقة مثل صاعقة عاد وثمود يعني جئتكم منذراً لكم بصاعقة تستأصلكم كما وقع لعاد وثمود.
 (إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) النص على عاد وثمود لأن ديارهم كانت على ممر قوافلهم فيرونها ويعرفون أخبارهم، هذه واحدة.
والثانية أن قوم عاد وثمود من أقوى الأمم ولذلك فإهلاك هذه الأمة على ما فيها من القوة يُورث في النفس المهابة إذا كانت الأمة بهذه القوة وهذه المهابة فلا يعجزه إهلاك كفار مكة. ولهذا قال عز وجل (إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ) جاءتهم الرسل متوالين رسول إثر رسول متتابعين. من بين اليد يعني أمامك وهذا إشارة إلى التتابع وقد لا يكون إشارة إلى التابع ولكن إشارة إلى أن الرسل قد جاءتهم من كل جانب احتالت عليهم وحاولت هدايتهم  بكل طريق مرة من أمامهم، مرة من ورائهم، والقصد أنهم لم يدعوا طريقة ولا طريقاً يؤثر في أممهم إلا سلكوه ومع ذلك ما نفع!
 (إِذْ جَاءتْهُمُ الرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) على تقدير محذوف قائلين لا تعبدون إلا الله. فكان جوابهم (قَالُوا لَوْ شَاء رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) اعترضوا على أن يكون الرسول من جنسهم، ولماذا يُرسل الله واحداً منا؟! مقام الرسالة مقام عظيم فكيف يأتي بواحد من البشر؟! وهم بهذا فقط يذكرون ذرائع يتذرعون بها على تكذيب الرسل. والسؤال هل أنتم أيها الكفار الذين تختارون الرسل أم الله عز وجل؟ الأصل أن الله هو الذي يختار الرسول فكان الواجب أن تسألوا هل هذا الرسول صادق فيما جاء به أم لا لا أن تعترضوا على مبدأ أن الرسول بشر. وهب أن الرسول جاء على ما يريدون ملكاً قالوا كيف يكون الرسول ملكاً؟! لا نستطيع أن نسمع عنه ولا الأخذ منه، لا نستطيع أن نفعل مثل فعله ولا أن نمتثل ما يدعونا إليه ولذلك قال (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ) أصل صورة الملك لا يستطيع البشر أن يتلقى عنه، طاقة الإنسان لا تستطيع أن تقارن طاقة الملك ولا روحه تماثل روحه، النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد من الله عز وجل ما استطاع أن يرى جبريل عليه السلام مجرد الرؤيا ولذلك قال دثروني، زملوني. بل كان إذا نزل عليه الوحي يفصم عنه وقد اشتد به الأمر شدة عظيمة لذلك لا يستطيعون أن يتلقوا عنه لا بد أن يأيتهم بصورة بشر وإذا جاءهم بصورة بشر وقعوا في الإشكال نفسه ولهذا قال (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ) لن يستطيعوا التلقي عنه، هم لم يريدوا بشراً فإذا أرسل لهم ملكاً لا بد أن يأتي بصورة بشر وإذا كان بصورة بشر رجعنا إلى ما كان في الأول وهذا معنى قوله (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ).
 بعد أن ذكر هذا التكذيب المجمل بدأ في تفصيل أحوالهم فقال عز وجل:
 (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) بدأ بعاد قال (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)  استكباراً متلبساً بغير الحق والأصل أن الاستكبار يكون بغير الحق لأنه لا يكون الاستكبار بحق أبداً لا يوجد استكبار والمستكبر مُحِقّ لأن الاستكبار مذموم وهذه من الأوصاف الكاشفة أن هذا الاستكبار أيضاً بدون حق فهو وصف يكشف صفة الاستكبار وليس تقييداً له لأن الاستكبار في أصله لا يكون بالحق (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًهذا سبب استكبارهم قوتهم، جاء في وصف خلقهم ما يدل على شيء من هذا أنهم كانوا غاية في القوة حتى أنهم قالوا من أشد منا قوة؟ لا يرون أحداً من البشر أقوى منهم، حيث قالوا (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًيعني لا أحد أشد منا قوة! انظروا سبحان الله هذا الرد المختصر الموجز لكن الغاية في الإفحام (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) هب أن الخلق كلهم اضعف منكم لكن من الذي خلقكم؟ لا شك أن الذي خلقكم أشد منكم قوة، ومُحال أن يكون المصنوع أقوى من الصانع وهذا من جهل الإنسان وغرور، القوة والقدرة تعمي الإنسان أن ينظر في أصله. ثم قال (وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) يكذبون بها ويعرضون عنها.
ثم قال عز وجل بعد ذلك (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ) أي جزاء تكذيبهم أرسلنا عليهم ريحاً شديدة البرودة عالية الصوت حيث قال ريحاً صرصراً لها صوت شديد جمعت بين قوة الهواء وشدة البرودة وكون الصوت عالياً فهي تأتي بهذه الصورة على أشد أحوالها (أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ) أيام شديدة النحس عليهم ومشؤومات عليهم أيام نحسات عليهم. (لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) العذاب المخزي في الحياة الدنيا (وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى) أشد خزياً لهم وإذلالاً (وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ).
ثم قال عز وجل (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ) الهداية هنا المقصود بها الدلالة بيّنا لهم الحق دللناهم على الحق وبيّنا لهم الطريق (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى) اختاروه عن رضى وقبول وانشراح ما كان الأمر ملتبساً عندهم بل انقادوا إليه عن رضى وقبول فاستحبوا العمى على الهدى فكان جزاؤهم (فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ) يعني العذاب المهين الصاعقة الشديدة التي أهلكتهم مرة واحدة (صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) بسبب ما كسبوه، والذي كسبوه هو التكذيب والإعراض عن أمر الله وأمر رسوله.
 وفي مقابل إهلاك هؤلاء المكذبين قال الله عز وجل (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) فذكر عز وجل في مقابل إهلاك المكذبين ذكر نجاة المؤمنين. وانظر الوصف الذي اقترن بالنجاة قال (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) وهما وصف النجاة في الدنيا والآخرة الإيمان وتقوى الله عز وجل (وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) فكانت تقواهم سبب نجاتهم.
 هذه الآيات التي استعرضناها تأملوها من بدايتها فيها ذكر الكتاب، القرآن الكريم ومصدره وصفاته وما تضمنه من البشارة والنذارة ثم تنتقل الآيات لتذكر موقف المشركين وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وقلة حيلتهم في مواجتهم وعجزهم المفرط.
 ثم تنتقل الآيات إلى ذكر مظاهر قدرة الله وقوته في الكون وبديع صنعه ثم مظاهر قدرة الله وقوته في إهلاك المكذبين برسله حيث أهلك عاد وثمود وذكرنا أنه نصّ على هاتين الأمتين لأنهما من أشد الأمم وأقوى الأمم ولذلك جاء النص عليهم.
 وهذا الترتيب غاية في الانسجام مع مقصود السورة وغايتها حيث الحديث عن القرآن الكريم وتكذيبهم وشكّهم فيه وفيمن نزل عليه.
 وبعد أن ذكر هذا الحال انتقل إلى موضوع آخر وإلى مجال آخر وهو ما يكون في يوم القيامة حيث قال عز وجل (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴿١٩﴾ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٢٠﴾)
بعد أن ذكر مصيرهم في الدنيا والعقوبة التي حلت بهم انتقل للحديث عن الآخرة ما الذي ينتظرهم فقال الله عز وجل (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ) الحشر هو الضم والجمع، (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) قوله (أَعْدَاءُ اللَّهِ) المقصود بهم الكفار (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يعني يُردّ آخرهم على أولهم ويُردّ أولهم على آخرهم بمعنى أنهم يُحشرون جميعاً بحيث لا ينفلت منهم أحد ولا يغيب منهم أحد بل كلهم محشورون موزوع بعضهم إثر بعض قد رُدّ أولهم على آخرهم ورُدّ آخرهم على أولهم فلا يفوتون ولا يخرجون عن هذا الحشر.
 ثم قال عز وجل (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) يساقون إليها -والعياذ بالله- سوقاً. قال عز وجل (حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) إذا جاؤوا إلى النار تشهد عليهم جوارحهم فتشهد عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون وهذا من كمال عدل الله عز وجل أنه مع تسجيل الكرام الكتبة على الإنسان ما عمله وحفطهم له وشهودهم عليه هم يكتبون ويشهدون وقبل ذلك عِلم الله عز وجل ومع ذلك فإن الله عز وجل من كمال عدله أن يُقيم الشاهد على المرء من نفسه فيُخرَس اللسان ثم يأمر الله جوارحه فتنطق جوارح العبد بما كسب الأذنان تنطق، اليدان، الرجلان، حتى الجلد ينطق فإذا شهدت بما عمل أطلق الله لسانه فيقول بعداً لكنّ وسُحقاً فعنكنّ كنت أناضل. ولذلك لا يهلك على الله هالك لأن الله يقيم الحجة على الإنسان من ذات نفسه.
 قال عز وجل (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تأمل هذا الحوار بين الإنسان وبين نفسه وجوارحه وبين جلده، يحاور جلده (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أن الذي أنطقنا هو الذي خلقنا وهو الذي أمرنا بأن ننطق ونحن إليه راجعون وأنتم أيها الكفار لن تستتروا عن الله حتى لو لم تشهد عليكم أسماعكم وأبصاركم وجلودكم فإنكم لا تستترون عن الله لأنه عز وجل مطّلع على العباد يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.




(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿٢٣﴾ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ﴿٢٤﴾ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ﴿٢٥﴾)

 بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه وبعد. فلا زال كلامنا موصولاً في تفسير سورة فصلت ضمن الدورة العلمية الأترجة. وكنا وقفنا عند قوله الله عز وجل وهو يُخبر عن شهادة أعضاء الكفار عليهم يوم القيامة حيث قال عز وجل (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿٢١﴾ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ﴿٢٢﴾ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴿٢٣﴾ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ﴿٢٤﴾)
لما شهدت عليهم جلودهم وسمعهم وأبصارهم وأنطقها الله قالوا لم شهدتم علينا؟ فردّت عليهم في هذه المحاورة العجيبة التي تقع بين الإنسان وبين أعضائه، بين الإنسان وبين سمعه، بين الإنسان وبين بصره، بين الإنسان وجلده، أقرب شيء إليك، أبعاضك هي التي تشهد عليهم (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ) ما كنتم تخفون عن الله وتستترون عن الله حتى ولو لم نشهد عليكم لأن الله عز وجل يعلم السرّ وأخفى ولا يخفى عليه شيء ولكن الذي منعكم من ذلك هو أنكم كنتم تظنون، بل ظنكم السيء بربكم هو الذي منعكم من ذلك حيث ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً من عملكم فهو الذي أسلمكم إلى هذه الحال وقادكم إلى ما أنتم عليه.
 (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ) هذا الظن السيء هو الذي أهلككم فأصبحتم من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وخسروا أهليهم وخسروا جنته عز وجل ورضوانه ودخلوا النار (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
 جاء التعقيب قال عز وجل(فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) إن يصبروا على هذا العذاب فالنار هي مقامهم لا يخرجون منها ولا يتحوّلون عنها (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) 
إذا لم يحدث منهم الصبر، الإنسان إما أن يصبر أو لا يصبر فيطلب الغوث، إن يصبر فهذا مقامه ولن يخرج منه وإن لم يصبر فسيستغيث (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا) يطلبوا المعاتبة والاعتذار استعتبت فلاناً يعني طلبت عذره فيعذرني (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) ليسوا من المعذورين فإذاً لا مصير لهم ولا ملجأ والعياذ بالله.
 ثم قال عز وجل (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ) لهؤلاء الظالمين الجاحدين المكذبين المعاندين قيضنا لهم شياطين قيضنا لهم قرناء يعني أصحاباً من الجن والإنس (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاء فَزَيَّنُوا لَهُم) زينوا لهم هذه القبائح التي عملوها وجعلوها حسنة وهذه من أعظم الخذلان للعبد أن يخذله الله فيرى سيئاته حسنات وتزيّن له أعماله هذا من أعظم الخذلان لأن المؤمن قد يقع في المعصية -وكلنا كذلك- لكن لا يزال يرى نفسه تعاتبه وتلومه على ذلك، لا يزال يرى في نفسه حسرة المعصية، لكن المنافق والكافر تُزين له معصيته فيراها حسنة فلا يوفق للتوبة ولا إلى الرجوع
. قال الله عز وجل (فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) فزينوا لهم قبائح أعمالهم في الدنيا وركنوا إلى لذاتها وشهواتها، وزينوا لهم ما خلفهم في الآخرة فزينوا لهم أعملهم في الدنيا وزينوا لهم عاقبتهم في الآخرة (إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى) إذا رجع يطمع في ثواب الله وفضله جمعوا بين إساءة العمل في الدنيا والأمن في الآخرة فزينوا لهم أعمالهم في الدنيا وزينوا لهم عاقبتهم في الآخرة كقوله عز وجل (وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى)
 [فصلت:50] فهو يسيء في الدنيا وإذا رجع إلى الله يطمع أيضاً في ثواب الله وفضله. هذا التزيين أنساهم الآخرة وأنساهم الاستعداد لها (فَزَيَّنُوا لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) لما نسوا (وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ) وهو قول الله عز وجل الذي كتبه وقضاه على أهل النار وما قدّره عز وجل وقضاه قبل خلق السموات فقضاؤه عز وجل حق عليهم وتحقق وظهر وقضاؤه عز وجل هو قوله (إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) هالكين ومصيرهم النار.
 بعد أن ذكر الله عز وجل من بداية السورة إلى هذا الموضوع هذه الموضوعات المتعلقة بموقف المشركين من القرآن حيث قال عز وجل (وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ) هنا تعود الآيات الكريمة إلى ذات الموضوع مرة أخرى فتذكر جانباً من موقف المشركين من القرآن الكريم وما الذي يفعلونه في مواجهة هذا القرآن وما تضمنه، قال عز وجل (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) قال الذين كفروا يعني قال بعضهم لبعض يوصي بعضهم بعضاً قطعتهم الحجة، القرآن غاية في الفصاحة، غاية في البيان تضمّن الهدى والرشاد، لا مدخل ولا مطعن فيه ولا مجال إلى الإنكار والتكذيب فماذا تواصوا عليه؟ قالوا نتواصى فيما بيننا أن لا نسمع لهذا القرآن (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ) لا تنصتوا، لو قرأ عندكم النبي صلى الله عليه وسلم ماذا تفعلون؟ (وَالْغَوْا فِيهِ) ارفعوا أصواتكم باللغو والكلام الذي يلهيكم عن سماع القرآن. أليس هذا هو الغاية في العجز؟ أنهم لم يستطيعوا أن يواجهوا القرآن ولا أن يعارضوه ولا أن يردوا ما فيه من الحق فاستبدلوا ذلك بمحاولة صرف أنفسهم عن سماعه فلا يسمعونه ولو وقع لهم اتفاقاً سماعه فإنهم يلغون يرفعون أصواتهم باللغو في الكلام حتى ما يعلق في قلوبهم شيء من القرآن ولذلك صناديد قريش وكبراؤهم كأبي جهل والوليد كانوا في الليل يذهبون خلسة يستمعون لتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم أهل لسان ويعرفون مدى فصاحة هذا القرآن وهذا البيان وما فيه الهدى فيأخذ عليهم ألبابهم وعقولهم ولكنهم لعنادهم وتكبرهم لا يتبعونه مع أنهم يعلمون أنه الحق ولا يستطيعون سماعه عند الناس فكانوا يستمعون في الليل والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن ويحيي الليل قرآناً فيأتون إلى جدار بيته صلى الله عليه وسلم يستمعون لتلاوته ويظنّون أن الليل يسترهم عن الناس فيقع بعضهم على بعض فكان كل واحد منهم يعيب على الآخر أنه يأتي ويستمع فيقول كيف نكذبه بالنهار ونأتي نستمع إليه بالليل؟! فيتعاهدون على أن لا يأتوا فإذا رجعوا لم يملكوا إلا أن يعودوا مرة أخرى كلٌ منهم يظن أن الآخر لن يأتي فيستمعون للنبي صلى الله عليه وسلم فيقع منهم كل منهم يلتقي بالآخر اتفاقاً فيتعاتبون ثم يتعاهدون ويتكرر الأمر منهم مرة ثالثة حتى قالوا والله لئن بقيتم على ذلك وسمع بكم سفهاؤكم ليتبعنّ محمداً فتعاهدوا وتعاقدوا على أن لا يأتوا.
 إذاً كان لهذا القرآن سلطان عليهم فما استطاعوا إلا -مثل الأطفال- أن يصرخوا ويرفعون أصواتهم، يبدأون برفع الأصوات والكلام الذي لا معنى له الذي هو لغو الكلام قصدهم أن لا يقع شيء من القرآن في القلوب. حتى أنهم كانوا يوصون أي شخص يأتي إلى مكة يقولون إن رجلاً منا هكذا صفته كلامه مثل السحر فاحذر أن تسمع منه! حتى السماع لأنهم يعرفون أنه لو سمع سينقلب. إذاً كان تأثير القرآن تأثيراً عظيماً عليهم لدرجة أنه يبلغ منهم الأمر إلى أن يصلوا إلى هذا المستوى ويقولون (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ)، هل هذه الحيلة ستنفع؟ قالوا (لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) الغلبة التي يطمعون فيها ألا يتأثروا بهذا القرآن، فهذا العجز المفظع الذي بلغه أولئك القوم.
 قال الله عز وجلّ جواباً عليهم (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٢٧﴾ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴿٢٨﴾)
جزاء هذا الإعراض وهذا التعنت فلنذيقن الذين كفروا عذاباً شديداً. التعبير بلفظ الإذاقة ما قال فلندخلنّهم أو فلنعذبنّهم قال (فلنذيقنّ) لأن الذائقة هي أشد ما في الإنسان حساسية، الأعصاب الموجودة في ذائقة اللسان على طرف اللسان من أشد الأطراف حساسية وسريعة التأثر جداً فإما أن يكون المراد المعنى فليذوقوا أو يكون التعبير من باب الاستعارة والكناية فتشبيه العذاب الذي ينالهم بالذي يتذوقونه ليكون أشد في إيلامهم وأعظم في إيجاعهم بسبب تكذيبهم وكفرهم ولذلك قال (فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا) لفظ العذاب جاء نكرة ليدل على التهويل والتعظيم (عَذَابًا شَدِيدًا) لفظ النكرة في القرآن الكريم يأتي ويراد به التفخيم، وقد يأتي ويراد به التقليل والتحقير، وقد يأتي ويراد به التهويل، ضابط التفريق بين هذه المعاني الثلاثة بحسب السياق الذي ترد فيه.
- إذا وردت في مساق الذم فإنها تفيد التقليل
- وإذا وردت في مساق الثناء فإنه يراد بها التعظيم
- وإذا وردت في مساق التخويف فإنه يراد بها التهويل مثل قوله (عَذَابًا شَدِيدًا) لفظ عذاب نكرة ما قال العذاب فيفيد التهويل هذا العذاب.
 (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) لنجازينّهم بأسوأ أعمالهم كما أن أهل الجنة يجازون بأفضل أعمالهم فإن أهل النار -والعياذ بالله- يجازون بأسوأ أعمالهم.
 ثم قال الله تعالى (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بعد أن ذكر عاقبتهم في النار أيضاً تنتقل الآية إلى عرض شيء مما يحصل لهم في النار والسورة تتنقل تنقلاً آخذاً بعضه بحُجز بعض، مراحل متتالية متسلسلة متعاقبة.
 قال الله عز وجل (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) بعد أن دخلوا النار ونالوا حرّها وصلَّوا من فَيْحِها وقلوبهم ملأى على من أضلهم من الجن والإنس قالوا (رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) ليكونا في الدرك الأسفل من النار، وما يغني ذلك؟! هب أنهم جعلوهم تحت أقدامهم، هب أنهم قطّعوهم، ما يغني عنهم شيء ولكن الألم الذي في أنفسهم من هذا المصير الذي انتهوا إليه بسبب إضلال هؤلاء لهم حداهم إلى أن يقولوا ذلك.
 وبعد أن ذكر الله عز وجل مصير أهل النار والعذاب الذي ينزل بهم وشيئاً من أحوالهم ينتقل إلى الجانب الآخر، ينتقل إلى أهل الإيمان، إلى أهل الاستقامة فيقول عز وجل:
 (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴿٣٠﴾ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ﴿٣١﴾ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴿٣٢﴾)
 قوله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا)  قالوا ربنا الله ثم استقاموا جاء لفظ الاستقامة مطلقا ليدل على نوع من الاستقامة المطلق في كل أحوالهم استقاموا في عقائدهم استقاموا في أقوالهم استقاموا في أفعالهم وداوموا على ذلك فجاء لفظ الاستقامة مطلقاً ليشمل كل صور الاستقامة.
 وورد عن السلف تفاسير في معنى الاستقامة منها: ما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال "استقاموا فلم يروغوا روغان الثعالب" ومعنى ذلك بعض الناس على طريق الحق يعلم أن هذا طريق الحق لكن تجده مرة مستقيماً عليه ثم يروغ مرة أخرى يمنة أو يسرة ثم يرجع إليه. هذه ليست هي الاستقامة التي أمرنا الله بها، الاستقامة هي الاستمساك بالحق الذي أنت عليه والالتزام عليه والثبات عليه والصبر عليه حتى تلقى الله عز وجل، هذه الإستقامة التامة. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءه رجل يطلب وصية قال له: "قل آمنت بالله ثم استقم" استقم على هذا الإيمان التزم بهذا الإيمان وحافظ عليه.
 قال الله عز وجل هؤلاء الذين آمنوا واستقاموا ما مكانتهم؟ ما فضلهم؟ ما منزلتهم؟
 قال (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ) تتنزل عليهم قائلة لهم (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا).
 تنزّل الملائكة ورد عن السلف تفاسير متعددة في التنزّل: قالوا التنزل يكون في الدنيا، ومنهم من قال عند الموت، ومنهم من قال في القبر، ومنهم من قال في الصراط، ومنهم من قال في المحشر. فذكروا أنواعاً من التنزلات والذي يظهر أن الملائكة تتنزل في كل هذه الصور. تتنزل عليهم ولكن يختلف في كل حال يختلف هذا التنزل بحسب الحال أو بحسب الموضع الذي وقع فيه التنزل، وأعظم ما يكون التنزل عند قبض الروح لأن الإنسان إذا قبضت روحه أو عند وقت قبض روحه فقد قامت قيامته وعلم مقعده من الجنة أو النار وهذا الموضع أشد المواضع التي يحتاج الإنسان فيها إلى لتثبيت ولذلك كثر عن السلف ذِكر أنصحكم بمراجعتها لولا ضيق الوقت لذكرت بعضاً من آثار السلف في هذا الموضع في معنى التنزل وما يذكر من ذلك. هذا الموضع وهو وقت قبض الروح من أشد المواضع وفيها يُفتن الإنسان ويلقي فيها الشيطان آخر حباله ولذلك كان السلف يعظمون هذا الموقف ويسألون الله التثبيت. نسأل الله العظيم أن يثبتنا وإياكم حتى نلقاه.
 ولهذا كثير من السلف يحمل التنزل على هذا الموضع لأنه من أشد المواضع التي يحتاج فيها الإنسان إلى التنزّل تثبيت القلب.
 قال تتنزل عليهم الملائكة قائلين لهم لا تخافوا ولا تحزنوا، لا تخافوا مما تستقبلون من الآخرة ولا تحزنوا على ما مضى وما تدعونه من الدنيا، الإنسان يدع الدنيا يدع ماله وأولاده ويدع زوجه وأهله فيحزن على هذا، فيقال لهم أنتم في مكان لا تخافون مما تستقبلون ولا تحزنون على ما فات. ومع عدم الحزن وعدم الخوف أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. أصل البشر والبشارة الخبر الذي يثير البشرة فيُسمّى بِشارة. ومن أجل ذلك تطلق البشارة على الأخبار السارة فتسمى بشارة وقد يخرج عن هذا المعنى إلى معنى التهكم إذا استعمل في البشارة بالشرّ فيكون معناه على سبيل التهكّم (وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ).
 قال عز وجلّ (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) الولي هو النصير المعين، 
(أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يعني ناصروكم ومعينوكم وحافظوكم في الدنيا وفي الآخرة (وَلَكُمْ فِيهَا) أي في الآخرة نُرجِع الضمير على أقرب مذكور (وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ) والتعبير هنا بالاشتهاء الإنسان يشتهي شيئاً ليس من حاجة، مرة تكون محتاجاً إلى طعام فتأكل لأنك جائع هذا لا يسمى اشتهاء للطعام وإنما حاجة، لكن أنت قد شبعت من الطعام ولست بحاجة إلى طعام ولكن تجد في نفسك رغبة تشتهي شيئاً معيناً حلواً أو حامضاً أو نوعاً من الفاكهة، هذه تسمى حالة من حالات الترف والنعيم لأنها قدر زائد عن الحاجة وهذا التعبير مقصود في الآية أنه يلبى لك في الجنة الأشياء الترف فيها غاية في النعيم ما تشتهيه نفسك، أيّ شيء يخطر ببالك، (ولكم فيها مَا تَدَّعُونَ) ما تطلبونه وتدعونه فكل ما يتمناه المؤمن في الجنة يجده، بل حتى كما ورد في بعض الأخبار أن الخاطر إذا خطر ببالك شيء يأتيك قبل أن تتكلم به وقبل أن تدعوه وتطلبه.
 ثم بعد أن ذكر صفة أهل الجنة وأهل النار وموقف هؤلاء انتقل إلى موضوع لصيق بمعنى السورة الكريمة قال عز وجل (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴿٣٣﴾ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴿٣٤﴾ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴿٣٥﴾).
 قوله  (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا) بمعنى لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله يعني إلى توحيده وعبادته وتوحيد القصد إليه ومع الدعوة، هذا القول قال بعد ذلك (وَعَمِلَ صَالِحًا) فجمع بين القول وبين العمل الصالح وقال (وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) يعني في جملة المسلمين أسير سيرهم والتزم منهجهم وطريقتهم. أول من يدخل في هذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم فهو أكرم الداعين إلى الله وأكرم الذين عملوا صالحاً، ثم يليه العلماء ولذلك يقول العلماء أن هذه الآية في فضل العلماء الداعين إلى العلم المرشدين له أن هؤلاء هم أحسن الناس قولاً وهذا بشهادة الله أن العالِم إذا دعا إلى العلم أنه أحسن قولاً وأن لا أحد أحسن منه قولاً هذه منزلة ومنقبة عظيمة لأهل العلم. نسأل الله أن يسلك بنا سبيلهم وأن يأخذ بنا طريقهم.
 ثم قال عز وجل بعد ذلك (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) لا تستوي الحسنة مطلق الحسنة سواء حسنة قول أو حسنة فعل أو الحسنة الصادرة من المؤمن ولا السيئة ولا الفعل السيء أو القول السيء لا يستوي وهذا المفهوم الحقيقة يجب أن يكون حاضراً في أذهاننا أنه لا يمكن أن تستوي الحسنة والسيئة أبداً في عُرف الناس وضمائرهم أن يستوي الفعل السيء والحسنة أو القول السيء والحسنة أنا أقول هذا لنستفيد منه في تعاملاتنا يعني مهما أساء لك الإنسان فإنك لا تقابل السيئة بمثلها لأنه لا تستوي الحسنة والسيئة ولا تظن أن دفعك بالحسنة أن هذا ضعفٌ فيك بل أنت تستصحب أن الحسنة والسيئة لا تستوي عند الله ولا تستوي عند خلقه. ولأن الحسنة والسيئة لا تستوي يقول الله عز وجل (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) لأن المؤمن حريص على الحسنة وعلى فعل الحسن وقول الحسن خلاف الكافر والفاجر والمنافق ولأجل هذا يدفع بالحسنة السيئة التي تأتيه مهما استطاع إلى ذلك سبيلاً (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي فعل أي قول هو أحسن ادفع به، مطلق الآية تقول ما دام هذا الفعل أو هذا القول حسن فادفع به ومهما استطعت أن تدفع السيئة بأي نوع من الحسنات فلا تتردد ولذلك قال (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) هذا الدفع بالتي هي أحسن يوصلك إلى منزلة عالية جداً إذا لازمها الإنسان (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).
 وإن وقع خلاف بين المفسرين في المراد به:
 منهم من قال (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) أنت تدفع بالتي هي أحسن حتى ننزل هذا العدو منزلة الصديق الحميم وإذا كان صديقاً حميماً فأنت تدفع بالتي أحسن قطعاً وهذا معنى وهو صحيح.
 وتحتمل الآية أيضاً أن دفعك بالأحسن ومعاملتك له بالأحسن تورث فيه زوال هذا السيء الذي فيه وتورث في النهاية محبته حتى يكون صديقاً حميماً لك. والآية تحتمل هذا وتحتمل ذاك. هذه المنزلة عظيمة كل منا فيه نفس تغضب إذا اعتدي عليها أو أسيء إليها خاصة إذا كان مظلوماً ولهذا تحتاج إلى كثير من الصبر وتحتاج إلى استحضار فضل الله وتحتاج إلى استحضار ثواب الله حتى ينكفّ الإنسان ولهذا قال عز وجل (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) هذه المنزلة ما يستطيع أن يبلغها الإنسان إلا بالصبر ولا بد أيضاً (ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) أي توفيق من الله فوفقه أن يصبر هذا الصبر ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "ليس الشديد بالصُرعة لكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" هذا هو القوي حقيقة لأنه استطاع أن يتحكم في شهوة الغضب التي تُفقد الإنسان عقله ورشده وتجره إلى المهاوي ولذلك كان من وصية النبي صلى الله عليه وسلم لرجل جاءه يستوصيه قال لا تغضب، قال أوصني قال لا تغضب أعادها ثلاث مرات لأن الغضب سبب كل شرّ فيفقد الإنسان عقله ورشده فترى الإنسان العاقل الرشيد يتصرف تصرف المجنون، لكن الوصول إلى هذه المنزلة تحتاج إلى صبر وإلى توفيق من الله عز وجل (إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
 ثم قال عز وجل بعد ذلك (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) لأن الشيطان يوسوس لك فإذا ظُلمت أو اعتُدي عليك يأتيك من كل باب من باب الحمية وباب العزة للنفس ينبغي للمؤمن أن لا يذلّ نفسه وتستحضر النصوص الدالة على معنى الانتقام (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ) [ النساء:148] وهكذا (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) [الشورى:40] يبدأ ابليس يذكّرك حتى بالآيات التي في القرآن الكريم التي تحملك على الغضب وهذا النزغ ينزغك حتى لا تدفع بالتي هي أحسن. الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدمّ ولا تستطيع أن تنفك عنه لأنه مسلّط عليك قد سلّطه الله عن وجل عليك لكن تستطيع بطريقة واحدة فقط أن تدفع شره عنك أن تستعيذ بسيده ومالكه وخالقه فتقول (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) وهذه أعظم وصية في دفع الشطان أن يستعيذ الإنسان من الشيطان فإذا دخلت بيتك فسمِّ الله واستعذ من الشيطان، وإذا أردت أن تفعل أو تقضي حوائجك أو تسعى في أمورك فاستحضر هذا المعنى معنى الاستعاذة من الشيطان الرجيم وخاصة عند الغضب (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) هو السميع لقولك والعليم بحالك، سميع لدعائك وعليم بحالك فإذا كان يسمع دعاءك ويعلم بحالك فقد كفاك ما أهمّك لأنه سميع يسمع دعاءك وعليم يعلم بحالك.
 بعد هذا الحديث عن أحوال أهل النار وأحوال أهل الجنة والاستطراد إلى نزغ الشيطان للإنسان تعود الآيات إلى موضوع الألوهية والموضوع الذي ابتدأت به وهو عن القرآن الكريم فيقول الله عز وجل (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) من علاماته الدالّة عليه الآيات الظاهرة البيّنة التي تدل عليه (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) هذا التقابل بين الليل والنهار وبين الشمس والقمر (لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿٣٧﴾ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ۩﴿٣٨﴾).
 ذكر الله عز وجل أن الليل والنهار والشمس والقمر أنها من آيات الله عز وجل وخلقٌ من خلقه لا ينبغي أن تصرف العبادة لهم ولهذا قال (لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ) بل الواجب أن يُسجد لخالق الشمس والقمر فإذا عظّمتم الشمس على أنها مخلوقة فمن باب أولى أن تعظّموا خالقها وأن تسجدوا له (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) إن كنتم تعبدونه وحده دون سواه. (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا) يعني أنفوا عن السجود لله عز وجل وترفعوا عن ذلك فإن الله غني عنهم غني عن خلقه ولذلك قال (فَالَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ) أي الملائكة الكرام (بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يُسَبِّحُونَ لَهُ) التسبيح التنزيه ينزهون الله في الليل والنهار (بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) وفي آية أخرى (لا يفترون) إذن يسبحون الليل والنهار لا يصيبهم الفتر لا يتعبون ولا الكسل (وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ) ولا يملون فهو عز وجل غني عنا وعن تسبيحنا وعبادتنا فهذه نفعها لنا فالله هو الغني الحميد ومع ذلك له الملائكة التي تسبحه ليل نهار لا تسأم ولا تفتر.
 قبل أن نختم هذا الدرس أترك المجال لكم إن كان عند أحدكم سؤال قبل أن نختم هذا اللقاء.
نعم من كلام الملائكة التي تتنزل (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ) أي ناصروكم في الدنيا والآخرة وصور نصر الملائكة في الدنيا كثيرة منها:
قوله (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ) [ الرعد:11].
لا شك أن المؤذن يدعو إلى الله يدعو إلى الصلاة كل من يدعو إلى الله يدخل في الآية لكن كلام أهل العلم عن أول من يدخل في الآية العلماء الذين يدعون إلى الله. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.




المجلس الثاني

(وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٣٩﴾ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿٤٠﴾) بسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. فلا زال حديثنا في تفسير سورة فصلت ضمن هذه الدور العلمية المباركة وكنا قد وقفنا في اللقاء السابق عند قوله عز وجل (وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴿٣٧﴾ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ۩﴿٣٨﴾).
 ثم قال عز وجل (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً) من الأدلة الظاهرة البينة على قدرته وعلى ألوهيته أنك ترى الأرض خاشعة. هذه الآية تشير إلى نوع من الأدلة التي قدّمنا كلامنا في أول لقائنا اليوم حيث ذكرنا أن أدلة القرآن على إثبات البعث تأتي على أنواع ثلاثة منها: الاستدلال بإحياء النبات وإحياء الأرض على إحياء الموتى وهذه الآية من أوضح الأدلة على هذا المعنى حيث يقول عز وجل ومن آياته الدالة على قدرته ووحدانيته أنك ترى الأرض خاشعة ومعنى خشوع هذه الأرض الاستكانة التي سببها الجدب ويبس الأرض وقلة المطر الغيث فتيبس الأرض وتراها كأنها ميتة سبحان الله. (فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) هذا الاختيار للفظ الاهتزاز ولفظ الربوة دقيق في معناه وفي دلالته وهذا ما يؤكده أهل العلم الحديث، أهل العلم بطبقات الأرض والجيولوجيا يقولون إن أول ما ينزل المطر تهتز الأرض تتشقق، اهتزت يعني تشققت، ثم تربو، ربت يعني ترتفع، ترتفع الأرض إما بسبب المطر أو بسبب النبات الذي يخرج منها. يقولون إذا نزل المطر بدأت البذور بالحركة والنمو، هذه الحركة تسبب اهتزازاً، ولذلك من يرى منكم مع العلم الحديث التصوير بالكاميرا يصورون مدة شهر كامل ويسرّعونها فترى الأرض تهتز سبحان الله وتراها تربو لا يمكن أن تعرف هذا إلا بالتسجيل فترة طويلة وتسرّع حتى تستطيع أن ترى هذا الاهتزاز وهذه الزيادة فيها وهذا من عجائب قدرة الله تعالى (اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) وتربو بالنبات التي يخرج منها فأحيا هذا النبات من أرض ميتة، أحياها من أرض ميتة دلالة على كمال القدرة ولذلك استدل بهذا الإحياء للنبات إحياء الموتى فقال إن الذي أحيا هذه الأرض الميتة لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير.
 ثم قال عز وجل عَوْداً على الموضوع الأساسي المتعلق بالقرآن الكريم وموقف المكذبين منه قال (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) الإلحاد: الميل بها، فيميل بها بأنواع من الميل:
 هناك الميل بمعنى التكذيب بها والإعراض عنها والكفر بها
 وهناك أنواع من الإلحاد أقل مثل التحريف لها تحريف معانيها أو تعطيل دلالاتها، هذا يسمى إلحاداً ولذلك قال تعالى (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ) [ الأعراف:180] قال يلحدون يعني يميلون بها عن معناها. فيأتي الإلحاد بمعنى الكفر والتكذيب ويأتي الإلحاد بمعنى الميل بها عن دلالاتها ومعانيها الحقّة وكل ذلك ضمن الإلحاد.
 (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا) لا يغيبون عنا بل الله مطلع عليهم عالم بأحوالهم ولهذا قال (أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) هذا الاستفهام تعريض بالملحدين في آياته بمعنى أن الذين يلحدون في آياته سيُلقون في النار ولذلك قابلهم بحال من يأتي آمناً يوم القيامة آمناً على نفسه، آمناً من العقوبة، آمناً من النار، آمناً من عذاب الله مستحقاً لثوابه. وهو أيضاً إيماء إلى أن الذين لا يلحدون بآيات الله أن لهم الأمن يوم القيامة وبهذا نفهم لماذا جاءت هذه الجملة (أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) قوله (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ) هو تهديد في أسلوب العرب بل هو غاية في التهديد كقوله عز وجل (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ﴿١﴾ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴿٢﴾ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴿٣﴾ وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ﴿٤﴾ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ 
﴿٥﴾ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴿٦﴾) فهي تتضمن معنى التهديد لهم ولذلك قال (اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه عملكم إن كان خيراً أو كان شرًا.
 ثم قال عز وجل بعد أن ذكر الإلحاد في الآيات عامة الآيات الكونية والآيات القرآنية جاء التنصيص على القرآن الذي هو الموضوع الرئيس في السورة فقال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)) أوصاف في غاية العظمة لهذا الكتاب العزيز، قال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ) سمّاه ذكراً لأنه يحصل به التذكر، من قرأ القرآن حقًاً تذكّر، (لَمَّا جَاءهُمْ) منّة من الله ونعمة أنزله الله إليهم، قال (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ) منيع عالي الشأن رفيع الجناب لا يُنال ولا يُطال ولا يستطيع كائن من كان أن يقارنه، ولا يستطيع كائن من كان أن يبدّل فيه أو يغيّر فيه، وهذه الأوصاف خاصة بهذا الكتاب كتاب عزيز ما يستطيع أحد أن يجاريه أو يعارضه ولا يستطيع أحد أن يتلاعب به. وهذه من صفات القرآن الكريم، الآن لو يأتي أي مُبطل يحاول أن يغيّر حرفاً من كتاب الله لعلمه صبيان المسلمين وردّ عليه صبيان المسلمين الذين يلعبون في الشارع وهذا من فضل الله عز وجل على هذه الأمة ولذلك قال (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ) إشارة أنه لا يأتيه الباطل من أي جهة لا يأتيه الباطل في معانيه، لا يأتيه الباطل في دلالاته، لا يأتيه الباطل في أحكامه وشرائعه مهما يحاول المبطل أن يبحث عن باطل فيه لا يستطيع، فهو يخبر الخبر الحق ويدل على الههدى وتتضمن أحكامه غاية من النفع للناس لا تناقض فيها لا تعارض وهذا معنى لا يأتيه الباطل، لا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) من الحكيم المحكِم في قوله وقضائه وقدره، وهو حميد محمود بكل أنواع المحامد ذاتاً وصفة عز وجل، فهو حميد يُحمد على ذاته وعلى صفته وعلى أفعاله عز وجل. وهو عز وجل الذي يُحمد على السراء والضراء وما هناك أحد غيره يُحمد على الضراء غيره عز وجل لأنه لا يقضي قضاء لعبده إلا كان خيراً له. ثم قال الله عز وجل بعد ذلك (مَا يُقَالُ لَكَ) وهذا يأتي أيضاً في سياق الموضوع الأساسي للسورة المتعلق بالقرآن الكريم (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ) ما يقال من الوحي والشرع والتكليف إلا مثل ما قيل للرسل من قبلك، وهذه إشارة أنك أيها النبي لم تكن بدعاً من الرسل، لم تكن جئت بأمر جديد لا علم للناس به ولا خبرة لهم به بل أنت مثل من سبقك من المرسلين الأنبياء السابقين جئت بمثل ما جاؤوا به وقيل لك وأُمرت بمثل ما أمر به من قبلك من الرسل (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ) فهذا فيه إشارة إلى أن الأنبياء كما قال صلى الله عليه وسلم (أبناء علاّت) أبوهم واحد وأمهاتهم شتى، أصل الرسالة الإلهية واحدة هي الدعوة إلى أصول الإيمان، الإيمان بالله ورسله وكتبه وقضائه وقدره وواليوم الآخر، دعوتهم واحدة في الأصول (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ) في الأصل أنتم واحد ولذلك قال عز وجل (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى:13]. فقوله (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ) تشنيع على الكفار أن النبي لم يأتي بشيء جديد لا علم لهم به ولا معرفة ويعرفون الذي جاء به فقد سبقه به الأنبياء والرسل. (إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) ذو مغفرة لمن أطاعه وذو عقاب أليم لمن عصاه.
ثم قال الله عز وجل بعد ذلك (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ) يعني هذا الكتاب الذي أوحيناه إليه وأنزلناه إليك (تنزيل من حكم حميد) لو جعلنا (قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا) لو أنزلناه بلغة أعجمية غير العربية -وكل ما لم يكن عربيا يسمى أعجمياُ- لقال كفار مكة (لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) لولا بُيّنت آياته ووضِّحت فنفقهها ونعرف معناها وما تدل عليه فرد الله عليهم (أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) هل يصح أن يكون هذا الكتاب القرآن أعجمي ولسان الذي أنزل عليه عربي؟! لا يستقيم. إذاً من المنطق أن يكون القرآن الذي ينزل بلغة الرسول الذي أُرسل به وبلغة القوم الذي يأتيهم، وهو تشنيع عليهم أن هذا الكتاب نزل بلغتكم وفي أعلى مراتب الفصاحة وأنتم تشهدون بهذا فكيف تزعمون أن آياته لم تفصَّل وأن آياته لم توضَّح؟! ولذلك قال (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء) هذه أوصاف القرآن، لكن لمن؟ للذين آمنوا، هدى يهديهم وشفاء مطلق. أولاً (هدى) هذا الهدى العام، أعلى مراتب الهدى هو الهدى الموصل إلى لله أعلى مراتب الهداية، لكن القرآن فيه -سبحان الله- حتى يهدي الإنسان في حياته في تصرفاته، من قرأ القرآن وفهم معانيه حتى في تصرفاته مع الناس يهديه بل حتى في حكمه على أحوال الأمم ومعرفة تاريخ الأمم من خلال قرآءة القرآن والتأمل فيه يعرف السنن الكونية والسنن الاجتماعية، من أحسن قرآءة القرآن أحسن التعامل مع واقعه وعلِم الصواب في ذلك. فهو كما قال عز وجل (هدى) هو هداية موصل إلى الله في الآخرة، وهو هداية في كل أحواله، يقول صلى الله عليه وسلم :"تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي".
 ثم قال (وشفاء) لفظ الشفاء جاء هنا نكرة ليدل على العموم غير مقيدة بنوع من الشفاء والأمراض نوعين: أمراض حسية وأمراض معنوية. الأمراض الحسية مثل: الجرح أو الألم، والأمراض المعنوية: أمراض القلب مثل ضيق الصدر والحزن والهم والشك والريبة والشُّبه والقرآن شفاء من هذا، وهذا وليس فقط شفاء من الأمراض الروحية النفسية بل هو شفاء من هذه الأمراض وشفاء من هذه الأمراض، هذا ما يدل عليه ظاهر القرآن قال شفاء وأطلق، والتجربة دالة على ذلك. أما الشفاء المعنوي فكل الناس يعرفه لكن حتى الشفاء الحسي القرآن فيه شفاء للأمراض الحسية وتعلمون قصة اللديغ سيد القوم الذي لدغته ثعبان فجاؤوا إلى بعض الصحابة فقالوا هل فيكم من راقي؟ فقال أحد الصحابة نعم، فجاء عليه فقرأ عليه الفاتحة سبع مرات يقرأ ثم ينفث فيه يقرأ ثم ينفث قال الراوي فكأنما نشط من عقال، مثل الدابة إذا رُبطت ثم لما يفك قيدها تنطلق، فقام الرجل سليماً ما به أي شيء. والسمّ مرض حسي فعافاه الله منه ولذلك أهل التجربة يقولون إذا كان الإنسان بمكان نائي وليس عنده طب ولُدِغ فليقرأ القرآن وينفث فإما يشفيه الله عز وجل أو يخفف من هذا السمّ. فهو شفاء حسي وشفاء معنوي.
 ثم قال عز وجل هذا للذين آمنوا، ثم قال (وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) (فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ) ثِقل فلا يستطيعون سماعه، وهو عليهم عمى أعينهم تعمى عنه فلا تبصره ولا تهتدي إليه ولا تجيب الداعي إليه ولهذا قال (أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ) فهم كمن يُنادى من مكان بعيد جداً. الآن إن ناداك شخص من بعيد فأنت تسمع صوتاً لكنك ما تميز هذا الصوت ولا تدري ما يقوله. فانظر إلى هذا التشبيه الدقيق للكافر كهذا الذي يُدعى من مكان بعيد يسمع صوتاً لكن لا ينتفع بهذا الصوت كهذا الذي ينادي من بعيد هم صحيح يسمعون القرآن يسمعون حروفه وصوت القارئ له لكنهم لا ينتفعون به فلما لم ينتفعوا به كان مثلهم مثل الذي يُنادى من بعيد لا يفهم الكلام الذي يقال له فلا ينبته له. لو شخص تصرخ عليه تحذره من خطر يأتيه قريب منك يسمع صوتك ويسمع حركتك لكن ما يفهم فهل سيحذر هذا الخطر؟ لن يحذر منه ولن ينتفع به.
 ثم قال عز وجل (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) وهذا يتفق مع سياق الآية الكريمة في ذكر الكتب السابقة ومن أعظمها التوراة (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) ومع ذلك وقع فيه الاختلاف ولهذا قال عز وجل (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين المختلفين في التوراة أو في غيرها من كتب الله (إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ) من كتاب الله عز وجل أو كتبه في شك مريب، الشك هو: التردد. هذا الشك يوقعهم في الريب فيرتابوا لا يدرون هل يسلكون هذا الطريق أم هذا الطريق؟! وهذا سبحان الله حال المعرِض عن كتاب الله أن يقع في الحيرة والتردد، وانظروا أحوال الناس البعيد عن كتاب الله هو في حيرة وتردد وفي اضطراب لكن المستمسك بغرز كتاب الله فإنه يبصر الحق ويهتدي إليه. قال الله عز وجل بعد ذلك (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) من عمل صالحاً من هؤلاء فلنفسه أي هو الذي سيجني ثمره في الآخرة ومن أساء فعليها لأنه هو الذي سيحاسب بها (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) سبحانه وبحمده بل يوفي كل نفس ما عملت بل إن الحسنة عنده بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة ويزيد والسيئة بمثلها ومن هم بسيئة ولم يفعلها كتبت له حسنة ومن همّ بسيئة ففعلها ثم تاب محاها الله وبدلها حسنات ولذلك يقول السلف: "ويل لمن غلبت آحاده عشراته" الآحاد هي السيئات فكيف تغلب الآحاد العشرات؟! ولذلك الله عز وجل يقول (مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا) [الأنعام:160] فمن غلبت آحاده عشراته ويل له.
 ثم قال عز وجل بعد ذلك (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ 
﴿٤٧﴾ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ﴿٤٨﴾)
 هذه الآية تبين بعض العلم الذي اختص به الله عز وجل فلا يعلمه أحد غيره (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) إليه وحده عز وجل، علم وقت قيام الساعة لا يعلمه إلا الله ومن تكلم في هذا الباب وادّعى فهو كاذب على الله، من وقّت أوقاتاً أو حدد أزمنة فهو كاذب على الله ومفتري حتى لو انتسب إلى العلم وحتى لو انتسب إلى الشريعة فهو كاذب على الله لأنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله.
 قال (وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا) أنواع الثمر الذي يخرج وأنواع ما تحمله هذا البذرة وهذه الثمرات التي هي في أكمامها الله عز وجل يعلمها. والمقصود بالأكمام الوعاء الذي تكون فيه الحبوب والبذر. فالله عز وجل يعلم ما الذي سيكون من هذه البذرة هل ستنتج أو لا تنتج، هل ستثمر أم لا، وما نوع ثمرها، وما صفته وقدره، كل هذه التفاصيل الله يعلمها. ثم قال (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) الله يعلم متى تحمل الأنثى ومتى تضع، لا يكون ذلك إلا بعلمه (وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) أي بإذنه العلم المقرون بالإذن له وهذا من علم الله عز وجل ولا يُشكل على هذا أن الله عز وجل (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) يعلم عز وجل، المقصود بالعلم الذي يعلمه عز وجل عن كل أنثى يعلم كل ما يتعلق بهذا الذي في بطنها من صفته وقدره وجنسه ونوعه وما كتب له كل هذا لا يعلمه إلا الله. ولا يُشكل على هذا أن الطب الحديث في الأشعة تبين جنس الجنين ونوعه هذا لا يُشكل لأنه أصلاً قبل أن يستبين الجنس فقد علم الملائكة بهذا، أليس الله يبعث الملائكة فينفخ الروح ويأمر بكتب أربع، هذا الملك يعلم صفته وجنسه، فانتقل من العلم الإلهي إلى أن يظهر من ذلك أن الملائكة تعلم بذلك. فلا إشكال عندئذ لأن هذا لم يعد خاصاً بعد ذلك، هذا أمر. الأمر الآخر أن علم الجنس هو جزء ولكن الله يعلم تفاصيل هذا المخلوق وما الذي سيكون عليه في حياته وما يستقبل من عمره.
 قال عز وجل (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ) أي الكفار المشركين (أَيْنَ شُرَكَائِي) الذيم زعمتم أنهم شركاء يشفعون لكم عندي فيقولون (قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ) أصلها من أذِن، ومادة أذِن تُطلق على الإعلام، وعلى العِلم، وعلى الجارحة المعروفة التي هي الأذن. الإعلام إعلان بدخول الصلاة، آذناك يعني أعلمناك (مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ) يشهد على هؤلاء الشركاء وأنهم ينفعون في هذا الموقف. (قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ) أعلمناك أن ما منا من أحد يشهد أن هذه الآلهة تنفع وأن لك شريكاً في هذا اليوم. ولهذا قال عز وجل (وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَدْعُونَ مِن قَبْلُ) ضل عنهم أي غاب عنهم ما كانوا يدعون في الحياة الدنيا، ما كانوا يدعون من قبل غاب عنهم. (وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ) تقدم معنا أن الظن بمعنيين: معنى الشك وبمعنى اليقين وهنا بمعنى اليقين (وَظَنُّوا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ) المحيص يعني المكان الذي يحيدون إليه ويلجؤون إليه، ليس لهم محيص عن عذاب الله وعقوبته ودخول النار ليس لهم محيص.
 ثم بعد هذا الاستعراض للسورة الكريمة المتعلق موضوعها بالقرآن الكريم وموقف المشركين منه والرد عليهم تختم الآيات بذكر حال الإنسان وطبعه وبعض من خصائصه وفيها تعريض بالمشركين فيقول عز وجل (لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ) ما يمل الإنسان من دعاء الخير، هل رأيتم أحداً يمل من دعاء الخير ومن طلب الخير؟ لا أحد يمل منه ولا أحد يمل من الخير لو جاءه ألف يريد ألفين، ولو جاءه خير يتمنى ضعفه، لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وطلبه، لا يمكن لأحد أن يقول يكفيني ما عندي. والخير كل أنواع الخير، المال وأي نوع من أنواع الخير قال (مِن دُعَاء الْخَيْرِ) تستغرق كل أنواع الخير المقصود في طلبه. في المقابل (وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ) فيه نوع من الجزع وهذا سبحان الله موجود عند كثير من الناس تجده عاش سنين طويلة في خير وبركة وصحة وموسّع عليه ثم إذا أصابه أدنى شر تجد علامات اليأس على محيّاه والقنوط والتسخّط وربما تخرج منه بعض الألفاظ تنافي الرضا بالله وبقضائه وقدره، أين هذا السنوات التي رفلت فيها بنعم الله وفضله؟! عندما أصابك أدنى مصيبة جزعت وأصابك اليأس والقنوط. فهو يصيبه اليأس من رحمة لله ويصيبه القنوط من فضل الله لأن هذا الأمر سيبقى عليه. وأنتم إذا رأيتم أحوال الناس تجدون هذا الأمر تجده يقنط وتسود الدنيا في عينيه ويظن أن هذه نهاية الدنيا ونهاية حياته ويسيء الظن حتى بربه.
 ثم قال عز وجل بعد ذلك وهي تكشف عن الصفات النفسية للإنسان (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ) رحمة هنا جاءت مطلقة تشمل كل أنواع الرحمة إما في نفسه أو في ماله وولده أو أي أنواع الرحمة (لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى) إن أصابه الخير قال هذا لي، أستحقه وأنا الذي تعبت عليه وهذه طبعاً صفات الكافر (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) وهَب أن الساعة قائمة وهناك ساعة ولقاء إن رجعت إلى الله (إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى) لماذا تثق؟ هو ينكر الآخرة ويقول هب أن الساعة قائمة أكيد لي حسنى عند الله لماذا؟ يقول لأني أصبت الحسنى في الدنيا فإذا أصبتها في الدنيا فمعناه أني استحقها في الآخرة هذا تفكير المنطق الدال على خلل في الإنسان وعِوج وعيّ فيه، يفكر هذا التفكير. ولذلك قال عز وجل (فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ) لننبئنهم بعملهم ونذيقهم جزاء عملهم من عذاب غليظ يعني من عذاب شديد عليهم.
 ثم قال (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ) إذا أصاب الإنسان نعمة ينسى وهذا نجده في أحوال الناس إذا أصبته نعمة أعرض وتكبر على الناس، وإذا عُيّن في منصب كبير بدأ يستكبر على الناس ثم ترك ذلك رجع كما كان. ولذلك يقول ابن القيم: "في كل إنسان نفس فرعونية إما أن يهزمها بالتقوى والإيمان أو إذا وجدت أسبابها إما المال وإما المنصب أو الجاه تخرج هذه النفس ولا يمنعها إلا تقوى الله عز وجل".
(وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ) دعاء واسع لا يملّ من هذا الدعاء،(دُعَاءعَرِيضٍ) 
عريض في كثرته وعريض في طلبه أن يكشف الله عنه وأن يرفع ما به من شدة وأن يبدله إلى الرخاء وإلى السراء.
 ثم قال عز وجل (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) أيها الكفار (إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ) الذي كان من عند الله هو القرآن وهو عود على موضوع السورة ويتناسب مع اسم السورة (فصلت) فهذا وصف للقرآن (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ) وهذا سؤال من الحسن أن نختم به هذه السورة (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) وهذا لكل كافر، لكل معاند، لكل معرض عن الحق يُسأل هذا السؤال (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) تقول للكافر وللمنافق والمجادل في الباطل هب أن هذا الكلام الذي أدعوك إليه هب أنه حق توقف! ماذا ينفعك هذا الشقاق والجدال؟ الشقاق أي المنازعة لا تنفعك ولو كنت أفصح الناس وتملك من الحجج ما يُسكتني فإن هذا لا ينفعك عند الله عز وجل إذا كان الذي أدعوك إليه هو الحق! هب أنك تغلبت عليّ بأسلوبك ومنطقك ومقدرتك فإن ذلك لا ينفعك عند الله شيئاً (مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ) لا أحد أضل ممن هو في جانب بعيد عن الحق بعيد عنه حتى لا يلتقي معه لا أحد أضل منه وإن كان أفصح الناس وأبلغهم.
 ثم قال عز وجل (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)  (سَنُرِيهِمْ) هذا التعبير يدل على التجدد يدل على أن الله لا يزال يري عباده آياته في الكون وفي أنفسهم ولا نزال -إلى أن يشاء الله- يرينا الله آياته الدالة على وحدانيته والدالة على قدرته في الآفاق وفي أنفسنا إلى درجة أن يتبين لنا الحق، لكن المعاند لا يستطيع المرء معه شيئاً. وبعض أهل العلم يحمل هذه الآية على الفتح الذي سيكون للمسلمين مثل ما قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يدع الله بيت مدر ولا وبر إلا بلغه هذا الدين بعزّ عزيز أو ذل ذليل) هذه من آيات الله عز وجل والمعنى في ذلك أعم أن الله عز وجل لا يزال يكشف لخلقه ويبين لهم عن الآيات الدالة على عظمته في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم الحق.
 (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) على معنى قد كفى بربك، هذا استفهام تقريري، قد كفى بربك أنه على كل شيء شهيد، يعني شاهد -تعالى- على صِدقك أيها النبي، وشاهد على هذا القرآن بأنه الحق، وشاهد على أفعالهم وكفرهم.
 ثم قال الله عز وجل (أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ) ألا إن هؤلاء الكفار في مرية أي في شك عظيم من لقاء الله يشكُّون في قدرة الله على بعثهم ويشكُّون في مرجعهم إلى الله عز وجل بعد مماتهم ولذلك قال (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ) يعني قد أحاط عز وجل علماً وقدرة وملكاً وتدبيراً بخلقه فلا يعزب عنه شيء، ومن أحاط بخلقه على هذا النحو لا يُعجزه أن يردّهم ويُجازيهم على أعمالهم.
 بهذا نكون بحمد الله وتوفيقه قد أنهينا السورة الكريمة، اللهم لك الحمد على التيسير وعلى التمام هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
 إن كان عند أحدكم سؤال.
 إجابات الشيخ على أسئلة الحضور:
 لا شك في هذا، بل قد يشفى حتى من الأمراض الحسية لكن الهدى والشفاء التام للمؤمنين لأن من الهدى والشفاء الدلالة إلى الخير وقبوله والاستقامة عليه فهذا لا يكون الهدى التام والشفاء التام إلا للمؤمنين. قصة اللديغ لم يكن مسلماً فهو نوع من أنواع الشفاء لكن الشفاء التام لا يكون إلا للذين آمنوا.
.... يرِد مثل هذا قد تحتمله الآية، ولا يمنع أن تحتمل هذه وما عليه غالب المفسرين من أنها ما يقال لك من الوحي إلا ما قد قيل للرسل من قبلك.
 هذه الآيات ستكشف عن صفات الإنسان النفسية ومنها أنه لا يمل من طلب الخير مهما تعطيه يطلب زيادة في الخير.
 هذا المجموع، مجموع السموات والأرض خلقها الله عز وجل في ستة أيام، خلق الأرض في يومين ثم دحاها في يومين وخلق السموات في يومين، مجموع خلقها ودحوها في أربعة أيام سواء للسائلين هذا نص الآية (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا) ولهذا قال بعض أهل العلم إن خلق الأرض كان مدته أطول من خلق السموات مع أن الأرض لا شيء عند السموات.
 الحزن العام، أي حزن يمكن أن يصيب المؤمن الملائكة تقول لا تحزن فهي عامة. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
______________________________
مصدر التفريغ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق