الأحد، 9 أكتوبر 2016

تفسير المفصل (سورة التين) / الشيخ محمد بن علي الشنقيطي


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 الحمد لله رب العالمين الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء ، والظاهر الذي ليس فوقه شيء ، والباطن الذي ليس دونه شيء ، والقوي الذي لا شيء أقوى منه ، والعلي الذي لاشيء أعلى منه ، والعليم الذي لا شيء أعلم منه
{ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } 
{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } 

هو أحقّ من ذُكِر، وأحقّ من عُبِد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئِل، وأوسع من أعطى، هو الملك لا شريك له والفرد لا نِد له { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه } لن يُطاع إلا بإذنه ،ولن يُعصى إلا بعلمه، يُطاع فيشكر، ويُعصَى فيغفر، أقرب شهيد وأدنى حفيظ ، حال دون النفوس وأخذ بالنواصي، وكتب الآثار ونسخ الآجال، القلوب له مفضية والسر عنده علانية ، الحلال ما أحل والحرام ما حرم ، والدين ما شرع والأمر ما قضى، والخلق خلقه والعبيد عبيده، وهو الله الرؤوف الرحيم وهو الله العلي العظيم
{ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم }
 وأصلي وأسلم وأبارك على سيدنا ونبينا وحبيبنا وشفيعنا وقائد مسيرتنا محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأحبابه ومن اهتدى بهديه واتبع سنتة إلى يوم الدين، بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغُمة فجزاه الله عنا وعن أمته خير ما جازى نبياً عن أمته ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين فنِعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله أرسله رحمة للعالمين، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، فأظهر الله به الدين وأعزّ به الإسلام والمسلمين ، اللهم صلي وسلم وبارك عليه واجعلنا من خيار أمته أحياء وميتين ، ثم أما بعد ..
معاشر المؤمنين والمؤمنات، والمشاهدين والمشاهدات، والمستمعين والمستمعات، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته ...
 مازلنا وإياكم مع تفسير القرآن وقد وصلنا إلى سورة{ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ } وهي من قِصار المُفصّل، وهي سورة مكية وقد افتتحها الله جل جلاله بالقَسَم بأربعة أقسام:
 القسم الأول: بالتين
والقسم الثاني: بالزيتون
والقسم الثالث: بطور سينين
والقسم الرابع: بالبلد الأمين
 أربعة أقسام على ماذا ؟ 
على أي شيء يُقسم ربنا جل جلاله ؟
 وما العلاقة بين القسم والمُقسم عليه ؟ 
وما العلاقة بين السورة والتي قبلها والتي هي بعدها ؟
 إن أول سورة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هي فواتح العلق { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم } هذا أول ما نزل من القرآن ، أين نزل ؟ في رأس جبل، أي جبل ؟ جبل ماذا ؟ جبل حراء ، أين هو هذا الجبل ؟ بمكة بالبلد الأمين أليس كذلك ؟
هل البلد الأمين منطقة زراعية ذات نباتات مختلفة أم واد غير ذي زرع ؟ بواد غير ذي زرع { إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } وإذا ذُكِر الوادي عُلم أن ثمة جبال لأن الأودية تكون بين الجبال أو بين المرتفع من الأراضي، إذاً هنا مرتَفع ومنخفَض والإرتفاع والإنخفاض طبيعة الأرض منها مرتَفع كالجبال ومنخفَض كالأودية، في الوادي البيت الحرام وفي المرتفع نزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم في قمة جبل حراء .
هذه السورة { اقْرَأْ } الخطاب فيها موجه لمحمد صلى الله عليه وسلم هذه بعد سورة التين
 طيب قبلها { وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } الخطاب موجه لمن ؟ محمد صلى الله عليه وسلم
 { أَلَم نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك } الخطاب موجه لمن ؟ لمحمد صلى الله عليه وسلم .
 نرجع لهذه السورة المكية بإجماع إلا قول لبعض العلماء إنها مدنية وهو قول شاذ لا عبرة به .
فنرجع لهذه الأقسام والتين والزيتون ونأتي لكلام العلماء في هذا القسم فنقول : هل المراد بالتين هو التين نفسه الذي يؤكل والزيتون الزيتون الذي يُعصَر ؟ أم أن المراد بالتين الفواكة كلها والزيتون كل النباتات الأخرى التي يؤتدم كالزيتون وغيره ؟ أو أن المراد خالق التين وخالق الزيتون ؟ أو أن المراد مكان نبات التين ومكان نبات الزيتون ؟ 
نأتي للتحليل فنقول : إذا كان المراد بالتين هو التين نفسه والزيتون هو الزيتون نفسه فلا عبرة بالأماكن فالقَسم بالتين حيث وُجد، وبالزيتون حيث وُجد لأن التين ينبت في أماكن كثيرة من الأرض والزيتون ينبُت في أماكن كثيرة من الأرض، والتين أنواع والزيتون أنواع وما أقسم الله بهما إلا لخيرٍ وبركةٍ فيهما ، من هذا القول نفتح صفحة على الطب ونقول مافائدة التين وما فائدة الزيتون ؟
 فنجد أن التين من أعظم الفواكة فوائد لجسم الإنسان، التين من أعظم الفواكه فوائد صحية لجسم الإنسان ولذلك ذُكِر قبل الزيتون وقد أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم طبق من التين فأكل منه وأكل الصحابة وقال : ( هذه ثمرة تشبه ثمار الجنة ) الجنة ثمارها تؤكل كلها ليس في الجنة ثمرة يُرمى منها شيء، تجد الثمار عندنا في الدنيا كلها يُرمَى منها، لو أخذت الموز نزعت القشر ورميته وأكلت، لو أخذت التفاح جاءك البذر بداخله، لو أخذت البرتقال الجلدة نزعتها ورميتها، لو أخذت التمر لأكلت ورميت النوى، إلا التين فلا يُرمى منه شيء حتى الزيتون يُرمى نواه تُرمى منه النواة، لكن نأخذ التين كثمار الجنة يؤكل كله.
 لو أخذنا التين لوجدنا أنه ينقسم إلى قسمين أساسيين : التين الجديد الطازج والتين المجفف، فتأكل منه طازجاً في زمنه وتأكل منه مجففاً في غير زمنه فشابَه التمر يؤكل رطباً ويؤكل أيضاً يابساً، فأصبح التين معك طِوال العام كما أن التمر معك طوال العام ،كما أن الزيتون معك طوال العام، تعصره زيتاً وتأكله رطِباً ، إذاً التين هذا من فوائده الطبية أنه يعين على صِحة الجسم بصفة عامة ويزيد من نسبة الأشياء التي تعين على الهضم وهو ما يسمى بالسيليلوز يعني هذه المادة أكثر ما توجد في التين فتخرج جميع الاخلاط في البطن وتقتل الديدان في البطن ومعينة على الصحة التين .
 أيضاً التين هو الشجرة التي ورد في الأثر أن آدم عليه السلام أخذ هو وحواء من ورقها فطفقا يخصفان عليهما من شجر الجنة، ورد أن شجر الجنة الذي خصف منه آدم وحواء هو شجر التين .
 أيضاً التين ينبت على أنواع، فيه التين الأصفر وفيه الأسود، وفيه بألوان أخرى وأشكال أخرى وأطعام أخرى، فيه البري صاحب الشوك وفيه المدني الذي لا شوك فيه، كل ذلك داخل في عموم التين .
 والتين من الناحية الطبية ابحث عن فوائده فستجد أن ما قلته قليل مما هو معلوم حتى الدم ونقص الدم يفيد فيه التين حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه علاج للبواسير، من أصيب بالبواسير يأكل التين فهو يعالجها ويقطع القُرَح كلها في الجسم .
الزيتون فيه زيت وفيه زيتون ، الزيتون الثمرة نفسها والزيت الذي يُعصَر منها قال أهل الطب : "يعالج الزيتون وزيت الزيتون سبعين داء في جسم الإنسان " ومن أفضل العلاجات ضد الشياطين الزيت والزيتون وذلك أن الله عز وجل تجلى على الجبل { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } وكان على هذا الجبل شجرة الزيتون فأصبح في هذه الشجرة نور من الله عز وجل، وذكر الله في ذلك آية النور فقال تعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ } الشجرة هذه تختلف عن سائر الشجر، مباركة ، ماهي ؟ { زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُور } .
وأيضاً قيل أن شجرة الزيتون هي الشجرة التي آنس موسى عليه السلام النار فيها تشتعل قال : { إِنِّي آنَسْتُ نَارًا } فلما وصل إلى الشجرة المباركة بالجهة الغربية من جبل الطور وجدها شجرة زيتون تشتعل فيها النار وهي خضراء .
 والنيران ثلاث النيران التي خلقها الله ثلاث:
/ نار مضيئة محرقة وهي نار الدنيا
/ ونار مظلمة محرقة وهي نار جهنم
/ ونار مضيئة باردة غير محرقة وهي النار التي رآها موسى عليه السلام { إِنِّي آنَسْتُ نَاراً } هذه النار التي كانت على شجرة الزيتون وهي الى النور أقرب منها إلى النار لأنها باردة . { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون } من الناحية الطبية حدِّث ولا حرج .
 نرجع فنقول التين والزيتون من ناحية المنشأ ما معناهما ؟ 
من هنا جاءت طائقة من العلماء وقالت :
/ أقسم الله بالتين والمراد بلاد التين والزيتون، والمراد بلاد الزيتون، وطور سينين والمراد البلد الذي فيه طور سينين، وختم بالبلد الأمين الذي هو مكة. كم بلد الآن ؟ أربعة هذه البلاد الأربعة مرتبطة بالوحي، فأول وحي نزل من عند الله نزل في بلاد التين.
 وأين هي بلاد التين ؟ اختلف العلماء بالمراد ببلد التين على قولين:
 القول الأول: أن المراد به العراق وهو أول وحي نزل من الله عز وجل نزل في أرض العراق على نوح عليه السلام حيث أستوت أيضاً سفينته بالجودي وجبل الجودي يعرف الآن عند الأكراد بجبل التين لكثرة وجود التين عليه وعليه مسجد وهو مسجد نوح عليه السلام بُني المسجد على هذا الجبل، فتكون هذه أول رسالة فذكر الله أول رسالة وذكر المكان بصفته التين .
 الزيتون منطقة الشام فيكون العراق أولاً وفيه مِن الأنبياء نوح وإبراهيم اثنين من أولي العزم من الرسل.
 ثم الزيتون من فيه ؟ جميع أنبياء بني إسرائيل ما عدا موسى عليه السلام ويونس بن متى عليهما الصلاة والسلام، يونس في العراق وموسى في مصر، بقيت بني إسرائيل جميعاً في بلاد الشام، فيكون الزيتون منطقة الشام كلها بما فيها فلسطين بما فياه دمشق بما فيها بقية الشام كلها. إذاً التين العراق، الزيتون الشام ، طور سينين مصر وهناك موسى عليه السلام، وهذا البلاد الأمين مَن ؟ محمد صلى الله عليه وسلم.
 أصحاب هذا القول قالوا : ذكر الله التين والزيتون ثم قال : { وَطُورِ سِينِينَ* وَهَـذَا الْبَلَدِ } فدل على أنه أراد البلاد لقوله
{ وَهَـذَا الْبَلَدِ } فالعطف يدل على أن المعطوف مناسب للمعطوف عليه فلما ابتدأ بالتين - بلد التين - ثم الزيتون - بلد الزيتون - ثم طور سينين - بلد طور سينين - ثم ختم (وهذا البلد الأمين) بلد ثلاثة من الأنبياء من هم ؟ مكة من كان فيها من الأنبياء ؟ ثلاثة ، من يذكرهم ؟ إبراهيم عليه السلام، إسماعيل عليه السلام ، محمد صلى الله عليه وسلم وختم بهم .
عندما قال : (التين) دخل إبراهيم في البداية، وعندما قال : (الزيتون) دخل إبراهيم لأنها دار هجرته الشام ، عندما قال : (طور سينين) دخل إبراهيم لأنه راح مصر ورجع، عندما قال (وهذا البلد الأمين) دخل إبراهيم فأصبح إبراهيم داخل في الاأقسام الأربع، في البداية من أين بُعث ؟ من العراق
 إلى أين هاجر ؟ الشام ومنها إلى مصر ومن مصر عاد إلى الشام ومن الشام أتى إلى هذا البلد الأمين فهو مؤسسه هو أول من أسس مكة { وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْت } إذاً جاءنا إبراهيم في الأقسام الأربعة واحد.
 جاءنا نوح في القسم الأول ، جاءنا عيسى في القسم الثاني جاءنا موسى في القسم الرابع ، جاءنا محمد صلى الله عليه وسلم في كم قسم ؟ في الأخير وفي الثاني، كيف الثاني ؟ { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى }.
ننظر الآن ماهي البقاع الأكثر قَسَماً في هذه ؟
(والتين) العراق مرة واحدة .
(والزيتون) الشام وفيه الأنبياء جميعاً وهو هجرة إبراهيم وهو مسرى محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم (طور سيناء) بِعثت موسى عليه السلام.
ثم (البلد الأمين) هجرة إبراهيم عليه السلام، بناية إبراهيم ، دار إسماعيل ، مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أصبح الأكثر ماهو ؟ البلد الأمين ، ومن هنا كان القَسم بالأماكن من باب الأشرف ثم الأشرف منه فيكون على حسب التفضيل، فأفضل البقاع على وجه الأرض مكة لأن الله ختم بها وختم بها باسم الإشارة "هذا" وهذا تفيد القُرب والمُشير رب العالمين (هذا البلد) إذاً هذا البلد أقرب البلاد وأحب البلاد إلى الله، ما الدليل ؟ شهادة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة لما خرج من مكة نظر إليها نظر إلى مكة وقد خرج قال : ( والله إنك لأحب البقاع إلى الله ) قَسَم ( والله إنك لأحب البقاع إلى الله ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت ) هذا اعتذار لمكة ، النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر لمكة وهو يفارقها مهاجراً عنها أنه ما هاجر عنها من كراهية، ما خرج منها من بغضاء لها بل يحبها و يعلم أنها أحب البقاع إلى الله سبحانه وتعالى . إذاً هذا التأويل الثاني أو التفسير الثاني أن المراد الأماكن واضح .
التفسير الثالث : أن المراد هو رب الأماكن { وَالتِّينِ } أي ورب التين { وَالزَّيْتُونِ } أي ورب الزيتون {وَطُورِ سِينِينَ} أي ورب طور سينين { وَهَٰذَا الْبَلَدِ } أي ورب هذا البلد، فالمُقسم به في الأربعة أحوال من ؟ واحد من هو ؟ رب العالمين ، نسبة التين إليه والزيتون إليه وطور سيناء إليه والبلد الأمين إليه دلت على فضلٍ لهذه المنسوبات لأن كل شيء منسوب لله ينال فضلاً { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ }، إذاً هذا البيت يختلف عن سائر البيوت لأنه منسوب للرب جل جلاله، { نَاقَةَ اللَّهِ } هذه الناقة تختلف عن سائر النوق لأنها نُسبت إلى الله، فعلى احتمال أن المقسم به الرب رب التين ورب الزيتون ورب طور سيناء ورب البلد الأمين الرب سبحانه وتعالى إنما يُعرَف بعطاءاته وأفعاله جل جلاله فعطآءاته لأهل هذه البقاع المذكورة أعظم من عطاءته لسائر أهل الأرض، فما أعطاه الله لأهل أرض العراق في عراقهم، ولأهل الشام في شامهم، ولأهل مصر في مصرهم، ولأهل الحجاز في حجازهم، لم يُعطِه الله لأي بلد كائناً ما كان .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } ماذا فعل ؟ كيف تعرفونه ؟ { الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} إذاً الأرض قطع متجاورات لكن هل هي متساويات ؟ لا، فضّل بعضها على بعض فأفضل بقاعها ما احتوت هذه الأماكن ، ما بين بِعثة وهجرة فهذه الأماكن ما بين مكان بُعث فيه نبي ونزل عليه وحي ونزل عليه كتاب من الله، أو بين دار هاجر إليها نبي فأمَّنته وآمنت به .. واضح وهذه كله من فعل الرب جل جلاله .
 ثم نأتي للتفصيل: { وَالتِّينِ } ورب التين ، لو نأخذ واحدة تينة ثم نفتحها كم بداخلها من البذور ؟ في أحد يقدر يعدها؟
 التمرة تجد فيها نواة وحدة، الزيتونة نواة واحدة، لكن التينة كم حبة ؟ وهل تعلم أن كل بذرة من هذه تنبت شجرة تينة لحالها، إذاً التينة الواحدة كم فيها من البذوز، وكل بذرة تُنبت شجرة، وكل شجرة تُنبت كم من التين، وكم من التين فيه بذور؟ أصبح كم في كم في كم من النِّعم لله جل وعلا في التينة الواحدة ؟ واضح لكم { وَالتِّينِ } يعني لما تأخذ التينة الواحدة هذه فيها من الدلالة على ربوبية الله ولطفه وكرمه ما لا يحصيه عدّ. هذا يدفعنا لأربع كلمات:
 الكلمة الأولى : إيجاد
والكلمة الثانية : إعداد
والكلمة الثالثة : إمداد
والكلمة الرابعة : إرشاد
والكلمة الخامسة : إسعاد
 فلنأخذ واحدة تينة وننظر للكلمات الخمس:
 / التينة والإيجاد من أوجدها ؟ الله.
/ التينة والإعداد من أعدها بهذا المستوى وبهذا الشكل ؟ الله.
/ التينة والإمداد من جعل فيها إمدادها بداخلها الإمداد الذي يمدها فلا تنقطع لو لم يكن بداخلها النوى الذي تنبت منه كان انتهت لكن بداخلها الإمداد.
/ والإرشاد من الذي أرشد الإنسان أن يأكلها ؟ وألهمه أن يأكلها ؟ يوجد نباتات أخرى لم يأكلها الإنسان -إرشاد- {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } قدَّر الرزق فهدى له.
/ إسعاد ما الذي جعل في الأكل لها إسعاد ؟ الجائع يأكلها فيشبع والمريض يأكلها فيبرأ، فقد جعل الله فيها غذاءٌ وفيها أيضاً دواءٌ وفيها أيضاً شفاء ، غذاء ودواء وشفاء عندما يأكلها المريض يشفى وهي دواء في حد ذاتها وهي غذاء أيضاً في حد ذاتها، والعجيب أن التين مثل العسل يعالج الأمراض أمراض البرد وأمراض الحر، العسل إذا أضفت إليه الماء كان بارداً يعالج أمراض الحرارة وإذا وضعته على النار ونزعت الرغوة كان حاراً وعالج أمراض البرودة ، التين اليابس إذا وضعته على النار كان حاراً وعالج أمراض البرودة، وإذا أخذته رطباً ووضعته في الماء البارد كان بارداً ويعالج أمراض الحرارة إذاً شفاء ودواء .
 { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون } الزيتون نفس الكلام في التين إيجاد إعداد إمداد إرشاد إسعاد كلها فيه لتعلم أنها آية تدل على أنه لا إله إلا الله ولذلك الله عز وجل أمرنا بالنظر للطعام { فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَىٰ طَعَامِه } انظر إلى التين، انظر إلى الزيتون، انظر إلى التمر، انظر إلى القمح، انظر إلى ما تأكل، من أين جاء ومن الذي جاء به { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُون } وهذ النظرة لهذه النباتات عموماً والفواكة و.. و.. و..الخ والمختلفة تُسقى من ماء واحد (ونفضل بعضها على بعض في الأُكل) هذا مالح وهذا حالي وهذا حار وهذا بارد وهذا كبير وهذا صغير إلخ.
 { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَـذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } نظرة أخرى لهذه الأقسام الأربعة أن فيها الدواء الشافي من جميع الأمراض خذوا الوصفة الطبية القرآنية - من جميع الأمراض- :
/{ وَالتِّينِ } ثمرة التين .
/ { وَالزَّيْتُون } ثمرة الزيتون .
/ { وَطُورِ سِينِينَ } جبل ويرمز للعسل { وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا }.
/ { وَهَـذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } وهذا البلد الأمين ماء زمزم.
 فأصبح عندك ماء زمزم مبارك شفاء (طعام طُعم وشفاء سُقم) ، وعندك العسل الجبلي وهو أحسن أنواع العسل ، وعندك الزيتون ، وعندك التين ، هذه الأربعة كل واحد شفاء وإذا اجتمعت شفاء لجميع الأمراض ولهذا قال تعالى بعدما ذكر هذه الأقسام : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم } الصحة، الإنسان الصحيح يقوم بقوة مستقيم صحيح سليم ، الإنسان المريض لا يستطيع يقوم فذكر هذه لأن فيها غذاء والإنسان يحتاج لغذاء حتى يقوم ، وفيها دواء يحتاج الدواء حتى يُشفَى، وفيها أيضاً رقية شرعية لأن هذه لا تجتمع هي والشياطين. زيت الزيتون {نُورٌ عَلَىٰ نُور}، وماء زمزم شفاء سُقم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، والتين - بنص القرآن - والزيتون كذلك، إذاً اجتماع هذه الأربع كما اجتمعت في القَسم وفيها بيان التالي:
 أكلٌ التين ، ودِهان الزيتون ، وشُربٌ العسل ، واغتسالٌ زمزم ، اجتمعت كلها وإلا لا؟ شرب واغتسال زمزم { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ۖ هَٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } .
{ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَـذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} نرجع للقول الأول أن المراد الأماكن ، هذه الأماكن هي أماكن الرسالات وأماكن الكُتب المنزَّلة فما أنزل الله كتابا إلا في هذه المواضع ، ماهي الكتب المنزلة ؟
أنزل الله مائة وأربعة كتب كل الكتب هذه المائة والأربعة كتب في هذه الأماكن ، أول ما نزل على آدم عليه السلام ، وآدم عليه السلام استعمر الأرض كلها يعني ليس لها مكان محدد من الأرض ، هبط في الهند ولكن تجوّل وحواء كانت في جدة وآدم الأرض كلها مستقر له ولذريته وآدم يختلف عن الناس في خلقته، طوله كم ؟ ستون ذراعاً وخلقه الله بيده فيختلف عن الناس في هيئته وجسده وحياته ، الأرض يوم خلقها الله بارك فيها وقدّر فيها أقواتها، الأرض كلها كانت خضراء بالنباتات لم يكن فيها مكان إلا وفيه نبات لأن الله عز وجل قال : { وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِين } بعد آدم عليه السلام الذي استقر بمكة وكانت هي آخر قراره حتى مات بها كان هنالك أيضاً بعدها أول سكن للبشرية .
طيب نأخذ هنا العهود البشرية:
/ بعض العلماء قال : إن هذه الآيات دلت على عهود البشر -عهود الإنسان- فعهود الإنسان أربعة:
 العهد الأول : عهد التين العهد الذي لا مشقة فيه، أين كان الإنسان في هذا العهد ؟ كان في الجنة { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ } سلسة سهلة حياة طيبة كالتين الذي تأكله بكل سهولة هذا العهد الأول ، استمر هذا العهدو انقسم إلى قسمين:
 القسم الأول : في الجنة وهو عهد آدم وحواء فقط.
والقسم الثاني : في الدنيا وهو من عهد آدم إلى عهد نوح عليه السلام وهذا عهد الأمة الواحدة الذي اشارت إليه الآية { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي أمة واحدة على التوحيد وأمة واحدة على الإيمان وليس فيهم مشرك أبداً إذاً هذا عهد التين بقسميه كما أن التين قسمين طري وهو في الجنة ومجفف في الدنيا واضح لكم.
 ثم جاء العهد الثاني عهد الزيتون عهد الزيتون هو العهد من عهد نوح عليه السلام إلى عهد إبراهيم عليه السلام، هذا العهد عبّر عنه بالزيتون ، الزيتون هو الانقسام فيه نوى يُرمَى وفيه جلدة تؤكل بداخلها إدام - زيت- هنا انقسم الناس إلى قسمين : طيب وخبيث ، بينما القسم الأول في العهد الأول كله طيب. إذا التين العهد الأول للبشرية عهد الأمة الواحدة، والزيتون العهد الثاني. ثم ماذا حصل ؟ 
حصل أن البشر كثُروا وأصبح هذا البشر المنتشر على وجه الأرض أيضاً قسمين : القسم الاغلب منحرف، والقليل مستقيم، فعبّر الله عز وجل في هذه المرحلة الثانية وهي من عهد إبراهيم عليه السلام إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم بعهد طور سيناء ، طور سيناء ارتفاع وانخفاض، إرتفاع للمؤمنين { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وانخفاض { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } .
ثم جاء العهد الأخير وهو عهد الأمن والأمان عهد النبي صلى الله عليه وسلم { وَهَـذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } ، { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِم }،{ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ }.
بعد هذه الانتقالة من هذه الأقسام نقف قليلاً عند قوله: { وَهَـذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } متى أصبح البلد أميناً وآمناً ؟ 
تجد في القرآن { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} هنا الأمن منسوب لمن ؟ لمن دخله، الداخل إليه آمن { فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } الأمن منسوب لمن ؟ للمُقيمين فيه، أمن الداخل إليه ولو لم يكن من أهله، أمن أهله { الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف } ،{ وَهَـذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } نفس البلد أمين وآمن.
 نأتي لهذا البلد الأمين عبر التاريخ ما هو سر الأمن الذي في مكة ؟
 أول ما جاء إبراهيم عليه السلام بهاجر وإسماعيل لهذا البلد لم يكن فيه إلا الخوف، هاجر كانت آمنة ؟ لا، كانت خائفة كانت تخاف أن تموت من العطش أو تموت من الجوع أو تأكلها الذئاب والوحوش ، فإبراهيم عليه السلام دعى أول دعوة قال : { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ } فدعا لهم بالزرق هذا الأمن الغذائي، فأصبح هذا المكان تُجبى إليه ثمرات كل شيء من كل مكان، يزرع الزارع في أي مكان وتأتي ثمرته أو بعض ثمرته إلى مكة عبر التاريخ، وكانت رحلة الشتاء والصيف رحلة جالبة للطعام إلى مكة تأخذ الجلود -جلود الأنعام- فتحملها لليمن وتحملها للشام وتعود من هناك بالثمرات { يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ }، واليوم لو جئت إلى مكة في أي وقت تجد جميع الثمار فيها هذا من الصين وهذا من الهند وهذا من أفريقيا وهذا من آسيا، تجبى إليه بحكم الله عز وجل طيب هذا الأمن الغذائي ثم ماذا ؟
 الأمن النفسي لما أضيف البيت إلى الله أصبح الداخل لهذا البيت يشعر أنه في رحاب بيت الله فيشعر بالأمن النفسي.
 ثالثاً : الأمن الحسي عندما جاء أبرهه بجيشه يريد هدم الكعبة من الذي صده ؟ قريش ؟ الله الذي صدّه قال تعالى : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ } فِعل مَن هذا ؟ فِعل الله { بِأَصْحَابِ الْفِيل* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ } ما هو كيدهم ؟ هدم البيت { أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ* وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيل} خرجت من البحر الأحمر المتوسط - بحر القُلزم - خرجت الطير من البحر كل طير يحمل ثلاث حجارة حجر في منقاره وحجر في يده اليمنى وحجر في يده اليسرى { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيل* تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيل* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } ، وظهر مرض الجدري ولأول مرة في التاريخ وكان سببه دفاع عن مكة فتساقط الناس مرضى ومات من مات ونجى من نجى وما نجى منهم أحد ، هذا أمن والا لا؟ هذا أمن.
 ممكن واحد يسأل سؤال: يقول مادام الله حماها من أبرهة ولم يستطع هدم الكعبة لماذا لا يحميها من الحجاج الذي هدمها ؟
 من يجيب على السؤال؟ الحجاج هدم الكعبة وقبله عبد الله بن الزبير هدمها وبناها على قواعد إبراهيم، وجاء الحجاج وهدم ما بناه عبد الله بن الزبير وأعادها على قواعد قريش وبناء قريش وبقيت على ما هي عليه مِن بناء قريش من يجيب على السؤال ؟
 أولئك مشركون لا يحمون البيت فحمى الله بيته ، وهؤلاء مسلمون لو هدموا لبنوا فترك الله البيت يُهدم ليُبنى، وهُدِم الهدمة الأولى وبُني على قواعد إبراهيم وهُدم وأعيد بناؤه على قواعد قريش، واختار الله عز وجل أن يبقى على هذا الحال لماذا ؟
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة كان قادراً على أن يهدم الكعبة ويبنيها على قواعد إبراهيم لكن حدَّث عائشة فقط قال : ( يا عائش لولا أن قومك حديثوا عهد بجاهلية لهدمت الكعبة ولبنيتها على قواعد إبراهيم ) فلما بُويع عبد الله بن الزبير رضي الله عنه على الخلافة بايعه أهل مكة وبايعة أهل المدينة وأصبح خليفة قام إلى الكعبة فهدمها لأن عائشة أخبرته فهدمها وبناها على قواعد إسماعيل لأن العلة انتفت ماهي العلة التي منعت النبي صلى الله عليه وسلم ؟ حديثوا عهد بجاهلية ، هذه العلة انتفت ، الناس الآن مسلمون والناس تعلم أن أول من بنى البيت إبراهيم وأن قواعد إبراهيم هي البيت كامل بما فيه حُجر إسماعيل فبناه كامل بما فيه حِجر إسماعيل فأصبحت الكعبة لها ركنان ودخل فيها حجر إسماعيل ولها بابين باب من جهة المشرق وباب من جهة المغرب وأبوابها على الأرض وليست مرتفعه كحالها اليوم، أصبح هذا الفعل سبب استحل به الحجاج هدم الكعبة وقتل ابن الزبير قال : أحدث في الدين ، الناس كلهم ليس عندهم خبر عن هذا الحديث لا يعرفه إلا عائشة رضي الله عنها وأخبرت به ابن الزبير ولم تشع هذه الثقافة أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد هدم البيت فالناس قالوا : هذا مُفسد لأنه هدم الكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم لم يهدمها فتركوا بينه وبين الحجاج فالحجاج هدم الكعبة التي بناها ابن الزبير وأعاد بناء قريش لها، وأجمعت الأمة بعد ذلك على عدم جواز هدم البيت وأن يُترك على حالته التي هي عليه الآن وفي ذلك فوائد كثيرة :
الفائدة الأولى : أن نصف الكعبة مفتوح وهو حِجر إسماعيل وله بابين باب من جهة المشرق وآخر من جهة المغرب يدخل فيه الضعفاء ويدخل فيه المساكين ويدخل فيه جميع الأمة.
 وقسم أُستحوذ عليه وأُغلق، وبعض الناس عندما يدخل في حِجر إسماعيل لا يظن أنه في جوف الكعبة أنت في جوف الكعبة وأنت في حِجر إسماعيل ولذلك لو واحد حريص وقال لك : والله ما دخلت الكعبة، والله الذي يدخل حِجر إسماعيل دخل جوف الكعبة، وجوف الكعبة هو حجر إسماعيل أساساً لكن الكعبة الأخرى -المربع الذي ترون- هذا من فعل قريش لأن النفقة قلّت عندهم وأرادوا أن لا يجعلوا فيه إلا حلال فبنوا نصف الكعبة الجنوبي وتركوا نصفها الشمالي فكان يُسمى حِجر إسماعيل -أي بقية بناء إسماعيل والحجارة التي بنى بها- ولذلك الفرق بين الحِجر والحُجرة أن الحُجرة المغطاة والحِجر غير المغطى، فالحِجر البناء من الحجارة غير المغطى، والكعبة لم تكن مغطاة في عهد إبراهيم، أما الثاني فحُجرة فأصبحت الكعبة حُجرة وحِجر، الحُجرة المغطاة المربع التي ترون هذه حجرة { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَات } الغرف ، والحِجر غير المغطى ، هذا الأمن.
 أيضاً يدخل فيه أن الله عز وجل أمر المؤمنين أن يؤمِنُوا من دخل المسجد الحرام ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة قال : إنها حرام منذ خلقها الله ولم يُحلها لأحد إلا له صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار وأنها قد عادت حرمتها وفي قوله تعالى : { وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } أن هذا خبر أُريد به الأمر أي من دخل مكة فلتؤمنوه ، ويستثنى من هذا: المُفسد من الناس، ويستثنى منه ستة من أنواع المخلوقات يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ست تُقتل في الحِل والحَرم الحية و الحُدأة والغراب والعقرب والكلب العقور والفأر ) هذه الستة تُقتل لو في الحرم ، تقتل في الحل والحرم هذه من الطيور والهوام المُفسدة وأهل جده يعلمون ويعرفون فساد الغراب، لكن الحدأة لا يعلمون ماذا تفعل ، الحدأة أخطر من الغراب، الحدأة تنكت عيون الأطفال تجعله بدون عيون، والغراب ينزل على الجيف وأيضاً مُفسد ، والفأر مفسد هو الذي خرق سفينة نوح أوهمّ بخرقها فخلق الله عز وجل كما قال القط فألتهمه إلى آخره .
 { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَـذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ } هذه الأقسام نتجاوزها إلى المُقسَم عليه.
ماهو المُقسَم عليه؟
اللام لام التوكيد و"قد" تفيد التحقيق، أي هذا الذي أقسمنا عليه مؤكد ومحقق ماهو؟ { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ } ، لاشك أن الإنسان لم يخلقه إلا الله سبحانه وتعالى ، خلقناه في ماذا ؟ { فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم } {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَك} لقد ركبك في أحسن صورة { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَك } عدلك معتدل .
 { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَـذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم }
اختلف العلماء في قوله (أَحْسَنِ تَقْوِيم) ما المراد بها ؟ على ثلاثة أقوال:
 القول الأول : أن المراد قِوام البدن أي في أحسن صورة، فالحيوانات مُنكبّة ومنهم من يمشي على بطنه ،ومنهم من يمشي على أربع، والإنسان يمشي على رجلين مستقيم ليس كالطير الذي يمشي على رجلين وهو منبطح، وليس كالحية التي تمشي على بطنها، وليس كالدواب التي تمشي على أربع، لكن يمشي على رجلين ومستقيم في أحسن صورة، وليس كالقرد الذي يمشي على أربع أيضاً وإن كان وجهه قد يشبه وجه الإنسان لكن يمشي على أربع.
 إذاً هذا الإنسان في أحسن تقويم ومن هنا قيل: أنه في زمن أبي جعفر المنصور كان أحد الحاشية ذات ليلة معرس -متزوج- وطالع يتمشى هو وزوجته في ليلة القمر ليلة أربعة عشر -خمسة عشر- من شدة جمال زوجته طالع فيها وطالع في القمر قال : لها أنتِ طالق بالثلاث إذا ما كنتِ أجمل من القمر -المسكين انغر فيها وقال أكيد أنك أجمل خلق الله حتى أجمل من القمر- أنت طالق بالثلاث إذا ما كنت أجمل من القمر هربت ولبست عبايتها وقالت : والله لا تقربني حتى تستفتي العلماء، فذهب عند أبي جعفر المنصور قال له : أنا هلكت البنت تزوجتها ونحبها وغلطت قلت أنها القمر وأنها طالق إذا ما كانت أجمل من القمر أجمع لي العلماء وأسألهم، جمع أبوجعفر المنصور العلماء وقال شوفوا العلة شوفوا المشكلة هذه، كل العلماء قالوا له : ظاهر أنها طالق زوجتك إلا واحد من تلاميذ أبي حنيفة ساكت قال له أبو جعفر : أنت ما رأيك ؟ قال : أنا أراها أنها ما طلُقت مع أنه صغير أصغر من العلماء الثانيين، قال له: هؤلاء كبار العلماء أفتوا وتُخالفهم؟ قال لقد أفتى بذلك من هو أعلم مني ومنهم، قال: ومن ؟ قال: رب العالمين، قال: وأين ذاك ؟ قال في قوله تعالى { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُون* وَطُورِ سِينِينَ* وَهَـذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ } إذا كانت زوجتك إنسان فهي أحسن من الشمس والقمر {فِي أَحْسَنِ} و "أحسن" صيغة تفضيل { فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } أحسن صورة. فقام أبو جعفر قال له : أحسنت، وقال للرجل : ألحق بزوجتك تراها ما طلُقت ، فعُلم أن الإنسان في أحسن صورة، ومن هنا فُهم معنى الحديث ( لا تقبحوا الوجه - وفي رواية - لا تضربوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ) أي خلق آدم في أحسن صورة، ونسبة الصورة إلى الله نسبة مُلكٍ أي يملك هذه الصورة التي خلق عليها آدم وليست نسبة تشابه، ليس تشبيه ليس آدم كصورة الله تعالى الله ليس كمثله شيء فإن الله خلق آدم على صورته أي على الصورة التي عليها آدم فهي صورة خلق الله التي خلقه بيده فيها { فَإِذَا سَوَّيْتُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } وفي الآية { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَستَكْبَرْتَ } فنَسَب خِلقت آدم التي هو عليها إليه، ومن هنا قال العلماء: إن الصورة في الوجه فقط ،الصورة المحرمة والتصوير المحرم في الوجهة فقط ، فمن رسم رأس ويدين ورجلين ليس بمصور، وليست بصورة حرام ، إنما الحرام الوجه لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد قال في سجوده ( سجد وجهي للذي خلقه وصوّره وشق سمعه وبصره ) فجعل التصوير في شق السمع والبصر والسمع والبصر من الوجه، ومن هنا قال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء } ولا يُعرف الإنسان إلا من وجهه ، لو جئت لأُناس من ظهورهم ولم ترى وجوههم قد لا تفرّق بينهم، لكن إذا بدت وجوههم فرّقت هذه صورة فلان وهذه صورة فلان، ولو صورت الناس من وراء ظهورهم لما عرف الناس لمن هذه الصور، لكن إذا صوّرتهم من وجوههم عُرف كلٌ بوجهه {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} أي تعرفهم بوجوههم وهذه السِمة في الدنيا وفي الآخرة {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} هذه سِمة {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } هذه السِمة الأخرى، سِيماهم في وجوههم .
{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم } أي في أحسن صورة { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } هذا القول الأول.
/ القول الثاني : أن التقويم هنا المراد به الفطرة أي قد خلقنا الإنسان على الفطرة ، والفطرة أحسن تقويم لأن الدين قيّم { دِيْنَاً قَيِّمَاً } وفي رواية { دِيْنَاً قَيَمَاً } والفطرة تقويمُ وخُلِق الإنسان عليها أي على الفطرة ، والفطرة هي الدين {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} فيكون المعنى لقد خلقنا الإنسان على الفطرة فأبواه يُهودانه أو يُنصرانه أو يُمجسانه فينزل أسفل السافلين أو يؤسلمانه ويهديانه ويتركانه على فطرته فيعلو أعلى عليين فيكون التقويم هنا : الحَسن هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ومن هنا قال أهل العلم : لو أنت مولوداً وُلد في جزيرة ولم يأتِه رسول ولا سمع كتاب وكبُر لعبد الله وحده لا شريك له لأن الفطرة تدعوه للعبادة، لعَبِد الله ولهذا كل مولود يولد على الفطرة، الجارية ما قرأت التي جاء بها سيدها يستشير النبي صلى الله عليه وسلم في أمرها هل هي مؤمنة أم لا، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم سؤال واحد قال : ( أين الله ) فأشارت بأصبعها إلى السماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أعتِقها فإنها مؤمنة ) شهد لها بالإيمان لأنها أعتقدت عُلو الله عز وجل عن خلقه { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى } وهذه فطرة، حتى أن فرعون رغم ماهو فيه من الطغيان والضلال والكفر قال : { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ } فطرته أن الله فوق السماوات وهو يقول : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } أين الأعلى وأنت تحتاج هامان يبني لك صرحاً، من الأعلى ؟ ففطرته نطق بها يوم قال : { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا } وكفره وطغيانه نطق به يوم قال : { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } فعُلم أنه استيقن بقلبه عُلو الله وكذب ذلك بكفره وجحوده. إذاً هذا القول الثاني في أحسن تقويم للجسد وقيل أحسن تقويم للفطرة .
 القول الثالث : {ْخَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم } أن المراد به العقل ، عقل الإنسان ولذلك الإنسان رغم صِغره وصِغر حجمه طوله مترونص .. مترين وعرضه خمسين سنتيمتر .. ستين، هذا الإنسان بهذا الحجم الصغير لكن انطوى فيه العالم كله ، فيه من الملائكة، فيه من الشياطين، فيه من البهائم، فيه من الوحوش، كل شيء فيه، طيب شوف خلنا نحلل الإنسان وعلاقته بالكون من حوله : عندما تنظر للإيمان الذي عند الإنسان تجد مَلَك داخل الإنسان {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيم} هذا في حالة الصفاء والطيبة والأخلاق والدِّين والتدين والنور ملَك كريم ، هذا الإنسان حال الإقبال على الله ملك (والله لو دمتم على ما أنتم عليه معي لصافحتكم الملائكة) ، مريم بنت عمران قمة اتصالها بالله { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِين} وفي هذه الحال تتنزل عليها الملائكة { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِين} إذاً الإنسان ملائكي بروحه .
 الإنسان أيضاً شيطان بروحه ، عندما يبعُد عن الله يصبح شيطان، شياطين الإنس والجن { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } يصبح من شدة خبثه أشد من الشيطان ولهذا ورد في تفسير قوله تعالى : { نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} يعني صار الشيطان تابع له صار هو شيطان أشد من الشيطان وصل لدرجة أن الشيطان تابع له، صار إمام للشيطان في التشيطين، إذاً هو شيطان إذاً ابتعد من الله ، وملك إذا اقترب من الله ، إذاً عالم الجن عالم الشياطين وعالم الملائكة.
 وفيه أيضاً من عالم الوحوش هو أسد وقت غضبه إذا غضب أسد، حمزة أسد الله وأسد رسوله، في حال الغضب أسد، وهو في حال الجبن والخوَر تجد أنه أيضاً نعامة، ويمكن في أجبن من النعامة أرنب -مثلا- يمكن تجد أنه في باب الجُبن، تجد في باب الفساد يشبه حيوان آخر. فمجتمِع فيه العالم كله إذاً هذا الإنسان إذا اجتمع فيه العالم كله كلٌ أخذ منه هو في واحد.
 طيب ما الذي يُقوِّمه ؟ الوحي ، فأنزل الله الوحي في هذه البقاع الأربعة وأرسل الرسل وأنزل الكتب ليبقى الإنسان مع الشرع القويم والجسم القويم والعقل القويم والفطرة القويمة فيعيش مستقيم على الصراط المستقيم. واضح لكم .
{ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ }
هل الإنسان هنا المراد به جنس البشر ؟ أو أن المراد به إنسان معين ؟ ما رأيكم ؟
جنس البشر جميع الناس .
ما الفرق بين هذه السورة وسورة العصر قال تعالى في سورة العصر : بسم الله الرحمن الرحيم { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْر} { الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْر } سورة العصر، سورة التين { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر } { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون } تجد أن الخسارة والهبوط متحدان إلا أن الهبوط درجات والعُلو درجات { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِين } ، وفيه أعلى عليين.
 نرجع لسورة ثانية تبين لنا ماهو أعلى عليين وما هو أسفل سافلين: { كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُون } وكتاب الفجار أين ؟ في سجين، وسجين أسفل سافلين، وسجين خسارة وعليين نجاح كامل وفلاح كامل.
 { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } إن المنافقين أين ؟ المنافق في الدرك الأسفل من النار والمنافق تأتيه { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ }، طيب الفطرة كان ممكن يعتمد عليها فيعلوا لكن لم يعتمد عليه فهبط فمن لم يستفد من الفطرة هبط .
/ قسَّم الله سبحانه وتعالى العالم من حيث العقل إلى ثلاثة أقسام :
 - قسم عقل كامل لا نقص فيه لا تعتريه شهوة ولا شبهة.
- وقسم شهوة لا عقل معها كله شهوة قسم كله شهوات وليس فيه من العقل شيء.
- وقسم رُكِّب فيه العقل ورُكِّبت فيه الشهوة .
 القسم الأول : عقل لا شهوة فيه الملائكة.
والقسم الثاني : عقل وشهوة الإنسان والجان.
القسم الثالث : شهوة لا عقل البهايم والأنعام.
 الإنسان في النص فيه شهوة تدعوه إلى الهبوط وفيه عقل يدعوه إلى الصعود، فإن هو استخدم عقله صعد ودخل مع الملائكة
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } إذاً هذا الذي عقَل لِمَ خُلق ؟ مَن خلقه ، ماذا يريد الخالق منه ، فاتبع واستقام هذا عاقل {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ}.
القسم الثاني : وجدوا أمامهم شهوات والعقول خفيفة قال : يلا خلينا كالأنعام حرية، الأنثى من الأنعام تخرج والذكر من الأنعام يخرج ولا لباس ولا دين ولا أخلاق، قالوا نريد هذه الحياة حياة الأنعام { إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَل } { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } هذا القسم { رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } صار أسفل حتى من الأنعام، الأنعام أحسن منه { إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَل }، والثاني ربما أصبح أحسن من الملائكة في استقامته {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَم}، الملائكة يسجدون لآدم والملائكة { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون } وآدم عصى ربه عصى آدم ربه والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ، لماذا سجد الملائكة لآدم وهم لا يعصون وهو يعصي ؟ لأن الله عز وجل فضَّل آدم وفضّل ذرية آدم على كثير مِمن خلق تفضيلاً أعطاهم الإرادة ، أعطاهم الأمانة التي يحملونها { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ } يعني السماوات ومن فيها من الملائكة {وَالْأَرْضِ} ومن فيها {وَالْجِبَالِ} ومن فيها { فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَان } هذا الإنسان بإرادته حمل الأمانة فإن هو قام بها واستعان بها { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أعانه الله ووفقه وفضّله على كل من خلق تفضيلاً، وإن هو ضيّع الأمانة هبط وأصبح ألعن من جميع خلق الله ، ولذلك أصبح هو والجماد سواء، الجماد كالحجارة والأدنى من البهائم الجماد وقال عن النار  {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } شوف تساووا مع الجماد الذي ليس فيه حس البتة .
{ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون } هنا جاء الخطاب بالجمع {الَّذِينَ} ليبين لنا أن الإنسان جمع لجميع البشرية ولو أريد بإنسان بعينه لقال : "إلا الذي" فأصبح الاستثناء { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا } فإنهم لا ينزلون أسفل السافلين { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون } هذه الآية فيها فوائد كبيرة وكثيرة وجمة وغفيرة:
 الفائدة الأولى : أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يتوقف عملهم الصالح كيف لا يتوقف عملهم الصالح ؟
وهو شاب كان يقوم الليل، كان يجاهد في سبيل الله، كان ينفق ثم ضعُف { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون } ما كان يعمله يُكتَب له كاملاً ولو ضعُف عنه واضح .
 الثانية : كان يعمل ثم مرض { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون} ما كان يعمل في صحته يكتب له حتى وهو مريض ما يسوي شيء.
{ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون } مات ما كان يعمل يُكتب له حتى ولو مات كيف ؟ إذا مات ابن آدم انقطع من الدنيا إلا من ثلاث لا ينقطع منها:
١- ( علم يُنتفع به ) كل ما انتفع الناس كتب له أجر إذاً ما مات العلماء الذين يعلمون الناس الخير، لو ماتوا فإن أعمالهم لا تنقطع بموتهم، والعِلم من أفضل العبادات لعدم انقطاع أجره.
٢- ( صدقة جارية ) التجار - أصحاب المال - الذين أنفقوا على العلماء وعلى الدُعاة وعلى التحفيظ وعلى مشاريع الخير لو ماتوا ما ينقطع أجرهم ، صدقة جارية .
٣- لا عالِم ولا تاجر بس عنده أولاده -مِزواج- ولَّد هذه وولَّد هذه وأولاده ما شاء الله صالحين من بعده كُتِب له أجرهم، ومن هنا عُلِمَ أجر الوالدين فالعالم أجره لوالديه، والمجاهد لوالديه إذا كانا مسلمَين، ومن هنا تبيّن السِّر في جَعل والد إبراهيم كافراً إذ لو كان والده مسلماً لكان أفضل من إبراهيم لأن (أنت ومالك لأبيك) (وأنت من كسب أبيك) فأصبح آزر كافراً حتى لا يكون أفضل من إبراهيم عليه السلام ، والد النبي صلى الله عليه وسلم مات قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعلمه ولا يدري عنه ومات النبي صلى الله عليه وسلم وزوجته حبلى به فليس له أثر في التربية إنما وُلِد منه فقط، أما الذي يُصاحب ويُربي فله أجر المُربى حتى أن فرعون من حِكمة الله أنه مات طاغية ومات كافراً إذ لو أسلم لكان له فضلٌ ربما عظيم لأن له دور في تربية موسى عليه السلام { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } فتربيته تلك لموسى كان ستأخذ أجر عظيم لكنه مات كافراً حتى يبقى موسى هو أفضل قومه عليه الصلاة والسلام .
 { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } تجدون في القرآن دائماً { آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } ما العلاقة بين الاإيمان والعمل الصالح ؟
ماهو الإيمان ؟ الإيمان  لغة : التصديق قال أخوة يوسف لأبيهم : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } أي ما أنت بمُصدِق ، لكن التصديق يقتضي العمل، أنت عندما تصدق أن هذه الحفرة من سقط فيها دخل النار إذا سقطت فيها لم تصدق لأن التصديق يقتضي العمل، إذا صدّقت أن النار تحرِق ما وضعت يدك فيها، إذا صدّقت أن السكين تقطع ما قطعت نفسك بها ، فالتصديق يقتضي العمل فمن عمل فقد صدّق ومن لم يعمل فليس بمُصدّق ولو أدعى التصديق .
{ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } من هنا الرد على المرجئة الذين قالوا أن الإيمان هو المطلوب وأن العمل ليس بشرط في لإيمان. العمل شرط لأن من آمن ولم يعمل فليس بمؤمن إذ لو آمن لعمل، عندما تصدق إن في اختبار ثم لا تذاكر ما صدقت .. واضح.
 { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات } الألف واللام التي دخلت قبل الصالحات مع الجمع دلت على أن الأعمال الصالحة متعددة ومتنوعة وهذا من فضل الله، فتعددها يرفع الملل ويعطي مجالات للاختيار، هذا الشخص عنده مال لكن ما عنده شجاعة ما يمكن يحمل سيف أو يحمل بندقية أو يجاهد لكن عنده مال ممكن ينفق إذاً هذا عمل صالح بماله ميسور عليه.
 الثاني ما عنده مال بس عنده قوة وشجاعة هذا عمله في الجهاد.
هذا ما عنده لا مال ولا قوة عنده عقل وعنده عِلم.
 ذاك ما عنده لا مال ولا شيء بس عنده بدن وحُببت إليه العبادة، وهكذا..
 ومن هنا كانت أركان الإسلام الخمسة مختلفة متنوعة ، فالذِّكر على الجميع لأنه باللسان والقلب سهل على الجميع ( قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ) الصلاة على الجميع لأنها بالبدن والقلب، طيب الزكاة على من عنده المال وتوفرت فيه الشروط، الصيام على من استطاع الحجّ على من استطاع فتفاوت الناس في الزكاة والصيام والحج ولم يتفاوتوا في الصلاة والشهادة لاختلافهم هذا عَمِل صالحاً {وَعَمِلُوا الصَّالِحَات } العمل الصالح يشترط فيه ثلاث شروط ليكون صالحاً إذا أختل شرط واحد فلا يكون عملاً صالحاً :
الشرط الأول : أن يكون العامل مسلماً فلا يقبل الله العمل من مشرك مهما كان ولا من كافر { وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}.
الشرط الثاني : أن يكون العامل مُخلصاً، مسلماً مخلصاً لله ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ) .
 الشرط الثالث : أن يكون العامل مُتبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مبتدع، فمن كان مسلماً مخلصاً لكن مُبتدع ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ليس من سنة مردود ولا يُقبل.
 إذاً هذه الثلاثة الذين آمنوا بالله ورسوله وكتبه الإيمان - بأركانه الستة - ثم عملوا الصالحات بعد الإيمان مُخلصين له الدين كما قال تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}
{َ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات* فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون } 
اختلف العلماء في قوله : { غَيْرُ مَمْنُون } ما المراد بالمنُّ هنا ؟ 
المن لغة : القطع َ{ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } إما تقطع رأسه وإما يُفتدى ، { مَنَّاً } قطع، ومنه سميت مِنى مِنى لأنها مكان قطع الرقاب - المَن- وفيها ذبح الهدِي.
 وقيل المَن: من الِمنّة {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ } لا تمنّ على الناس وتقول : أنا فعلت وأنا فعلت.
 فالله عز وجل أعطى للذين ءامنوا وعملوا الصالحات أجراً لا انقطاع فيه ولا مِنة عليه { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ }المنّ بالسان، وقد يكون المنّ بالقطع يعني لا تقطع شيئا عملته لله، واصِل وهذا عدم مَنّ ، ولا تمُنّ بلسانك تقول أعطيتك وأعطيتك، واضح ..
فلهنم أجر عند الله عز وجل غير ممنون أي غير مقطوعٍ وغير ممنون به { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُون } يعني لا يُمنّ عليهم ما يقال لهم أنتم أعطيناكم وسوينا لكم ولهذا الله عز وجل قال : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ } .. واضح .
 { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ* أَلَيْسَ اللَّـهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } ماهو الدِّين ؟
 الدِّين في القرآن: يأتي بمعنى العمل ، ويأتي الدين بمعنى الجزاء عن العمل، ولهذا يوم الدِّين يومان:
 اليوم الأول : يوم العمل وهو الدنيا.
 واليوم الثاني : يوم الجزاء عن العمل وهو الآخرة .
فمن ضيع اليوم الأول - الذي هو يوم العمل - ضاع عليه اليوم الثاني - الذي هو يوم الجزاء - ، ومن قام في اليوم الأول بالعمل المطلوب وجد في اليوم الثاني جزاءه { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } هذا دِين { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} فـ (يعمل) الأولى دين و (يره) الثانية دين ثانٍ. ولذلك (مالك يوم الدين) و (ملِك يوم الدين) جزاء، كما تدين تُدان كما تعمل تعامل.
 {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} أي دين ؟ أهو دين العمل أم دين الجزاء ؟
 المشركون كذبوا بالدينين ، كذبوا بدين العمل فقالوا : ما أنزل الله من كتاب ولا أرسل الله رسول وهذا العمل غير واجب، الصلاة غير واجبة ، الزكاة غير واجبة، الحج غير واجب، هذا كله كلام أساطير الأولين غير واجب كذبوا، فكذبوا بالدين ( إنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ) إذاً هذا الدين الأول.
 اثنين : التكذيب بالآخرة قالوا : { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } { إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } ولكن من مات في هذه الدنيا ما يقوم مرة ثانية، فهذا تكذيب بالدين.
 { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ } الخطاب لمن ؟ هل يُكذِّب النبي صلى الله عليه وسلم بالدين ؟ لا.
 إذاً من المُكذب بالدين هنا ؟ الذي كذب بالدين { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ } من هو ؟ (فذلك) البعيد { الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيم* وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ } لأن هؤلاء الذين يُكذبون بالدين كذبوا بالدين لأنهم جهلوا حقيقة توحيد الله عز وجل، فعُلم من هذه الآية أن سر الاستقامة التوحيد فمن علِم أنه لا إله إلا الله وأن الله هو أحكم الحاكمين أعلم العالمين أعدل العادلين من علِم الله بأسمائه وصفاته (فاعلم أنه لا إله إلا الله) استقام على الدين لا محالة، ومن ضعُف عنده هذا العلم انحرف عن الدين لا محالة.
 { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّـهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، فالله أحكم الحاكمين جلّ جلاله.
 و (أحكم الحاكمين) فيها تفسيرين اثنين:
 التفسير الأول : أنه من أحكم الحاكمين قضاءً ، الحاكم هو القاضي والله يقضي بين عباده فلا يوجد حُكم أعدل من حكم الله عز وجل، وأيضاً لا توجد حكمة أعظم من حكمة الله عز وجل، فما بعثه الله من الأنبياء بعثه بحكمة ، وما أنزل الله من الكتب بحكمة وكل شيء بحكمة، وخلق النار بحكمته، وخلق الجنة بحكمته ، وأمر الأوامر ونهى عن النواهي كل ذلك بحكمة، هذه حِكمته وهذا حُكمه فهو من باب الحكمة أحكم الحاكمين ، ومن باب الحُكم أحكم الحاكمين ، ومن هنا أيضاً يأتي الخلق والأمر، ومن باب الخلق حكيم في خلقه، ومن باب الأمر حكيم في أمره، وله الحكم في خلقِه ، وله الحكم في أمره، فإذا كان خلق الإنسان في أحسن تقويم فهذا لحُكمه ولِحِكمته، وإذا كان رده أسفل السافلين فلحِكمته وحُكمه، وإذا كان بلّغه أعلى عليين فلحِكمته وحُكمه .
 أختم لكم بقصة: ورد عن موسى عليه السلام أنه سأل ربه قال له : ياربِ ألم تخلق خلقك جميعاً بيدك ؟ قال الله: بلى.
 قال : لمَ جعلت بعضا منهم في النار وبعضا منهم في الجنة وأنت قادر أن تجعلهم جميعاً في الجنة؟ ماذا كان الجواب؟ 
قال : والله يا موسى ازرع زرعاً ، فزرع موسى زرعاً، فلما جاء وقت الحصاد حصد موسى الزرع فقسمه قسمين زرع طيب يصلح للأكل على جنب، وزرع لا يصلح للأكل أوقد فيه النار، فناداه الله عز وجل قال : يا موسى ألم تزع زرعك بيدك ؟ قال : بلى قال : فلِم أحرقت بعضه وتركت البعض ؟ قال : يارب اصطفيت ما كان طيباً لنفسي وحرقت الباقي، قال : كذلك أنا أفعل بعبادي أصطفي الطيب لنفسي وادخله جنتي، وأحرق الباقي بناري .
 اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وبارك لنا فيما أعطيت وقنا واصرف عنا برحمتك شر ما قضيت فإنك تقضي بالحق ولا يقضى ، عليك اللهم آتي نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها .
اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ومن كل بلاء عافية.
 على الله توكلنا وإلى الله أنبنا وإلى الله المصير ، اللهم إنا نسألك بأنا نشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الحي القيوم .. اللهم إنا نسألك بأنا نشهد بأنك أنت الله لا إله أنت العلي العظيم .. اللهم إنا نسألك بأنا نشهد بأنك أنت الله لا إله أنت عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم .. اللهم إنا نسألك بأنا نشهد بأنك أنت الله لا إله أنت الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عن ما يشركون .. اللهم إنا نسألك بأنا نشهد بأنك أنت الله لا إله أنت الله الخالق البارئ المصور العزيز الحكيم .. اللهم إنا نسألك بأنا نشهد بأنك أنت الله لا إله أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .. اللهم إنا نسألك بأنا نشهد بأنك أنت الله لا إله أنت لا يبقى خير تعلمه إلا كتبت لنا أعظم نصيب منه وأوفره ولا يبقى شر تعلمه إلا صرفته عنا وعن والدينا وعن أهلنا وعن جميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهن والأموات، اللهم إنا نسألك الخير كله أوله وآخره ظاهره وباطنة عاجلة وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله أوله وآخره عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم ، اللهم أحينا فوق الأرض سعداء وأمتنا عند الموت شهداء واجعلنا من خيار هذه الأمة واحشرنا في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
 اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم إنا نسألك أن تعلّمنا القرآن وما حوى، والسنة وما حوت ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً.
 اللهم إنا نسألك خير المسألة .. وخير الدعاء .. وخير النجاح .. وخير الدنيا .. وخير الآخرة.. والخير كله أوله وآخره ظاهره وباطنه، عاجله وآجله ما علمنا منه ومالم نعلم .
اللهم يا ناصر المظلومين اللهم يا من إذا تضايقت الأمور رجعت إليه، وإذا كثرت الحوائج رُفعت إليه، وإذا غُلقت الأبواب فُتح بابه لتهتدي العقول إليه، يا من استوى على عرشه، وعلا عن خلقه، ودبّر أمره من سمائه إلى أرضه، يا من لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يا ولي المستضعفين يا مجيب دعوات المضطرين يا غياث المستغيثين اللهم إنا نستنصرك لإخواننا في فلسطين وفي الشام وفي كل مكان ، اللهم ارحم ضعفهم .. اللهم ارحم ضعفهم .. اللهم ارحم ضعفهم .. اللهم اجبر كسرهم .. اللهم اجبر كسرهم .. اللهم سدد رميهم .. اللهم سدد رميهم .. اللهم احفظهم من بين يديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ونعيذهم بك يالله أن يغتالوا من تحتهم ، اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك ، اللهم بك نجول وبك نصول وعليك نتوكل وإليك نُنيب اللهم رُدّ المسجد الأقصى إلينا رداً جميلاً ، اللهم طهّره من اليهود الغاصبين المعتدين، اللهم سلّط عليهم من جنودك يا من لا يعلم جنودك إلا أنت ، اللهم أرنا عجائب قدرتك فيهم ل، ا تدع لهم راية .. اللهم لا تدع لهم راية إلا أسقطتها .. اللهم لا تدع لهم طائرة إلا أسقطتها .. ولا بارجةً إلا دمرتها .. ولا باخرة إلا أغرقتها ، اللهم أرنا عجائب قدرتك فيهم وفي الروس وفي جميع أعداء دينك يا حي يا قيوم يا ولي يا حميد يا مجيب دعوات المضطرين يامن نصرتنا يوم بدر ونحن أذلة إنا نستغيث بك ونستنصرك اليوم اللهم انصر أمة محمد اللهم انصر أمة الإسلام ، اللهم إن لم تنصر هذه الطائفة المؤمنة فإنا نخشى أن لا تُعبد في الأرض ، اللهم إنا نسألك نصراً مؤزراً عاجلاً غير آجل يارب العالمين ، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في كل مكان، واجمع كلمتهم على البر والتقوى يارب العالمين، اللهم احفظ جيوشنا وجنودنا المرابطين على الثغور وعلى الحدود ، اللهم احفظهم بحفظك وأكلأهم برعايتك وعنياتك، واحفظ رجال أمننا وقادتنا يارب العاليمن، اللهم احفظ ولينا خادم الحرمين الشريفين بحفظك واكلأه برعايتك وعنايتك وهئ له البطانة الصالحة الناصحة التي تدله على الخير وتعينه عليه ، اللهم إنا نسألك أن تحفظ ولي عهده وولي ولي عهده، اللهم اجمع كلمتهم على البر التقوى والعمل الصالح الذي عنا وعنهم به ترضى، اللهم انصر بهم دينك وأعلي بهم كلمتك ووفقهم لمرضاتك واجعلهم سُلماً على أولياءك حرماً على أعدائك يا حي ياقيوم ياذا الجلال والإكرام، اللهم احفظ بلاد للحرمين الشريفين في برها وجوها وبحرها وسائر بلدان المسلمين ، اللهم أمِّنا في أوطاننا وأمِن جميع المسلمين في أوطانهم لا إله أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، على الله توكلنا وإلى الله أنبنا وإلى الله المصير. اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 سبحانك ربنا رب العزة عم يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق