/ ( ألم نهلك الأولين * ثم نتبعهم الآخرين * كذلك نفعل بالمجرمين):
قال ابن عطية رحمه الله : «قرأ جمهور القراء ( ثم نتبعُهم ) بضم العين على استئناف الخبر، وقرأ أبو عمرو فيما روي عنه (ثم نتبعْهم) بجزم العين عطفا على (نُهْلِكِ)، وهي قراءة الأعرج. وبحسب هاتين القراءتين يجيء التأويل في (الْأَوَّلِينَ):
ـ فمن قرأ الأولى - ضم العين- جعل (الأَوَّلِينَ) الأمم التي تقدمت قريشا بأجمعها، ثم أخبر أنه يتبع (الْآخِرِينَ) من قریش وغيرهم سنن أولئك إذا كفروا وسلكوا سبيلهم.
ـ ومن قرأ الثانية - بجزم العين- جعل (الْأَوَّلِينَ) قوم نوح وإبراهيم ومن كان معهم، و (الْآخِرِينَ) قوم فرعون، وكل من تأخر وقرب من مدة محمد صلى الله عليه وسلم. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٥\ ٤١٨)
/ (ويل يومئذ للمكذبين):
قال ابن الجوزي: فإن قيل: ما الفائدة في تكرار قوله عز وجل : (ويل يومئذ للمكذبين)؟ فالجواب: أنه أراد بكل آية منها غير ما أراد بالأخرى، لأنه كلما ذكر شيئا قال: «ويل يومئذ للمكذبين بهذا». زاد المسير في علم التفسير» (٤ / ٣٨٤).
/ (ألم نخلقكم من ماء مهين):
عن بسر بن جحاش القرشي أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق يوما في كفه فوضع عليها أصبعه ثم قال: (قال الله: ابن آدم أنى تُعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك، مشيت بين بردین وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنى أوان الصدقة). مسند أحمد (۲۹) (۳۸۵)، سنن ابن ماجه (١٣/٤).
قال ابن القيم: «قال تعالى: (ألم نخلقكم من ماء مهين* فجعلناه في قرار مكين* إلى قدر معلوم* فقدرنا فنعم القادرون) وقال تعالى: (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين)، وقال: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين* ثم جعلناه نطفة في قرار مكين* ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) وهذا كثير في القرآن؛ يدعو العبد إلى النظر والفكر في مبدأ خلقه ووسطه وآخره؛ إذ نفسُه وخلقُه من أعظم الدلائل على خالقه وفاطره، وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه، وفيه من العجائب الدالة على عظمة الله ما تنقضي الأعمار في الوقوف على بعضه؛ وهو غافل عنه، معرض عن التفكر فيه، ولو فكر في نفسه لزجره ما يعلم من عجائب خلقها عن كفره.
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (٢/ ٥٣٩).
وقال ابن القيم: «الله تعالى أخبر عن هذا الماء - أي المني - وكرر الخبر عنه في القرآن، ووصفه مرة بعد مرة، وأخبر أنه دافق، وأنه يخرج من بين الصلب والترائب، وأنه استودعه في قرار مكين، ولم يصفه بالمهانة إلا لإظهار قدرته البالغة أن خلق من هذا الماء الضعيف هذا البشر القوي السوي، فالمهين هاهنا: الضعيف، ليس هو النجس الخبيث. بدائع الفوائد (٣/ ١٠٤٣).
وقال ابن القيم أيضا: «فأول مراتب خلقه أنه سلالة من طين، ثم بعد ذلك سلالة من ماء مهين، وهي النطفة التي استلت من جميع البدن، فتمكث كذلك أربعين يوما، ثم يقلب الله سبحانه تلك النطفة التي انسلت علقة وهي قطعة سوداء من دم فتمكث كذلك أربعين يوما أخرى، ثم يصيّرها - سبحانه - مضغة وهي قطعة لحم أربعين يوما، وفي هذا الطور تقدّر أعضاؤه وصورته وشكله وهيئته، ثم تُقدر مفاصل أعضائه وعظامه وعروقه وعصبه، ويُشق له السمع والبصر والفم، ويفتق حلقه بعد أن كان رتقا، فيركب فيه اللسان، ويُخطط شكله وصورته، وتُكسى عظامه لحما، ويُربط بعضها إلى بعض أحكم ربط وأقواه، وهو الأسر الذي قال فيه: (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم). «تحفة المودود بأحكام المولود» (ص ٣٥٥).
/ (فقدرنا فنعم القادرون):
قال السعدي: «(فقدرنا) أي: قدرنا ودبرنا ذلك الجنين في تلك الظلمات، ونقلناه من النطفة إلى العلقة إلى المضغة، إلى أن جعله الله جسدا، ثم نفخ فيه الروح، ومنهم من يموت قبل ذلك (فنعم القادرون) يعني بذلك نفسه المقدسة حيث كان قدرا تابعا للحكمة موافقا للحمد». «تفسير السعدي ص (٩٠٤)»
/ (ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياء وأمواتا):
نقل ابن القيم من تفسير الإمام أحمد قوله: (ألم نجعل الأرض كفاتا) يكفتون فيها الأحياء الشعر والدم، وتدفنون فيها موتاكم.
قال المروذي وسمعته يقول: "يدفن فيها ثلاثة أشياء: الأظافر والشعر والدم". «بدائع الفوائد» (۳/ ۱۰۱۹).
وقال القرطبي: (ألم نجعل الأرض كفاتا) أي ضامة تضم الأحياء على ظهورها، والأموات في بطنها. وهذا يدل على وجوب مواراة الميت و دفنه و دفن شعره وسائر ما يزيله عنه، يقال: كفت الشيء أكفته: إذا جمعته وضممته، والكفت الضم والجمع، وأنشد سيبويه: کرام حين تنكفت الأفاعي ** إلى أحجارهن من الصقيع
روي عن ربيعة في النباش - الذي ينبش القبور ويسرق ما فيها - قال : تقطع يده، فقيل له: لم قلت ذلك؟ قال: إن الله عز وجل يقول: (ألم نجعل الأرض كفاتا* أحياء وأمواتا) فالأرض حرز" والسارق لا يُقطع إلا إذا سرق من حِرز.
قال: "وكانوا يسمون بقيع الغرقد كَفتة، لأنه مقبرة تضم الموتى، فالأرض تضم الأحياء إلى منازلهم، والأموات في قبورهم. وأيضا استقرار الناس على وجه الأرض، ثم اضطجاعهم عليها، انضمام منهم إليها"
وقال الأخفش وأبو عبيدة ومجاهد في أحد قوليه الأحياء والأموات ترجع إلى الأرض، أي الأرض منقسمة إلى حي وهو الذي ينبت، وإلى ميت وهو الذي لا ينبت». "الجامع لأحكام القرآن" (۱۹/ ١٦١).
وقال ابن القيم: اختلف الناس: هل السماء أشرف من الأرض، أم الأرض أشرف؟
فالأكثرون على الأول، واحتج من فضّل الأرض بـ
ـ أن الله أنشأ منها أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين، وبأنها مساكنهم ومحلهم أحياء وأمواتا
ـ وبأن الله سبحانه وتعالى لما أراد إظهار فضل آدم للملائكة قال: (إني جاعل في الأرض خليفة) فأظهر فضله عليهم بعلمه واستخلافه في الأرض
ـ وبأن الله سبحانه وصفها بأن جعلها محل بركاته عموما وخصوصا، فقال: (وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها) ووصف الشام بالبركة في ست آيات، ووصف بعضها بأنها مقدسة، ففيها الأرض المباركة والمقدسة والوادي المقدس وفيها بيته الحرام ومشاعر الحج والمساجد التي هي بيوته سبحانه، والطُّور الذي كلم عليه كليمه ونجيه.
ـ وإقسامه سبحانه بالأرض عموما وخصوصا أكثر من إقسامه بالسماء، فإنه أقسم بالطور والبلد الأمين والتين والزيتون، ولما أقسم بالسماء أقسم بالأرض معها
ـ وبأنه سبحانه خلقها قبل خلق السماء كما دلت عليه سورة (حم السجدة).
ـ وبأنها مهبط وحيه ومستقر كتبه ورسله، ومحل أحب الأعمال إليه وهو الجهاد والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومغايظة أعدائه ونصر أوليائه، وليس في السماء من ذلك شيء
ـ وبأن ساكنيها من الرسل والأنبياء والمتقين أفضل من سكان السماء من الملائكة، كما هو مذهب أهل السنة، فمسكنهم أشرف من مسكن الملائكة
ـ وبأن ما أُودع فيها من المنافع والأنهار والثمار والمعادن والأقوات والحيوان والنبات مما هو من بركاتها لم يودع في السماء مثله
ـ وبأن الله سبحانه قال: (وفي الأرض آيات للموقنين) ثم قال: (وفي السماء رزقكم وما توعدون) فجعل الأرض محل آياته والسماء محل رزقه، فلو لم يكن فيها إلا بيته وبيت خاتم أنبيائه ورسله حيا وميتا
ـ وبأن الأرض جعلها الله قرارا وبساطا ومهادا وفراشا وكفاتا، ومادة للساكن لملابسه وطعامه وشرابه ومراكبه وجميع آلائه، ولا سيما إذا أخرجت بركتها وازيّنت وأنبتت من كل زوج بهيج.
قال المفضلون للسماء:
ـ يكفي في فضلها أن رب العالمين سبحانه فيها، وأن عرشه وكرسيه فيها، وأن الرفيق الأعلى الذين أنعم عليهم فيها
ـ وأن دار كرامته فيها، وأنها مستقر أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين يوم الحشر
ـ وأنها مطهرة مبرأة من كل شر وخبث ودنس يكون في الأرض، ولهذا لا تفتح أبوابها للأرواح الخبيثة، ولا تلج ملكوتها
ـ وبأنها مسكن من لا يعصون الله طرفة عين، فليس فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو قائم
ـ وبأنها أشرف مادةً من الأرض، وأوسع وأنور وأصفى وأحسن خلقة وأعظم آيات
ـ وبأن الأرض محتاجة في كمالها إليها، ولا تحتاج هي إلى الأرض، ولهذا جاءت في كتاب الله في غالب المواضع مقدمة على الأرض، وجمعت وأفردت الأرض، فلشرفها وفضلها أتي بها مجموعة، وأما الأرض فلم تأت إلا مفردة، وحيث أريد تعدادها قال: (ومن الأرض مثلهن) وهذا القول هو الصواب والله أعلم». «بدائع الفوائد» (٤ / ١٣٣٤ - ١٣٣٦).
/ (وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا):
قال ابن عطية: « و(الشامخ): المرتفع، ومنه شمخ بأنفه، أي ارتفع واستعلى، شبه المعنى بالشخص
و (الفرات): الصافي العذب، ولا يقال للملح فراتا، وهي لفظة تجمع ماء المطر ومياه الأنهار، وخص النهر المشهور بهذا تشريفا له، وهو نهر الكوفة - يعني نهر الفرات -». المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (٥ / ٤١٩).
وقال السعدي: "(وجعلنا فيها رواسي) أي: جبالا ترسي الأرض لئلا تميد بأهلها، فثبتها الله بالجبال الراسيات الشامخات ، أي : الطوال العراض، قال: (وأسقيناكم ماء فراتا) أي عذبا زلالا، قال تعالى: (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون". تفسير السعدي) (ص ٩٠٤).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق