الخميس، 19 يونيو 2014

الوقفــ الأولى ـــة من جـ (٣٠) / من سورتي عبس والمطففين



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله نسأل الله أن يختم لنا ولكم بخير.
هذا هو الجزء الثلاثون وسنقف معه ثلاث وقفات:
 الوقفة الأولى: مع قول الله جل وعلا (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ) وهي مقتبسةٌ لها علاقةٌ قويةٌ بالسيرة العطرة والأيام النضِرة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
 قال بعضُ أهل اللغة وفرسان البلاغة: إن هذا العتاب الرباني لم يأتِ مباشِراً فلم يقُل الله لنبيه عبست وتوليت وإنما قالها بصيغة الغائب (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ) وهذا فيه نوعٌ من لُطف الله بنبيه صلى الله عليه وسلم مع الإبقاء على تأديبه وإظهار الحق.
 النبي عليه الصلاة والسلام كان حريصاً أعظم الحرص على أن صناديد قُريش يدخُلون في الدين لأن الناس لهُم تَبَع فكان يحرصُ عليهم أكثر مما يحرص على غيرهم فأقبل إليه عبد الله ابن ابي مكتوم رضي الله عنه فكأن النبي أشاح شيئاً يسيراً عنه مُلتفِتاً إلى صناديد قُريش فأنزل الله جل وعلا في شأن هذا المُقبل على الله وهو عبد الله ابن ابي مكتوم قوله (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ) من الذي عبس وتولى؟! نبيُّنا وحبيبُنا وصفوتُنا صلى الله عليه وسلم هذا معنى كلام الله. (أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ) أي وقت أن جاءهُ الأعمى.
 قال الله (عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ (١) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (٢) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَىٰ (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَىٰ) "أما" هذه تفصيلية يعني من صناديد قُريش (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّىٰ (٦) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّىٰ (٧) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَىٰ (٨) وَهُوَ يَخْشَىٰ (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ) هذا نصّ الخطاب القُرآني تلقى النبي صلى الله عليه وسلم عتاب ربه لهُ فكان يُكرمُ عبد الله ويقول أهلاً بمن عاتبني به ربي.
 أعظم ما تدُل عليه الآية: أنهُ ينبغي للمؤمن أن يكون واضِحاً في تعامُله مع الناس خاصة إذا كان مسؤولاً عنهم فالنقدُ فيما يُسمى بالنقد وما يُسمى في القُرآنِ عِتاباً هذا كُله دلائل على أن الجُرح لا يُرمى على شيءٌ فاسد، الجُرح إذا رُم على فساد يفسُد فالأمُور في وقتها تُعالج حتى لا يبقى جُرحٌ فوق جُرح. لمَّا أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى من المُؤلفةِ قُلوبهم وجدَ الأنصارُ في قُلوبهم شيئاً فجمعهُم صلى الله عليه وسلم وقال لسعد قال ما أنا إلا رجُلٌ من قومي فبيًّن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أما لو إنكُم لو شئتُم لقُلتُم فلصَدَقتُم ولصُدِّقتُم أتيتنا طريداً فآويناك وفقيراً فآسيناك" ذكَر مناقِبهُم ثمَّ بيَّن لهُم لِمَ أعطى وبيًّن بعد ذلك بقوله يستدِرُ قلوبهُم وهو يعلمُ حُبهم له لكِنهُم كانوا واضحين كانوا بيِّنين وبعثوا سعداً ليأخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرَ ويُجيبهم به فقال صلى الله عليه وسلم "والله لو سلك الناسُ شِعباً لسلكتُ شِعب الأنصار ولو سلك الناسُ وادياً لسلكتُ وادي الأنصار يامعشرَ الأنصار أما ترضون أن يعودَ الناسُ بالشاة والبعير وتعودون برسول الله إلى رِحاله" في عصرِنا هذا في إحدى الدول قبل حوالي ستينَ عاماً أو أكثر بقليل بعثَ أحدُ الناس طالِباً أعمى يتعلم فخرج وتعلم -يعني في الغرب- ثم عاد الذي بعثهُ ذلك الزعيم عاد الطالب فلمَّا عاد كانوا في يومِ جُمعة، فهذا الزعيمُ كان في المسجد وجاء الطالبُ عائداً وهو كفيف أعمى وقد علِم الناس أنه جاء بالشهادة فأقبل إليه هذا الزعيم وقبَّله وعانقه ورحّب به فقالَ الخطيبُ -عياذاً بالله- في جُمعته يُثني على هذا الزعيم قال: جاءه الأعمى فما عبسَ ولا تولى. فلمَّا قالها وصلَّى بالناس قامَ أحدُ العلماء وقال أيُّها الناس أعيدوا صلاتكُم فقد كفرَ بتلك الكلمة وصلى بهم إماماً. ثُم بعد ذلك هذا الخطيب الذي قال هذا القول شاهدهُ الناس بعدَ سنين من ذهابِ ذلكُم الزعيم -تغيرت الأحوال- على أبوابِ المساجِد يحفظُ للناس أحذيَتهُم ويُعطونه ما يسُد به حاجته.
 المقصود ليست الشماتة في أحدٍ بعينه ولا ذِكرُ أسماء الناس لكِن المقصود: لا ينبغي لمؤمن أن يجعل من آيات القرآن طريقاً لأن يمزح بها مع غيره، وأعظمُ من ذلك من يجعلُها في غيرِ موقِعها، القرآن عظيم أُنزل حياةً للقلوب فلا تجعل من آياته طريقاً كيف تتواصل به مع أقرانِك ورُفقائك وأصحابِك وخُلطائك في مجالِسك وغُدوِّك ورواحك الله يقول عن كتابه (بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) وقال (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ*وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ*إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌفِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) هذه وقفة.
 في نفس الوقفة الأولى نأخذ في نفس السورة استنبط ابن عباس أن ليلة القدر ليلة سبعٍ وعِشرين من أن الله جل وعلا خلقَ ابن آدم في سبع، وجعل رزقه في سبع، فقال في رزقه إن الله يقول (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ*أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا*ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا*فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا*وَعِنَبًا وَقَضْبًا*وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا) هذه خمس (وَحَدَائِقَ غُلْبًا) هذه ست لأنَّ غُلباً صفة للحدائق، (وفاكهةً) هذه سبع أما الأبُّ فهو ما تطعَمهُ الدواب. وأما السبع الأُول فهي لبني آدم.
 من آياتِ هذا الجزء المُبارك الجزء الثلاثين وقد وقفنا عند سورةِ عبس قول الله تبارك وتعالى (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وهذا في خاتمةِ الإنفطار ولا ريب أنَّ الأمر دائماً وأبداً لله لكِن المُلك في حقيقته قسمان: مُلكٌ حقيقي ومُلكٌ صوريّ. فالمُلك الحقيقي فهو في كُل أحواله لله وأما المُلك الصوريّ فهو ما تراه في الدُنيا كُل أحدٍ ملَّكه الله شيء بحسبِ فيءِ الله جل وعلا عليه فإذا كان يومُ القيامة حُشر الناس (حُفاة عُراةً غُرلاً بُهماً) حُفاة: غير مُنتعلين، عُراه: غيرُ مكتسين، غُرلاً: يعود للذكر منهم ما أُخذ منه وقتَ خِتانه، والأخيرة هي قوله صلى الله عليه وسلم (بُهماً) يعني غيرُ مموَّلين يعني لم يأتوا بشيءٍ من متاعِ الدُنيا معهُم، فكونهم لم يأتوا بشيءٍ من متاعِ الدُنيا معهُم هذا إذهابٌ للمُلك الصُوري الذي كانوا يتملكونه، كانوا يتموَّلونه في الدُنيا فلمَّا ذهبَ ما كان يملِكه الناس من مُلكٍ صورِي لم يبقَ إلا المُلك الحقيقي فقال الله جل وعلا (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) ومنه كذلك قول الله في الفرقان (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَٰنِ) فهذا بعضُ ما دلَّت عليه سورة الإنفِطار.
  كذلك من سور هذا الجزء المبارك أن الله جل وعلا قال (خِتَامُهُ مِسْكٌ) قالها في سورة المطففين (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ*خِتَامُهُ مِسْكٌ) تحتمل (خِتَامُهُ مِسْكٌ) معنيان:
- إمَّا أن يكونَ الختمُ ما يُوضع في الأعلى فيُقصد أن هذا الشراب الذي يُشرب والطعام الذي يُطعم لأهل الجنة مختُوم بالمسك قبل أن يفُضُوه -قبل أن يفتحوه- هذا تأويل.
- التأويل الآخر -ولعله هو الأظهر- أنه في حياة الناس اليوم أنَّ آخر الطعام لا يكونُ حسناً فعِندما تأتي للقِدر فتأكُل منهُ فإن آخر القِدر لا يكونُ مُرغَّباً فيه، كما أنك لو سقيتَ أحداً من مشروب فإن بعض الناس يُنزِّه ضيفهُ عن آخر الطعام أو عن آخر الشراب لأنَّ آخره إلا يأتي فيه شيءٌ من الكَدر فالله جلَّ وعلا يقول عن شرابِ أهل الجنة قال (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ*وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ*كِتَابٌ مَرْقُومٌ*يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ*إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ*عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ* يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ) هذا الرحيق آخره مسك فكيف بأوله ؟! فنبه بآخره على جلالةِ أوله، نبه بآخره على لذة أوله (خِتَامُهُ مِسْكٌ) ثم قال (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ*وَمِزَاجُهُ) أي ما يُخلط به (مِنْ تَسْنِيمٍ*عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) هذا ما ذكره الله جل وعلا في سورة المطففين. قالوا عن صدرها إنه نزل في المدينة إن صحَّ هذا فقد كان أهلها في أول الأمر ممن يُطففون في الكيل والميزان.
 هذه الوقفة الأولى مع آيات الجزء الثلاثين اضطررنا إلى أن نُعرِّج فيها على عدة سور لأن هذا الجزء المُبارك -كما تعلم- عديد السور. في الوقفتين التاليتين إن شاء الله تعالى سنُعرِّج على بعض سور قِصار المُفصل بأكملها حتى يتضِح السبيل لأن قِصار المُفصل لا تحتمِل آياتُها في الغالب أن نُجزِّئها هذا والله تعالى أعلم وإلى الوقفة التي بعدها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق