الأربعاء، 9 يوليو 2025

تدبر سورة الكهف (٢٥)/ د.محمود شمس


 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَجْمَعِينَ. سُبْحَنَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [سورة البقرة : ٣٢] . اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا رب العالمين؛ وَبَعْدُ: فإني أحييكم بتحية الإسلام : السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ. وإني لأسأل الله أن يشرح صدورنا، وأن يجعلني وَإِيَّاكُمْ من أهل القرآن الكريم الَّذِينَ هم أهل الله وخاصته. وها نحن نلتقي في لقائنا هذا وتدبر سورة الكهف.
توقفت عند قول الله : ( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءِ أَنزَلْتَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيحُ ) 
هذا التشبيه للدنيا بالماء الذي أنزله الله من السماء (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) هو من التشبيه التمثيلي، تشبيه تمثيلي بمعنى: أنَّ الله يضرب لنا مثلا؛ ولذلك لأنَّ الله يضرب لنا المثل حرف التشبيه وهو الكاف: (كَمَاءٍ أَنزَلْنَهُ مِنَ السَّمَاء) دخل هنا عَلَى المُشبَّه به أم عَلَى المُشبَّه؟ دخل هنا عَلَى المشبه به وهو الماء الذي أنزله الله من السماء؛ لأنَّ المَثَل لا يمكن أن يكون عَلَى الحقيقة، كما كنا نتكلم في محاضرة التشبيه، ما أذكر كنا في أي محاضرة. لكن هنا هو تمثيل، ولهذا التمثيل غاية ما الغاية؟ الغايةُ : أَنَّ الله يضرب هذا المثل لكل من انهمك في إقباله على الحياة الزائلة، لأنه كما قلت سابقا أن لنا حياتين اثنتين: حياتنا هذه هي حياة التكليف، وحياة الابتلاء، وحياة المنغصات، وحياة التمحيص، فالله يبتلي العباد جميعًا ليمحص قلوبهم، لتكون قلوبهم خالصة له، وهو هنا يبين أنَّ الدنيا كالماء الذي ينزل من السماء، فيختلط به نبات الأرض، فيصبحهشيما، أين المراحل ؟ هناك مراحل حذفها الله .
(فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا) احذف كل المراحل، أنت ولدت أنت مت يعني كل مولود يوم ولد هو ميت، وما بين الحياة والموت والانتقال من هذه الدار ومن هذه الدنيا عليك أن تنجح في الابتلاء، يبتليك الله بالشر ويبتليك بالخير، فكل الناس في هذا الابتلاء، والله يضرب لنا المثل، ويبين لنا أنَّ هذه الحياة أنت ستصبح لا شيء إلا ما تركت من أثر، ومن أثر طيب، تركت كلمة طيبة، تركت أفعالاً صالحة، تركت أعمالاً صالحة، تركت خُلُقًا كريمًا، تركت فعلا طيبًا فعلته والناس يقلدونك أنت في النهاية ذكرى وأثر، فَإِما أن تترك الأثر الصالح، وَإِمَّا أن يكون غير ذلك.
إذا هذا المثل موجه لكل من يغتر بالحياة الدنيا، ولكل من يعتقد أن الحياة الدنيا هي نهاية المطاف. لا، ليست نهاية المطاف، إِنَّما هي دار مؤقتة، أنت فيها ضيف وستنتقل منها لا محالة، ولذلك رب العباد وهو يتحدث عن مراحل خلق الإنسان في سورة المؤمنون: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَعِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَهُ خَلْقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَلِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴾ [سورة المؤمنون: ١٤-١٥]، وأين مراحل الدنيا؟ وأين مراحل الحياة؟ الله يقول لك : انتبه مهما بلغت في الدنيا من مكانة ومن منصب ومن جاه، أنت بعد ذلك ميت. وقلت قبل ذلك بأنَّ الله الله أكد الموت بثلاث مؤكدات، وهي نهاية المؤكدات في اللغة، لماذا؟ مع أنَّ النَّاس لم يُنكر أحد أنه يموت، والواقع يؤكد ذلك، لكن الله يؤكد الموت بالمؤكدات الثلاثة؛ لينزلنا منزلة المنكرين نظرًا لأحوالنا؛ لأننا انشغلنا بتلك الدنيا والتهينا بتلك الدنيا عن الآخرة.
إذا هذا المثل لكل من اعتبر الدنيا نهاية المطاف، ولذلك ختم الله الآية بختام في منتهى الدقة : (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) ، «كان» هنا لا تفيد زمنا، يعني لا تفيد الزمن الماضي فَقَطْ ، وَإِنَّمَا تفيد جميع الأزمنة كان وما زال وسيظل على (كُلِّ شَيْء) عموم، والعموم يشمل كل شيء في الدنيا، فكلمة شيء سورة الكهف : ١٤٥ تُطلق على كل شيء ما سوى الله ، ثُمَّ يأتي بصيغة الافتعال مُقْتَدِرًا [ سورة الكهف : ٤٥]، (مُقْتَدِر » هذا تسمى في اللغة: صيغة الافتعال. ماذا يعني صيغة الافتعال؟
 يعني : فيها كامل الصفة، يعني هو كامل القدرة، متمكن من قدرته، لا تعمل عقلك في كيفية قدرة الله الله ، فالله قادر ومقتدر، ولذلك هناك فرق دائما بين «فعَلَ، افْتَعَلَ»؛ «افتعل فيها تكلف، وفيها تمام قدرة، وفيها تمام الصفة، ولذلك كان المشركون في حذر عندما قالوا عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [سورة الفرقان : ١٥ ، لاحظوا : اكْتَتَبَهَا [سورة الفرقان: ٥]، لماذا لم يقولوا: «كتبها»؟ إشارة إلى أنه لا يكتب، وهو لم يكتب هو، إِنَّمَا أكتبها سورة الفرقان : ٥] : طلب من غيره أن يكتبها له، تكلف في كتابتها، فالله عَلَى كل شيء مقتدر.
وقلت سابقا : إنَّ هناك فرقا بين «سَمِعَ، اسْتَمَعَ »:
- «سمع»: ما يسمعه الإنسان بالطبع والعادة، وأنت تمشي في الشارع تسمع كلاما دون أن تعطيه أذنك أو قلبك، تسمع، كل كلام يتكلم فيه بصوت مرتفع أنت تسمعه مع أنك لم تعط سمعك ولم تعط قلبك للمتكلم.
- إذا أعطيت سمعك وقلبك للمتكلم، فأنت استمعت، تكلفت في الاستماع، بذلت جهدًا، وضعت أذنك بالقرب ممن يتكلم، حاولت أن تستمع أي كلمة يقولها، هذه هي صيغة الافتعال.
ولذلك «اقتدر» أو (مقتدر) وردت في القرآن الكريم تقريبا في أربعة مواضع، هذا هو الموضع الأول.
الموضع الثاني : وردت في أخذ الله لفرعون وآله ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَ ءالَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِعَايَتِنَا كُلَّهَا فَأَخَذْنَهُمْ أَخْذَ عَزِيزِ مُقْتَدِرٍ ﴾ [سورة القمر : ٤١-٤٢] ، فرعون الَّذِي قَالَ : (وَأَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [سورة النازعات : ٢٤]، ما كان أحدًا ليصدق أنَّ فرعون الذي يُذبح الأطفال خوفًا من الطفل الذي سيأتي ليطيح بملكه، يُربيه في بيته، ويلاعبه ويداعبه ويطعمه، ومع ذلك كان هو الطفل المنتظر، هل هناك أحد من الخلق يستطيع ذلك؟ لا يوجد أبدا من الخلف من يفعل ذلك؛ واحد يُذبح كل الأطفال، ومع ذلك أنت الذي ستُربيه، وهذا كله بأن ألقى الله عَلَى موسى محبةً منه وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [سورة طه : ٣٩ ، ولذلك يجب أن تدعو الله دائما أن يُلقي عليك محبة منه؛ فإذا ألقى عليك محبة منه فأنت قد فزت بالدنيا وبالآخرة.
فأخذ فرعون لو أعملت عقلك، تقول: كيف أغرق الله فرعون؟ لا تعمل عقلك؛ لأن الله أَخَذَه أخذ عزيز مقتدر.
الموضع الثالث: وفي نفس السورة الله جعل المتقين في مقعد صدق (في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكِ مُقْتَدِر) [ سورة القمر : ١٥٥] ، لا تسرح بخيالك فيما أعد الله لعباده المتقين من نعيم؛ لأنه مليك و مقتدر، ومُقْتَدِرٍ: كامل القدرة، اقتدار عجيب، اقتدار فوق مستوى العقل البشري، هذا الاقتدار فوق مستوى العقل البشري.
الموضع الرابع : في سورة الزخرف (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ ﴾ [سورة الزخرف : ٤١-٤٢] يتكلم الله عن المشركين، وتأتي غزوة بدر والله يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ليؤكد قوله : (فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ) اقتدار عجيب، جعل هؤلاء برغم العدد والعدة وأعدادهم كانت أضعافًا أضعافا ، وقواته ومع ذلك أخذوا أخذ عزيز مقتدر. هُذَا (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ).
بعد ذلك يريد الله أن يغرس اليقين، ويغرسه بأسلوب لطيف فيأتي بما يحبه المؤمن في هذه الدنيا والكل لا ينكر أنه يحب ذلك، فيبين الله ما تحبه أنت وفق رغباتك، (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، الناس يستشهدون بهذه الآية الكريمة بأن المال وبأن البنين زينة الحياة الدنيا. الله يريد أن يقول : هذا المال وهؤلاء البنون الَّذِينَ هم زينة أنت تتزين بهم؟ نعم. تتزين بهم كم سنة الَّتِي ستعيشها في الدنيا ؟ اللهُ أَعْلَمُ ، نقول مثلا : ستون سنة . تزينت بها ستون سنة، الشيء الذي تتزين به زائل لا محالة، هل هناك من زينة باقية ؟ لا توجد زينة باقية أبدا، فالزينة فانية ومنتهية، ولذلك قَالَ الله : الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) والله لن يخبرنا بهذا لكي نتخذها زينةً فعلا ونتوقف عندها، أنت تزين بها كما تشاء، لكن انتبه لما ينفعك في حياتك الباقية، في الحياة التي ستعيشها بلا منغصات، بلا منغصات إطلاقًا؛ لا منغصات ذاتية، ولا منغصات خارجية؛ لأن الإنسان في الدنيا يعيش على المنغصات المنغصات:
- إما أن تأتيك من ذاتك، من أعماقك ؛ قلق توتر، خوف من المستقبل، خوف من القادم، خوف من أي أمر أنت تخافه، فهذا ناشئ من ذاتك.
- وهناك أيضًا منغص يأتيك من الخارج، من خارجك، الخارج : هو من يتعاملون معك، حَتَّى - خلي بالكم - الإنسان في توجهه إلى الله؛ إِمَّا أن يُعمق علاقته بالله من ذاته، وإما أن يترك نفسه لهوى الآخرين هم الذين يوجهونه. فإذا تركت نفسك لغيرك في علاقتك بربك، فاعلم أنك في خطر، لأنك ينبغي أن تعلم يقينا حقيقة وجودك في هذه الدنيا، وحقيقة علاقتك بالله ، ولذلك كن دائمًا عَلَى يقين من أنك خُلقت للعبادة.
طيب (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) خلي بالكم حَتَّى تعلموا أنَّ الله لا يخبرنا بهذه الجملة حَتَّى نتخذها دليلًا على أننا ينبغي أن نتزين بهما، مع أنه لا مانع .
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ) «البنون» هم الأولاد الذكور، طيب والأولاد البنات أليسوا من خلق الله؟ ألم يعب الله عَلَى مَن (إذا بُشِّر بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم)؟ فهل يعيب عَلَى الإنسان الذي إذا بُشِّر بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، ثم يأتي هنا ويقول: «يا أَيُّهَا النَّاس تزينوا بالمال وبالبنين»؟ لو قَالَ: «المال والأولاد»، لقلنا: نعم؛ لأن البنات هم خلق من خلق الله، فلو كان الإخبار للزينة لكان الإخبار بالأولاد وليس بالبنين، إِنَّمَا ربُّ العِباد يذكر ذلك ليشير إِلَى أَنَّ هَذَا هو الَّذِي اتبعتموه، وهو الذي اتخذتموه أنتم، ولذلك يُقدِّم الله المال على البنين.
طيب، أيهما أعز على الإنسان؟ بالتأكيد الأعز في الواقع على الإنسان هم البنون.
طيب، لماذا قدم الله المال؟ لأن فعل الإنسان في الدنيا وحال الإنسان في الدنيا، أن المال ينشغل به أكثر، ويهتم به أكثر، ولذلك قدَّمه هاهنا مع أنه ذَكَرَ أَنَّ المال يشترك مع الولد في الفتنة أيضًا في آيات أخرى، لكني لا أريد أن أطيل هنا.
طيب، قابل الله هذه الجملة وهي (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) بقوله: (وَالْبَاقِيتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرُ أَمَلًا)
الباقيات الصَّالِحَات: هي كل عمل صالح، ولو قرأتم أقوال السلف في معنى (وَالْبَاقِيتُ الصَّالِحَتُ) لجمعتم أنها تُشير إلى كل عمل صالح، ولذلك قلت سابقا في هذه الجملة: «أن فيها حذفًا، وفيها تقديم وتأخير».
التقديم والتأخير : «الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ»، «الْبَاقِيَاتُ»: صفة لموصوف محذوف، «الصَّالِحَاتُ»: صفة الموصوف محذوف. 
طيب، قدَّم الله «الْبَاقِيَاتُ» مع أنَّ «الصَّالِحَاتُ» هي الَّتِي تُقدَّم نظرًا لأن الأعمال توصف بها، ولن تكون الأعمال باقيةً إِلَّا إذا كانت صالحة، أليس كذلك؟ هل الأعمال تكون باقيةً إذا كانت غير صالحة ؟ ولذلك يقولون: إن الصَّالِحَات أكثر تعريفا بالموصوف المحذوف، وكلمة الصَّالِحَاتُ هي التي تكون مقدمة حَتَّى تشير إلى الموصوف المحذوف؛ لأنه لا نحذف الموصوف إِلَّا إذا كان مشتهرا بالصفة تمام الشهرة، وكان الصفة فيه سجية وطبيعة وعددًا.
مثلا تقولون: «فلان الشيخ»، لو كان لكم شيخ واحد، وكلمة شيخ لا تُطلق إِلَّا عليه، لا نقول: «فلان»؛ نحذف فلان ونقول : الشيخ حضر الشيخ لم يحضر ، لماذا ؟ لأنه أصبح بالنسبة لكم طبيعة وسجية وعادة ولا تُطلق كلمة «شيخ» إِلَّا عليه، ولذ لك هنا الموصوف المحذوف كلمة «الأعمال»، و(الصَّالِحَتُ) تقدم لأنها لن تكون باقية إلا إذا كانت صالحة، ما في عمل يبقى وينفعك إلا إذا كان العمل صالحًا، هذه معنى (وَالْبَاقِيتُ الصَّالِحَاتُ) فتكون الجملة هكذا: «والأعمال الصَّالِحَاتُ الباقيات» هذا هو .

(خَيْرُ عِندَ رَبِّكَ) قوله : (عِندَ رَبِّكَ) يدل عَلَى أَنَّ (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) عند من؟ عندك أنت أَيُّهَا الإنسان، إِنَّمَا (وَالْبَاقِيتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ) يعني (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) في فهمكم وفي حبكم، وطالما أنَّ الله ذكرها، لا يمنع أن تتزين بها، لكن لا تجعلها هي الأهم، لا تجعلها هي الأولى، اجعل الأولى دائمًا الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ لأنها (خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا).
لماذا (خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا)؟ هل المال والبنون الذي تتخذه زينة له ثواب عند الله؟ نعم ممكن، لكنه ثواب مظنون.
تعرفون الثواب المظنون؟ المال إذا تصدقت به وقدَّمته بيديك في حياتك، لك أجره عند الله ، لكن تعالوا الصَّدَقَة بالمال تحتاج منك أن تثبت نفسك، اقرؤوا قول الله تَعَالَى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أنفسهم) يعني : لن تحقق ابتغاء مرضات الله إلَّا إذا كبحت جماح نفسك، ثبتها، تقول لها يا نفسي لا تمني ولا تؤذي من تصدقت عليه، يا نفسي لا تتصدقي لعلة ولا لسبب إِلَّا ابتغاء مرضات الله. فَالَّذِي ينجح في ذلك سيكون نجاحًا نسبيا. أما الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ الَّتِي هي عند ربك، فهي خيرٌ ثوابًا (وَخَيْرُ أَمَلًا ) يعني : خير أملًا في المستقبل، في الحياة الباقية.
الولد طبعًا إذا كان صالحًا ويدعو لك، فلك الأجر، لكن هل تضمن أن يدعو أولادك لك بعد وفاتك ؟ أنت لا تضمن ذلك. فإذا ما انشغلوا بدعائهم لك أياما أو شهورًا فقد تشغلهم الدنيا، ثُمَّ إنك أنت نفسك فتش فيها، هل أنت تدعو لوالديك دائما أم أن الأمر قد يكون بعض الوقت وبعض الوقت؟ إذا الخير الأمل المضمون، ولذلك خلي بالكم (وَخَيْرٌ أَمَلًا ﴾ و لما لم يقل الله : «خير أمل»، يُضيف خير إلى كلمة «أمل»؟ تعرفون لماذا؟ لأنه لو كان «خير أمل» يكون بالضبط اشترك في خير الأمل مع المال والبنين، إِنَّما يريد الله أن يقول لك : هذا الباقيات الصَّالِحَات خير خيرًا مطلقًا، لا تقارن بينها وبين أموالك التي أنفقتها، ولا بين أولادك الَّذِينَ أنجبتهم وربيتهم. صحيح أنت نجحت، لكن الخيرية التي عند الله لا يمكن أن تقارن، يعني هذا نهاية المعنى. (وَالْبَقِيتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرُ أَمَلًا) 
طيب هذه الآية تكررت في سورة مريم قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدَى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا) [ سورة مريم : ٧٦]، لماذا قَالَ الله هناك (وَخَيْرٌ مَّرَدًّا)؟ لأن الآيات قبلها : ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَتُنَا بَيِّنَاتِ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ ءَامَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيَّا* وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثا وَرِئيا* قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا) [سورة مريم: ٧٣-٧٥]. هذا فريق، والفريق الذي تحدى وقالوا: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا ) فَقَالَ الله: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدَى) [سورة مريم : ٧٦]. معنى (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا) أي: يوفق الَّذِينَ اهتدوا هدى، ويحثهم عَلَى أَنَّ اتباع الهدى ينشئ الأعمال الصَّالِحَاتِ، وَهُذِهِ الأعمال الصَّالِحَاتِ هي التي ستكون لك خير ثوابًا وخير مردا يعني: خيرٌ مرجعًا، فلا تنظروا إِلَى الَّذِينَ هم (أَحْسَنُ أَثَنَا وَرِدْيَا ﴾  ولا تنظروا إِلَى الَّذِينَ قَالُوا: ﴿ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا ﴾ فأنتم وفقتم للهداية فزادكم الله هدى، وَهذَا الهدى يترتب عليه الأعمال الصَّالِحَات (الباقيات الصَّالِحَات) فلا يصلح هنا «خير أملًا»، إِنَّمَا «خير» مرجعا ومردا لكم عندما ترجعون إلى ربكم وعندما تمرُّون على الصراط كالبرق الخاطف وترون غيركم يسقط في النار سقوطا كالذي يتردى من أعلى إِلَى أسفل. إذا الله يقول هنا : ﴿وَالْبَقِيتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرُ أَمَلًا)

أسأل الله أن يرزقني وَإِيَّاكُمْ الفهم والسداد في القول والفعل والعمل، وأن يبارك لي ولكم في وقتنا ووقتكم، وأن يبارك الله في أولادنا وأولادكم، وأن يهديهم جميعًا صراطه المستقيم، وأن يغفر الله لوالدينا، وأن يرحمهم، وأن يجعلنا أثرًا صالحًا لهم، وأسأل الله أن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين، وَبَارَكَ اللهُ فِيكُمْ جميعًا، وجزاكم الله خيرًا .....
وَصَلَّ اللَّهُمَّ وَسَلَّمَ وَبَارِكَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ وَالحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق