الأربعاء، 19 أبريل 2017

تفسير سورة القلم (١-١٥) / أ.د رقية المحارب


... وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين ..
اليوم إن شاء الله نستفتح سورة القلم نقرأ الآيات
 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيم
{ ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيْيِكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ * إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَىٰ رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. 
الحمد لله رب العالمين..
 بسم الله الرحمن الرحيم { ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ }
يقول الله سبحانه وتعالى في هذه السورة : { ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } و { ن } أُختُلِف فيها هل هي من الحروف المقطعة التي تكلمنا عنها قبل مثل { ق } و { ص } و { يس } و { الم } كل ما مر بنا من الحروف على أن ذلك مِما اختص الله جل وعلا بعلمه وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، أو أنها على معنى آخر سيأتي إن شاء الله.
 هذه السورة التي هذه فاتحتها هي فيما يذكر أهل التفسير ثاني سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العلق، أول ما نزل { إِقْرَأ } ثم { ن } يعني القلم.
 وبعض أهل التفسير يقولون : إنما الذي نزل بعد العلق أولها وأما كاملها فإن فيها ما نزل في المدينة ومنها ما نزل في مكة، وقالوا إن قوله : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ } إنها هذه في المدينة.
 وعلى كل حال فهذه سواء الأولى أو يعني المقصود من قال إنها ثاني سورة نزلت أو قال إن بعضها نزل في المدينة لا يثبت قطعاً ولكنها مكية فيما يظهر من آياتها ومعانيها وموضوعاتها ونسقِها فهي أشبه بالسور المكية بلا ريب، وكذلك الآيات التي قيل إنها مدنية هي أشبه بآيات السور المكية.
 وأما أنها هي ثاني سورة نزلت بعد العلق فالذي يظهر - والله أعلم ـ أنه ربما يكون أولها أما سائر السورة فالذي يظهر أنه ليس من أوائل ما نزل لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول ما نزل عليه القرآن مكث ثلاث سنين وهو في الدعوة أو وهو في بداية الإسلام لا يدعو الناس ثم بعد ذلك أُمِر بدعوة الناس والأشبه أن الذي نزل عليه بعد سورة العلق المدثر والمزمل، وعلى كل حال فهي وإن لم تكن ثاني سورة نزلت بعد سورة العلق فهي من السور الأوائل التي نزلت على نبينا صلى الله عليه وسلم.
 جاء في هذه السورة في استفتاحها { ن } قلنا إن معنى هذا الحرف على ما تقدم في بيان الحروف المقطعة وكيف تُكتب ؟
تُكتب (ن) حرفاً واحداً، أو تكتب (نون) هذا أيضاً أُختلف فيه:
 فبعض أهل التفسير يقول : تُرسم نون.
وبعضهم يقول: تُرسم (ن) حرفاً واحداً وهذا الأشبه. فإنه لو كانت ترسم نون بثلاثة حروف لكانت رُسمت (ق) بثلاثة حروف و(ألم) كل حرف بثلاثة حروف وهكذا، ولكن الظاهر أو الذي عليه الجمهور رسمها حرفاً واحداً.
 ويُذكر أيضاً من معاني (ن) أنه اسم لحوت عظيم خلقه الله جل وعلا وجعل عليه الأرض، وقيل: المراد بـ { ن } لوح من نور،
 وقيل: المراد بـ (ن) الدوات والقلم، ولذلك قال الله جل وعلا : { ن } يعني كأن الله جل وعلا ذكر الدوات والقلم يعني أقسم به ورُوي ذلك عن الحسن وقتادة قالا : هي الدوات يعني (ن).
 أما قوله : { وَالْقَلَمِ } فالظاهر أنه جنس القلم الذي يُكتب به وليس القلم الذي خلقه الله جل وعلا وقال أكتب لأنه جاء بعده قوله : {وَمَا يَسْطُرُونَ } وهم إنما يسطُرون في صحائفهم والله جل وعلا قال :{ ن وَالْقَلَمِ } فأقسم بالقلم كما قال : { الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ } يعني العِلم الذي يُكتَب بالقلم لعِظم مكانه.
 وأقول: لعل ذكر القلم وذكر القراءة في أوائل هذه السور التي نزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إنما كان ذلك لأن هذه الأمة كانت أُمّية لا تقرأ ولا تكتب وعِزها وشرفها وقوتها ستكون مع ما عندها من القيم والأخلاق التي كانت حسنة أو الحسن منها يعظُم ويكمُل مع توحيد الله جل وعلا بالقلم والكتاب، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتعلُّم العِلم وتعلُّم الكتاب وكان من ذلك أنه لما وقعت الغزوة -غزوة بدر- وكان فيها أُسارى من قريش وكانت الأنصار من أهل المدينة -على شأن العرب- لا يعرفون القراءة والكتابة وقريش فيها قُراء يقرأون ولذلك كُتّاب الوحي من قريش معاوية وعثمان بن عفان وزيد، كلهم كانوا من مكة والسبب في ذلك: أن الناس يأتون إلى مكة من كل مكان فيتعلم أهل مكة من الناس القراءة والكتابة ولذلك صار عندهم من العلم، أما العرب ما كانت عندهم عناية بتعلم الحرف أو تعلم القلم، ولذا كان لشرف هذا القلم أن الله جل وعلا أقسم به في أوائل السور التي نزلت.
 قد يقول قائل : إذا كان ذلك كذلك فلِم لم يتعلم النبي صلى الله عليه وسلم القراءة والكتابة ؟
يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن حث على تعلم الكتابة وتعلم القراءة وأوصى به إلا أنه لم يكن يقرأ، هذه إرادة الله جل وعلا ليظهر الإعجاز، والإعجاز أن يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بالمقروء الذي يقرأه الناس دون أن يقرأ وهذا دلّ عليه قول الله جل وعلا : { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } والله جل وعلا جعل نبيه صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب ويقول المقروء ويقول المكتوب دون أن يخطئ فيه على عِلم به وكان من ذلك أن القرآن أُنزل على سبعة أحرف والله جل وعلا علّمه نبيه صلى الله عليه وسلم فكان يقول : { إِقْرَأ } هكذا أُنزلت و{إِقْرَأ} هكذا أُنزلت كما جاء في حديث هشام لما قرأ آيات من كتاب الله جل وعلا وسمعه عمر يصلي بآيات أو بسورة ليست على ما حفظ عمر فلما انتهى من صلاته يقول : (كدت أساوره في الصلاة) يعني كدت أهجم عليه في الصلاة لأنه يقرأ بخلاف ما أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (فأمهلته حتى انتهى ثم لببته بردائه فجئت به إلى رسول الله) يعني لبب بردائه وسحبه للنبي صلى الله عليه وسلم كيف يقرأ القرآن هكذا على غير ما سمع عمر من النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال : (يا رسول الله إن هشاما يقرأ على غير ما أقرأتني فقال : أرسله يا عمر ، فأرسله -يعني أتركه فتركه- فقال : اقرأ يا هشام، فقرأ فلما قرأ قال النبي صلى الله عليه وسلم : هكذا أُنزلت، اقرأ يا عمر، فقرأ عمر قال : هكذا أُنزلت ) ثم أخبر أن الله جل وعلا أنزل القرآن على سبعة أحرف. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف هذه السبعة أحرف ويحفظها على وجهها من الله جل وعلا الذي أنزل عليه الوحي { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } فأنزل الله سبحانه وتعالى ذلك على نبيه صلى الله عليه وسلم فما عاد ينسى شيء إلا ما نُسّيه لأجل إرادة الله جل وعلا وقدره في ذلك لقوله : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }، فكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرأ كان ذلك خياراً فاضلاً له وحده ليس لسواه، أما غير النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يحسُن بهم أن يتعلموا، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حث على تعلم العِلم حتى جعله فرضاً على الناس أن يتعلموا العلم ولذا كان القسم بالقلم.
قال ابن عباس في قوله : { وَمَا يَسْطُرُون } يعني وما يكتبون، وقال أبو الضحى عنه { وَمَا يَسْطُرُون } أي وما يعملون، وأيضاً يكون المعنى أو فيه من المعاني ما ذكره السُّدي قال : { وَمَا يَسْطُرُون } يعني الملائكة وما تكتبه من أعمال العباد.
وقال آخرون : أيضاً المراد ها هنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر حين كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرضين بخمسين ألف عام، وهذا كما رُوي أو روى ابن حاتم عن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : (دعاني أبي حين حضره الموت فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أول ما خلق الله القلم فقال اكتب قال : ياربِ وما أكتب؟ قال: القدر وما هو كائن إلى الأبد ) وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال : كان يحدَّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء ) هذا الآن عندي كم قول ؟ ثلاثة حتى الآن. الرابع قاله مجاهد قال : { وَالْقَلَمِ } يعني الذي كُتِب به الذِّكر وقوله تعالى : { وَمَا يَسْطُرُون } أي يكتبون كما تقدم في الأول.

/ قال سبحانه وتعالى :{ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } وهذا عزاء من الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم واستبق فيه ما كانوا وصفوه به بعدُ، وإن العبد إذا نفى عنه مولاه صفة قد يُتهَم بها كان ذلك غير مؤثر فيه، يعني كان الوصف الذي يُوصف به من قِبل غير مولاه غير مؤثر فيه، لأن العبد إنما يُشغله مولاه لا يشغله سواه فإذا قال المولى : (لست بمجنون) فمهما قال له الناس إنه مجنون لا يهمه لأنه إنما يتعبد لمولاه -لربه- وإنما يعنيه حُكم ربه فيه لا حكم غيره فلذا واسى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك، وهنا وقع لمريم عليها السلام مثل ذلك قبل أن تُتهم فعُلِّمت وأُنزل عليها السكينة قبل أن يقولوا لها، هي من قبل أن يقولوا لها وهي تقول: { يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا } فجاءها العزاء { فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي } فجعل العزاء لها قبل كاستباق لما قد يأتيها من المسبة أو المذمة، ولذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عزّاه الله جل وعلا وواساه بنفيه هذا الوصف عنه لأن الإنسان ممكن يتهم نفسه، الإنسان أحياناً إذا قيل إنك بك شيٌ تحسس نفسه صح وإلا لا ؟ ينظر يعني معقول الناس يتفقون على هذا، والناس في هذا يضربون الأمثال، فلذا ينبغي للإنسان أن يكون على ثقة بنفسه أو من نفسه إن كان ليس أهلاً لهذا الوصف أو لهذه المذمة ، ولكن من أين له أن يأتيه الدعم وتأتيه القوة وتأتيه الثقة ما لم يأته ذلك مِمن هو أعلى منه وأقوى منه، فلذا كان هذا من الله جل وعلا تثبيتاً لنبيه صلى الله عليه وسلم حين نفى عنه هذه الصفة فقال : { مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } أي لست ولله الحمد {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} يعني لست لله الحمد بمجنون كما يقوله الجهلة من قومك المكذبون بما جئت به.

/ ثم أنعم الله عليه نعمة أخرى وقال : { وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون } يعني بالبلاغ الذي ستبلِّغه الناس عن الله جل وعلا وبالدعوة التي تدعو الناس ليلاً ونهاراً، وصبحاً ومساءً، وسراً وجهاراً، وأنت تدعوهم في كل يوم ويدخل في الإسلام معك منهم من يدخل، ثم هؤلاء يورِّثون هذا الدين لأبنائهم ويأتي بعدهم أناس ويأخذونه وينقلونه ويتناقلونه، منهم من يتناقله بالولد، ومنهم من يتناقله بالعِلم، ومنهم من يتناقله بالدعوة، ومنهم من يتناقله بالجهاد، وكل ذلك في ميزان حسنات الأول الذي بلّغهم ومن هو ؟ محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك قال الله جل وعلا : { وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون } فأنت لك أجر بهؤلاء جميعاً وكل من جاء أحد بسببه مهتدياً من خلق الله السماوات إلى أن يرث الله جل وعلا الأرض ومن عليها، كل من كان سبباً في إسلام أحد أو هُدى أحد أو نفع أحد بأي سبب كان كلما كان هذا جاءه يوم القيامة تحت رايته يشهد له بما أفاض عليه وما أفاد منه، ولذا كل نبي يأتي ومعه تحت رايته أناس.
 وهل ما يحمل راية إلا الأنبياء ؟
لا ، من الناس من يدخل الجنة بأسبابهم أمثال ربيعة ومضر - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - وإنما ضرب لربيعة ومُضر لأنهم أكثر القبائل المُنتِجة، أكثر القبائل من ولد عدنان قبيلة ربيعة ومُضر بثوا عالماً، وإن كان آخرون قد جاءوا وصار له أولاد لكن ما بقي أمثال هاتين القبيلتين في الكثرة ولذلك من الناس من يأتي له أتباع. يعني مِما قرأنا يُذكر أنه أسلم على يد الشيخ الدكتور عبد الرحمن الصميط إحدى عشر مليون -إن صح ذلك الله أعلم- لكنه معلوم الأثر في القارة الأفريقية، يعني أثره بالغ ويدخل الناس الإسلام بعد أن كانوا لا يعرفون الإسلام، فسبحان الله العظيم الله يخلق ما يشاء، والله يعطي ما يشاء، والله يختار ما يشاء، رحمه الله رحمة واسعة وغفر له وتقبل منه وجعل في الأمة أمثاله.
 الحاصل أنه احرصي على أن يكون لك تابع وأن يكون أحد متأثر بدعوتك وبتعليمك وقد جاء في الحديث ( لأن يهدي بك الله رجلاً واحداً خير لك من حُمر النعم ) ولذا قال الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون } يعني غير مقطوع. س: هل يُشترط انتفاع من تدعوهم؟
 إذا ما انتفعوا لك أجر البلاغ، وإذا انتفعوا ونفعوا غيرهم لك أجر المنتفع الأول والمنتفع منه لا ينقص من أجره شيء، هذا فضل الله يؤتيه من يشاء، يعني الآن قد يأتي مثلاً شيخ ويدرِّس أو يُعلم مائة .. مائتين من هو الذي سيحمل عنه ؟ يمكن ثلاثة .. أربعة ، مجلس البخاري كان يجلس فيه عشرة آلاف أين هؤلاء العشرة آلاف؟ الإمام أحمد بن حنبل يعني مد النظر الذين كانوا يجلسون أين هؤلاء الذي بلّغوا عنه؟ وهكذا، يعني يمكن أن يكون من المُبلِّغين من يُبلِّغ ويستمر. إذا قرأتي في كتب الأعلام الذين تناقلوا هذا العلم معدودين صحيح أنهم كُثر لكن على مستوى تاريخ يُعد بالنسبة للمُنتج يُعد قليل ومع هذا فانظري من يحمل ـ يعني من الذين رووا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغوه - كم منهم سِمع الحديث ؟ هل تعلمون أن عدد المكثرين تتوقعون عدد المكثرين من الصحابة من رواية الحديث كم واحد ؟ إحدى عشر واحدا مع أن الذين اشتركوا معه في فتح مكة كم ؟ وكم الذين حجوا معه أكثر من مائة ألف، أكثر من مائة ألف حجوا مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، مَن مِن الصحابة الذي روى حديث هو أتم حديث في الحج ؟ جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، فانظري كم يتناول أو يتداول الناس حديث جابر ومن الذي روى عن جابر هذا الحديث عند مسلم، وكم واحد نقله عن مسلم حتى وصلنا يعني هذا الأمر فضل من الله عز وجل ، فكون من يحرص على أن ينقل خبراً ينتفع به فإنه سيكون له أجر ممنون عند الله جل وعلا يعني غير مقطوع، ولكن الذي تُعهّد له بذلك أو الذي أُخبر به هو محمد صلى الله عليه وسلم لعظيم أثره وفضله على أمته.
 وقيل أيضاً: بدل غير مقطوع قال مجاهد في قوله : { وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون } أي غير محسوب يعني أكثر من أن يُحسب، وإذا قيل في الفضل أنه غير محسوب يعني غير محسوب كثرة، أو أيضاً غير مُمتن عليك به وإنما أنت في فضل وفي نعمة لا يَمتن أحد عليك به بل أنت الذي تمتن على الناس به، يعني لا يمتن عليك أحد به من الناس بل المنة لله والفضل لله، وهذا لاشك أنه نعمة عظيمة أن يكون الإنسان لا منة لأحد عليه، وإلا لا؟ أنت إذا أردت أن تحمدي تقولين : الحمد لله ما لأحد علي منة ، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمِع الأنصار بعد أن لقي الناس في الفتح وأعطى من أعطى وقال بعض الناس من الأنصار اليوم لقي النبي صلى الله عليه وسلم أهله وقبيلته ونسينا، فبلَغت النبي صلى الله عليه وسلم وجمع الناس وحدهم قال : لا يأتي إلا أنصاري ولا يدخل إلا أنصاري واجتمع الأنصار عند النبي صلى الله عليه وسلم فخطب فيهم وقال لهم : ( يا معشر الأنصار ما مقولة بلغتني عنكم ألم آتكم ضلال فهداكم الله، بي ألم آتكم متفرقين فجمعكم الله بي ...) كذا فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الفضل الذي انتفعوا به عليه وهم يقولون (لله ولرسوله المن والفضل) ما كانوا يجرؤون على أن يقولون فعلنا وفعلنا، فلما قال : ( والله يا معشر الأنصار لو شئتم لقلتم ولصدقتم، لو شئتم قلتم أتيتنا مطرودا فآويناك .... ) الحديث [١]، فأطرق الأنصار يبكون حتى خضلوا لحاهم فقال : ( اللهم اغفر وارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ) فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس أحد له فضل عليه وإن كان الأنصار فعلوا فضلاً فإنما فعلوه لأنفسهم، وإن تفضلوا على شيء فإنما تفضلوا على غيرهم، أما النبي صلى الله عليه وسلم فهو المتفضل على أمته لا أحد له فضل عليه ومع ذلك فإن من أدبه أن يذكر الخير لأهله والمنّ لأهله ولا منّ عليه في شيء لقول الله جل وعلا : { وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُون }.
وعلى كل حال فكلما كانت الآية حاملة لمعنى لا يتنافى مع ورودها في اللغة ولا مع المقاصد الأخرى أو مع مقاصد الشريعة أو مع ما قررته الآيات الأخرى فإنه لا بأس أن يكون المعنى حاملاً إياه، ولهذا تجدين الصحابة والتابعين يكون منهم التفسير المختلف لهذه الآيات ولا شيء منها مستنكر أو مستغرب.

/  قال الله جل وعلا : { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } قال ابن عباس : "وإنك لعلى دين عظيم وهو الإسلام" والخُلُق المقصود به ما تخلّق به من شأن دينه، أو أن دينه جعله على خُلق هو أكمل الخُلق بين الناس. حقاً لو أطاع الناس ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم ولو أمتثلوه لكانوا أكمل الناس خُلقاً، يعني الإسلام هذّب كل شيء، نظّم لهم الدخول والخروج، وأدب قضاء الحاجة، وأدب الإستئذان، وآداب الطعام، وآداب الشراب، وآداب النوم، هذا فقط في الآداب فضلاً عن الأحكام الأخرى المعاملات، والعبادات، ونظّم حياتهم الروحية، ونظم حياتهم الجسدية، ونظم كل شيء حتى نظّم طعامهم وما يأكلون وما لا يأكلون، وكيف يتصبحون من الطعام، أي شيء يتصبحون به أفضل، والمريض الأفضل من الطعام ما له، يعني كل شيء محسوب ولا أحد أكرم خُلُقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً ما بال المسلمين على مثل ما نحن نرى في كثير من شؤونهم وأحوالهم ما بالهم هكذا ؟
هذا بسبب البعد عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، اتباع هدي محمد صلى الله عليه وسلم، كثير من هؤلاء من عامة الناس لو تذكرينهم بالأحاديث ما يحفظون منها شيئاً، ما يعرفون منها شيئاً، ما يجلسون عليها، ما يستمعون إليها، فلذلك هم بعيدون كل البعد عن أن يكونوا على خلق عظيم، وإذا أراد الناس أرادت أمة الإسلام أن تكون على خُلق عظيم فلا بد أن تعرف خُلق النبي صلى الله عليه وسلم وأن تتبعه وأن تطاوعه فإن فعلت ذلك كانت على خُلق عظيم بين الأمم يقول الله جل وعلا { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } المقصود به ليس أمة الإسلام المسلمة باسمها وإنما المُتمسكة بهدي نبيها صلى الله عليه وسلم إذا كانت فعلت ذلك تمسكت بهدي نبيها كانت خير أمة أخرجت للناس لأن الله جل وعلا قال : {ِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } يعني هذه الأسباب هي أسباب أنكم خير الناس، هذه أسباب الخيرية، أما إذا كان الناس بعضهم - للأسف - ما يعرف اسم محمد صلى الله عليه وسلم، يعني ترى في الأمة من الجهل لدرجة أن بعضهم لا يعرف شيئاً من هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ولذا فإن على المتعلمين بالكتاب - المتعلمين القراءة والكتابة -  من المسلمين أن ينصرفوا إلى تعليم الناس هدي محمد صلى الله عليه وسلم أول ما يعلمونه، إذا أردنا أن نُصلح حال هذه الأمة، نُصلح حال هذه المجتمعات علينا أن نُعلمهم من هدي من أثنى الله عليه وقال : { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }.
 اليوم الناس انشغلوا يتعلمون اللغات ويتعلمون الحساب ويتعلمون الطب كل شيء يتعلمونه لكنهم في زهادة في علم النبوة، ميراث النبوة، وميراث النبوة خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي في بطن كتب الحديث.
 يقول الله جل وعلا : { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } جاء فيما رواه الإمام أحمد عن الحسن قال : (سألت عائشة عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن). يعني إذا أردتِ أن تعرفي خُلقه فاقرئيه في كتاب الله جل وعلا، فهو أول من يتمثل ذلك.
 وقال ابن جرير عن سعد بن هشام قال: ( أتيت عائشة رضي الله تعالى عنها فقلت : أخبريني بخلق النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: كان خُلقه القرآن أما تقرأ { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ }) ومعنى هذا أنه صار امتثال القرآن سجية له وخُلقاً، وهذه السجية والخُلق التي كأنما النبي صلى الله عليه وسلم جُبل عليها صارت هي جبلته فجبلة النبي صلى الله عليه وسلم وافقت القرآن لأنه مهما أمره القرآن فعله ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جبله الله عليه من حُسن الخلق من الحياء والكرم والشفقة والرفق والحِلم وكل خلق جميل كما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال : (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلته ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً ولا مسست خزاً ولا حريراً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكاً ولا عطراً كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
 إذاً هذا الخُلق منه ما هو جبلي اختار الله جل وعلا لكتابه واختار الله جل وعلا لدينه خير الناس وأفضل الناس، وروى البخاري عن البراء قال : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسن الناس خُلقاً ليس بالطويل ولا بالقصير) وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : (ما ضرب الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً قط ولا ضرب امرأة ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا خُيّر بين شيئين قط إلا كان أحبهما إليه ايسرهما حتى يكون إثماً - يعني إلا أن يكونا إثماً - فإذا أثماً كان أبعد الناس من الإثم ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلا أن تُنتهك حرمات الله فيكون هو ينتقم لله عز وجل) ومن يريد التزود في هذا فإنه يحسُن به أن يقرأ شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وإن فإن فاتكم أن تروه بالعيون فلا يفوتكم وصفه، وهذه شمائله كما قال الشافعي رحمه الله، فمن أراد أن يعرف أو يتعرف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقرأ في شمائله.
 ومن فوائد قراءة شمائل النبي صلى الله عليه وسلم:
أن الذي يُكثر من قراءة شمائل النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، والذي يُكثر من قراءة حديثه يُحبه، والذي يُحبه يراه - يراه في المنام - فإذا رآه في المنام فكأنما رآه في الحقيقة فإن الشياطين لا تتمثل في صورته صلى الله عليه وسلم.

/ قال الله جل وعلا : {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيْيِكُمُ الْمَفْتُون} أي ستعلم { فَسَتُبْصِرُ } يعني فستعلم يا محمد وسيعلم مخالفوك ومكذبوك من المفتون الضالّ منك ومنهم وهذا كما قوله تعالى :{سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} {سَيَعْلَمُونَ} يعني سيظهر لهم. ومعنى فستُبصر أو فستعلم. وقوله :{فَسَتُبْصِرُ} أقرب من (فستعلم) ستُبصر أقرب من ستعلم من أي باب؟
 الإبصار حاسة، أمر محسوس يرى المحسوس يراه، وغالباً الذي يُرى بالبصر يرى الشيء مؤقتاً يعني يرى أمامه يراه أمامه، والذي يرى أمامه يرى قريباً ولذلك فإنه كان أقرب من جهة النظر وكان أسرع من جهة التوقيت لأن الإنسان ما يرى الشيء على الدوام وإنما يراه ويتغير عليه النظر فلذلك قال الله جل وعلا :{ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } يعني المسألة قريبة، وهذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم كناية عن سرعة ما سيراه، سرعة ما سيتحقق من دعوته ومن نصره ومن غلبته، والحقيقة أنه ما بين أن خرج مطروداً من المدينة مطرودا متخفيا ليس معه إلا واحد يقول هذا الواحد له : يا رسول الله لو أبصر أحدهم تحت رجليه لأبصرنا (لو أن أحداً منهم نظر أسفل رجليه أبصرنا فقال : ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما ) والظاهر - والله أعلم - أن أبا بكر قال ذلك له بالإشارة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أجابه بالإشارة ومثل هذا ممكن أن يُعرف بها لأنهما كانا في الغار ولو تكلما لسمعهم أولئك الذين كانوا على حافة الغار ولكن عندما كان الكلام على عِلم أولئك قال : {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ } يعني حين يكون نصرك، أو حين يكون يوم القيامة.
قال الله جل وعلا:{ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } أقول ما كان بين أن يخرج النبي صلى الله عليه وسلم متخفياً مع أبي بكر من المدينة وبين أن يعود فاتحاً بأكثر من عشرة آلاف ما كان بين هذا وهذا إلا عشر سنين، أقل.. ثمان سنين، ما كان بين هذا وهذا إلا ثمان سنوات فيا لله ما أسرع عِدَة الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم، ويدخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجاً كلهم صناديدهم وكبراؤهم وعظماؤهم فيصيروا له دولة لا كسائر الدول، وأتباع لا كسائر الأتباع، أتباع يحبونه حقاً، يُفدُّونه بأنفسهم ولا يتوضأ وضوءاً إلا كادوا يقتتلون عليه يلتمسون بركته. ولما أُسر أحد المسلمين عند المشركين وعذبوه قالوا : أتود أن محمداً مكانك وأنك في أهلك ومالك قال : ما أحب أني في أهلي ومالي وتصيب محمداً شوكة. انظري كيف هذا الحب العظيم الذي بلغ إلى هذه الدرجة، يقول ما أحب أني في أهلي ومالي هم كانوا يعذبونه يعني تعذبوني وتقطعوني عن أهلي ومالي أحب إلي من أن تُصيب محمد شوكة يُشاكها رضي الله تعالى عنهم وصلى الله وسلم على نبينا.

/ قال الله جل علا: {بِأَيْيِكُمُ الْمَفْتُونُ} والمفتون قال بعض أهل التفسير : أي المجنون، وقال قتادة : {بِأَيْيِكُمُ الْمَفْتُونُ} أي أولى بالشيطان، ومعنى المفتون أي الذي فُتِن عن الحق وضلّ عنه، وأيضاً قد يكون معناه المفتون: بأيكم المُعذّب أو المُبتلَى ويقال في البلاء فتنة، ويقال ابتليت الذهب أي فتنته، ويقال أيضاً إذا عُرض على النار فُتِن.

/ قال الله جل وعلا : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } ومثل هذه فيها نوع من الطمأنينة والسكينة أنك يا محمد لست الذي تقضي لهم بالهداية، ولست الذي تمنع عنهم الهداية، فإذا علم ذلك اطمأن أن الله جل وعلا إن أعانه على البلاغ ثم هُدي به من هدي وضل من ضلّ أن الضلال والهدى ليس إليه ولا منه فلذلك فإنه يرتاح في البلاغ.
 يعني لو أنك دخلت اختبار وقيل لك هذا الاختبار يا إما تنجحين وتأخذين الشهادة، أو ترسبين ولا تأخذين شيئاً أبداً، يصيبك اضطراب صح أو لا ؟ وترتعبين ؟ لكن لو قالت لك الأستاذة شوفوا هذا الاختبار هذا اختبار تحصيل حاصل أجيبوا وأنتم كلكم ناجحين، أو أجيبوا وأنا قد وضعت الدرجات أصلاً، فالله جل وعلا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم أنت بلِّغ البلاغ، بلِّغ ما أُمرت واطمئن {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } فهو يعلم أي الفريقين على الهدى وأيهم على الضلال فلا تقلق ولا تُتعب نفسك إلى درجة أن هذا يُحزنك، وهذه ليست أول مرة يذكر ذلك الله جل وعلا لنبيه أو يواسيه بهذا، واساه بمثلها أين ؟
 في الكهف ، ماذا قال الله جل وعلا ؟ {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} وكذلك أين أيضاً ؟ الشعراء.

/ يقول الله جل وعلا : { فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ } يعني إذ أنعمنا عليك، وإذ مننا عليك، وإذ واسيناك، وإذ علمت أنه ليس في يدك شيء وأن الأمر لله في الهُدى والضلال { فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ } فالفاء هذه كأنه تعقيب على ما مضى فاسمع ما يقال لك واتبع ما يقال لك 
{ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ }، ما وصف هؤلاء المكذبين الذين كذبوك؟

/ قال: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } وهذا نوع ، يقولون الإنسان إذا أراد أن يرسل أحداً أوصاه بالوصية، أعطاه مناعة سيقولون لك كذا فقل كذا، حتى يكون لديه حصانة من أولئك قال الله جل وعلا :{ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِين * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } هؤلاء يتمنون لو أنك تتنازل عن بعض ما تدعوهم إليه فيعِدونك بأن يتنازلوا عن بعض ما يصدون عنه فاحذر هؤلاء، قال ابن عباس :{ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } أو لو تُرخِص لهم فيُرخصون، وقال مجاهد : أي تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق. وهم قالوا : اعبد إلهنا يوماً ونعبد إلهك، يوماً هذا من ما عرضوه عليه.

/ قال الله جل وعلا :{ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ } وهذا الكاذب الذي يحلف بالله جل وعلا، حلاّف أو يحلف بما شاء أن يحلف لا تطعه { وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ } وإن حلف على أن يكون على ما وعدك عليه.
/ {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيم *عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ } وصفه الله جل وعلا بهذه الأوصاف، قال ابن عباس : المهين الكاذب، وقال الحسن : (كل حلاّف) يعني مكابر، ومهين قال : ضعيف، وقال : هماز يعني الذي يهمِز هو الذي يغتاب، ومشاء بنميم يعني الذي يمشي بين الناس. وقيل: الهمّاز الذي يهمز في الشهود، والنمام الذي يكون في الغيبة، والنمام هو الذي ينقل الحديث -الشهود يعني الحضور - ويقال : الهمز واللمز، يعني يهمز يقول كلمة يهمز بها، ويلمز يسرها ويخفيها يعني يواري فيها.
 قال :{ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ } يعني يمشي بين الناس ويُحرِّش بينهم وينقل أحاديث كاذبة ليُفسد ذات البين، وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ) وفي حديث همام بن الحارث قال: (مر رجل على حذيفة فقيل إن هذا يرفع الحديث إلى الأمراء - يعني ينقل الحديث إلى الأمراء - فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل الجنة قتات ) ويختلف القتات عن النمام من جهة أن النمام هو الذي ينُم الحديث، يُنمي الحديث أو ينقله يقال : ينمي الحديث يعني ينقله أو ينسبه إلى قائله، فهو إذا كان ينقل الحديث نقلاً من غير أن يأخذ على ذلك أجراً سُمي نماماً، وإذا كان يتكسب بنقل الحديث يعني يقتات به سُمي قتاتاً، والقتات هو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنه لا يدخل الجنة، وروى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد بن السكن أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ألا أخبركم بخياركم ؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال : الذين إذا رؤوا ذُكِر الله عز وجل، ثم قال: ألا أخبركم بشراركم؟ المشاؤون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبُرءاء العنت ) يعني الذين يتهمون الناس من أجل أن يحزنهم أو يشُقّ عليهم.

/ قال الله جل وعلا :{ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيم } يعني يمنع ما عنده من الخير عن غيره، ويعتدي في تناول ما أحلّ الله له، ويتجاوز الحد الذي حده الله وشرعه.

/ قال الله جل وعلا:{ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَٰلِكَ زَنِيمٍ } والعتل هو: الفظّ الذي لا يقبل النصيحة وإذا دخل على الناس كأنهم خدم عنده، هذا العُتل. وقيل أيضاً: الغليظ اللفظ، الذي يقول الكلام البذيء فهذا عتل.
 أما الزنيم فهو: الجموع المنوع وقد جاء في الحديث (ألا أنبئكم بأهل الجنة كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أنبئكم بأهل النار كل عُتُل جوّاظ مستكبر ) وفي رواية ( جعضري مستكبر ) وفي أخرى ( كل جعضري جوّاظ مستكبر جمّاع منّاع )، وفي الحديث ( تبكي السماء من عبد أصحّ الله جسمه وأرحب جوفه وأعطاه من الدنيا فضلاً فكان للناس ظلوماً فذلك العتل الزنيم ).
 وقيل الزنيم في لغة العرب الدعيّ في القوم، يعني الذي يقول أنا عندي وأنا فيني وأنا أحسن الناس وأنا كذا وأنا كذا، وهذا الحقيقة من هذه أوصافه لا يقبل النصيحة وهو سيء المعشر، مسكين من يُعاشر من هذا وصفه، الذي يُثني على نفسه ويمدح نفسه ولا يرى أنه يخطئ ولا يرى أن فيه عيب بل يرى نفسه لا عيب فيه، وقد يقول أن الكمال لله ولست كامل لكن بحقيقة أمره يدعي أنه كامل وأنه لا عيب فيه ولذلك فإنه لا يقبل أن يُقال له أخطأت.
 ويذكر أن المراد بهذا صاحب هذه الأوصاف الأخنس بن شريق، وقال مجاهد عن ابن عباس : الزنيم المُلحق النسب، وقال سعيد بن المسيب : هو المُلصق بالقوم وليس منهم، وسئل عكرمة عن الزنيم فقال : هو ولد الزنى، وقال سعيد بن جبير : الزنيم الذي يُعرف بالشر كما تُعرَف الشاة بزنمتها، وقيل: الزنيم المُلصق، وقال الضحاك : كانت له زنمة في أصل أُذنه، ويقال: هو اللئيم المُلصق في النسب. والأقوال في هذا - يقول ابن كثير - كثيرة وترجع إلى الذي ذكرنا قبل قليل.
س: ***** 
نعم طبعاً يذكرون هذه بأمثالها ويذكرون عليها أشعاراً ولكن أحياناً ما أحب إني أدخل في التفاصيل الطويلة لأنها يعني ربما يضيق عنها المجلس. ويُذكر أنه الوليد بن المغيرة ذكر ذلك القرطبي، يذكر القرطبي قيل أنه الوليد بن المغيرة.

/ قال الله جل وعلا: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِين} يقول تعالى :{أَنْ كَان} يعني هذا أوصافه {أَنْ كَان} لأن عنده مال قال ذلك فمقابل ما أنعم الله به عليه من المال والبنين كفر بآيات الله عز وجل وأعرض عنها كما قال الله جل وعلا : {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} فالله جل وعلا ضرب له مثلاً، وهذا أيضاً مثله كذلك قارون لما قيل له أو نُصِح قال : {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي} هذا الزنيم ، يعني الذي يرى نفسه هو..، فرعون نفس الشيء لما جاءه موسى قال : {وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} وقال : {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} وقال : {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ} هذه أوصاف الزنيم، أوصافه الإنسان الذي يرى عنده هذه العظمة وهو لا يستطيع أن يدفع عنه ڤيروس لو يأتيه، لو قرصته بعوضة ما دفعها عن نفسه، لو قرصته نملة ما دفعها عن نفسه، لو حبس الماء في بطنه -في كليته- ما دفع عن نفسه، فيتفاخر الإنسان على ماذا؟ على أي شيء؟!
يقول الله جل وعلا في هذا الذي هذا حاله قال: { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } قال ابن جرير: سنُبين أمره بياناً واضحاً حتى يعرفونه ولا يخفى عليهم يعني { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } يعني هذه الآية بيّنه في فضح هذا الصنف من الناس حتى سيصبح بيّناً في الناس لا أحد يقربُه ولا أحد يُعاشره ولا أحد يعايشه ففضحه كان كالوسم على الخرطوم، الخرطوم الأنف، سنِسمه على الخرطوم وأظهر ما في الإنسان في وجهه أنفه ولذلك قال سنسمه على الخرطوم بشيء لا يفارقه ويكون ذلك سيما على أنفه.
 قال ابن عباس : يُقاتل يوم بدر فيُخطم بالسيف في القتال ، وقال آخرون : سنِسمه يعني سِمة أهل النار، يعني نُسوِّد وجهه يوم القيامة، وقالوا : عُبّر عن الوجه بالخرطوم، يقول ابن كثير: هذه اللفظة -التي قلتها قبل قليل لكم- قال : "ولا مانع لاجتماع الجميع عليه في الدنيا والآخرة" يعني لا مانع لاجتماع هذه المعاني التي تحملها  الآية، لا مانع أن تجتمع في أحدهم، والحقيقة أنه كما أنه لا مانع أن تجتمع جميع المعاني في الشر في أحد مذكور به كذلك لا مانع أن تجتمع المعاني في الخير في أحد مذكور بها. معي.
 كما أن المعاني حمّالة، المعاني التي تحملها الآية ممكن أن تجتمع في الشر في أحد، كذلك هذه المعاني يمكن أن تجتمع في الخير يعني معاني أخرى تجتمع في الخير من الخير في أحد، وفي الحديث ( من مات همّاز لمّاز مُلقباً للناس ) يعني هؤلاء كذا.. وهؤلاء كذا - الذين يُنكتِون على الناس - هؤلاء عتيبية، وهؤلاء مطران، وهؤلاء قحاطين، وهؤلاء مصريين، وهؤلاء يمنيين ،وهؤلاء حوطيين فينكت على هؤلاء وينكت على هؤلاء،  فيأخذ آثام القبيلة كلها، الجميع لأنهم سيكونون خصماً له يوم القيامة، كلهم يكونون خصم له يوم القيامة على قوله، قال: ( من مات هماز لماز ملقباً للناس كان علامته يوم القيامة أن يسِمه الله على الخرطوم من كلا الشفتين ).
س: إحدى الحاضرات تحكي حادثة حصلت لأناس تعرفهم.
هذا من الغلظة والجهالة وأخلاق الجاهلية يقول الله جل وعلا عن هؤلاء يقول ذلك عن هؤلاء وهذه ليست من الإسلام في شيء بل هي كما قلنا من آخلاق الجاهلية الله جل وعلا قال في هؤلاء شيئاً، قال في أصحاب هذه الأوصاف قال :{ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ } يعني هؤلاء لا يتكبرون على الناس فقط، هؤلاء يتكبرون حتى على آيات الله حتى آيات الله تتلى عليهم يقولون أساطير الأولين، يعني هم مستكبرون على كل شيء حتى على الله جل وعلا هم مستكبرون ولذلك الله جل وعلا يعذبهم وأكثر ما يعذبهم الله جل وعلا هؤلاء يعذبهم في الدنيا والآخرة بالإهانة، يُرغِم الله أنوفهم، وتعالي انظري إلى هذه الضروب من البشر، قارون خسفنا به وبداره الأرض هذا يعني قارون خسف الله به الأرض، فرعون غرق حتى جاء تراب الطمي في فيه وأنفه وتراب الطمي لأجل أن يُلقم عن كبره لأنه كان يتلفظ بألفاظ الكبر ويشمخ بأنفه شموخ الكِبر فلذلك دحى الطمي في فيه وفي أنفه، وكل من تكبر على الله جل وعلا كان هذا شأنه ولذا فإن الله جل وعلا واسى نبيه صلى الله عليه وسلم بالعِدة بأن هؤلاء سيوسمون على الخرطوم .
 -----------------------
 ١- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا وهيب حدثنا عمرو بن يحيى عن عباد بن تميم عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئا فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن قال ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كلما قال شيئا قالوا الله ورسوله أمن قال لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ولو سلك الناس واديا وشعبا لسلكت وادي الأنصار وشعبها الأنصار شعار والناس دثار إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) صحيح البخاري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق