إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته ..
مرحباً بكم جميعاً أيها الأحبة وأسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا وإياكم على ذِكره وشكره وحسن عبادته.
أيها الأحبة الحديث عن التدبر حديث ذو شجون -كما نعلم جميعاً- وسيكون الحديث الذي سيتناوله هذا اللقاء إن شاء الله تعالى إنما ينحصر في جزئية تتعلق بمقاصد المتدبرين .
إحياء التدبر أيها الأحبة مطلب والدعوة إليه وإشاعة ذلك بين الناس لا شك أن هذا من المطالب الشرعية وذلك أن الله تبارك وتعالى حينما خاطبنا بالتدبر نجد أن ذلك لم يوجه إلى فئة مخصوصة ، الله تبارك وتعالى يخاطب المنافقين { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا }
ويخاطب الكافرين { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِين }
ويتوجه الخطاب إلى عموم الناس عموم الخلق { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِِ }
وكما يلاحظ في هذه الآيات أن الخطاب لم يتوجّه في واحدة منها وهي الأربع في كتاب الله لا خامسة لها التي تُصرِّح بالتدبر، لم يوجه الخطاب بشيء من هذه الآيات لأهل العلم -للعلماء- ولا لأهل الاختصاص بالتفسير أو اللغة أو غير ذلك، ومن ثم فإن تدبر القرآن من المطالب الشرعية التي يتوجه الخطاب فيها لعموم الناس فالكل مطالبون بالتدبر، ولكن قد نفهم ذلك على غير وجهه ومن هنا يقع الإشكال فهذا المِفصَل الذي أردت أن أتحدث عنه وأرجوا أن نتفطن لذلك لنتجنب المزالق والمشكلات والآثار السلبية التي لربما تقع أو التي قد يتخوف بعض أهل العلم على عموم المسلمين من آثارها ونتائجها .
إحياء التدبر في هذه السنوات لا شك أنه حقق نتائج ممتازة، هذه القضية لم تكن ذات عناية لدى عامة المسلمين بل لربما لم تكن ذات عناية لدى كثير من طلاب العلم فنهض من نهض بالدعوة إلى تدبر القرآن عبر وسائل متعددة ومن ذلك الرسائل التي كانت تصل إلى الناس عبر هواتفهم ووسائل الاتصال والإعلام الجديد وما إلى ذلك فشاع هذا وصار في يد كل أحد ، هذه الأشياء التي كانت تصل هي عبارة عن لفتات جميلة واستنباطات لطيفة وإشارات رائقة ، كثير من هذه الإشارات واللفتات مما يرفع الناس إليه أبصارهم لفتة توقظ في النفس أشياء وتتحرك دواعي التدبر عند الإنسان ويقول في نفسه أين أنا من هذه المعاني وأنا أقرأ هذه الآية أو أسمعها مرات ومرات ؟ فنتج عن ذلك أن الإقبال على التدبر لربما وجَّه كثيراً من الأذهان إلى تطلُّب مثل هذه اللطائف وصار المُتدبر لربما يهدف إلى استخراج بعض المعاني والدقائق واللفتات الجميلة التي لم يُسبَق إليها ويبحث عنها وإذا قرأ في بطون الكتب فهو ينبِّش ويبحث وينقِّب علّه أن يجد شيئاً من هذه اللفتات والوقفات والاستنباطات الدقيقة .
حينما يُنقَل ذلك من كلام العلماء في كتب التفسير فهي كالدر المنثور في ثنايا هذه الكتب، جواهر منثورة فهذه لا إشكال فيها غالباً لأن الذين استخرجوها من العلماء، كذلك حينما يستخرج ذلك من أهل العلم من المعاصرين -أهل الاختصاص- من له بصر بما يُبنَى عليه الفِهم والاستنباط وما إلى ذلك هذا لا إشكال فيه، لكن المشكلة حينما يتوجّه الذهن إلى هذا النوع من التدبر وعند ذلك يجترئ من لا يُحسن ويريد أن يستخرج من هذا الطراز فوائد فيقع هنا الخطأ والجُرأة على كلام الله تبارك وتعالى فيتولد عن ذلك ردور أفعال لدى بعض أهل العلم فيقولون هذه الدعوة -الدعوة إلى التدبر- إنما هي تجرئة لهؤلاء الناس على كتاب الله عز وجل فيكون الواحد منهم يقول على الله، يكون قائلاً على الله تبارك وتعالى بلا علم وهذه مشكلة، والتوسط والاعتدال في مثل هذه الأمور هو المطلوب .
فكما سمعتم في هذه الآيات جميعاً الله تبارك وتعالى لم يُوجِّه الخطاب في التدبر لقوم بعينهم ومن هنا فنحن بحاجة -أيها الأحبة- إلى معرفة أنواع التدبر من أجل أن نقول لهؤلاء الناس التدبر باب واسع ولا يختص بهذا الجانب المُحدد الذي لربما لا يُحسن أكثره إلا العلماء مع إن بعض هذه اللفتات الجميلة لا تُبنى على أصل من الأصول التي يكون بها الاستنباط ، ولا ترجع إلى شيء من طرق الدلالة عند الأصوليين، لا ترجع إلى شيء من هذا ، فلربما يتدبر بعض صغار السِن -بعض الأطفال- يُفتح له في معنى لا يُفتح للكبار مما لا يبنى على أصل من أصول الاستباط أو طريق من طُرق الدِلالة فهذا وأمثاله مما يُقال أيضاً فيما يدخل تحت التفسير الإشاري ليس ما يكون بدلالة الإشارة عند الأصوليين مثل هذا لا يُبنى على طريق من طرق الدلالة المعروفة إطلاقاً، لكن مثل هذه الأمور هي قليلة وضئيلة بالنسبة إلى الجانب الآخر الذي يحتاج إلى آلة تُستَخرج بواسطتها هذه الدقائق، أنا لا أقصد إن التدبر هو الاستنباط لكن الطريق إلى الاستنباط هو التدبر ، كيف يستنبط إلا بالتدبر، التدبر غير الاستنباط لكن الطريق إليه هو التدبر ، كذلك أيضاً التدبر غير التفسير ولكن قد نتدبر لنصل إلى المعنى لنكشف عنه، وإنما يكون التدبر أبلغ وأكمل حينما نكون أيضاً عارفين بالتفسير ، يعني أن معرفة التفسير تُعين على التدبر وهذا أمر معلوم .
إذاً أيها الأحبة الخلاصة: أن الإنسان قد يتدبر لأمور أخرى خارجة عما ذُكر ،ومن أنواع التدبر أو مقاصد ومطالب المتدبرين أن يتدبر القارئ لكتاب الله تبارك وتعالى من أجل مصدر القرآن مثلاً أن يتوصل إلى معرفة أو إلى نتيجة وهي أن هذا كلام الله وأن الذي جاء به صادق وأنه وحي هذا لا شك أنه من مطالب المتدبرين وإن كان لا يحتاج إليه المؤمن
وليس يصِح في الأذهان شيء ** إذا احتاج النهار إلى دليل
ولكن هذا يحتاج إليه من عنده شك، يحتاج إليه خلق من هؤلاء الكفار من المستشرقين وغيرهم فهؤلاء ينظرون في كتاب الله تبارك وتعالى فيتحصل لهم ذلك ويصلون إلى هذه النتيجة حينما ينظرون إلى اتساق معانيه وائتلاف أحكامه وأن بعضه يؤيد بعضاً بالتصديق ويشهد بعضه لبعض بالتحقيق { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } هذا بالإضافة إلى ما حواه هذا القرآن من ألوان البراهين والحُجج الساطعة، ينضاف إلى ذلك هذه الفصاحة التي تحدى الله عز وجل بها فصار هذا القرآن بهذه المثابة من الإعجاز ولازال هذا التحدي قائم بأقصر صورة ونقول لهؤلاء المشاغبين المكذبين المعرضين بيننا وبينكم هذا ، دعونا من الكلام الطويل آتوا سورة ، أقصر سورة { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } إما أن تذعِنوا وتؤمنوا أو أن تأتوا بسورة تعادل أقصر سورة من القرآن، فهذا كله يُتوَصل به إلى معنى أو إلى حقيقة وهي أن هذا القرآن من عند الله ، هذا بالإضافة إلى ما اشتمل عليه من أنواع الهدايات مما لا يمكن أن يتأتى من رجل أمّي لا يدرُس .. لا يقرأ .. لا يكتب، نشأ في بيئة معروف حالها .
كذلك أيضاً من مطالب المتدبرين: أن نتدبره لنقف على عِظاته ونعتبر بما فيه من القصص والأخبار ونتعقل الأمثال المضروبة، لاحظوا الأول قد يحتاج إليه الشاكّ أو ينظر الكافر فيؤمن، لكن هذا الثاني الوقوف على عظاته هذا لكل أحد وهذا لا يحتاج إلى علم ولا إلى متخصصين ، العامي إذا قرأ فإنه يحصل له مثل ذلك اشتمل عليه من الوعد والوعيد، ترغيب الترهيب فيرعوي العبد ويخاف ويرجو .
الثالث من مطالب المتدبرين: أن نتدبره لنستخرج الأحكام أياً كان نوعها، الأحكام متعلقة بالعقائد، أو الأحكام المتعلقة بالفروع الفقهية، أو الأحكام المتعلقة بالسلوك والأحكام هنا أعم من الأحكام الفقهية، فكل ذلك إنما يُستخرج من القرآن هذا قد يكون من وظائف العلماء.
النوع الرابع من مطالب المتدبرين : أن نتدبره لنقف على ما حواه من العلوم والأخبار والقصص، ما ورد فيه من أوصاف هذه الدار وأوصاف دار القرار ، أهوال القيامة نهاية الحياة الدنيا، أوصاف المؤمنين، أوصاف الكافرين، صفات المنافقين، هذا معين لا ينضب فيه كلام جزل وهو في غاية الصدق ليست أخباره بالأخبار التي تحتمل أو الأخبار التي تُوَهَّن من جهة ثبوتها وأسانيدها بل هو صدق وحق وعدل ثابت لا يتطرق إليه الشك، فهذه المعلومات جميعاً من أين تؤخذ؟ من أين تأتي حقائق الآخرة ؟ من القرآن ،نتدبر وهذا لا يعجز عنه أحد وهذا لكل أحد للعامي .. للصغير وهذه نبثها في الحلقات .
كذلك من مطالب المتدبرين ومقاصدهم وهو الخامس : أن نتدبره لنقف على وجوه الفصاحة والبلاغة والإعجاز وصروف الخطاب واستخراج اللطائف اللغوية والبلاغية هذا الذي تتوجه إليه كثير من الاذهان الآن وقد لا يحسنه أكثر القارئين للقرآن، هذا يحتاج إلى آلة .
ونوع آخر وهو السادس : أن نتدبره لنتعرف على ضروب المحاجة والجدال للمخالفين ، أساليب الدعوة إلى الله عز وجل كيف دعا الرسل عليهم الصلاة والسلام أقوامهم، كيف ندعوا الناس، كيف نتعامل مع هؤلاء المنافقين والمخالفين والمجادلين والمعاندين، كيف تكون لهذه الدعوة طرق للتأثير وأساليب الخطاب، فهذا باب واسع يحتاج إليه الدعاة إلى الله تبارك وتعالى .
من هذه المقاصد أيضاً: أن نتدبره من أجل أن نستغني به عن غيره سوى سُنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها شارحة له فهنا الله تبارك وتعالى يقول : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا } هنا الاكتفاء بإنزال القرآن الذي يُتلى علينا يكفي عن قصص فارس والروم، يكفي عن الاشتغال بتلك النسخ المترجمة من ثقافاتهم وفلسفاتهم ونظرياتهم في السلوك وما إلى ذلك، فهذا تجد الصواب منه في أقصر عبارة من كتاب الله تبارك وتعالى، بجملة واحدة تُلخص هذا الكتاب الكبير الطويل الذي فيه كلام كثير ولكن الصواب الذي فيه لربما يوجد في ربع آية وهذا شيء مشاهد ولو كان في الوقت فسحة لذكرت لكم أمثلة من هذا القبيل .
نوع آخر وهو الثامن من مقاصد المتدبرين : أن نتدبره لنُليِّن به القلوب، طبعاً هذا كان هو الشائع قبل هذه النهضة للتدبر، يتدبر الإنسان يرق ويبكي يرقق قلبه فالقرآن يُعالج القلوب ويصلحها ويلينها { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ } ثم وصفه بعد ذلك ووصف أثره { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } فهذا يحصل للقلب حينما يجيل النظر في كتاب الله تبارك وتعالى متدبراً له { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } { لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } وهكذا .
النوع التاسع من هذه المقاصد : هو أن نتدبره من أجل العمل والامتثال ولذلك نجد في بعض الروايات المنقولة عن السلف في تفسير التدبر نجد أن هؤلاء يفسرون التدبر بالعمل ، والواقع أن العمل ثمرة لكن لما كان التدبر إنما يُطلب من أجل الامتثال والعمل فُسر بنتيجته وأثره ولذلك عندما نُعرِّف التدبر قد نضيف إليه هذه الجملة وهو النظر إلى ما وراء الألفاظ من المعاني والعبر والعلوم النافعة أو الأمر الذي يورث العلوم النافعة و الأعمال الزاكية ، الأعمال الزاكية هذه ثمرة لتدبر القرآن .
هذه أنواع من هذه المقاصد يمكن أن يضاف إليها لكن الشيء المهم الحاصل الخلاصة أنه حينما نطالب الآخرين بالتدبر حينما نطرح هذا في الحلقات القرآنية لا نوجِّه أنظار هؤلاء إلى هذه اللطائف الدقيقة التي تصلح للمتخصصين، نعم يمكن أن نعرض ذلك عليهم لكن لا نطالب هؤلاء بها فيقع الشطح والخطأ والجرأة على كلام الله تبارك وتعالى ، لكن رقِق القلوب، نستخرج العِبر والأمثال، نعرض أنفسنا على القرآن، نعرف محاب الله من خلال القرآن، نعرف مساخطه، نعرف حال هذه الدار والدار الآخرة. كل هذه الأمور لا شك أن الجميع يمكن أن ينظر فيها وأن يتوصل إليها .
وأخيراً أقول أبشروا وأمِّلوا فأنتم على خير عظيم ( خيركم من تعلّم القرآن وعلمه ) ( خيركم ) وانظروا إلى كلام أهل العلم في هذه الجملة ( خيركم ) تحيروا فيها اختلفت فيها أقوالهم يخاطب من؟ هل هؤلاء أفضل من أبي بكر وعمر يعني الصحابة الذي خوطبوا بهذا ( خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه ) هل هذه خيرية على الإطلاق ؟ أو خاطب قوماً معينين كانوا بحضرته صلى الله عليه وسلم؟ أو أن الخيرية مختصة بباب ؟ حاوَلوا أن يحملوا ذلك على محامل، فهذا حديث عظيم يكفي شرفاً لأهل القرآن والمُشتغلين به ابشروا بالخير والبركة في الدنيا والآخرة واصبروا على هذا حتى تلقوا ربكم فهذا باب الهداية وهو لا شك حبل الله المتين .
أسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك جهودكم وأن ينفع بكم أنه سميع مجيب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق