ورد في القرآن الكريم مرتين:
الأولى: في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) [هود: ۹۰].
والثانية: في قوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِي وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) [البروج: ١٣ - ١٤]. ومعناه: أي: الذي يحب أنبياءه ورسله وأتباعهم، ويحبونه، فهو أحب إليهم من كل شيء، قد امتلأت قلوبهم محبة له.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في تقرير عظيم له في بيان معنى هذا الاسم ودلالاته: " الودود أي: المتودد إلى خلقه بنعوته الجميلة، وآلائه الواسعة، وألطافه الخفية، ونعمه الخفية والجلية، فهو الودود بمعنى الواد، وبمعنى المودود يحب أولياءه وأصفياءه ويحبونه، فهو الذي أحبهم وجعل في قلوبهم المحبة، فلما أحبوه أحبهم حبا آخر جزاء لهم على حبهم. فالفضل كله راجع إليه، فهو الذي وضع كل سبب يتوددهم به، ويجلب ويجذب قلوبهم إلى وده، تودد إليهم بذكر ما له من النعوت الواسعة العظيمة الجميلة الجاذبة للقلوب السليمة والأفئدة المستقيمة، فإن القلوب والأرواح الصحيحة مجبولة على محبة الكمال والله تعالى له الكمال التام المطلق، فكل وصف من صفاته له خاصية في العبودية وانجذاب القلوب إلى مولاها، ثم تودد لهم بآلائه ونعمه العظيمة التي بها أوجدهم، وبها أبقاهم وأحياهم، وبها أصلحهم، وبها أتم لهم الأمور، وبها كمل لهم الضروريات والحاجيات والكماليات، وبها هداهم للإيمان والإسلام، وبها هداهم الحقائق الإحسان وبها يسر لهم الأمور، وبها فرج عنهم الكربات، وأزال المشقات، وبها شرع لهم الشرائع ويسرها ونفى عنهم الحرج، وبها بين لهم الصراط المستقيم وأعماله وأقواله، وبها يسر لهم سلوكه، وأعانهم على ذلك شرعا وقدرا، وبها دفع عنهم المكاره والمضار كما جلب لهم المنافع والمسار، وبها لطف بهم ألطافا شاهدوا بعضها، وما خفي عليهم منها أعظم. فجميع ما فيه الخليقة من محبوبات القلوب والأرواح والأبدان الداخلية والخارجية، الظاهرة والباطنة فإنها من كرمه وجوده، يتودد بها إليهم؛ فإن القلوب مجبولة على محبة المحسن إليها، فأي إحسان أعظم من هذا الإحسان الذي يتعذر إحصاء أجناسه فضلا عن أنواعه، فضلا عن أفراده، وكل نعمة منه تطلُب من العباد أن تمتلئ قلوبهم من مودته وحمده وشكره والثناء عليه. ومن تودده: أن العبد يشرد عنه فيتجرأ على المحرمات، ويقصر في الواجبات والله يستره ويحلم عنه ويمده بالنعم، ولا يقطع عنه منها شيئا، ثم يفيض له من الأسباب والتذكيرات والمواعظ والإرشادات ما يجلبه إليه، فيتوب إليه وينيب، فيغفر له تلك الجرائم، ويمحو عنه ما أسلفه من الذنوب العظائم ، ويعيد عليه وده وحبه، ولعل هذا - والله أعلم ـ سر اقتران الودود بالغفور في قوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) [البروج: ١٤].
ومن كمال مودته للتائبين أنه يفرح بتوبتهم أعظم فرح يقدر، وأنه أرحم بهم من والديهم وأولادهم والناس أجمعين، وأن من أحبه من أوليائه كان معه وسدده في حركاته وسكناته، وجعله مجاب الدعوة وجيها عنده، كما في الحديث القدسي: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته» رواه البخاري (١). وآثار حبه لأوليائه وأصفيائه عليهم لا تخطر ببال، ولا تحصيها الأقلام، وأما مودة أوليائه له فهي روحهم وروحهم وحياتهم وسرورهم ، وبها فلاحهم وسعادتهم، بها قاموا بعبوديته، وبها حمدوه وشكروه، وبها لهجت ألسنتهم بذكره، وسعت جوارحهم لخدمته، وبها قاموا بما عليهم من الحقوق المتنوعة، وبها كفوا قلوبهم عن التعلق بغيره وخوفه ورجائه، وجوارحهم عن مخالفته، وبها صارت جميع محابهم الدينية والطبيعية تبعا لهذه المحبة. أما الدينية فإنهم لما أحبوا ربهم أحبوا أنبياءه ورسله وأولياءه، وأحبوا كل عمل يقرب إليه، وأحبوا ما أحبه من زمان ومكان وعمل وعامل. وأما المحبة الطبيعية فإنهم تناولوا شهواتهم التي جبلت النفوس على محبتها من مأكل ومشرب وملبس وراحة على وجه الاستعانة بها على ما يحبه مولاهم، وأيضا فكما قصدوا بها هذه الغاية الجليلة فإنهم تناولوها بحكم امتثال الأوامر المطلقة في مثل قوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) ونحوها من الأوامر والترغيبات المتعلقة بالمباحات والراحات، فصار السبب الحامل لها امتثال الأمر، والغاية التي قصدت لها الاستعانة بها على محبوبات الرب، فصارت عاداتهم عبادات، وصارت أوقاتهم كلها مشغولة بالتقرب إلى محبوبهم. وكل هذه الآثار الجميلة الجليلة من آثار المحبة التي تفضل بها عليهم محبوبهم، وتقوى هذه الأمور بحسب ما في القلب من الحب الذي هو روح الإيمان، وحقيقة التوحيد، وعين التعبد، وأساس التقرب.
فكما أن الله ليس له مثيل في ذاته وأوصافه، فمحبته في قلوب أوليائه ليس لها مثيل ولا نظير في أسبابها وغاياتها، ولا في قدرها وآثارها، ولا في لذتها وسرورها، وفي بقائها ودوامها، ولا في سلامتها من المنكدات والمكدرات من كل وجه" اهـ (٢).
وإذا عرف العبد بأنَّ رَبَّه سبحانه ودود يحبُّ أولياءه ويحب من أطاعه، يحب المؤمنين المتقين، ويحب الصابرين المتوكلين، ويحب التوابين المتطهرين، ويحب الصادقين المحسنين ويحب جميع الطائعين، ولا يحب الظالمين الكافرين، ولا يحب الخائنين المسرفين، ولا يحب المختالين المستكبرين؛ فإنه يجب عليه أن يطيع أمره، ويفعل ما يحبه ويرضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال، وأن يتقرب إليه سبحانه بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وحب ما يحبه من الأقوال والأعمال، وحب كلامه سبحانه وحب رسوله وسنته، والاجتهاد في متابعته، فبذلك تنال محبة الله، قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: ۳۱] ، وفي الدعاء المأثور عن النبي : أسألك حبك، وحب من يحبك، وحُبَّ عمل يقربني إلى حبك» رواه الإمام أحمد، والترمذي (٣).
----‐------------------------------------
(١) (رقم: ٦١٣٧) من . حديث أبي هريرة الله .
(٢) فتح الرحيم الملك العلام» (ص/ ٥٥ - ٥٧).
(٣) مسند أحمد (٢٤٢/٥)، وجامع الترمذي رقم: (۳۲۳۵) من حديث طويل عن معاذ ابن جبل نه . وصححه الترمذي ونقل تصحيحه أيضاً عن الإمام البخاري.
وانظر شرحاً مفيداً لهذا الدعاء في كتاب اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى لابن رجب (ص/ ١٢٥) وما بعدها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق