الثلاثاء، 16 يناير 2024

فوائد من سورة البقرة - الوجه الثاني-

 


1- الآيات التي تحدثت عن حال الكفار
 من فوائد هذه الآيات التي وصفت حال الكفار:
أن طريق الهداية تحصل أولا بالآلات بالسمع والبصر، ثم بعد ذلك بحُسن تلقي القلب لما دخل له من السمع والبصر، فالله عز وجل قال (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) فمن أراد حُسن تلقي القرآن فليعتني بما يسمع وبما يُبصر، ثم بعد ذلك يصفي قلبه حتى ينتفع بما سمعه وبما قرأه، فصلاح القلب كما ما ذكرنا مُوصل إلى هذا الأمر.
 وتحمل الآية في طياتها التحذير من أحوال القلوب لأن الله عزوجل ذكر أن صلاح العمل مترتب على صلاح القلب، وفساد القلب في المقابل يترتب عليه فساد العمل، لأن الله عز وجل أخبرني أنه ختم الله على قلوبهم، وفي الحديث (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلُحت صلُح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
 ومن أهمية القلوب نستحضر فيها حديث النبي صلى الله عليه وسلم (تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا فأي قلب أُشربها نُكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباد كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أُشرب من هواه) فهذا يحذرنا من أحوال القلوب. 
والآية التي بين أيدينا تناولت وصف من أوصاف القلوب، لكن هل هو الوصف الوحيد؟ 
ذكر القرطبي أن للقلوب عشرة أوصاف مذمومة ألا وهي: الختم، والطبع، والضيق، والمرض، والرين، الموت، والقساوة والانصراف والحمية والإنكار.
 الإنكار (قلوبهم منكرة وهم مستكبرون) 
الحمية (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية)
الانصراف كما في قوله (ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم)
 القساوة (فويل للقاسية قلوبهم)
 الموت (أو من كان ميتا فأحييناه)
 الرين (كلا بل ران على قلوبهم)
 المرض (في قلوبهم مرض) في سورة محمد
 الضيق (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا)
 الطبع (فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون)
 والختم هذه الآية التي بين أيدينا (ختم الله على قلوبهم)
 وهذه إشارة إلى مسألة: أن من العقوبات التي يعاقب الله عز وجل بها الناس العقوبات الشرعية فيحول بينك وبين قلبك فما تستطيع، حتى لو رغبت ما تستطيع، إذا سابق عهدك من المعاصي غلفت قلبك فأصبح تأتيه المواعظ، ينزل عليه القرآن، تتلى عليه الآيات، ولكنه لا يستطيع الانتفاع بها، فهذه من أعظم العقوبات التي يعاقب الله عز وجل بها العبد، ولذلك ينبغي على العبد أن يكون دائم التعاهد لقلبه حتى لا يفسد ذلك القلب، فيريد الهداية فلا يستطيع.

2- بعد ذلك أحوال المنافقين:
 الآيات أعطتني صفات كثيرة، وطول الآيات الواردة فيها أول فائدة فيها تبين خطورة المنافقين حيث أن تفصيل أحوالهم فاق الحديث عن تفصيل أحوال الكفار نظرا لخفاء أمرهم، ومن الصفات التي ذكرت نستنبط منها عدد من الأمور:
- أولا: أن القول باللسان بدون عمل القلب لا ينفع (ومن الناس من يقولوا آمنا بالله وباليوم الآخر) ثم ذكر (وما هم بمؤمنين) في ختام الآية (وما هم بمؤمنين) أفادت أن المنافقين ليسوا بمؤمنين.

- ثانيا: على المؤمنين التحفظ من المنافقين لأن الله عز وجل وصف عملهم بأنه خداع (يخادعون الله والذين آمنوا).

- ثالثا: الآية أفادت أيضا أن المكر السيء لا يحيق إلا بأهله (وما يخدعون إلا أنفسهم) هذا وصف الله لهم.

- رابعا: العمل السيء أيضا يعمي البصيرة. وهذا أيضا يحتاج نحن نقف معها وقفة طويلة أن من عواقب الأعمال السيئة أنك لا ترى الأمور على حقيقتها لأن الله عز وجل قال (وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) فإذا وصلوا إلى ما وصلوا إليه وما شعروا أنهم وصلوا بسبب عقوبات العمل السيئ الذي أعمى بصيرتهم، والشعور أخصّ من العلم (وما يشعرون) يعني أمر دقيق.

- خامسا: إضلال الله للعبد له سبب من نفسه لأنه قال الله عز وجل (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) بين أنه في القلوب مرض، والعقوبة زادهم مرضا، فنظيرها (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) وهذه ما أشرنا لها قبل قليل مسألة العقوبات الشرعية.
المعاصي والفسوق تزيد، دائما نقول الإيمان يزيد وينقص أيضا المعاصي والفسوق تزيد كالإيمان لأن الله عز وجل قال (فزادهم الله مرضا) وممكن بالتوبة أن تتناقص هذه المعاصي.

سادسا: العقوبات لا تكون إلا بأسباب وهذه تدعونا إلى نتعلم أدوات السببية في اللغة العربية، ونتفقدها في القرآن، لأنه كل ما ذكر التسبيب معناه فيه عمل وفيه نتيجة. فهنا لما قال الله عز وجل (فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) فبينت أن العقوبات كانت مُسِببة، أو هذه العقوبة مُسببة بسبب كذبه طبعا.

سابعا: ذم الكذب وأنه سبب للعقوبة.
ثامنا: من أعظم البلوى أن يُزين للإنسان الفساد، فيُفسد ويرى نفسه أنه مُصلح. وهذا ما حصل مع المنافقين (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) يرون أنفسهم مصلحين، فهذه من أعظم البلايا أنك ترتكب القبائح وتظلم الناس، وتسيء للآخرين، ثم تظن أن فعلك صلاح. هذه من أعظم المصائب والبلايا، وتجدها في حيز الناس اجتماعيا هذا الأمر يحصل كثيرا، إن اللي يتمسك برأيه في أمر باطل يُعلل لنفسه أنه على الصواب، فهذه أيضا من عقوبات المعاصي.
  أيضا هذه النقطة تبين أن غير المؤمن نظره قاصر  في حين أن أهل الإيمان موفقون في نظرتهم في قضايا الصلاح حتى وإن كان هذه الأمور أمور في المعاش بشكل عام.

تاسعا: (إنما نحن مصلحون ) أفادت الآيات أنه ليس كل من ادعى دعوة يصدق في دعواه لأنهم قالوا إنما نحن مصلحون ثم حكم الله عز وجل عليهم (ألا إنهم هم المفسدون) فإذن ليس كل من وصف نفسه بوصف أن يكون صادقا في هذا الوصف.

عاشرا: أفادت الآيات إعجاب المنافقين بأنفسهم لأنهم قالوا (أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) فإذا في قولهم (أنؤمن كما آمن السفهاء) أفادت إعجابهم بأنفسهم. ونخلص منها بفائدة أخرى: أن أعداء الله يصفون أولياء الله بما يوجب التنفير عنهم في كل زمان، وهذه (أنؤمن كما آمن السفهاء) لها نظائر كثيرة في القرآن الكريم، فنجد المشركين وصفوا النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون والسحر والكهانة، فهذه سنة إلهية في الصراع بين الحق والباطل، ودليل السنة (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا) وهذه لا شك أنها تعطيك تسلية لأهل الإيمان إذا واجهوا الإيذاء من أهل الكفر.
  / في قوله (ألا إنهم هم السفهاء) إثبات صفة السفه لمن لم يؤمن بالله عز وجل، فإذا من لم يؤمن بالله عز وجل فهو سفيه. ونظيره سيأتي في هذه السورة، (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) ونظيره أيضا في وصف آخر وصف الجهل لكل من عصى (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة) إذن من لم يؤمن هو سفيه، هو جاهل، لأن من يعلم بالله حق العلم ويعرف الله بأسمائه وصفاته فلا يجرؤ على المعصية، ولا يجرؤ على الكفر.
/ من صفات المنافقين الخوف والذل (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا).
/ الآية أفادت أن التجارة الرابحة هي التجارة مع الله ولذلك وصف لما قال (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) وإذا تأملتها في سورة الصف (يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم..) فإذا أعظم التجارات التجارة مع الله سبحانه وتعالى، أما حين يستبدل الهدى بالضلالة فهي تجارة خاسرة. وهذه من أساليب القرآن في ترغيب الناس للعمل، معروف حب الناس للمال فتجد في القرآن في الترغيب استخدام مصطلحات التجارات والأموال والخسار والربح وما إلى ذلك حتى تقرب المفاهيم، فهي من جماليات أسلوب القرآن في وصف المعاني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق