الأربعاء، 3 مايو 2017

تفسير سورة القلم ( ١٧-٥٢) / أ.د رقية المحارب

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين..
 كنا وصلنا إلى قول الله جل وعلا :{ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } وقفنا عند القصة ما بدأناها.
 يقول الله سبحانه وتعالى في سورة القلم :{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ*وَلَا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ }.

هذا مثل ضربه الله جل وعلا لكفار قريش فيما نقول إنه مضرب المثل وجه التشبيه بينهم وبين هذه القصة:
 أن الله جل وعلا بعث لهم محمداً صلى الله عليه وسلم وهو النعيم والرحمة التي أُهديت إليهم وهو ما أعطاهم الله سبحانه وتعالى من الفضل فكفروا بنعمة الله جل وعلا كمثل أولئك أصحاب الجنة الذين أعطاهم الله جل وعلا تلك الجنة تفضلاً منه ونعمة ومِنة، فقد ذُكر في هذه الجنة أنها كانت لقوم من اليهود أو من أهل الكتاب، بعض الروايات تذكر أنهم من أهل الكتاب ولم تنُصّ على أنهم من اليهود أو من النصارى، وهذه أيضاً يُذكر أنها في أهل أو أن هذه القصة وقعت في بعض أهل اليمن يعني أصحاب القصة من أهل اليمن، وقيل كانوا من أهل الحبشة، وكان أبوهم قد خلّف لهم هذه الجنة وكان يسير فيها بسيرة حسنة فيجعلها ثلاثة أثلاث، كان يرُد ثلثاً فيها -يعني البذور والإنتاج- هذا يرد ثلثاً فيها من التكاليف والمصاريف و..الخ والبذور وما شابه ذلك، وثلث يجعله لأولاده يأكلوا منه ويعطي منه أهله، وثلث يتبرع به للفقراء والمساكين، فكان يصنع ذلك فلما مات أبوهم ورثه بنوه فقالوا: لقد كان أبونا أحمقا إذ كان يصرف من هذه شيئاً للفقراء ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك علينا يعني كان هذا كله لنا بدل ما يذهب للفقراء، فلما تجمّعوا أقسموا لا يعطون الفقراء شيئاً وأنهم يقسمونها بينهم ولا يستثنون فيها أحداً، فعوقبوا بنقيض قصدهم فأذهب الله ما في هذه الجنة من الثمار وأتلفها بالكُلية، أذهب الله ما بأيديهم فلم يبقَ لهم لا رأس المال ولا الثمار ولا الصدقة. هذا المثل الذي ضربه الله سبحانه وتعالى لهؤلاء.
 أما على التفصيل: فإن الله جل وعلا قال:{ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ } يعني كفار قريش {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّة} الذين ذكرتهم قبل قليل، هل هم من اليهود أو هم من اليمن أو هم كما ذكر أيضاً صاحب التحرير والتنوير في عزوه أيضاً -يعزوه إلى بعض المفسرين- أنها تسمى ظروان وأنها كانت جنة عظيمة غرسها كثير وثمرها كثير، وأن ذلك كان في عهد اليهود أنه كان يهودياً ، قال : لأنها كانت في أهل اليمن وكان أهل اليمن تدينوا باليهودية من عهد بلقيس - كما قيل - أو بعدها وذلك بسبب هجرة بعض جنود سليمان، وأيضاً دلل على ذلك بأن زكاة الثمار كانت من شريعة التوراة، وعزاه إلى الإصحاح السادس والعشرين من سفر اللاويين فهذا يعني يُذكر.
 وعلى كل حال لا يهم هي لليهود أو للنصارى أو كذا، مثل هذه التفاصل في الغالب لا يُنص عليها في القرآن لا الأسماء ولا القُرى ولا كذا لمَ ؟ لأنه المهم هو العبرة مضرب المثل هذا الذي يهمنا ولذلك فإنه لا ندخل في تفاصيل هذه القرية أو هذه الجنة وأصحابها من هم، لا يهم.
 المهم أنهم { أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } والصرم هو: الجذاذ الكامل، وهذا في الغالب يكون الصرام هذا يُطلق على صرام النخل ويطلق على صرام العنب أيضاً قال : { وَلَا يَسْتَثْنُونَ }، قال الله جل وعلا: { لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } يعني في الصباح.
 { وَلَا يَسْتَثْنُونَ} يعني لا يستثنون من كان يستثنيهم أبوهم من الفقراء في العطاء، أو { وَلَا يَسْتَثْنُونَ } يعني أقسموا ولا يستثنون في يمينهم والاستثناء في اليمين أن يقول إن شاء الله فيستثني في يمينه فلا يقع يمينه، بل هم عازمون على تنفيذ يمينهم دون إستثناء.
 قال الله جل وعلا :{ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ } والطائف هذا الذي طاف عليها آفة من السماء نزلت بين عشية وضحاها، نزلت في سويعات يسيرة طافت بهذه الجنة حتى أصبحت كالصريم كأن أحداً صرمها، أو قيل: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} كالليِل الأسود وهذا قول ابن عباس، قال السدي : مثل الزرع إذا حُصد يعني {كَالصَّرِيمِ} يعني كالمحصود لأنه ليس فيها شيء ولا بقاء فيها ولا لها. والظاهر -والله أعلم- أنها أصبحت كالصريم لا كالمجذوذ وإنما أصبحت كالصريم يعني أنها أصبحت فاسدة لم يعرفوها كما كانوا يعرفون جنتهم. والله جل وعلا سماها جنة لما فيها من الشجر، والبستان لا يسمى جنة إلا إذا كان يغطي شجره ما بداخله فلا يرى من بظاهرها من بداخلها.
 قال الله جل وعلا :{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيم * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ } قال ابن مسعود : " قال صلى الله عليه وسلم :( إياكم والمعاصي إن العبد ليذنب الذنب فيُحرم به رزقاً قد كان هيئ له ) ثم تلا رسول الله عليه وسلم { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ }" يعني الإنسان إذا عصى لله جل وعلا فإن رزقه الذي رزقه الله سبحانه وتعالى يذهب، وهذا متنوع، الرزق متنوع وذهابه متنوع أيضاً، فمن الرزق الولد، ومن الرزق المال، ومن الرزق العِلم، ومن الرزق العبادة، ومن الرزق الخشوع، ومن الرزق الأهل، ومن الرزق الأمن، ومن الرزق كل خير، نعم كل ذلك من الرزق، من النعيم يعني طيب النفس من النعيم جاء الحديث الذي ذكرناه. فكيف يصرفه الله جل وعلا ؟ يصرفه بالذنب ( إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقاً قد كان هيء له) ثم تلا رسول الله عليه وسلم { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } وفي هذا الحديث دلالة على أن الآيات يُستشهد بها في المواطن التي تُناسب الاستشهاد وإن كانت ليست فيها ، يعني وإن كانت ليست في ذاتها، ولا شك أن الآية جاءت في مَن ؟ في الكافرين { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ } يعني مشركي قريش { كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ } والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن العبد ليذنب الذنب ) ولا شك أن هذا الكلام في المسلمين وإن العبد ليذنب الذنب فيُحرم الرزق من ذنب يصيبه على اختلاف هذا الذنب يحرم به رزقاً، وعلى اختلاف الرزق كما ذكرت وتلا النبي صلى الله عليه وسلم الآية في هذا الموطن دل على أنه يجوز الاستشهاد بالآيات فيما يشترك فيها مشابهة لا أنه نزل فيها أو أنه وردت فيها، فهم حُرموا خير جنتهم بذنبهم وجاء في أحاديث ( إني لأذنب الذنب فأجد ذلك في خلق امرأتي ودابتي) والإنسان إذا أذنب الذنب حُرم به الخير حتى لو كان من الطاعة، يعني قد يغتاب أحداً فيُحرم قيام الليل، قد -مثلاً- يذنب ذنباً فيُحرَم به كثرة الذكر، أو يُحرم به الخشوع، أو يُحرم به التدبر -تدبر القران-، أو يُحرم به صلاح الولد، أو .. أو..الخ فينبغي للمرء أن يراقب الله جل وعلا في نفسه وأن يستغفر من ذنوبه، ومن هذا الذي لا يُذنب ( كل ابن آدام خطاء وخير الخطائيين التوابون ) فالاستغفار يمحو الذنوب ويُكفرها، فنأخذ من هذا أن العبد إذا رأى رزقاً يبطيء عنه، أو رأى خيراً يُحرم إياه أن عليه بكثرة الاستغفار والتوبة إلى الله جل وعلا لعل ذلك بذنب أصابه، لكن قد يقول قائل : أنتم تقولون هذا وأنا أصلي وأتعبد لله سبحانه وتعالى ولا أرى هذا الرزق يأتيني والحديث جاء فيه ( إن العبد ليحرم الرزق )؟ ومن أدراك أن هذا الذي ترينه أنه رزق، قد يكون بلاء، وقد يكون فتنة، وقد يكون أيضاً ذِهاب خيرك الذي فعلتيه فيه ولا يدخر لك الله جل وعلا في الآخرة شيئاً، فينبغي للعبد أن يُسارع إلى التوبة وأن يُسارع إلى الأعمال الصالحة بقدر ما يستطيع وأن يتهم نفسه دائماً على الخطأ، وأيضاً يرجو ماعند الله جل وعلا فيما يقدِّم من المعروف ومن البر ويكون على يقين أن الله جل وعلا لا يظلم مثقال ذرة سبحانه.
 قال الله جل وعلا : {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَىٰ حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ } يعني أن اغدوا على حرثكم إن كنتم تريدون الصرام الجذاذ أغدوا عليه فاصرِموه ، قال مجاهد : "كان حرثهم عنباً -هذا قول- قال : كان حرثهم عنباً قال : { فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} يعني يتناجون فيما بينهم بحيث لا يسمعهم أحد، ثم أخبر الله سبحانه وتعالى الذي يعلم السر وأخفى مقولهم الذي قالوه، ماذا قالوا ؟ { أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } وقال الله جل وعلا : {وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ} يعني غدو على القوة والشدة وعلى الغيظ -كما قال عكرمة- {وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ} ولعلهم هذا الحرد يُخصّ به طرد المساكين الذين كانوا يأتون على عهد أبيهم فيعطيهم ويواسيهم وأما اليوم فغدوا على شدة على أولئك قادرين ليس لهم أحد يمنعهم من ذلك، وهذا فيه دليل على أن هؤلاء كانوا يودون ذلك في الأول -في حياة أبيهم- كانوا يودّون الشدة على المسكين لكن أباهم كان يمنعهم من ذلك فلما مات أصبحوا قادرين على الشدة التي كانوا يُمنعون منها ولذلك قال الله جل وعلا { وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ } يعني طافوا بها وذهبوا يريدون دخولها لكنم لم يجدوا جنتهم هي الجنة التي عهدوها فلما دخلوها هالهم ما فيها من البلاء فـ {قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} يعني تائهون هذه ليست لنا ولا هي مزرعتنا مع أن هؤلاء ربوا على طريقها يعني يعرفون أعرف بطريقها من غيرهم كون هذه الجنة كانت لهم بستاناً ولا شك أن الناس يعرفون منازلهم ويعرفون بساتينهم لكن لشدة الهول الذي بهم {قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} ثم عادوا وقالوا : {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} هذه هي حديقتنا جنتنا بستاننا لكن لا حظ لنا فيه ولا نصيب لأن الله حرمنا إياه وهنا أدركوا { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ } وأوسطهم هل هو أوسطهم في العمر أو هو في العدالة والخيرية؟ ويقال في العدل هذا الأوسط والوسط وهؤلاء وسط الناس يعني أعدلهم أوسطهم وأقسطهم قال : { أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ } ومعنى تسبحون: قال مجاهد والسدي : "يعني لولا تستثنون" وكان استثناؤهم في ذلك الزمان تسبيحاً وهذا كما قال ابن جرير : هو قول القائل إن شاء الله، فقولهم { لَوْلَا تُسَبِّحُونَ } يعني لولا تستثنون بقولهم إن شاء الله، وقيل: لولا تسبحون أي هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم، وهذا هو الظاهر أن المقصود القول سبحان الله والمقصود { لَوْلَا تُسَبِّحُونَ } لولا تشكرون الله على ما أعطاكم وتقيمون العدل والحق فيما أعطاكم، ويمكن أن يكون العمل من باب التسبيح قال :{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فسمى الشكر عملاً وهنا التسبيح أيضاً هو من باب العمل، والعمل وفق ما يقتضيه الذِكر العبادة بالصدقة وبالصلاة وبالصيام وبحسن الأخلاق وبالبر، كل ذلك يدخل في التسبيح من باب أنه ملازم للتسبيح، ولذا فإنك إذا رأيت إنسان كثير الذكر لكنه كثير البطش أو سيء الخلق ماذا تقولين ؟ تقولين خالف قوله فعله فلذلك تعيبين عليه فكأنما قال { لَوْلَا تُسَبِّحُونَ } يعني لولا تعبدون الله جل وعلا، لولا تتعبدون لله سبحانه وتعالى بذكره وشكره بالصدقة والنفقة كما أمرتم هذا هو المعنى.
 ولذا قالوا { قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا} فكان جوابهم مباشرة بلفظ التسبيح { قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } فأتوا بالطاعة التي نبههم عليها لكن ذلك حين قد فات الأوان، لكن ذلك بعد أن فات الأوان { قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } وقد فات الأوان وذهبت تلك الجنة.
 { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} أي أقبل بعضهم على بعض يلوم بعضهم بعضاً ويُحدِّث بعضهم بعضاً بما كان والسبب الذي جرى لهم ما جرى فقالوا اعتدينا وبغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا.
 ثم قالوا : { عَسَىٰ رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } فرجوا أن يبدلهم الله خيراً منها وندموا على ما أصابهم أو ندموا على ما فعلوا فأصابهم ما أصابهم بسبب فعلهم ورغبوا إلى الله جل وعلا قالوا : { إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا رَاغِبُونَ } قيل: راغبون في بذلها لهم في الدنيا، وقيل: احتسبوا ثوابها في الدار الآخرة والله أعلم .
 قال الله جل وعلا :{ كَذَٰلِكَ الْعَذَابُ } يعني إن عذاب أولئك الذي سيعقُبهم كمثل عذاب أصحاب الجنة، وهناك صور مشتركة بين هؤلاء وهؤلاء منها، يعني ماذا يفيد ذكر مثل هذه القصة؟
هذه القصة أولاً لم تكن من ضرب الخيال بل هي قصة واقعية، وهذه قصة هم يعلمونها يعلمونها، منتشرة بينهم عند قريش يعرفونها تعرفها قريش وتعرفها غير قريش، يعرفها الناس يعني شيء متعارف عليه أو شيء شائع دائماً، الأعاجيب في القصص تشيع ويحدّث الناس بعضهم بعضا بها، فيُحدث الآباء الأبناء الأجيال القادمة كل ما جاء جيل حدثوهم قصة أولئك القوم.
 فهذه قصة معروفة لكن المغزى في إيرادها ما هو؟ هو التنويه للعاقبة التي كانت لأولئك انتبهوا العاقبة ممكن تكون مثل هذه تكون لكم.
من أي باب ؟ من باب السرعة، سرعة الحدوث، سرعة البوار، يعني سرعة ما يقضي الله جل وعلا من العقوبة، إذا أراد الله بواركم فإنكم ستبورون بسرعة، يعني ستهلكون بسرعة كما أصحاب أولئك القرية أو أولئك الجنة في سرعة التغير والتبدل هذا من حيث ماذا؟ هذا في الدنيا أما في الآخرة فأمر آخر سيأتي.
 هل وقع لقريش شيء من هذا بعد أن كذبوا محمد صلى الله عليه وسلم وطردوه؟ 
نعم وقع لهم حتى كان الواحد منهم يرفع رأسه إلى السماء فيغشى عليه من الجوع، أصابهم جدب شديد في عام مجاعة حتى جاء أبو سفيان يرجو النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو ربه ليرفع عنهم ما هم فيه من العذاب، وهذا ما ذكرناه في سورة الدخان وهو قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
 قال الله جل وعلا :{ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ } يعني أكبر من هذا بما فيه من الأهوال، وما فيه من الدوام، ومافيه من شدة العقاب، وما فيه من اليأس بأنه لا رجعة بعده، فانتبهوا لهذا كأن الله جل وعلا يحذرهم وينبههم ويعضهم لأجل أن لا يأتيهم يوم لا مرد لهم من الله. قال جل وعلا :{ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَر لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي لو علموا هذه العقوبة وأنها أكبر لأقلعوا عن ما هم فيه من التكذيب.
أقول: وكل ما يجري مثل أصحاب هذه الجنة تكون له هذه القصة مثلاً، فيمكن أن تقوليها -مثلاً- للناس في هذه البلاد مثلاً بما يغفلون فيه من تحقيق الأمن وماهم فيه من طيب المساكن وطيب المآكل، يعني الناس اليوم يسكنون، نحن نسكن في بيوت أكبر من حجمنا ومن حاجتنا، عندنا مجالس مغلقة، عندنا دور مغلقة، وأثاث لا يستعمله أحد إلا في الشهر مرة، صح أو لا؟ كذلك أصناف الأطعمة لا تجلسين في الولائم وإنما تجلسين في بيتك على أصناف من الأطعمة، فعندك العشاء والغداء والإفطار، ووجبات ما بينهما وما اشتهيتي أشتريتي وغير هذا بالنسبة للمطاعم والمكاسي أكثر، الملابس والمراكب، وكل ذلك أنت في نعيم، وهذا النعيم حادث يعني أهلنا قبل ستين سبعين سنة ما كانوا على هذا الحال، يعني كانت أمي تحدثني وهي صغيرة أنهم يأتيهم الوقت الذي ما عندهم شيء أبداً، ما عندهم شيء، نحن أدركنا في طفولتنا أنا أذكر في طفولتي أدركت شيء من ضيق العيش حتى أننا كنا ما نعرف إلا الوجبة الواحدة يعني الذي هو الصنف الواحد في الغداء، وأيضاً كنا على اللبس الواحد ما نعرف التجديد إلا في العيد، ما نعرف ملابس الدراسة إلا واحد، وأحياناً نتوارثه بعد أخواتنا صح أو لا ؟ الذين في عمري أو الذين أكبر مني، بلى والله هذا هو، أنا أذكر أننا ما كنا نجد العيشة مثل الآن لا، لكن أذكر أننا ما نأتي بالفواكه إلا يعني بين الحين والحين، وأذكر أن الناس مثلاً يفرحون بالأضاحي ما يعرفون الطعام اللحوم هذه إلا في الأضاحي طبعاً أنا أتكلم عن عموم الناس، أما بعض الناس الذين يمكن يكون عندهم مثلاً دخل إضافي، عندهم بيوت مُلك عندهم كذا هؤلاء قلة في الناس هؤلاء قلة، أما الذين قبلنا فهم يحكون لنا يعني أمهاتنا يحكون لنا أشياء كنا في ذاك الزمان نستغربها مثلما أنتم الآن تستغربون ما كانوا عليه في الزمان الأول، هل نحن مثل الآن ؟ صحيح.. يفرحون بالجراد ويفرحون بالضب ويفرحون بالجرابيع هذه الآن عيالنا ماذا يقولون عنها ؟ هذه طبعاً الأحوال هذه الله جل وعلا يقول :{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} ذاك الزمان الذي كنا فيه أطفال يعني أذكر وأنا عمري خمس سنوات أو ست سنوات كان يُذكر لنا أن الجنيه المصري بست ريالات **** يعني هذاك الوقت كانت أختي جواهر عندكم كانت وقتها في ثالث ثانوي وكان الجنيه المصري بثمانية ريالات سعودية، الآن الريال كم ؟ جنية ونص، مصر كانوا يخرج لها من رجالنا كانوا يذهبوا يشتغلوا في مصر، أنا أعرف كذا واحد يقولون أنهم كانوا يشتغلون في مصر سائقين، وكانوا يذهبون إلى بعض المناطق حمالين، كانوا العمانيين يأتون يشتغلون في السعودية في القمامة -عمال نظافة- اليوم العمانيين يعني مترفين -أغنياء- انظري أين يسكنون وكذا، أنا لا أقصد بذلك تهوين قوم عند قوم، أقول هذه حال الناس ذاك الوقت كان الصومال أغنياء، الصوماليون كانوا أغنياء، لما قدم أمير عندهم أو وجيه اسمه علي للسعودية وجد إن الناس في شظف من العيش فأمر ببناء آبار عند الميقات فسموها آبار علي بعدين سموها أبيار علي ، علي هذا من الصومال، وكانوا يرسلون الزكوات إلى مكة من أجل خدمة الحجيج، يرسلون الزكوات لأن ما كان عندنا شيء، ماذا كان عندنا، كان عندنا شيء اليسير يعني كانت الناس يعتبرون بوجبة التمر هذه الذي عنده نخل وعنده تمر هذا غني، فهذه أنعام تغيرت تبدلت { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} في ذاك الوقت كان الناس .. الآن أنتم تدعون إلى النفقة في سوريا وتنفقوا في سوريا وكذا وفي اليمن، كان الناس في سوريا في رغد من العيش كان عندهم الفواكه والخضار والبساتين والمزارع واللحوم، في هذا الوقت تحدثني واحدة من الشام تقول كانوا يترامون بالخوخ بهذا الكبر الخوخ، كانوا الشباب يتقاذفون فيها في المزاح واللعب، فالله جل وعلا لا يخلل لأحد نعمة
إذا كنت في نعمة فأرعها ** فإن الذنوب تزيل النِّعم
 وينبغي لكم أن تحدثوا أولادكم بهذا، يعني ما يستحي الواحد ويقول أنا ما أعترف إن بلدي كان فيه حاجة، وإلا صرنا مثل مَثل الذي ضربه الله جل وعلا للنبي صلى الله عليه وسلم وضربه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه مثل الأقرع والأبرص والأعمى، الذي لما جاء قال : أنا ما كنت أعمى ولا كنت أبرص، لكن الذي اعترف أعطاه الله جل وعلا وأمدّ له والذي أنكر عاد كما كان، فينبغي لنا أن نعرف نعمة الله التي أنعم الله بها علينا، وليست القضية قضية نعمة الرزق الذي هو طعام وشراب وكِساء ومسكن، ترى هذا أمره يسير هناك أمور أخرى وهي القرآن فإن الدين والقرآن من أعظم النِّعم، والعلم من أعظم النِّعم، والأمن كذلك من أعظم النعم، كان في هذه البلاد في الجزيرة قبل أن تُوحَّد، كانت قبائل -قائمة على القبائل- وكان قطع الطريق أمره يسير يعني كل واحد عنده سلاح يستطيع أن يقطع طريق يقطع طريق، هذا في عهد أجدادنا ليس ببعيد، هذا الأمر -قطع الطريق- كان في عهد الأجداد، ولعل تعلمون أن كثير من أهل نجد كانوا يشتغلون في العراق وسكنوا في الزبير، وكانوا يشتغلون في الكويت، وكانوا يشتغلون في كل مكان حتى وصلوا يشتغلون في الهند، وفي أندونيسيا، ولذلك تجدين في الأندنوسيين الآن بعض السحنة العربية خاصة الحضارم أو أهل حضرموت، فالقضية هي أن الناس، وكانوا في جهل شديد وكان الدين تنتشر فيهم البدع حتى جاء محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- تعالى وكانت المعاهدة التي تعرفونها والحمد لله بدأ الناس يدعون إلى التوحيد، واستقر التوحيد في قلوب كثير من الناس، وانتشر الأمن وتلواً لذلك أنعم الله بالنعم.
 اليوم أنا أخوف ما أخاف من بطشة الله جل وعلا على هذه البلاد بسبب ما يتساهل فيه الناس من نشر الأفكار الإلحادية، ومن نشر المنكرات ومن استساغتها، ومن الاستسهال في ظهورها وشيوعها، ومن بطر النعمة وجحودها وكفرانها، ومن الإمساك عن إخواننا الذين يحتاجون إلى يدنا نعينهم من الذين من حولنا { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } هذا الله جل وعلا أعطانا الله سبحانه وتعالى هذه النعم العظيمة وكان يجب علينا أن نشكرها، وأن نثني على الله بها، وأن نتعبد الله سبحانه وتعالى، وأن نذكّر أولادنا بهذه النعم لأجل أن نحفظها وأن نحافظ عليها.
/ في المقابل هؤلاء الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى من أصحاب الجنة قال الله سبحانه وتعالى { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } المتقين الذين عرفوا حق الله في أنفسهم، وحق الله في أموالهم، وحق الله في نعيمهم، وحق الله في الدين الذي معهم ، أيضاً أنت عندك علم فانشريه، علميه لا تُمسكيه ولا تعلميه أحد ولاتدعي له الناس ادعي له الناس وعلميهم وبيني لهم، وهذا يكون بنشر الكتاب ونشر الشريط ونشر المقاطع القصيرة عبر اليوتيوب وعبر الواتس آب ...الخ، كل هذا، اجتهدي في أن تنقلي الخير للناس لتكوني من المتقين الذين يتقون الله جل وعلا ، أنت لست مسئولة عن الناس إن ضلوا إن كنتِ ما قصرتي في دعوتك، أو أنت بذلتي في دعوتك إذا كنتِ بذلتي جهداً في دعوة الناس فإن الله جل وعلا سينجيك حينما يقع هؤلاء في العذاب وجزاء الجحود، وجزاء النكران، وجزاء قلة شكر النعمة.
 قال الله جل وعلا : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } لما ذكر الله جل وعلا حال أهل الجنة الدنيوية وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوا الله جل وعلا بيّن أنه لمن اتقاه وأطاعه في الدار الآخرة جنات النعيم التي لا تفنى ولا ينقضي نعيمها ولا تبيد، وبيّن الله سبحانه وتعالى أن ذلك من تمام عدله سبحانه وتعالى وبيّن هذا بقوله : { أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ } أفنساوي بين هؤلاء الذين أحسنوا سواءً بالصدقة، أو بنقل العلم، أو بنقل الدين أو بالدعوة إليه، أو بذكر الله وشكره، أو بحفظ حدوده وأحكامه، أفنجعلهم كالمجرمين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون!! يدعون إلى الفسق والفجور والنكران - سبحانه الله العظيم - الله جل وعلا مُنزّه عن ذلك، سبحان الله أن يجعل المسلمين كالمجرمين.
 يقول الله جل وعلا : { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } كيف تظنون أن الله جل وعلا يجعل المسلمين كالمجرمين في الدنيا والآخرة هذا لايكون.
 قال الله جل وعلا : { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } هل عندكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه بنقل الخلف عن السلف يتضمن حكماً مؤكداً لما تدّعونه أنكم الأحسن وأنكم إذا بُعثتم ستكونون الأفضل، وأنكم ستُجزَون ما لا يُجزى غيركم ؟ أبداً ، وهذا رد عليهم.
 قال الله جل وعلا : { سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ } من هذا الذي يُجيبك ويتزعم هذا الطلب الذي طُلِب منه أن يأتي بكتابٍ يدل على أن المجرمين خير من المسلمين عند الله جل وعلا.
العجيب هذا يقول به بعض الناس يقولون : نحن نرى هؤلاء الكافرين بلدانهم أحسن البلدان ماعندهم مشاكل وآمنين ومستقرين وبيوتهم أحسن البيوت وجوهم أحسن الجو وأرضهم أحسن الأرض وهذا كله فأين الكلام الذي تقواون؟ ونحن الآن نقول : { سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَٰلِكَ زَعِيمٌ } سيقول لك كم واحد أنا أراه.
 دخل عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان ما كان من ضيق على أزواجه حتى طالبوه بالنفقة -وذكرنا ذلك في سورة التحريم كما تذكرون- فنظر ما في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أُهب معلقة -جلود- قال : يا رسول الله ألا تدعو ربك أن يوسع عليك كما وسع على الفرس والروم. هؤلاء الفرس والروم في النعيم ونحن في هذا الضيق والضنك، فاستقعد النبي صلى الله عليه وسلم، كان متكئًا وجلس وقال : ( أفي شكٍ أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ) لوشاء النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد أن تمطر السماء ذهباً وأن يعطي أمته النعيم في وقته لأعطاهم لسأل ربه ذلك هو ما سأله لنفسه لكنه وعدهم أن الدنيا ستُفتح عليهم وكان يقول : ( ما الفقر أخشى عليكم ) وحقاً لا يخشى مما يخشى إلا طغيان الغنى ، يعني أقصى ما يكون في الفقر الإشغال يكون الإنسان مشغول .. مشغول لكنه دائم التعلق بالله سبحانه وتعالى، أما آفة الغنى فالطغيان، ولو قيل لك أيهما أهون الطغيان أو الإنشغال؟ قلتي : الإنشغال أهون من الطغيان، يعني إذا انشغل الإنسان قصّر وأتى بالشيء مقصراً فيه، أما الطغيان فلا يأتي به على قدرة منه، والله جل وعلا قال : { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَىٰ }.
 يقول سبحانه وتعالى : { أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ }
{ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي أمعكم عهود منا ومواثيق مؤكدة، عندكم هذه العهود والموثيق من الله مؤكدة أن الخير لكم لا يزول، وأن النعيم عندكم لا ينفد وأنكم بُرءاء مِما أصاب القوم قبلكم لا يأتيكم ما أصابهم، هل هذا عندكم؟ هل لكم بذلك عهد وميثاق؟ {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } أي سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون من ذلك لو كان.
 يقول الله سبحانه وتعالى :{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِين} فهم الآن لا شيء يؤكد لهم لا من أيمان ولا من كتب ولا يتزعم ذلك أحد منهم على وجه الحقيقة وإلا يتمنونها أماني نعم يمكن قد تمناها متمني، فقالوا إننا لو بعثنا لكان لنا خير من هذا.
 من تحفظ آية في ذلك ؟ قالوا لو بعثنا يكون لنا خير في هذا جاء ذلك في سورة الكهف وجاء ذلك في سورة فاطر عفواً الأحقاف جاء في سورة الأحقاف [١] وجاء في سورة الكهف بيان أن هؤلاء يتزعمون أماني قال {وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا} فهو يزعم ذلك زعماً.
 قال الله جل وعلا :{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِين } أم أن هؤلاء لهم شركاء يعبدونهم، وهؤلاء سيدافعون عنهم وسيعطونهم ما أمسك الله عنهم، وسيحمونهم من عذاب الله حين ينزله بهم {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِين} { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا} الذي يزعم شهيد أو يزعم شريك الله جل وعلا يقول هات شريكك، هات شهيدك، لا شريك له ولا شهيداً عنده إلا بإذنه نعم { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَٰذَا}.
 يقول الله جل وعلا :{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُون} ذاك اليوم الذي يقول الله جل وعلا فيه يتحداهم فيه ومردهم إليه يقول : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} لما ذكر الله جل وعلا أن للمتقين عند ربهم جنات النعيم بيّن متى ذلك كائن، ومتى هذا يقع فقال :{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُون}.
 الآن اليوم ممكن تحاجين أحد من أهل الإلحاد أو التشكيك في ذات الله جل وعلا أو التشكيك في دين الله جل وعلا يقول لك الله هذا أني أنا أمامك الآن أعطيني .. هذا ما أحد يستجيب له ، المشركون قالوا : {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} وكانوا ماذا يطلبون ؟ يطلبون أشياء من النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} الله جل وعلا لو أنه يُنزل هذه الأمور بالطلب لما كان ثمة اختبار، ولا كان اختبار بالإيمان بالغيب، ولا كان مزية لمن يؤمن والله جل وعلا جعل المزية الإيمان بالغيب من أول كتابه حين أنزله قال: {الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } فهؤلاء أهل التقوى هم وصفهم الله جل وعلا بأنهم الذين يؤمنون بالغيب، وجاء ذكر الإيمان بالغيب في أول القرآن ووسطه وآخره، فالإيمان بالغيب هو المطلوب والذي يؤاخذون عليه أو يُعطون عليه، أما حينما يكون شهادة شيء يرونه بأعينهم فإنهم حينئذ لا ينفعهم إيمانهم والدليل على ذلك ماهو ؟  {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} فالقضية أن الذي ينتظر الشهادة ينتظر الشهود، ينتظر أن يرى بعينه، هذا ما لإيمانه فائدة لأنه حينئذ سيسجد الناس كلهم أوسيريدون السجود جميعاً لكن الله جل وعلا لن يُمكّنهم من السجود، لن يُمكّن من السجود إلا من كان يسجد قبل، ولذلك قال الله جل وعلا :{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُون } يعني ماذا تنتظرون هل ينتظرون الحقيقة التي لا مرية فيها المشهودة، الحقيقة هي ولا مرية فيها عند أهل الإيمان بدلائلها وبصائرها نعم هي موجودة في الدنيا، لكن إذا أرادوا الحقيقة الظاهرة المشهودة التي لا يستطيع أحد أن يُكذبها فهذه لا تكون إلا يوم القيامة { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ }.
قال ابن كثير : "{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُون } قال : يعني يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال والبلاء والامتحان والأمور العظام، روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طِبقاً واحداً )"
 وقال ابن عباس : "هو يوم القيامة يوم كرب وشدة"، وعن ابن مسعود { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال : "عن أمر عظيم كقول الشاعر ** الحرب عن ساق ، وقال ابن جرير عن مجاهد : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } قال : "شدة الأمر وجده".
 وقال ابن عباس قوله : "{ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } هو الأمر الشديد الفضيع من الهول يوم القيامة"
 وذكر العوفي عن ابن عباس قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } يقول : "حين يُكشف الأمر وتبدو الأعمال وكشفه دخول الآخرة" وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاق} يعني عن نور عظيم يخرون له سجداً ).
 وعلى كل حال هذا ذكره ابن عباس وغيره ولا يمنع أن يكون ذلك { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } يعني يكشف الله عن ساقه كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري وهو حديث صحيح قال: ( يكشف ربنا عن ساقه )، وإشكال الناس في ذلك هو من قبيل الإشكال في غير ذلك من الصفات ، والصواب أن صفات الله جل وعلا صفات تليق بجلاله فإذا قيل يكشف عن ساقه فهو ساق تليق بجلاله كما له يد تليق بجلاله ووجه يليق بجلاله، فهذه لا نعلمها وإنما الله جل وعلا يعلمها وما أوتينا من العلم إلا قليلاً ولا نقول إلا كما قال صلى الله عليه وسلم وذلك أنه قال : ( يوم يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ) والله جل وعلا قال : {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إشكال الناس في الصفات حين غيروها أو أولوها أو حرفوها أو عطلوها إشكالهم يأتي من ماذا ؟ يأتي من التعريف اللغوي فيعرِّفون الشيء بتعريفات وضعية هم وضعوها لأن أذاهنهم لا تعرف إلا هذا، نعم لا تعرف إلا هذا فينفونه عن الله جل وعلا مثل مثلاً صفة الغيرة أو صفة الغضب أو صفة الضحك، فيقولون الضحك يعني الرضا، ويقولون الغضب كذا، فيُأولونها، ما الذي يدفعهم لأن يؤلونها ؟ يؤلونها لأجل أنهم حينما يُعرِّفون الضحك يعرِّفونه على معنى ضحك البشر فينفونه عن الله جل وعلا، من قال لكم تعرفونه على تعريف البشر قولوا: ضحك الله يليق بجلاله، قولوا غضب الله يليق بجلاله.
 يقول الله جل وعلا عن هؤلاء : {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } أي في الدار الآخرة ستكون حالهم كالتالي {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } أي خاشعة من الذل ومن الخوف ومن الرهبة لا ترتفع وإنما هي مطأطئة وذلك أنهم كانوا في الدنيا متعالين ويرفعون أبصارهم ويضعون عينهم في عينك وفيهم من قوة النفس في التكذيب والإصرار والعناد، فيوم القيامة حينما يرون الحقيقة تخشع أبصارهم لكنها تخشع مع أنها ترهقهم ذلة ولذلك الله جل وعلا يقول :{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}.
قال الله جل وعلا :{تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} وذلك للعزة التي كانوا يشعرون بها فهذا من النقيض والضد فعوقبوا بعدم قدرتهم على رفع الرأس ولا الاعتزاز.
 { وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ } قد كانوا يدعون إلى الصلاة وهم معافون سالمون ومع ذلك ما كانوا يسجدون ولا يصلون، وهذا فيه دليل على أن الصلاة من التوحيد، وأنه كما أن توحيد الله جل وعلا هو فرق ما بين المسلم والكافر كذلك الصلاة هو فرق بين المسلم والكافر، فهم يُدعَون إلى السجود وهم سالمون وما كانوا يسجدون ولذلك يوم القيامة إذا دُعوا إلى السجود فإنهم يأتون ليسجدوا فلا يسجدون لأنهم لم يكونوا يسجدون في حياتهم الدنيا، فكلما أراد أحدهم أن يسجد جعل الله ظهره طِبقاً واحداً فيخر على قفاه.
قال الله جل وعلا -وهذا تهديد عظيم بليغ- قال الله جل وعلا -والمهدد ليس لا ملك ولا عسكري ولا شرطي ولا أب ولازوج ولا من بيده وظيفتك ولا شيء- هذا الذي يهدد هو الذي بيده نفَسَك إذا أراد أن يحبسه حبسه، والذي في يده قلبك إذا أراد أن يوقفه أوقفه، والذي في يده صحتك إذا أراد أن يسلبها سلبها، والذي في يده الكون إذا أراد أن يقلبه قلبه، وإذا أراد أن يُهلك كل ما في الأرض أهلكهم، أمره كن فيكون هو الذي خلق وبيده الأمر، ييده الأمر وإليه يرجع الأمر كله.
 يقول سبحانه :{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيث} يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم إن كانوا كذبوك، إن كانوا ما أطاعوك، إن كانوا استعصوا عليك، إن كانوا سخروا بك، إذا أذاقوك العذاب في الدنيا مما يرون إنه عذاب فإنهم لا يملكون ذلك لأن الله جل وعلا هو الذي يحميك الله جل وعلا يقول : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} فأنت محمي من رب العالمين ومن الحماية أن الله جل وعلا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم كما تقولين إذا أحد شكى لك أحد تقولين اتركه علي، وبقدر ما يكون عندك من القوة يكون عند من تقولين له ذلك من الارتياح، يعني لو جئتي لأحد وقلتي له أتركه علي وهذا وأنت ذات بطش وقوة وسلطان وأمر وهذا إنسان ضعيف مسكين محتاج يرتاح أو لا ؟ يرتاح، هذا وأنت بشر مثلك مثله يمكن تموتين ما حققتي ما وعدته به، أما الله جل وعلا فإنه مالك، الملك العزيز الجبار، المتكبر، الكبير، العلي القدير، الشديد شديد العقاب سبحانه وتعالى.
 قال :{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ } يعني القرآن والوحي والوعد والوعيد الذي أنزله الله جل وعلا على نبيه صلى الله عليه وسلم وآمن به وصدقه وآمن به من تبعه وصدقه قال :{ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ } يعني أن الله جل وعلا يهدد هؤلاء تهديداً شديداً ويعلم كيف أنه كيف يعذبهم، ويعلم كيف يعاقبهم، لكنه سيستدرجهم إستدراجاً قال :{ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ } أي وهم لا يشعرون وربما يعتقدون أنهم في كرامة أو يقول الله جل وعلا: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا } فمن أنواع الاستدراج أن الله جل وعلا يملي لهم يعني يمهلهم -الإمهال- هذا من الاستدراج، ومن الاستدراج النعيم، ومن الاستدراج أن لا ينبهك أحد ولا يعاقبك أحد ، يعني أهل الإسلام إذا أخطأوا عاقبهم الله جل وعلا لأنه لا يريد أن يستدرجهم بل يريد أن يردهم إليه فهو لا يستدرجهم وإنما يريهم من عقوبات أفعالهم في الدنيا يريهم لعلهم يرجعون، وأما أولئك فإن الله جل وعلا يستدرجهم يعجل لهم طيباتهم ويستدرجهم فيها حتى يوغلوا في الكفر فإذا أراد الله سبحانه وتعالى إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يقبضهم، أو أن يأخذهم أخذهم ثم عذبهم عذاباً شديداً إذا أخذ الله العبد الظالم لم يفلته.
 قال الله جل وعلا: { وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } من أنواع الاستدراج يقول الله جل وعلا يقول الله جل وعلا :{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ ۚ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} قد يكون ذلك إمداد بأموال وبنين، ويقول الله سبحانه وتعالى هنا: {وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} يعني عظيم لمن خالف أمري وكذّب رسلي واجترأ على معصيتي ، في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الله تعالى ليملي للظالم حتى أخذه لم يفلته ) ثم قرأ صلى الله عليه وسلم {وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} يعني إذا أخذ لم يُفلت سبحانه.
 قال الله جل وعلا :{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ } هل أنت تسألهم أجراً على توحيدهم وعبادتهم تطلبهم مال؟ أبداً.
هل أثقلتهم بطلب مالهم {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}
{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُون} هل عندهم غيب يكتبونه ويُملَى عليهم أو يدرسونه في كتب قبلها؟ ليسوا كذلك.
 فيُعزي الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم إذ كذبوه فيقول :{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } اصبر لحكم ربك يا محمد، اصبر على قومك إذ كذبوك، وإذ وضعوا في طريقك ما يؤذيك، اصبر على ذلك فإن الله سيحكم لك ويجعل لك العاقبة أنت ومن تبعك.
 وما إن خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة حتى عاد فاتحاً بعد ثمان سنين بجيوش جرارة لا قِبَل لهم بها.
 قال الله جل وعلا :{ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ }
قال :{ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ} يعني ذا النون يونس بن متى، ومن هذا نستفيد فائدة وهي: أنه إذا كان يُثرَّب على أحد فعل فعلاً يُذم به أو ينتقد به أن لا يُذكر اسمه، ولذلك كان الصحابة لا يذكرون المُبهمين من الذين قد يقع في نفوس أحد عليهم شيء ولذلك قال :{كَصَاحِبِ الْحُوتِ} ولم يقل كيونس مع أنه جاء ذكر يونس باسمه الصريح في سور أخرى. والنبي صلى الله عليه وسلم قال :( لا ينبغي لا تفضلوني على يونس أو لا ينبغي لأحد أن يقول إني خير من يونس بن متى ) وذلك من تواضعه صلى الله عليه وسلم أو لأجل أن الله جل وعلا لم يخبره بعد أنه سيد ولد آدم.
 قال الله جل وعلا: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} وذلك أن يونس حين ذهب مُغاضباً على قومه كان من أمره ما كان من ركوب في البحر وإلقاء نفسه فيه والتقام الحوت له وشرود الحوت به في البحار حتى رجع وسبَّح ربه تسبيحاً كثيراً في البحر { فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ} بأي شيء نادى؟ { أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } وهذا نداء المضطرين، ونداء المخبتين، ونداء الراجعين إلى الله، ونداء التائبين إلى الله، قال الله جل وعلا :{فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وما كان ذلك من يونس اعتراض على الله جل وعلا، ولا نقص إيمان فيه، وإنما ضاق ذرعاً بتكذيب قومه فما استطاع أن يتحمل هذا التكذيب فكان منه ما كان فقال الله جل وعلا :{فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ}.
قال ابن عباس في قوله :{ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ} قال وهو مغموم، قال عطاء : مكروب وقد ذكرنا قصته في سورة الأنبياء حينما فسرناها.
 قال الله جل وعلا :{لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهوَ مَذْمُومٌ} أي إن الله جل وعلا تداركه بنعمته فأخرجه وأنجاه، وإخراجه من اليم حين أُخرج أنبت الله عليه شجرة من يقطين، ويُذكر أنه أصابه من بطن الحوت رقة في الجلد حتى أصبح هذا الجلد لا يتحمل جفاف الجو فنبتت عليه هذه الشجرة وداواه الله جل وعلا بها، يعني يقولون : إن ذلك من أفضل يعني يذكرون في هذا -والله أعلم هذه مسائل تحتاج إلى نظر وبحث- إن اليقطين له دور عظيم في رد الجلد أو حفظ الجلد وعلاجه، وكذلك تقوية العظم وبنائه على ما جاء فيما أمر الله سبحانه وتعالى أو أنبت على يونس بن متى.
 قال الله جل وعلا: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } يعني أي إن الله جل وعلا اختاره واختصه بما كان عنده من الإيمان وقرب الاستغفار والتسبيح والتهليل ، وذِكر الأنبياء هنا يعطينا تنوّع، يعني هناك من الأنبياء من لم يُذكروا ولكن هؤلاء الأنبياء الذين ذُكروا كل واحد منا يمكن أن يمُرّ بما مرّ به النبي، يعني هذا نبي وأخطأ خطأً فتاب إلى الله جل وعلا فقبِل الله جل وعلا منه وأعطاه النبوة قال :{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} فالله جل وعلا أكرمه وأعطاه النبوة وهو تائب ، كذلك موسى وكز رجلاً وقضى عليه فأعطاه الله جل وعلا النبوة لما تاب، وهذا يمكن ذكرنا شيئاً منه في قصص الأنبياء التي مرت بنا.
 قال الله جل وعلا :{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ* وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } وهذه الآية دليل على إثبات الحسد وهو الإصابة بالعين فهم من حسدهم وبغضهم لك يكاد أحدهم أن يصيبك بعينه، بل إنهم كانوا يأتون بالحاسد ليحسد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان منهم من يحسد وحتى إنه لتمر الناقة من عند خبائه فيقول لغلامه -إذا نظر إليها ورأى عِظم سنامها- قال لغلامه : اذهب بهذا المكتل واتبعها وأتنا بشيء من لحمها، فما أن تتعدى حتى تسقط لأنه له عين شديدة يصيب بها فيذبحها صاحبها ويجعلها للناس فيأخذ من لحمها وشحمها ويأتي به، من ثقته بإصابته والله جل وعلا يقول :{ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : (لا رقية إلا من عين أو حُمَة أو دم لا يرقى ) وجاء في مسلم عن ابن عباس قال : قال صلى الله عليه وسلم : ( العين حق ولو كان شيء سابق للقدر سبقت العين وإذا استُغسِلتم فاغسوا ) يعني لو قال لك أعطني غسلك أغسل هذا أمر وجوب عليك، بعض الناس إذا قالوا له اغسل قال ليش ماذا بك عينك كذا، لا.. يجب أن تغسل.
 وقال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعوِّذ الحسن والحسين يقول : ( أُعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ) ويقول: (كان هكذا كان إبراهيم يعوذ إسماعيل واسحاق عليهما السلام ) فهذا استفيد به أنه مهما كان عند الإنسان من شرور تحيط به ويُخشى أن يصاب بالعين فإن التعويذ يحميه بإذن الله جل وعلا فيقول : أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى يأتيه جبريل فيقول : (بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل حاسد وعين والله يشفيك) قال صلى الله عليه وسلم : ( العين حق )، ولما شكت أسماء بنت عميس للنبي صلى الله وسلم - تعرفون أسماء بنت عميس كانت زوجة جعفر وكان عندها تحتها أبناء جعفر وتزوجها بعد ذلك أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه - فكانت تقول : يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم قال: ( نعم فلو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين )، وكان أيضاً صلى الله عليه وسلم يقول :( استعيذوا بالله فإن النفس حق ) .
وكيف يؤمر العائن أن يتوضأ ؟ كان يؤمر أن يتوضأ ويغسل أو يمسح داخلة إزاره، وداخلة إزاره يعني ما تحت السرة، أو داخلة الإزار هي  لباسه الداخلي يعني الشعار فيغسله ويضعه في هذا الماء ويغتسل به المعيون حتى يبرأ.
 وقد جاء في حديث سهل بن حنيف قال : (عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن أباه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو مكة حتى إذا كانوا بشعب الخِرار من الجحفة اغتسل سهل بن الأحنف وكان رجلاً أبيض حسن الجسم والجلد فنظر إليه عامر بن ربيعة أخو بني عدي بن كعب وهو يغتسل فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة - حتى العذراء التي في خبائها ما مثل هذا البياض - فلُبط - يعني سقط  سهل من طوله - فلُبط سهل فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له يارسول الله هل لك في سهل والله ما يرفع رأسه ولا يفيق قال: هل تتهمون فيه من أحد ) [٢] الحديث ذكروني به لأنه خلصنا وصلى الله وسلم على نبينا محمد .
------------------------------
١- {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ ۚ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } [الأحقاف:١١]
٢- وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف - رضي الله عنه - قال : رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل ، فقال : والله ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة . قال : فلبط سهل ، فأتي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له : يا رسول الله ! هل لك في سهل بن حنيف ؟ والله ما يرفع رأسه . قال : " هل تتهمون له أحدا " . فقالوا : نتهم عامر بن ربيعة . قال : فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عامرا ، فتغلظ عليه ، وقال : " علام يقتل أحدكم أخاه ؟ ألا بركت ؟ اغتسل له ) . فغسل له عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ، ثم صُب عليه ، فراح مع الناس ليس به بأس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق