الاثنين، 9 يناير 2012

التفسير الموضوعي لسورة الملك

يتضمن التفسير الموضوعي لسورة الملك :
أولا: التمهيد ( بين يدي السورة)
ثانياً: موضوع السورة الأساسي حيث يتكلم عن إثبات قدرة الله جل وجلاله، بذكر الأدلة المادية على ذلك من خلق سبع سموات طباقاً، وتزيينها بالنجوم.
ثالثاً: تهديد ووعيد للذين لا يخشون العذاب الشديد، وذلك بتهديدهم بخسف الأرض أو عذاب من السماء، أو إمساك الرزق عنهم إلى غيرها من المشاهد
رابعاً: ختام الآيات وموقف المقربين من الله وموقف الذين تساءلوا في ارتياب، لقد أعذر من أنذر.
أولاً : التمهيد
التعريف بالسورة: سورة الملك مكية بالإجماع، فقد أخرج البيهقي وغيره عن أبن عباس رضي الله عنه قال :" نزلت بمكة سورة تبارك الملك (1) وقال القرطبي :"مكية في قول الجميع" .
وعدد آياتها ثلاثون، ويبدأ بها الجزء التاسع والعشرون، وهي تُعنى بجانب العقيدة وإثبات قدرة الله جل جلاله، وتسمى بسورة الملك وتبارك لحديث ابن عباس المتقدم، ولبدئها بكلمة تبارك.

1- مناسبة بداية سورة الملك لنهاية ما قبلها وهي سورة التحريم :
لما ختمت سورة التحريم بقول الله تعالى :" وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ " جاءت بداية سورة تبارك مناسبة لها، حيث أن كلمة تبارك تعني تنزيه الله جل وجلاله عن صفات المخلوقين كالإنجاب، والولد ، ويشعرنا ذلك أن تبارك تنفي ما أدعاه النصارى بأن عيسى عليه السلام ابن الله، ببيان حقيقة مريم بنت عمران.
كما أن سورة الملك قد احتوت مناظر من يوم القيامة ومن عذاب أهل النار، وكذلك سورة التحريم(2)


2- مناسبة السورة لما بعدها وهي سورة القلم من عدة وجوه:
أ. أن كلتيهما تتحدث عن تكذيب الكفار للرسالة، ففي سورة الملك جاء قوله تعالى: " قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ"
وفي سورة القلم جاء قوله تعالى : " إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ".
ب.أن في كلتيهما ذكر الله تعالى مواقف أهل النار فقال في سورة الملك :" وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ،إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُور" وقال تعالى في سورة القلم :" يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ، اشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ"
3.مناسبة فاتحة السورة بخاتمتها:
لما بدأت السورة بتنزيه الله وتعظيمه ، ختمت بتحدي البشر أمام قضاء رب البشر، وأنه من تمام تنزيه وتعظيمه نسب الفضل له ، وشكره على إنعامه و آلائه.

ثانياً : المحور الأساسي للسورة ( إثبات قدرة الله جل جلاله )
1. تنزيه وتحدي وإعجاز
"تبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)"
ابتدأت الآية الكريمة بهذه اللفظة "تبارك" التي توحي بالنماء والبركة والزيادة(٣)، كما أنها تعني تنزيه الله عن مشابهة الخلق،"الذي بيده الملك" لا بيد غيره، وملكه أبدي لا ينزعه منه أحد، ولا ينازعه فيه أحد ، وهو " على كل شيء قدير" لا يعجزه أحد (٤).
ثم يعدد الله بعضاً من مظاهر قوته ، فيقول تعالى "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا " فالموت هو انقطاع تعلق الروح بالبدن،والحياة تعلق الروح بالبدن، وهذه أضداد كلها بيد الله لا بيد غيره، ويبين لنا سبحانه الحكمة من خلق الموت والحياة، لاختبار عباده، أيهم يحسن عملاً ، و أيهم أكثر ذكراً، وأشدهم منه خوفا (٥)
" وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ " العزيز الذي يقهر كل شيء بالموت ولا يقهره شيء(٦)، وهو الغفور لمن اتعظ بالموت فأحسن العمل.
ثم يبين الله جل جلاله بعضاً من مظاهر قوته فيقول " الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ" فهو الذي خلق السموات السبع بعضها فوق بعض،نافياً أن يكون في خلقه أي تفاوت وتباين وتناقض، متحدياً من يشكك في قدرته بالنظر مرة تلو مرة لزيادة التأكيد، ولأن ذلك أبلغ في قيام الحجة وانتفاء الشك من قلوب الناظرين، فإن انقطعت حجة المشككين والمتشككين رجع إليهم بصرهم ذليلاً ، حسيراً كليلاً تعباً.
ثم يذكر الله المزيد من من مظاهر قدرته ، بقوله تعالى "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ" فهذه النجوم الساطعات جاءت تزين السماوات التي ما وُجد فيها من فطور، فأكتمل بهاؤها ، وللنجوم فوائد ثلاثة هي : مصابيح للسماء، ورجماً للشيطان ، وعلامات للمسافر في البر والبحر قال تعالى :"وعلامات وبالنجم هم يهتدون"، وقد أعد الله للشياطين هذه النجوم عذاباً في الدنيا، أما في الآخرة فلهم عذاب السعير وهو أشد الحريق"
2. مصير المكذبين لآيات الله
"وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ"
ويشترك مع الشياطين في عذاب السعير الذين كفروا بربهم قال تعالى " وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ " أي بئس المرجع والمئاب ، فهم " إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ" وإنما القوا في النار لأنهم وقودها ، فيسمعون لها شهيقاً من الغيظ عليهم ، لسوء أفعالهم، وتكذيبهم آيات خالقهم، تفور فوران المرجل، وهي فوق ذلك " تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ" فكأنها تتقطع عليهم غيظاً ، و "كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ" سؤال توبيخ وتأنيب وترذيل (٧)، ألم يأتكم نبي يحذركم الآخرة وينذركم هذا الموقف العصيب فيكون جوابهم " قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ " فهم مع تكذيبهم للنذر ، أنكروا أن يكون الله قد أنزل شيئاً ، وقد اتهموا الرسل أنهم على غير الجادة والصواب ، فكأنهم أسقطوا ما في أنفسهم من الضلال على غيرهم وظنوا أنهم المهتدون، العاقلون ، فلما وقع بهم عذاب يوم القيامة علموا حقيقة جهلهم الأكيد "وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ " معترفين بجهلهم ، ذلك لأن عقلهم ما دلتهم على الحق فكان وجودها كعدمها،وإنما ذكر العقل والسمع لأن تحصيل العلوم والمعارف إنما يكون بهما، فعلموا مآلهم" فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِم " من تكذيب للأنبياء، وكفرهم بالله ورسله "فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ" فبعداً لهم من الله ورحمته (٨) فلا رجاء لهم في مغفرة ، ولا إقالة لهم من عذاب ، وهم أصحاب السعير الملازمون له، ويالها من صحبة ويا لها من مصير! (٩)علاقة الآيات بما قبلها :لما ذكر الله تعالى دلائل قدرته،وآيات نعمه ، بين الله جل جلاله مصير من كذب بآياته ، وانكر قدرته .

ثالثا: (تهديد ووعيد للذين لا يخشون العذاب الشديد)
ويشتمل على :
1- مصير أهل الإيمان
2- علم الله لا يعجزه شيء
3- من نِعَم الله على عباده
4.تهديد ووعيد
5.يوم القيامة آت لا محالة

1. مصير أهل الإيمان
"إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ" بعد أن ذكر الله ذلك الحوار ، بين ملائكة الجبار وبين الكفار، وأن مآلهم إلى النار، ذكر مصير من استولت على قلبه خشية الله جل جلاله، فهو يعبده ولم يره، مؤمناً بالله غيباً، فكان جزائهم عند ربهم مغفرة لذنوبهم ، وأجر كبير لا يحصيه عاد.
علاقة الآيات بما قبلها :
لما ذكر الله مصير الكفار ، ذكر بعد ذلك مصير أهل الإيمان، ليظل المرء بين الخوف والرجاء، مبتعداً عن الكفر وأفعال الكافرين، ملازماً لأفعال المؤمنين وصفاتهم.

2. علم الله لا يعجزه شيء:
"وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ"
 ثم يخاطب الله الخلائق أجمع، متحدياً لهم أنهم سواء اظهروا القول أو أخفوه فإنه يعلمه ، بل هو مطلع على ما هو أدق من الكلام، فهو مطلع على ما تخفيه الصدور، وهو أعلم بمن اتقاه وخشيه، ومن عصاه ورفض أمره، ثم يسأل الله سؤالاً للإنكار(١٠) على المتشككين بقدرة الله وهم كفار قريش الذين تهامسوا، أن أخفوا بغضكم لمحمد ولا تجهروا به لئلا يسمعه رب محمد بقوله تعالى :" ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" بل إن من خلق العباد أعلم بهم من غيرهم ، حتى من أنفسهم ، وهو اللطيف بعباده، لطف علمه بمعرفة ما في بواطن الأمور، والخبير الذي لا يعجز علمه شيء من خبايا الأمور وظواهرها على حد سواء ، فالسر عنده إعلان.علاقة الآيات بما قبلها :لما ذكر الله مصير أهل الإيمان، أكد بعدها أن حقيقة القلوب الذي تشتمل على الإيمان يعلمها، فهو يعلم من أخلص وصدق، ويعلم من نافق وكذب.3. من نعم الله على عباده"هوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ"لما بين الله تعالى قدرته ولطفه وعلمه وأنه بكل شيء خبير، أتبع ذلك بذكر دلائل القدرة، وأثار فضله وامتنانه على العباد، فهو الذي جعل الأرض لينة سهله مسالكها، آمراً عباده أن يسافروا حيث استطاعوا من أقطارها ، وأرجاءها للمكاسب والتجارات(١١)
وعبر بالأكل هنا عن الانتفاع بما أنعمه الله عليهم ، لأنه الأهم والأعم(١٢) ، وفي الآية دلالة على وجوب السعي للرزق والأخذ بالأسباب.
علاقة الآيات بما قبلها :
لما أظهر الله علمه ولطفه وأنه بكل شيء خبير، أمتن الله على عباده بمظهر من مظاهر هذا العلم واللطف والخبرة، ألا وهو تمهيد الأرض للسالكين، وذلك يدفع المتأمل إلى الإيمان بالله وحسن عبادته وشكره.
4. تهديد ووعيد
{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) }
قال الله تعالى : (أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ) بعد أن ذكر الله أن هذه الأرض سهلت للسالكين، توعد الكافرين أن يجعل من الأرض نقمة بعد أن كانت نعمة، بخسفها فيغيبون في مجاهلها بعد أن كانوا على ظاهرها يتنعمون، واستخدم ذلك صيغة السؤال ليظهر لهم مدى عجزهم وافتقارهم إليه سبحانه.
ثم يسألهم مرة أخرى : " أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ " فهل أمنتم كذلك إن لم نخسف بكم الأرض أن نمطر عليكم السماء، فستعلمون صدق إنذاري لكم إن وقع العذاب بكم، ثم يوجههم الله جل جلاله إلى التأمل في مخلوق من مخلوقاته فيقول " أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ "لعل ذلك يدفعهم إلى الإيمان بالخالق ، فهلاً نظرتم إل الطير نظرات تأمل واعتبار، ولما كان الغالب عند الطير فتح الجناح قال تعالى صافات باسم الفاعل ، ولما كان القبض متجدداً عبر عنه الفعل ، فهل تفكرتم في ذلك ، وتساءلتم من يمسك هذا الطير أن يقع، إنه الله الذي بكل شيء بصير، فلا يغفل عنه شيء، وكل واقع تحت بصره الذي أحاط بكل شيء.
يقول تعالى
"أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ"فمن من أعوانكم ينصركم من الله إن أنزل بكم عذابه، فالكافرون في جهل عظيم وضلال مبين، حيث أنهم اعتقدوا أن الألهة من دون الله تنفع أو تضر.
قال تعالى " أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ" فإن أراد الله تعذيبكم بمنع الرزق عنكم ، من يرزقكم من دون الله، ورغم وضوح الحقيقة إلا أن الكفار أصروا في تماديهم في الطغيان وفرارهم من الحق والإيمان.
قال تعالى: " أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " ثم ضرب الله مثلاً للكافر وللمؤمن، فالكافر الذي تمادى في طغيانه وفر من الحق والإيمان، يمشي منسكاً وجهه فلا يرى الحق، فهل هو أهدى أم ذلك الذي انتفع بالحق فهو على صراط مستقيم لا اعوجاج في سيره.
قال تعالى : "قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ " ثم يأمر الله نبيه أن يخبر الناس أن الله تعالى هو الذي أوجدهم من العدم وخلق لهم السمع والأبصار والأفئدة، ومع ذلك قليل منهم من يشكر الله جل جلاله، وهو بتذكيره لهم بنعمه الجليلة يعرفهم على قبح ما هم فيه من الكفر والإشراك، فلعلهم يراجعوا حساباتهم فيؤمنوا بمن انعم عليهم بهذه النعم الجليلة، وإنما خص الله ذكر السمع والبصر والأفئدة لأنها أدوات العلم والفهم (١٣)، فكأن الله يعيب عليهم عدم استخدامها في الوصول إلى معرفته جل جلاله، ثم يذكر الله نعمة تكثيرهم في الأرض فيقول :" قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ" وبعد تكثيرهم يموتون وإلى الله يحشرون ، وعلى أعمالهم يحاسبون.
علاقة الآيات بما قبلها :
لما ذكر الله إنعامه على عباده ، ذكر مغبة إنكار العباد لنعمه ، وأن الله تعالى قادر أن يحول من النعمة نقمة ، وفي ذلك إرشاد للناس لضرورة شكر الله على نعمه.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30) }قال تعالى : "وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " بعد أن أخبرهم الله على لسان نبيه أنهم إليه يحشرون سألوا سؤالاً مستهزئين متى هذا الحشر الذي تخبرنا به ، إن كنت من الصادقين ، فيأمر الله نبيه بالجواب قائلاً " قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ " فهو لا يعلم وقتها ، ولا يعلم وقتها إلا الله ، وإنما هو مبعوث للإنذار لا للإخبار(١٤)
قال تعالى " فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ " وهذا وعد بانكشاف الموعود به عن كونه (١٥)، وعبر بالماضي هنا للدلالة على انه لا بد واقع، لا شك في ذلك والموعود به هو الحشر الذي كذب به المبطلون، فيومئذ تخاطبهم الملائكة أو الأنبياء ، هذا يومكم الذي كنتم تدعون ، أي تطلبونه في الدنيا وتستعجلون به استهزاءً (١٦).
قال تعالى : " أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ " فلما دعا الكفار على محمد والذين معه بالإهلاك، رد عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إن أهلكه الله ومن معه ، أو رحمنا، فمن يدفع عن الكفار عذاب الله الأليم،فهل تظنون أن الأصنام تنجيكم من العذاب الأليم؟.
قال تعالى : " قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" أي قل لهم آمنا بالله الواحد الأحد ، وعليه أعتمدنا وتوكلنا في جميع أمورنا ، وستعلمون أن اتهامكم لنا بالضلال هو اتهام باطل وأن الضلال ما أنتم عليه، وفيه تهديد للمشركين.
قال الله تعالى : " قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ " يأمر الله نبيه بتحديهم إن أصبح ماؤهم لا تصل إليه الدلاء ولا يستطيعون إخراجه ، من يخرجه حتى يكون جارياً على وجه الأرض، فلا غير الله يستطيع ذلك فلم به يشركون؟ .

علاقة الآيات بما قبلها :
لما هددهم الله بالعذاب ، هددهم كذلك بيوم الحساب، فلو أنهم ماتوا في الدنيا ولم يبعثوا لاستراحوا ، لكنهم يبعثوا فيحاسبوا .

الفصل الخامس
أولا:- أساليب القرآن في عرض موضوعاته من خلال دراسة السورة.
ثانيا:- ثمرة الإيمان بقدرة الله جل جلاله .
أولا:-
أساليب القرآن في عرض موضوعاته من خلال دراسة السورة
ويشتمل على :
أولا: أسلوب الترغيب والترهيب والوعيد.
ثانيا: الوصف.
ثالثا: الاستفهام الإنكاري
رابعا: الاستدلال العقلي.
أولا: أسلوب الترغيب والترهيب:
لقد استخدم القرآن الكريم أسلوبي الترهيب والترغيب في هذه السورة حينما ذكر مشهد الطغاة في النار { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ....}، وكذلك مشهد الترغيب حين ذكر مشهد التقاة في الجنة في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ...}، هذان الأسلوبان يجعلان الإنسان في حالة يقظة دائمة ومراقبة للنفس، واجتهاد على العمل وإيقاظ للهمم.
ثانيا أسلوب الوصف: لقد استخدم القرآن الكريم أسلوب وصفي للمشاهد والصور حين ذكر مشهد يوم القيامة في قوله تعالى: {إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ....}، ومشهد العذاب بكل فوته وعنفه { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ ....}.
ثالثا أسلوب الاستفهام الإنكاري: مثال ذلك قوله تعالى :" ألم يأتكم نذير" فيه دلالة الإنكار على الكافرين كفرهم بعد إقامة الحجة عليهم.
ولم يكن السؤال في قوله تعالى: { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} بقصد انتظار الجواب إنما بقصد الإنكار والتحدي لهم، وكذلك الآيات اللاحقة لها .

رابعا: أسلوب الاستدلال العقلي وخاصة مع أولئك الجاحدين المعاندين الذين لا تقبل نفوسهم النص، ونلحظه جليا في قوله تعالى :" الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ" وكذلك في قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ....}.

 ثانيا:- ثمرة الإيمان بقدرة الله جل جلاله وبيوم الحشر
1. إن الإيمان بقدرة الله جل جلاله تورث في النفس خشية منه سبحانه ، وإنابة إليه وتوكلاً عليه
2. أن قدرة الله تورث في القلب يقيناً لا يتزعزع، وثقة لا تهتز ، وتوكلاً لا يشرك به مع الله أحداً من خلقه.
3. إن للإيمان باليوم الآخر أثر عظيم في توجيه سلوك الإنسان في هذه الحياة الدنيا ذلك لأن الإيمان به، وبما فيه من حساب و ميزان، وثواب وعقاب وفوز وخسران، وجنة ونار له أعمق الأثر وأشده في سير الإنسان وانضباطه، والتزامه بالعمل الصالح وتقوى الله عز وجل.

-------------------------
١- محمد الشوكاني ،فتح القدير،دار المعرفة ،بيروت ،ج6 ص 314
٢- اجتهاد الباحث .
٣- محمد الشوكاني ، فتح القدير ، دار المعرفة ج5 ص 315
٤- سيد قطب ، في  ظلال القرآن ج 6 ص3631
٥- محمد الشوكاني فتح القدير، دار المعرفة ج 5 ص 316
٦- إبراهيم بن عمر البقاعي ، نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ، مكتبة مشكاة الإسلامية ، ج 10ص 386
٧- سيد قطب في ظلال القرآن ج 6 ص 3635
٨- محمد الشوكاني ، فتح القدير ج 5 ص 319
٩- سيد قطب ، في ظلال القرآن ، ج6 ص 3635
١٠- محمد الشوكاني ، فتح القدير دار المعرفة ، ج 5 ، ص 320
١١- مختصر تفسير ابن كثير 3/582
١٢- تفسير الآلوسي 29/15
١٣-الصابوني  صفوة التفاسير ، دار القرآن الكريم ، الجزء 19 صفحة11
١٤- محمد الشوكاني ، فتح القدير ، دار المعرفة ج 5 ص 323
١٥- البقاعي ، نظم الددر في تناسب الآيات والسور
١٦- محمد الشوكاني ، فتح القدير ، دار المعرفة ج5 ص 324
المرجع/ تفسير سورة الملك تفسيرا موضوعيا / للباحث : عدنان أحمد البحيصي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق