د. محمد بن عبدالعزيز الخضيري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
انتهينا -أحبتي الكرام- من المرحلة السادسة من المراحل التي وضعها المؤلف الد.عصام بن صالح العويد لطالب فهم القرآن، وكانت المرحلة السادسة حول فهم موضوع السورة وما يتعلق بها، وقد بيّنا جملة من موضوعات سور القرآن، والعلماء يختلفون في هذا الباب ويجتهدون فيه لكن بعض السور يتضح عنوانها ومقصودها بشكل بيّن لا لبس فيه ولا غموض، وبعض السور يُشكِل أمر يختلف اجتهاد العلماء فيه.
ثم انتقل المؤلف إلى المرحلة السابعة فقال: "المرحلة السابعة هي جمع الآيات التي تتكلم عن موضوع واحد في موضع واحد".
يعني عندما تمر بنا آية في كتاب الله -عز وجل- وهي تتحدث عن موضوع معين فإننا حتى نستوعب هذا الموضوع ونُلِمّ بأطراف ينبغي لنا أن نجمع الآيات التي تتحدث عن هذا الموضوع في سائر القرآن، فإن جمع الآيات التي تتحدث عن موضوع في سائر القرآن يُنير لنا الفهم ويُوضح لنا المقصود ويحُلّ المُشكِل. مثال: لو تجمع الآيات التي في قصة موسى في سورة البقرة وسورة الأعراف، في سورة طه وسورة الشعراء، وغيرها من سور القرآن الكريم التي ورد فيها هذه القصة العظيمة لرأيتم أن الآيات في بعض السور يحُلّ لك ما يُشكِلُ عليك في سور أخرى.
وهذا نافع جدا وهو من أجلّ الأبواب لمن صبر عليه، وقلّ من الناس من يُطيقه لأن النظر فيه دقيق، والعمل فيه شديد ويحتاج إلى كثير من التأني والتأمل والتملي حتى يهتدي فيه الإنسان إلى هدايات كثيرة. وهذا النوع مفيد في جانب تفسير القرآن بالقرآن الذي هو أجلّ أنواع التفسير وأفضل طُرُقه وهو أن تُفسّر الآية بآيات مثلها. ونجد كثيرا من المفسرين يكتفون بشرح وتفسير الآية بغض النظر عما يُماثلُها من آيات في مواطن أخرى . ومن ميزات القرآن العظيم أنه كتاب-كما ذكر الله عز وجل- (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ) ما معنى مثاني؟ تُثنى فيه الأخبار والقصص والأوامر والأحكام والعقائد، تُذكر مرة بعد أخرى حتى يُذكّر العِباد لأن من عادة الإنسان أنه ينسى فيُذكّر بالجنة، ثم يُذكّر بالجنة، ثم بالنار ثم بالجنة ثم بالنار، ويُفرق هذا في سور كثيرة، يعني لم يأتِ ذكر الجنة في سورة البقرة، ولم يأتِ ذِكر الجنة في سورة الإخلاص -مثلا- لأنه ذُكرت في سور أخرى، وكلما مشيت قليلا في القرآن جاء ذِكر الجنة وصفات المتقين ونعيم الله لأهل الجنة حتى تتذكر، فإذا قرأت وكِدت أن تنسى جاءك ذِكْر الجنة مرة أخرى. فهذا يُفيد كثيرا عندما نعلم أن القرآن مثاني يعني تُثنى فيه الأخبار والأحكام والقصص والمواعظ، أي تُعاد مرة بعد أخرى، يُعيننا على أن إذا مرّ موضوع أن نجمع الآيات الأخرى في ذلك الموضوع .
مثلا: عندما يمُر بك قول الله -عز وجل- (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) ثم يقول (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) هذه الآيات تتحدث عن الربا، طيب امشِ، في سورة آل عمران (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) إذا في سورة آل عمران نصّ على نوع من أنواع الربا وهو الرِبا المُضاعف، في سورة البقرة ذكر جميع الأنواع لماذا؟ لما تجمع الآيات وتتأمّل فيها تجد أن الربا الأعظم، المقصود الأعلى هو الربا المُضاعف وأنه هو أول ما حُرِّم لأن فيه من الظلم ما ليس في غيره، ثم إن الله -عز وجل- لما استقر الإيمان في قلوب المؤمنين واستقبلوا الأحكام حرّم عليهم جميع أنواع الربا وكانت آيات الربا في سورة البقرة من آخر ما أُنزل على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) هذه من أواخر ما نزل على رسول الله، (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ*فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ* وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) هذه آخر آية أُنزلت في القرآن. قال واحد من المفترضين: الربا المُحرم هو الربا المُضاعف الذي يُعطي فيه الإنسان صاحبه مالا إلى أجل فإذا جاء الأجل قال إما أن تقضي أو تُربي، أما الربا الاستثماري الذي يُراد به تثمير الأموال وتنميتها هذا لا بأس به. قلنا له: كذبت، الربا المُضاعف هو أول ما حُرِّم ثم حرّم الله بعده سائر أنواع الربا والذي يدل على ذلك أن الله ذكر الربا في موطن آخر وجعله آخر ما أُنزل حتى لا يبقى شك في تحريمه وأنه بجميع أنواعه مُحرم. رأيتم كيف لما جمعنا الآيات تبيّن لنا المعنى.
طيب، أقروا -استمر- تجد في سورة الروم قال الله -عز وجل- (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّه وَمَا آَتَيْتُمْ مِّنَ زَكَاةٍ تُرِيْدُوْنَ وَجْهَ الْلَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُوْنَ) لاحظوا: هذه الآية في سورة الروم، وسورة الروم مكية ذكر الله فيها المقارنة بين الربا والصدقة كتنفير من الربا، من أتى أو تعاطى الربا ليُنمي ماله فإنه لا ينمو عند الله، ولم يقل الله فإنه مُحرم قال (وَمَا آَتَيْتُمْ مِّنَ زَكَاةٍ تُرِيْدُوْنَ وَجْهَ الْلَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُوْنَ) يعني من أراد أن يحصل على التضعيف في المال فعليه بأن يُزكي ماله ويُكثر من الصدقة، وأما من رابا ليُضعف ماله فإنه لا يربو عند الله ولا يزيد. هذه في مكة، وتلك الموطنان في المدينة، والأول منهما في سورة آل عمران والثاني في سورة البقرة، وقد عرفنا الترتيب. وبهذا نعرف لما نُلِم بموضوع الربا في القرآن نعرف أن الله حرمه على مراحل: المرحلة الأولى: كره، والمرحلة الثانية: حرّم نوعا منه هو أشدّه ظلما وهو الربا المُضاعف، والمرحلة الثالثة: حرّم الله الربا كله بسائر أنواعه.
إذا جمع الآيات في الموضوع الواحد مهم جدا لاستيعاب الموضوع وفهمه من أطرافه وحتى تخرج برؤية كاملة لهذا الموضوع في كتاب الله -عز وجل- وهذا من أفيد ما يكون على طالب العِلم. مع كل أسف أن كثيرا من طُلاب العِلم يهدون في هذا الأمر فهو يقرأ الآية ويريد أن يستفيد منها ويأخذ الْحُكْم منها مباشرة دون أن ينظر إلى طريقة القرآن في جمع مثل هذا النوع أو الحديث عن مثل هذا الموضوع في سائر كلام الله -جلّ وعلا- وبهذا يفوت على الناس خير كثير.
لو تنظر -مثلا- إلى خلق آدم مرة يُذكر من تراب، ومرة من طين، ومرة من صلصال كالحمأ المسنون، ومرة من طين لاب، هذا لو تنظر إلى كل آية في كل موطن قد يُشكِل عليك، هل خُلقت من تراب وإلا من طين وإلا من طين لازب وإلا من حمأ مسنون، فتجمع الآيات فإذا بها قد ترتبت وعُلِم أنه كان تراب فأضيف عليه الماء فصار طينا فتُرِك حتى أنت فصار حمأ مسنون ثم فتُرِك حتى يبس فصار من صلصال كالفخار. فلما جمعنا الآيات عرفنا المراحل التي مرّ بها خلق آدم.
الجبال: هل هي يوم القيامة تصير قاعا صفصفا وإلا كثيبا مهيلا، وإلا كالعهن المنفوش؟
الحقيقة أن الجبال تمُر بمراحل: فأول مرحلة تؤخذ فتُدك دكة واحدة، فإذا دُكت صارت كثيبا مهيلا، فإذا صارت كثيبا مهيلا ارتفعت (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) يجعلها الله كالعهن المنفوش ثم يأمرها بالسير تفسير (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) ثم يصبح مكانها قاعا صفصفا (لاّ تَرَىَ فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً) لكن ذُكر في كل سورة ما يُناسب تلك السورة وهذا يحتاج إلى حكمة حكيم، وعِلم عالم، وتأمل متأملا يستطيع أن يعرف لماذا ذُكر هذا في هذا الموطن، ولماذا ذُكر هذا في هذا الموطن .
فمثلا: في سورة الواقعة قال الله -عز وجل- (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) هذه الجبال بأمر الله تُدك ثم تُبس وتُدق ثم تُبث فتكون هباء منبثا مثلكم أنتم أيها الناس، في يوم القيامة يصيبكم صعق يوم القيامة ورجفتها وهولها الشديد، ترى الناس سُكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد فيكون الناس في ذلك اليوم من شدة الهول كالفراش المبثوث من شدة ما يصيبهم من الهول، فإذا كانت الجبال سيُصيبها ذلك فأنتم أيها البشر مثل ذلك، فيُذكر في كل سورة ما يُناسبها. في سورة الواقعة ذكر انقسام الناس (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) ..الخ.
يقول: "المقصود بهذه المرحلة أنه بعد ظهور دلالة السياق ومقصود السورة ينتقل البحث إلى جمع الآيات من السور الأخرى التي تزيد في بيان معنى الآية أو السورة التي يُراد تفسيرها ليتبين بذلك الناس من المنسوخ، والخاص من العام، والمُطلق من المُقيد، والمُجمل من المُبين".
وانظروا -مثلا- إلى قول الله -عز وجل- (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) كيف حمله وفصاله ثلاثون شهرا؟ كم مدة الحمل؟ وكم مدة الفِصال؟ مُشكِل. لكن لما تقرأ في قول الله -عز وجل- (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) فالفِصال له أربعة وعشرون شهرا فكم بقي للحمل؟ ستة أشهر؟! يمكن؟ اختلف العلماء كم أقل مدة يمكن يعيش فيها الجنين، قال العلماء ستة أشهر لأن الله جعل مدة الحمل في القرآن ستة أشهر وقد تزيد وتصل إلى المدة المعلومة التي يمر بها أكثر الناس وهي تسعة أشهر، لكن أقلّ مدة ستة أشهر. ولذلك إذا تزوجت امرأة فدخلت بها فحملت فولدت ولدا لأقلّ من ستة أشهر وبقي حيا فاعلم أنه ليس منك. هذا حكم العلماء وليس حكمي أنا بنصّ القرآن لأن أقل مدة للحمل هي ستة أشهر، لو ولدت ولدا فبقي حيا لأقل من ستة أشهر فهذا الولد ليس منك.
قال: "وهذه أمثلة.." ذكر الشيخ أمثلة كثيرة جدا لن نُطيل بذكرها لأننا بينّنا نحن بعض الأمثلة التي تُغني عمّا ذكره المؤلف -وفقه الله- ولعلكم تقرؤونها من كتابه، وقد -الحقيقة- أطال فيها وجاء بأشياء بديعة مهمة جدا في فهم هذا الموضوع وبيان أهميته. فنحن نتجاوزها جميعا ونصل بعد ذلك إلى المرحلة الثامنة وهي: العناية بتدوين قصص وأخبار العلماء المتصلة بآيات القرآن وسُوره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق