الثلاثاء، 1 أكتوبر 2024

تأملات تربوية مع سورة التحريم

بسم الله الرحمن الرحيم

( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12))

بدأت السورة بنداء محبة وتحذير ومعاتبة مما يقع في بيت النبوة للحرص على عدم استمرار وقوعه كي لا يقع التأثير الكبير على المجتمع الإسلامي جراء ما حدث، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة والمعلم والمربي ومحل نظر جميع المسلمين وأهل بيته أيضاً المثال والقدوة التي يتعلم منها كل معاملات الحياة لما اتصف به هذا البيت من رقي القيم والأخلاق المحمدية .

فجاءت السورة تعاتب وتلوم وتحذر زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم مما وقع منهن اتجاه النبي العظيم والزوج الكريم الذي يجب أن تحرص كل واحده منهن على حفظ سره وأمانته ولا تغفل عن الله سبحانه وتعالى لإتباع هوى النفس ومكنوناتها .

لذا دارت السورة في حواراتها وتصوراتها حول الزوجات رضي الله عنهن وضرورة إصلاح ما في نفوسهن والعودة والإنابة الدائمة إلى الله وعدم النسيان للمكانة الخاصة التي اصطفاهن الله لحملها والرفعة بها، وأن لا يكن من وراء مظاهرة الرسول صلى الله عليه وسلم والقسوة عليه والسبب من وراء منعه على نفسه مما أحله الله له لإرضاء أنفسهن وإلا ستكون العاقبة بخسارتها واستبدالهن بنساء خيرن منهن .

فريقان من النساء مضرب المثل 
جاءت لتذكر وتصف حال فريقين من النساء أصبحن مضرب المثل للناس بالكفر أو الإيمان، فريق منهن وقعن في الكفر والنفاق، وفريق آخر وقع في الإيمان والهدى، فكانت امرأة نوح ولوط ممن اتصفن بخيانة الأمانة الزوجية وكشف الأسرار التي شاهدنها وعلمن بها في أزواجهن من حمل أمانة الله والدعوة إلى توحيده، ونفي الصلاح عن أنفسهن أو التعلم من أزواجهن الصالحين طمعا فيما عند الكافرين من زينة الدنيا وبهرجتها فكن ممن يقال لهن أدخلا النار مع الداخلين .
أما فريق المؤمنات فكانت امرأة فرعون ومريم ابنة عمران عليهما السلام، اتصفن هؤلاء النساء بالصبر والمجاهدة والحفظ لدين الله وأمانته، و بالطهارة والإحصان للنفس ، وأخذ الحذر والابتعاد والتجنب لكل ما يوقع الفتنة وطلب النجاة من الله وحده مع التصديق الحق بكل ما جاء من عند الله فكن من القانتات لربهن الطامعات بما عنده المتعلقات بمناجاته ورحمته، فاستحققن الرفعة والاصطفاء وأن يكن مثل الإيمان الحق وخاصة للنساء.

تساؤلات 
ما علاقة هؤلاء النساء بزوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهن أمهات المؤمنين وخير النساء وأطهرهن ؟
المرأة طبيعتها الفطرية الانفعالية تجعلها في لحظات ذلك الانفعال تغفل عن الله وتميل لهوى ذاتها وغيرتها الطبيعية وخاصة فيما يتعلق مع الزوج وعند وجود التعدد، فما وقع من نساء الرسول كان بدوافع الفطرة النفسية والانفعالية التي تميل للغيرة بسبب شدة المحبة لذاته صلى الله عليه وسلم، الزوج الكريم الذي تتمناه كل امرأة زوجا لها، وكون نساء الرسول صلى الله عليه وسلم قد خصصن بشيء لم يخصص لباقي نساء العالمين بدخولهن في بيت النبوة ليكنّ القدوة والمثال المحتذى لجميع نساء العالمين، كان يجب تذكيرهن بقصة وحال هؤلاء النساء سواء من وقعن بفتنة الهوى والنفس فوقعن بالخيانة وكشف السر، أو بالمؤمنات الصالحات القانتات اللواتي حفظن أمانة الله وصبرن صبراً عظيما لأجل كلمة الله .
ولعل الإشارة إلى أن استبدالهنّ إن وقع طلاقهنّ من الرسول صلى الله عليه وسلم سيكون بآسيا ومريم يوم القيامة، أو بشبيهاتهن ومن اتصفن بأخلاقهنّ وعلو مرتبتهن، فليحرصن على الاقتداء بهن والتعلم مما كن عليهن هؤلاء النساء العظيمات، وخاصة أن السورة جاءت بالتهديد لهن بذلك الاستبدال إن لم يتبن.

صفات النساء اللاتي وعد الله باستبدالهن لنبيه صلى لله عليه وسلم 
( مسلمات، مؤمنات، قانتات، تائبات، عابدات، سائحات، ثيبات، أبكارا ) وهذه من صفات أسيا عليها السلام والتي كانت ثيبا واتصفت بكل تلك الصفات، وصفات مريم البكر الطاهرة الزكية والتي اتصفت أيضاً بكل تلك الصفات. فهل أسيا ومريم هن من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ؟

مواقعه الحدث في بيت النبوة 
مكيدة وتدبير يحدث في بيت النبوة بدوافع الغيرة الزوجية، اثنتان من نسائه عليه الصلاة والسلام، يكدن له أمراً حتى يمتنع عن فعله بسبب ما يدخل ذلك الفعل على قلوبهن من الغيرة والألم النفسي، وبدوافع المحبة والاصطفاء بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنفسهن، وغفلن أمام ضعف النفس ودوافعها أن الله عليم خبير بما أخفين سرا عن النبي عليه الصلاة والسلام، فوقع ما كدن به وخططن له فمنع الرسول على نفسه ما أكرههن مع القسم عليه باليمين أن لا يعود إليه، فهنا وقع المحظور والممنوع، مع طلبه صلى الله عليه وسلم لمن أخبرها ألا تحدث به أحدا وأن تبقي ذلك سراً ما بينه وبينها كي لا يتسرب للناس، أو يسبب الأذى الذي سيلحق بالزوجة التي تمت المكيدة ضدها.
لكن شدة الانفعال بالسعادة بتحقق ما مالت إليه النفس، جعل زوجه التي حدثها بكتمان سره أن تبادر وتسارع لصاحبتها لتخبرها بالخبر السعيد وتحقق الهدف بنجاح، طالبة من صاحبتها بعدم الإخبار والحديث بهذا الأمر وإبقائه سراً بينهما .
ولكن سرعة الإنباء والإخبار السماوية التي غفلت عنها قلوبهن، قد أفشلت ما كدن له وكشفت ما أخفين من أسرار، فنزل الوحي مخبرا عن ربه لنبيه صلى الله عليه وسلم بتفاصيل ما حدث، فلا بد أن ما أنبأ به الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوقع في قلبه الغضب الشديد والألم النفسيً وخاصة أن ما وقع كان في بيته ومن نسائه، فدخل على إحدى نسائه والتي كانت الشخصية الرئيسية في الحدث، وهي من أسر لها الحديث وأمرها ألا تنبئ به وجعله سرا من أسرار البيت وما يقع بين الزوجين، دخل عليها ورغم شدة غضبه وألمه إلا أنه صلى الله عليه وسلم كان حليماً متزنا في انفعاله وتعامله مع الحدث، وخاطبها برحمة ملمحاً لها بمعرفته بتفاصيل ما كان دون أن يفصح عن كل ما يعلم، فكانت ردة فعلها بما نبأها به تدل على اضطرابها ودهشتها ومفاجأة الخبر لها مما سبب لها شدة في الانفعال من الخوف والقلق ومحاولة الدفاع عن الذات لحمايتها، وذهاب فكرها وظنها أن صاحبتها هي من كشفت الأمر وأخبرت به، ولعلها ظنت بنفسها أنها وقعت فريسة من صاحبتها في هذه المكيدة وغفلت عن ربها وعن زوجها النبي الذي يخبر بالوحي من السماء بسبب ذلك الانفعال الذي أضاع رؤية العقل والمنطق السليم ، فأجابت بسرعة الانفعال والدهشة ( من أنبأك هذا ) فجاء الرد السريع حتى لا يطول ظنها وشكها (نبأني العليم الخبير ) لإعادة عقلها لما غفلت عنه.

إصغاء القلب واستيقاظه
ترى كيف كان حالها وحال صاحبتها عند استيقاظ قلوبهنّ من انفعال ذلك الحدث، وما دار في نفوسهن في تلك اللحظة التي أنبئنّ بها، وكيف شعرنّ اتجاه أنفسهن كونهنّ نساء النبي عليه الصلاة والسلام، ولماذا حدث ذلك في بيت النبوة؟
أسئلة لعلها تراود النفس عند التدبر للحدث، فلا بد أن العقل سيقر بطهارة هذا البيت وتطهير الله الدائم له من أي إثم أو رجس يقع به، كي يبقى البيت النبوي الكريم رفعه الله ليكون قدوة ومثالا للعالمين، فلا بد أن زوجات النبي الطاهرات المطهرات المؤمنات الصالحات القانتات التائبات العابدات السائحات اللاتي وصفن بأعظم القيم والأخلاق قد تألمن كثيرا لما بدر منهن وسارعن للاعتراف بما وقعن منهن، وأصابهن الحياء من الله ورسوله بسبب ذلك الضعف الفطري الأنثوي، ولا بد أن ذلك الحدث قد زاد من أدبهن ورفعة خلقهن وقيمهن ليرتفعن أمام نساء العالمين، فجعل قلوبهن تصغا وتميل إلى الله فأدركن حكمة الله في أمر رسوله وبيته وضرورة بقاء هذا البيت كما يريده الله وليس كما تريد نفوسهن ، فبادرن للقنوت والإنابة والتوبة النصوح الخالصة لوجه الله والتي عزمن على عدم العودة لما كان منهن واخترنّ ما عند الله ورسوله على ما في الدنيا وشهوات النفس وميولها، وزاد حرصهن وخوفهن من الله ورسوله وإدراكهن لعظيم ما حدث عندما سمعن من الله على لسان نبيه إن وقع منهن التظاهر لا قدر الله ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرجن عن الحفظ للأمانة والعهد الزوجي، وعدم وقوع الإصغاء في قلوبهنّ بأن نبيه عليه الصلاة والسلام غني عنهنّ وأنهنّ معرضات أن يخرجنّ من بيت النبوة ويفقدنّ صفة أمهات المؤمنين، والله هو سيده ومولاه ومدبر أموره ومؤيده بجبريل أنيساً وصاحبا ووحيه عن ربه، واختصه بصالح المؤمنين وأفضلهم حفظاً لأمانته وسره واختياره على كل أمر أخر، والملائكة التي تحفظه بإذن ربها من كل أمر ومكروه، ولعل التدرج في الولاية لله والبدء باسم الجلالة على صفة الولاية لله والتأكيد عليها بالضمير، لتعظيم وبيان من يقوم على رعايته وحفظه وبيان مدى الحفظ والرعاية التي يحظى بها نبيه صلى الله عليه وسلم ورفع درجته وقدره ولعلها تخفيف له عن قلبه المحزون لما حصل من نسائه بقرب الله منه وولايته له، وبيان أن الله يسبب له أسباب الحفظ بجبريل وأنسه به وتنزيله الوحي عليه وتبليغه عن ربه، أو هداية الله للمؤمنين وإصغاء قلوبهم لما يدعو له فينصروه ويؤدوه، وإحاطته بالملائكة التي تلازمه بصورة دائمة في حركته وسكونه .
 
تحذيرات الله للمؤمنين
ومن وسط السورة وآياتها يأتي الأمر والخطاب من الله للمؤمنين بضرورة أخذ الوقاية والحماية للنفس ومجاهدتها كي لا تقع فريسة سهلة للوقوع في النار، فالنفس الصالحة التي جاهدت نفسها وأصلحتها ومسكت زمام أمرها وأصبح صاحبها يقودها بأمر ربه، فهذه نفس أفلح صاحبها وتأهل ليقود أسرته وأهله للفوز والنجاة، فالقائد أو المربي الذي يفقد ما يدعو له ولم يكن قدوة ومثال نموذجي لمن حوله لن يصدقه أحد ولن يترك أثرا في نفوسهم ولا يمكن أن ينجح في دعوته لأنه نموذج يناقض نفسه، فليبدأ الإنسان بوقاية نفسه ومعالجتها ثم بأهله ثم مجتمعه حتى يصلح جميع أفراد المجتمع ويعالج من جميع الآفات، فتصلح مؤسساته ومعاملاته ويتقدم في حضارته وعمرانه، فصلاح الفرد ثم الأسرة ثم الجماعة والمجتمع يؤدي للفلاح والنجاة وهذا ما دارت حوله موضوعات السورة وآياتها .

صفة النار ومن عليها :
- وقودها ناس وحجارة وتقديم الناس لأنهم العقلاء الذين كلفوا بحمل أمانة الله وهم المحاسبون عن أعمالهم والذين أنكروا على الله وحدانيته .
- جعل الحجارة حتى تصلا بها جباههم وأجسادهم فعندما يروها أنها لا تعقل ولا تسمع ولا تشعر بما يشعرون به، وأنها تصليهم وتعذبهم عندها سيتذكرون ما ذكروا به في الدنيا، أنها لن تنجيهم من عذاب الله وستكون سبب دخولهم إليها، سيعلمون سفاهة عقولهم وهي تعذبهم وتشوي أجسادهم فيزداد ألمهم وحسرتهم وندمهم .
- عليها ملائكة غلاظ أي لا رحمة ولا شفقة عندهم بل القسوة والجفوة وعدم اللين في أمر 
- شداد مبالغة في قوتهم التي لا ضعف ولا تعب ولا كل ولا ملل فيها 
- طاعة مطلقة لا حدود لها لأمر ربهم، المعصية غير وارده منهم أبداً يتلقون الأمر وينفذون دون جدال ولا نقاش ولا اعتراض ولا تأني ولا تلوي بل يفعلون ما يؤمرون دون تغير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقصان ، يتلقون عن ربهم الأمر فينفذونه بحذافيره وتفاصيله ودقته ، أي بما يتناسب مع ما أراده الله. ليحذر المؤمنين ويحرصوا على عدم ورود هذه النار وليحموا أهليهم منها بالاستمساك بأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
هل هذا الوصف الشديد للنار بصورة مرعبة ومخيفة وتهويل لأمر من عليها حتى يخاف القلب ويرتجف تنبيه لأمهات المؤمنين أيضاً وتذكير لهنّ لما يمكن أن يقع من العذاب وأهواله لو بدر منهنّ التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم والكشف لأسراره وأمانته أو دفعه لفعل ما يناسب أهوائهنّ؟
حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيها أسرار ولا إخفاء عن أمته فهي صفحة واحدة مكشوفة بكل تفاصيلها حتى في خصوصياته وبين أزواجه رضي الله عنهن، لكي تتعلم وتتلقى منه أمته عليه الصلاة والسلام تفاصيل الحياة ومعاملاتها بدء من النفس والعلاقة مع الله وانتهاء بالعلاقات الدولية والخارجية، فوقوع ذلك المنع وإبقائه سراً كاد أن يوقع فتنه لهذا الأمة إن كشف ذلك الأمر بعد أن أنبأت به ولم يعد سراً بين اثنين فقط .

دعوة الله سبحانه وتعالى وأمره بالتوبة النصوح التي ستعود على صاحبها بالآثار التالية :
أولا: تعريف التوبة النصوح: هي القائمة على الصدق والإخلاص والاعتراف بالذنب والندم الشديد والعزم على عدم العودة لما كان والمبادرة لإصلاح الأمر لمن له حق فيه والمسارعة لفعل الطاعات والصالحات من الأعمال وكثرة الاستغفار والذكر لله سبحانه وتعالى 
أثرها على العبد :
- تكفير وستر السيئات مع بقاء القلب معلق بين الرجاء والخوف والإنابة
- دخول جنات تجري تحتها الأنهار .
- عدم الخزي والفضح للذنب أو السيئة بل الستر في ذلك اليوم كما ستره في الدنيا
- نور يستطع ويسعى يتحرك بخفة بين اليدين ومن وسط الصدر وعن الأيمان
- الكلام والقول الطيب ( ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير ) الطمع بالزيادة بما عند الله من النور والمغفرة والرحمة والاعتراف بقدرة الله وعظمته المقدر للأحوال والأمور الصالحة للعباد والصارف للمكارة والأحزان.

ورد خطابان من الله لنبيه في بداية السورة واقتراب نهايتها
- الخطاب الأول ( لم تحرم ما أحل الله لك ) وفي الخطاب الثاني ( جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم )
فالنبوة لا يجوز فيها أن يجتهد النبي أمر التحليل والتحريم للأمور فهو يتلقى عن ربه وهو العليم الحكيم بذلك التحليل والتحريم، واختصاص ذلك التحريم بقوله ( لك ) أنك قد جعلت الأمر خاص بك وسر في بيتك ولم تطلع المؤمنين عليه، لكن الأمر يجب أن لا يستمر لأنك النبي الذي سيُتبع في كل أمر ، فهذه تربية ربانية وتوجيه من الله لنبيه للعدول عن الأمر لعدم وقوع ما هو أكبر وأعظم في المجتمع الإسلامي لو تسرب ذلك الأمر إليهم، علماً أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحرم حلالا فرضه الله بل منع على نفسه ما هو حلال لوجود ضرر منه وربطه بالقسم واليمين.

هل يجوز للإنسان المسلم أن يمنع عن نفسه ويحرم عليها ما هو حلال؟
إن تعمد الإنسان بقصد أن يرد على الله ويستكبر على أمره فهذا ذنب عظيم لا يجوز أن يفعل المسلم، أما إن فعله لوجود ضرر أو عدم راحة ولا محبة فلا بأس في ذلك شريطة ألا ينشره بين الناس ويدعي تحريمه. وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم المبالغة حتى في الطاعة بحرمان النفس مما تستحق وما أحله الله في حديث الثلاثة الذين جاءوا يسألون عن عبادته صلى الله عليه وسلم، فعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها وقالوا : أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له تقدم من ذنبه وما تأخر ؟! قال أحدهم : أما أنا فاصلي الليل أبداً ، وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر أبداً ولا أفطر ، وقال الآخر : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال : ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ) متفق عليه

- الأمر أو الخطاب الثاني لنبيه بقول ( جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ) فيها تحفيز وحرص وبذل للطاقة وأخذ أسباب الحيطة والحذر من هؤلاء الكفار والمنافقين الذين أنكروا نعمة ربهم وجحدوا بها وسعوا في هدم وتدمير كل ما يؤدي لنجاح دعوة الحق والتعلق بالهوى والشهوات والإفساد في الأرض فهؤلاء قال لهم الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (7)
لا تحاولوا تبرير أعمالكم وأفعالكم الفاسدة ولا تقدموا الأسف والندم على ما كان فهذا اليوم للجزاء والمحاسبة لكل ما كان وبدر منكم ضد دعوة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين .

هل هناك علاقة بين الخطابين من الله لنبيه ؟
إن القدرة على الاستمرار في الدعوة والجهاد تبدأ من الانتصار والتغلب على النفس والمجاهدة لهواها وعدم الخضوع لها، فعندما يتحقق ذلك النصر الكبير على النفس والهوى تستطيع أن تنتصر على غيرها ومن يعارض الدعوة ويقوى على نصر دين ربه ، فالله سبحانه وتعالى أمر رسوله بالحفاظ على نفسه وتميزها بعلو القيم والأخلاق وصون أهل بيته والبقاء في أكمل وأحسن القيم والأخلاقية المستمدة من الشريعة التي يحملها ويدعو لها، فعندما يكون بيته مستقرا هادئاً يمثل القدوة الأولى للعالمين وللمسلمين على مدى التاريخ، عندها سيقدر بكل قوة على التحرك للمجاهدة ضد أعداء الدين والكفرة والمنافقين الذين سيحاولون التشويه لذلك البيت والاصطياد لما وقع فيه للصد عن دين الله وإيقاف دعوة الحق .

الفوائد من السورة:
- ضرورة محافظة الزوجة على بيت زوجها وأسراره وعدم الإشاعة لها بدوافع الغيرة أو الانفعال السلبي .
- ضرورة بقاء الزوج كقائد وموجه ومعلم ملازم لأهله وأسرته يعلمهم ويوجههم لما في نجاتهم وصلاحهم وعدم الانشغال عنهم في أمور الدنيا ومشاغلها .
- الأسرة هي الأساس الذي يقوم عليه الاستقرار المجتمعي حيث يبدأ من إنتاج الفرد الصالح وينتهي بالمجتمع الصالح .
- اتخاذ نساء المسلمين أمهات المؤمنين قدوة ومثالا يتعلم منه في كيفية حبهن لزوجهن وحرصهن عل أن يلتزمن بما يأمر من خير ويتعلمن منه ما يقربهن إلى الله، والإقتداء بصفات الإيمان واختيارهن ما عند الله ورسوله على ما تميل له نفوسهن وفطرتهن .
- اتخاذ مريم وأسيا عليهن السلام قدوة ومثالا يحتذي في الصبر والإيمان والتقوى والبذل والتضحية لأجل دين الله، وتعليم النساء لكل الصفات التي تميزن بها ورفعن بفضلها عند الله وتعليمها للأطفال منذ الصغر لتثبت في الشخصية وتلازمها عند الكبر .
- بيان ما بدر من امرأة لوط ونوح من صفات سلبية وسلوكيات أغضبت الله وأغضبت أزواجهن والحذر من الوقوع مما وقعن به .
- اليقين بأن الله يتولى الصالحين وأهل الإيمان ويؤيدهم بنصره كما أيد ونصر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
- ضرورة تقوية الرقابة الذاتية والخوف من الله منذ الصغر لتبقى ملازمة للمسلم عند الكبر .
- أن يتعلم الزوج كيفية التعامل مع المواقف الصعبة والشديدة في البيت وخاصة عندما يقع ما يغضبه من زوجه ويستفز مشاعره، فيحرص على إمساك نفسه وعدم الانفعال الشديد والتفاعل بعنف وغضب وفقدان للسيطرة مما يؤدي لأضرار كبيرة على الأسرة، واتخاذ مواقف الرسول عليه الصلاة والسلام وخُلقه الراقي منهجا يتبع في الأسرة .
- محاربة الكفرة الذين يحاولون الصد عن سبيل الله والغلظة والشدة معهم كي لا يستهان بأمر المسلمين، وعدم التواد أو التعاطف والتجاوب معهم والوقوع أمام مغرياتهم .
- لا يجوز أن يقسو المسلم على نفسه ويحملها فوق طاقتها بالحرمان من باب الطاعة أو إرضاء للغير وخاصة بين الأزواج، فليفعل المسلم ما يطيقه ولا يعذب نفسه، ولا يجوز التحريم الأبدي المتعمد لما أحل الله كما يفعل اليهود الذي يحرمون طيبات ما أحل الله .
- المسارعة للإصغاء والاستجابة لأمر الله ورسوله والتوبة والإنابة إليه سبحانه والالتزام إلى جواره حتى ينال الفوز والنجاة والبعد عن عذاب النار الشديد .
- الانتصار على الذات وهواها يقود للانتصار على أعظم الأعداء وأقواهم ويبني أمة قوية.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق