الأربعاء، 26 فبراير 2014

تفسير سورة يس (55- 83)/ دورة الأترجة

د. عبدالرحمن بن معاضة الشهري
 

 

المجلس الأول
{إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴿٥٥﴾ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ﴿٥٦﴾ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ﴿٥٧﴾ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴿٥٨﴾ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ﴿٥٩﴾}
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً. يبدأ الحديث في هذا الجزء من سورة يس الذي تقدّم معنا أنها تتحدث عن إثبات البعث والنشور والجزاء يوم القيامة وفيها موضوع أصحاب القرية وما يتصل بها ثم دلائل الوحدانية من خلال خلق السموات والأرض وإنبات النبات وإنزال المطر وتعاقب الليل والنهار وجريان الشمس والقمر والآيات التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في هذه السورة. والخطاب متوجّه بالدرجة الأولى إلى المشركين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك تجدون مثل هذه القوارع وهذه الآيات والعلماء دائماً يقولون أن السور المكية مثل سورة يس والسورة التي سوف تأتي معنا سورة الصافات سور مكية بالإجماع فيها قِصَر في الآيات وفيها شدّة في العبارات وفيها حديث طويل عن البعث واليوم الآخر وإثبات الألوهية هذه كلها من علامات السور المكية لأن الناس كانوا مشركين وكان الحديث يركِّز على هذه الجوانب.
هنا ينقل الصورة سبحانه وتعالى إلى الجنة فهو تحدّث عن المشركين وعن الكافرين والمكذبين وجزاؤهم في الآخرة ويتحدث الآن عن صورة من صور نعيم أهل الجنة فيقول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) والمقصود به اليوم هنا يعني في الآخرة عندما يدخل أهل الجنة الجنة هذا هو المقصود (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) مشغولون بما يُبهج وبما يسرّ،  (فَاكِهُونَ) مسرورون والتفكّه كما يقول العلماء إزالة الفُكاهة ومن اشتقاقاتها وهذه اشتقاقات جميلة في اللغة العربية وهذه فائدة في اللغة العربية أن التفعّل صيغة تفعّل تدل على ملابسة الشيء فإذا قلت مثلاً تسلّق الشجرة، تسلّق يعني يتلبّس بالشجرة ويتسلّق ليس معناها تسلّق عن الشجرة يعني ابتعد عنها وإنما نمسّك بالشجرة وتسلّق. صيغة تفعّل في اللغة تدل على ملابسة الفعل، تلثّم، تسلّق، إلا سبع صيغ في اللغة العربية تدل على مجانبة الفعل وليس ملابسة الفعل مثل: (تحنّث) مثل الرسول صلى الله عليه وسلم تحنث في غار حراء، تحنّث يعني تعبّد مع أن الحنث هو الذنب (وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ) [الواقعة:46] يعني الذنب العظيم، فتحنّث يعني فرّ من الحنث الذي هو الذنب يعني تعبّد -تألّه- فصيغة تحنّث لا تدل على ملابسة الفعل وإنما على الفرار منه ، و(تأثّم) إذا فرّ من الإثم، و (تحرّج) إذا فرّ من الحرج، و(تفكّه) -التي معنا هنا- إذا أزال عن نفسه الفُكاهة والفكاهة هي ما يؤلم ولذلك إذا قيل تفكّه يعني أزال عن نفسه ما يؤلم وجلب ما يسرّ ولذلك الفواكهة مأخوذة من هذا -وأنا لا أريد لا أجزم هل هي ست أو سبع صيغ لكنها هي محدودة في هذه الحدود-. صيغة تفعّل التي تدل على مجانبة الفعل وليست تدل على ملابسة الفعل. من أشهرها تحنّث وتأثّم وتحرّج وتفكّه من الصيغ التي تدل على مجانبة الفعل.
 فالله سبحانه وتعالى يقول (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) يعني أنهم مسرورن بما هم فيه من النعيم. (فِي شُغُلٍ) ما هو الشغل الذي هم مشغولون فيه؟ مشغولين بالنعيم والنعيم أنواعه كثيرة تستطيع أن تقول أنهم مشغولون بالطعام، مشغولون بالزواج، كلها من أنواع النعيم في الجنة ولذلك تجدون في كتب التفسير أنواع من قوله (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ) بعضهم يقول مشغولون بالنظر لوجه الله، وبعضهم يقول مشغولون بالسرور بالأهل وبالأبناء، وبعضهم يقول مسرورن بالحديث مع بعضهم البعض، وكلها من النعيم الذي أسأل الله أن يرزقنا وإياكم إياه.
ثم يقول سبحانه وتعالى (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) من تمام نعيم أهل الجنة أن الله سبحانه وتعالى يُلحِق بهم أبناءهم وأزواجهم من المؤمنين قال الله سبحانه وتعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ) [الطور:21] ولا شك أن من تمام نعيم الإنسان أن يكون معه من يحبهم في المكان الذي هو فيه فلما يجتمع الرجل مع زوجته وأبنائه في الجنة فنعيمه يكمل ولذلك الله تعالى يذكر دائماً نعيم أهل الجنة فيقول (خالدين فيها) ما يقول أبداً (خالداً فيها) وحده لكن في النار ذكر الله سبحانه وتعالى (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا) [النساء:14] قالوا هذا أشبه ما يكون بالسجن الانفرادي والمسجون في السجن الانفرادي يشعر بالعذاب أكثر من المسجون مع بقية المسجونين لأنه إذا رأى غيره يشاركه الهمّ يخفّ عنه ويتسلى لكن إذا كان يشعر أن هذا العذاب يقع عليه بمفرده فإنه يتضاعف عليه الألم. فالله يقول هنا من كمال نعيم أهل الجنة أنهم هم وأزواجهم يتنعمون بهذا النعيم.
 قال (هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) الظلال جمع ظل الأشجار وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض أشجار الجنة يسير الراكب في ظلها أربعين سنة لا يقطعها. قال (عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) والأريكة هي التي يتكئ عليها الإنسان ولذلك تجدون في كتب التفسير يقولون هي الحِجال وبعضهم يقول ما معنى الحِجال؟ الحِجال كلمة غريبة بالنسبة لنا والأريكة أسهل منها الأريكة هو ما يتكئ عليه الإنسان وهذا من كمال النعيم وأنت الآن عندما تجلس على كنب مرتفع فهذا أريح لك وهذه الكنبات والأماكن التي تجلس عليها أنواع وأشكال، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يقول هنا أنهم يجلسون ويتكئون على أفضل المقاعد وأوثر المقاعد وإلا فلا تستطيع أن تقول هذه مثل التي في الدنيا ولأنه كما قال ابن عباس لا يوجد في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، فيها رمان وفيها زيتون وفيها نخل، هل هي مثل التي عندنا؟ لا، هو شيء أكمل! لأن الدنيا ناقصة وكل ما في الدنيا ناقص أما في الجنة فلا تقارن في الدنيا أبداً لكنها من باب التقريب للمعاني فيعبر عنها بمعاني نعرفها.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ﴿٥٧﴾ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) لهم كل ما يشتهون. ولا شك أن نعيم أهل الجنة نعيم كامل كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: "أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر" وقال هنا (لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ) وقال في سورة ق (لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) -نسأل الله من فضله- فنعيم أهل الجنة نعيم كامل لا تصفه العبارات ولكنها تقرّبه وإلا وصفه على حقيقته هو أن تراه وتتمتع به.
 (سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) هذه الآيات الأربع تحدثت عن ثلاث مسائل:
/ عن تقرير المعاد يوم القيامة لأنه تكلم عن الجنة والمصير فيها
/ بيان شيء من نعيم أهل الجنة
/ ثم سلامُ الله تعالى على أهل الجنة
وهذا فيه إشارة إلى النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى في الجنة لأنه يسلّم على عباده في الجنة وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة كما نرى البدر في السماء لا نُضام في رؤيته فهذا مما نثبته ونؤمن به أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة وفي الجنة.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) معناها تميزوا في مواقف الحشر يوم القيامة. (امتازوا) يعني تميّزوا عن غيركم، المجرمون على جنب والمؤمنون على جنب، ولذلك قال الله تعالى هنا (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) يعني ليتميز المجرمون عن المؤمنين لأن لكل منهم جزاء خاص (فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ) [يونس:28] ميّزنا بعضهم عن بعض.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿٦٠﴾ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴿٦١﴾) لاحظوا هذا العهد أن الله سبحانه وتعالى قد أخذ على بني آدم عهداً أن يتخذوا الشيطان عدواً منذ أن أخرج آدم عليه السلام وزوجه حواء عندما خرجا من الجنة وخرج إبليس وهبطوا إلى الأرض بيّن لهم هذه الحقيقة أن الشيطان عدو لكم وطبعاً العاقل عندما يقال له فلان عدو لك يتربص بك العداوة يأخذ حذره (خُذُواْ حِذْرَكُمْ) [النساء:71] لكن الذي يحدث من بني آدم هو العكس وكأن الله أكرمنا باتّباع إبليس ولم يأمرنا باتخاذه عدواً! ولذلك تعجبني أبيات للمثقب العبدي في أبياته النونية التي يقول فيها:
فإما أن تكون أخي بحقٍّ ** فأعرف منك غثّي من سميني
وإلا فاطّرحني واتّخذني ** عدواً أتّقيك وتتقيني
فالله سبحانه وتعالى قال (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ) قد يقول قائل نحن لا نعبد الشيطان! وهذا يذكرنا بقصة عدي بن حاتم رضي الله عنه عندما قال الله تعالى (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) [التوبة:31] وعدي بن حاتم كان نصرانياً قبل الإسلام فقال للرسول صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله نحن لا نتخذهم أرباباً، قال (أليسوا يحرمون لكم ما أحلّ الله فتحرموه ويحلّون ما حرّم الله فتحلوه؟ قال نعم، قال تلك عبادتهم). ليس العبادة أن تصلي لإبليس لكن مجرد أن تطيعه فيما حرّم الله هذه عبادته، حقيقة العبادة هي الطاعة والانقياد فالله تعالى يقول(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴿٦٠﴾ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴿٦١﴾) هذا السؤال سؤال استنكاري من الله سبحانه وتعالى يعني أنا أستنكر عليكم طاعتكم لإبليس مع أنني حذّرتكم ونبهتهم أنه عدو لكم فاتخذوه عدواً وتجنبوه وخالفوه واعصوه، قال (وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) .
ثم قال (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (ولقد أضل منكم جُبُلاً كثيراً) هذه قراءة أخرى صحيحة ومعناهما واحد (جبلّاً) يعني أقوام كثيرة جداً فالجبلة القوم الكثيرة العدد الشيطان قد أضل أُمماً ومستمر يمارس عمله بشكل جاد حتى يأذن الله سبحانه وتعالى. ولكن إذا عرف المؤمن أنه محل ابتلاء في هذه الدنيا وأن الله سلّط عليه إبليس يوسوس له ويزين له الباطل ويزين له ترك العبادة ويزين له الشرك ويزين له ما حرم الله فهو في اختبار، يختبره الله ليرى هل سوف يطيع إبليس أم سوف يرفض؟ أم يطيعه مرة ويرفض مرة كما قال تعالى أن من الناس من يعمل عملاً صالحاً ويخلط معه آخر سيئاً ثم في الآخرة يجازي الله تعالى كلّاً على عمله فقال سبحانه وتعالى هنا (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) فيه إشارة -وهي حقيقة- أن طاعة الشيطان تدل على قلة العقل لأن الله سبحانه وتعالى نبّهك على أنه عدو وأنت تعلم أنه كان سبباً في خروج آدم من الجنة وهو سبب رئيسي من أسباب ضلال البشرية فكيف تطيعه؟! هذا دليل أنه لا عقل لك أو أنك قليل العقل أو أنك تتخلى عن عقلك الذي تطيع فيه إبليس ولذلك قال (أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ).
ثم ينتقل المشهد الآن إلى جهنم -والعياذ بالله- يصوّر لنا مقدار العذاب الذي يقع على أصحاب النار وهذا لا يمكن أن يكون إلا كلام الله سبحانه وتعالى لا يمكن لبشر أن يتكلم هذا الكلام ويتكلم بهذه الثقة، يصف لك أهل الجنة في الجنة ويصف أهل النار في النار كأنك تراهم كأنك تشاهد فيلماً فيقول (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ﴿٥٥﴾ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ﴿٥٦﴾) يذكر لك صورة كأنك تشاهد مشهداً مع أنه لم يأتِ بعد ثم ينتقل إلى جهنم (هَذِهِ جَهَنَّمُ) يشير إليها كأنها شيء حاصل موجود الآن (هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴿٦٣﴾ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).
ثم يذكر الله سبحانه وتعالى أن هؤلاء المشركين والمكذبين عندما يحاسَبون -كما في الحديث- فيقول أحدهم يا رب أنت العدل فلا أرضى اليوم شاهداً عليّ إلا من نفسي فيقول الله سبحانه وتعالى (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ) أبشِر أنت لا ترضى على نفسك إلا شاهداً من نفسك! فيختم الله على أفواههم فتشهد أرجلهم وتشهد أيديهم وتشهد ألسنتهم وتشهد جوارحهم عليهم بما كانوا يفعلون، هذا أمر في غاية المفاجأة بالنسبة للكفار والمشركين أنها تشهد عليهم ألسنتهم كما قال الشعبي وغيره: "أول ما يتكلم من جوارحهم الفخذ اليسرى تتكلم وتشهد بكل ما فعلت حتى أن الشخص نفسه لا يستطيع أن يُنكر فيقول: تبّاً لكن وسُحقاً عنكنّ كنت أناضل" فيقول الله سبحانه وتعالى (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ) نغلقها فلا يتكلم أحد بلسانه (وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) وهذا من تمام عدل الله سبحانه وتعالى أنه يجعل جوارح الإنسان تتحدث وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة فصلت فقال (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ (23)) هل يستتر الإنسان من نفسه وهو يعصي الله سبحانه وتعالى؟! فالله يقول (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ) ولم يخطر على بالكم أن تشهد عليكم جوارحكم التي مارستم بها المعاصي. هذا الكلام لا يقوله إلا الله عالم الغيب المطلّع على الغيب يعلم ما كان وما لم يكن وإلا النبي صلى الله عليه وسلم ما يعرف هذه الأشياء وما يعلم عنها عليه الصلاة والسلام لولا الوحي وهذا من الأدلة التي تثبت أن هذا القرآن كلام الله سبحانه وتعالى الذي يتكلم بهذا الكلام والذي يعرف الماضي والمستقبل وماذا سيحدث في الجنة وماذا سيحدث في النار هذه تفاصيل لا يعرفها إلا الله.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) يقول الله سبحانه وتعالى لو شئنا لطمسنا أعين هؤلاء الكفار المكذبين بمعنى سويناها، طمسناها أي سويناها فلا يبصرون بها تصبح مغلقة (فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ) يأتون إلى الصراط فلا يستطيعون أن يمروا عليه ويسقطون دون حساب ودون مناقشة لكن من تمام عدله سبحانه وتعالى يناقشهم ويحاسبهم ويُشهد عليهم ايديهم وأرجلهم حتى إذا شهدت عليهم أمر بهم سبحانه وتعالى إلى الجحيم.
 ثم قال (وَلَوْ نَشَاء لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ) والمسخ هو تغيير الخِلقة من خِلقة إلى خِلقة مسخناهم بمعنى أننا جعلناهم خلقاً لا يتحركون لا يستطيعون مضياً ولا يرجعون والله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير ولكن الله من تمام عدله فإنه يسأل ويناقش هؤلاء المكذبين الكافرين.
 ثم يقول الله سبحانه وتعالى وهذه من القواعد القرآنية (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) وهذه أيضاً من أدلة وحدانية الله سبحانه وتعالى الآيات ما زالت تستمر في إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى استشهد علينا بخلق السموات وخلق الأرض وخلق الشمس وخلق القمر وذكر لنا شيئاً من نعيم أهل الجنة وشيئاً من جحيم أهل النار ثم رجع مرة أخرى إلى أدلة الوحدانية فقال (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) أي الرجل أو الإنسان أو المرء الذي يطول عمره ينتكس في خلقته فيضعُف سمعه ويضعف بصره وتضعُف جوارحه ولا يقوى على القيام ويصبح في ضعف في كل جوانبه فيقول (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) في إشارة إلى أن هذا من دلائل وحدانية الله سبحانه وتعالى الذي يخلق الإنسان من ضعف ثم لا يزال يقوى ويقوى ثم يضعف حتى يرجع سيرته الأولى من الضعف حتى لربما لا يعلم شيئاً.
هذا المقطع يمكن أن نتوقف وقفات معه من الفوائد التي مرّت معنا في هذه الآيات:
/ تقرير المعاد وبيان موقف الجاحدين منه أن الله سبحانه وتعالى يؤكد على يوم القيامة والبعث ويبين موقف هؤلاء المعاندين تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم
/ تأكيد عداوة الشيطان للإنسان وأن هذه العداوة قد نبهنا الله علينا من قديم عهد آدم عليه السلام ولا يزال الرسل والأنبياء يؤكدون هذه العداوة حتى النبي صلى الله عليه وسلم (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ)
/ عجز الإنسان عن كتمان أعماله يوم القيامة يصبح صفحة مفتوحة لا يستطيع أن ينكر شيئاً مما عمله ولهذا قال تعالى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) [الكهف:49] فضيحة (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) فهم لا ينكرون شيئاً منه ولكنهم يتعجبون من دقته. ولاحظوا قدّم الصغيرة على الكبيرة (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) ما ينكرون منه شيئاً.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى بعد هذه الآيات التي سوف يقرأها علينا الشيخ سلمان في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ ﴿٦٩﴾ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿٧٠﴾ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ﴿٧١﴾ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴿٧٢﴾ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴿٧٣﴾ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ﴿٧٤﴾ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ﴿٧٥﴾ فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿٧٦﴾)
هذه الآيات دفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم وهي تأتي أيضاً في سياق تقرير وحدانية الله سبحانه وتعالى، النبي صلى الله عليه وسلم اتهمه المشركون بأنه شاعر واتهموه بأنه ساحر واتهموه بأنه كاهن واتهموه بأنه مجنون ما تركوا تهمة من التهم التي يُتهم بها الإنسان إلا وألصقوها بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أبعد الناس عنها وهم يعلمون ذلك. فمن التهم التي اتهموه بها أنه شاعر، قالوا أنت شاعر مثلك مثل النابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى وطرفة بن العبد (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور:30] هذا سيموت مثلما مات الشعراء الذين قبله، فالله سبحانه وتعالى دافع عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحفظ الشعر ولا يُحسِن روايته ولا يُقيمه إذا أراد، يعني الرسول صلى الله عليه وسلم يسمع البيت مستقيم الوزن فيحفظه بشكل مكسور فمثلاً يقول الشاعر وهو العباس بن مرداس السُلَمي:
 أتجعل نهبي ونهبَ العُبيد ** بين عُيَينة والأقرعِ
وما كان حِصنٌ ولا حابسٌ ** يفوقان مِرداس في مجمعِ
 العباس بن مرداس لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يقسّم العطايا أعطى عيينة مائة وأعطى الأقرع بن حابس مائة وأعطى العباس خمسين فقال لماذا تعطيني خمسين؟! هل أبوه وأبو الثاني أحسن من أبي؟! فيقول: أتجعل نهبي ونهب العُبيد (أي حصانه) بين عُيّينة (عيينة بن حصن) والأقرع (الأقرع بن حابس) وما كان حصنٌ ولا حابسٌ (يعني أبويهما) يفوقان مرداس في مجمع، فالرسول صلى الله عليه وسلم فرح بهذه الأبيات وقال اقطعوا عنا لسانه وأعطاه خمسين حتى يسكت. فالرسول صلى الله عليه وسلم تمثل بقوله فيقول: أتجعل نهبي ونهب العُبيد ** بين الأقرع وعُيينة
كسر البيت فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إنما هي بين عيينة والأقرع. فالرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يقيم الشعر إذا أراد عليه الصلاة والسلام وهذا من تمام  وكمال نبوته صلى الله عليه وسلم لأنه لو كان يقول الشعر لقال المشركون هو أصلاً شاعر ويحسن صوغ الكلام -هذا القرآن- من عنده لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً ما كان يحسن الشعر ولذلك لما جاء القرآن كان دليلاً واضحاً أنه من عند الله لأنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يحفظ ولا يقول الشعر وبالرغم من ذلك جاءه هذا القرآن العظيم وحياً من عند الله سبحانه وتعالى. فهذه الآية تنفي عن النبي صلى الله عليه وسلم قول الشعر لكن ليس في الآية ذم للشعر وإنما في قوله سبحانه وتعالى (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)) [الشعراء] فوصف الشعراء أن فيهم أهل غواية ويكذبون ويبالغون ثم استثنى منهم قال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) [الشعراء:227] فأيضاً استثنى طائفة من الشعراء المؤمنين الذين يستعملون الشعر في الحق وفي المعروف، فليس في هذا ذمٌّ للشعر وليس فيه ذمٌ للشعراء المؤمنين وإنما فيه ذمٌّ للشعراء الغواة قد ذكر بعض العلماء أن المقصود بالشعر الذي ذمّه الله هنا ما هُجيَ به النبي صلى الله عليه وسلم وما هُجيَ به المؤمنون. هذا دفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم (وَمَا يَنبَغِي لَهُ) وما يستطيع النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول شعراً وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام وإلا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم أجلس حسان بن ثابت في المسجد يدافع عن الإسلام ويمدح النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: يا حسان أُهجهم وروح القدس يؤيدك، ما قالها لأحد، ما قالها إلا لحسان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستنشد الشعر كما في حديث عمرو بن الشريد عن أبيه أنه كان ينشده والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: هه هه هه حتى أنشده مئة بيت، فهو كان يستمع إليه ويحبه ولكن لا يقوله، وعدم قوله له دفاع عن النبوة أما الشعر في حد ذاته فليس مذموماً. (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ) لا يستطيعه لو أراده لأن هذه من خصائصه عليه الصلاة والسلام دفاعاً عن النبوة وحفظاً للقرآن الكريم.
(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ) النبي صلى الله عليه وسلم ما جاء به ما هو إلا هذا القرآن هذا الوحي الخالص الذي جاء به جبريل. ولذلك لاحظوا النبي صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر ولا يستطيع أن يقول الشعر ولا يحفظه ولكن بالرغم من ذلك جاء بهذا القرآن العظيم المُعجِز البليغ الفصيح الذي لم تعهده العرب ولم تسمع في حياتها مثله وكان يستوقفها ويجعل بعضها يسجدون من بلاغته وفي نفس الوقت الأحاديث النبوية التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم مُميزة عن القرآن، فإذا قرأتم في صحيح البخاري تعرفون أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه" هذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ومن كلامه عليه الصلاة والسلام:
"بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله واقام الصلاة وإيتاء الزكاء وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا"
"البِرّ حُسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وخشيت أن يطّلع عليه الناس"
 هذا أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم هناك فرق كبير جداً بين القرآن وبين الحديث النبوي مع أن المتحدِّث بها واحد عليه الصلاة والسلام هو الذي بلّغنا القرآن وهو الذي بلّغنا الحديث وكلها وحي (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)) [النجم] لكنها ليست شعراً وليست كهانة ولكن النبي مؤتمن كان يقول هذا قرآن اكتبوه وهذا من قوله صلى الله عليه وسلم. انظروا إلى هذا التمييز الواضح بين الوحي بالقرآن والوحي بالسنة وبين سائر كلام العرب وكيف نستطيع اليوم أن نفرق بينها.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى (لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا) لينذر من كان ذا صاحب قلب حيّ مستجيب ليس المقصود من كان حيّاً أي كان على قيد الحياة، لينذر من كان حياً أي صاحب قلب حيّ يستجيب للأمر والنهي (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) يصدق قول الله وتقديره على من كتب عليه التكذيب من الكافرين لكن تقام عليه الحجة.
ثم يقول الله سبحانه وتعالى مرة أخرى يذكر دلائل قدرته سبحانه وتعالى فيقول
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) فيمتن الله بخلقه سبحانه وتعالى للأنعام (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ) جعلناها مذلّلة، هذا الجمل المتوحش ذليل للإنسان، الطفل الصغير يقتاد الجمل حيثما يشاء ويقتاد مئة جمل وتتبعه وهذا من تذليل الله وإلا لو أراد الجمل أن يهيج على صاحبه، ومثله البقر ومثله الحمير وسائر الحيوانات.
 قال (وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴿٧٢﴾ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴿٧٣﴾ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ﴿٧٤﴾ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ﴿٧٥﴾) فيقول الله سبحانه وتعالى أنهم بالرغم من هذه النعم يعبدون هذه الأصنام فيقول (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) ينتصرون بهم (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ) هذه الأصنام مع أن هؤلاء المشركين يتخذونها جند لكنها لا تنصرهم (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) هذه الأصنام وهؤلاء الذين يعبدونها يُحضرها الله يوم القيامة بين أيديهم، هذه الأصنام التي كنتم تعبدون، ماذا نفعتكم؟! إمعاناً في إهانتهم وفي السخرية بهم.
قال (فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ) وهذا تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له ما يقولونه لك يا محمد من التكذيب والسخرية فإنهم سوف يجدون جزاءهم. هذا المقطع فيه:
تقرير لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم
/ وفيه الحكمة من نزول القرآن وهي أن يُنذر الله به الأحياء من أهل الإيمان
/ وفيه بيان لخطأ الذين يقرأون القرآن على الأموات ويتركون قراءته على الأحياء. بعض الناس لا ينتبه للقرآن إلا إذا مات له ميت جمّع الناس يقرؤن القرآن، وهو حيّ أولى بأن يقرأ القرآن له حتى يستجيب فنحن ما زلنا على قيد الحياة في وقت المهلة ونحن أولى بقراءة القرآن والعمل به.
/ وأيضاً وجوب ذكر النعم وشكرها.
  في آخر مقطع يقول الله سبحانه وتعالى (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) نعود إلى تقرير دلائل الوحدانية تعالَ أيها الإنسان الكافر الجاحد، أنت مِمَ خُلقت؟ أنت الذي تكفر وتجادل، ما أصلك؟ الله سبحانه وتعالى يقول (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8) [الانفطار] فيقول هنا (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ) والنطفة هي: الماء الذي خلق منها الإنسان فإذا هو بعد أن خلقناه وكبر فإذا هو خصيم مبين يجادل في الله وينكر وجود الله ويلحد بالله وهو الذي خلقه ورزقه وأعطاه وربّاه وأنعم عليه!
(وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) وهذه لها سبب نزول في رواية أن أُبيّ بن خلف (جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ عظماً بين يديه وفتته وقال: يا محمد أتزعم أن ربك يجمع هذا؟! قال: نعم يجمعه، وفي رواية أخرى أنه العاص بن وائل -روايتان- العاص بن وائل الذي هو والد عمرو بن العاص أو أبي بن خلف، فقال نعم يجمعه ويبعثك الله ويُدخلك النار) وقد كان فقد ماتا كافرين.
قال الله (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ) نزلت فيه الذي جاء يفتت العظم ويقول هل يستطيع ربك أن يحيي هذه العظام (قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) وهي أصبحت متحللة مثل التراب (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) وهذا دليل عقلي ما دام الله سبحانه وتعالى قدر على خلقك من العدم فهو قادر على إحيائك بعد الموت فهذا استدلال بالخلق الأول على الخلق الثاني والبعث الثاني.
(الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ) الشجر الأخضر في العادة لا يتصور الإنسان أن يشتعل ناراً لكن الله سبحانه وتعالى جعل الشجر يخرج منه النار والشرر ولذلك -كما يقول العلماء-: كل الشجر فيه نار ما عدا بعض الأشجار النادرة ما تقدح مثل العفار ومثل السرح وأنواع مشهورة، إذا ضربت العودين مع بعضهما تشتب بالنار ويُشعل بها الناس النار. فالله سبحانه وتعالى يقول من تمام قدرته (الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ) توقدون النار.
ثم قال (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴿٨١﴾ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴿٨٢﴾)
 فالله سبحانه وتعالى رحمته كلام وعذابه كلام ونقمته كلام (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
ثم ختم الله سبحانه وتعالى بتنزيه نفسه قال (فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وبهذا تنتهي السورة هذه السورة العظيمة وقد احتوت على دلائل عظيمة:
أولاً: الإشارة إلى ختم النبي صلى الله عليه وسلم للنبوة وتقرير نبوته عليه الصلاة والسلام والدفاع عنه ونفي الشعر عنه.
/ ومنها إثبات اليوم الآخر والسورة كلها في هذا الموضوع
/ ومنها الإحصاء الدقيق لكل ما يعمله الإنسان من صغيرة وكبيرة
/ وأيضاً الاعتبار من سير الماضين كما ذكر الله في قصة أصحاب القرية.
سورة يس سورة عظيمة وهي تبدأ من مكان ما بعده يمثل ربع القرآن الكريم من سورة يس إلى نهاية المصحف ولذلك العلماء يسمى ربع يس وبعض العلماء يحرص على أن يحفظ من ربع يس ولا شك أن من يحفظ ربع يس ويتعلمه فقد تعلم خيراً كثيراً.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
----------------------------------------
المصدر/ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق