السبت، 18 يونيو 2016

التفسير العقدي/ سورة النبأ -١-

د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي


يقول الله عز وجل :  بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
{ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا }
 نستفتح هذه الدروس في تفسير القرآن العظيم وقد وقع الاختيار ابتداءً على تفسير جزء عمّ المُستهل بهذه السورة العظيمة (سورة النبأ) ففي هذه السورة العظيمة -سورة النبأ- وسائر سور هذا الجزء يظهر أثر الاعتقاد فيما أنزله الله تعالى على عباده في العهد المكي، فيكاد أن يكون سائر سور هذا الجزء نزل بمكة باستثناء سورتين هما سورة البينة وسورة النصر وما سواهما فكله مكي ويظهر فيه ملامح السور المكية من التركيز على مسائل الاعتقاد والتوحيد ومفردات الإيمان. وما أحوجنا في هذا الزمان -وفي كل زمان- إلى استحياء هذه المعاني وتقويتها في القلوب والنفوس .
 يقول ربنا عز وجل : { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ }
هذه السورة العظيمة المسماة بسورة النبأ ويقال أحياناً بـ (سورة عمّ) لها مقاصد يمكن أن نلخصها بثلاثة أمور:
 المقصد الأول: تعظيم شأن القرآن
الثاني: تقرير الإيمان باليوم الآخر
الثالث: الدعوة إلى التفكر في آيات الله الكونية
هذه المقاصد الثلاث واضحة جلية في هذه السورة، ولو ذهبنا نجزّء هذه السورة إلى أجزاء لكانت الخَمس الأُول ذات موضوع واحد . يقول الله عز وجل : { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ }
هذه الآيات الخمس تتحدث عن النبأ العظيم ،والنبأ العظيم إما أن يكون القرآن وإما أن يكون البعث ، فالله تعالى استهل هذه السورة بصيغة الاستفهام { عَمَّ } ، وكلمة { عَمَّ } هي اختصار لـ (عن) ماذا يعني عم يتساءل المشركون؟ فهذا الاستهلال استفاهمي معنى {عَمَّ } يعني عن أي شيء يتساءل المشركون، وكأنها وردت على صيغة الاستفهام للاستنكار عليهم والنعي على فعلتهم،  كيف يسوغ أن يتساءلوا وأن يختلفوا في أمر كهذا؟
 والنبأ المقصود به الخبر، وليس أي خبر بل الخبر الذي استطار واشتهر لذلك قيل عنه نبأ من النبوَة، والنبوَة هو: ما علا وارتفع.
 ثم فخّم الله شأنه فوصفه بأنه عظيم -والأمر كذلك- وكما أسلفت فقد وقع الخلاف بين المفسرين هل المقصود بالنبأ القرآن -وهو قول مجاهد- أم المقصود بالنبأ البعث بعد الموت - وهو قول قتادة - ، ويعزز القول الأول - أي أن النبأ هو القرآن - أنه وقع الاختلاف منهم فيهم فتارة يقولون سحر، وتارة يقولون كِهانة ،وتارة يقولون شعر، فينطبق عليه أنهم قد اختلفوا فيه { الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } في حين أن البعث لم يقع فيه اختلاف لأنهم قد أنكروه جملة وتفصيلاً ، إلا أن القول الثاني - وهو أن النبأ العظيم هو البعث - أسعد بسياق السورة فإن سياق السورة كما سمعتم يتعلق بأحوال الآخرة والجنة والنار والفصل والحساب، ولو ذهبنا نرجِّح بين القولين لكان القول الأول أرجح ، لماذا ؟
لأنه أعم فإذا قلنا أن النبأ العظيم هو القرآن فإنه يدخل في القرآن أمر البعث فيكون متضمناً له ويكون اختلافهم - في الواقع - في مفردات هذا الأمر فهذا أولى بالاختيار. وقد ذهب إلى هذا الإختيار عدد من المفسرين على رأسهم -كما أسلفت- مجاهد -رحمه الله- وأسس الشيخ محمد عبد الله دراز كتابه [النبأ العظيم] اقتباساً وأخذاً من هذه السورة فالله تعالى يقول : { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ } عن أي شيء يتساءل الشركون؟ ثم يجيب إجابة مجملة لا تفصيل فيها { عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } فقد وقع بينهم الاختلاف في هذا النبأ .
 ثم إن الله سبحانه وتعالى لا يذكر تفاصيل اختلافهم والجواب عنهم بل يُعرِض عن ذلك وكأن الأمر من البيان والوضوح بمكان بحيث لا يستحق أن يتنازل مع المُخالف ويتحدث معه في أمر في غاية البيان والوضوح ففي هذا الإعراض تفخيم لهذا النبأ العظيم وترذيل لهؤلاء المنكرين له .
ثم تأتي آيتان فيهما زجر وقرع لهم يقول الله تعالى : { كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُون } وما أشد وقع هذه الجُمل على القلوب، وكلمة { كَلَّا } أحسن ما يُقال في معناها أي ليس الأمر كما يزعمون وما يدعون من إنكار البعث أو الطعن في القرآن.
 وأتى بالتكرار بقوله : { ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُون } للتأكيد ، ولم يبين الله تعالى يعلمون ماذا لكن واضح من السياق أنهم سيعلمون حقيقة هذا النبأ وتحقُقه في الواقع يعلمون حقيقته وتحققه في الواقع ، متى ذلك ؟ حينما يعاينونه ويبصرونه يقول الله عز وجل : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } أرأيتم كيف سيعلمون؟ حينما يرونه عياناً بأبصارهم حينما يعلمون أن وعد الله حق .
/ وبعد هذه المقدمة تأتي طائفة من الآيات تبلغ عشر آيات من الآية السادسة إلى ختام الآية السادسة عشرة ذات موضوع واحد
يقول الله عز وجل : { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا }.. إلى آخر الآيات.
 هذه الآيات استعراض لعجيب صُنع الله وبديع خلقه في الآفاق مما تخضع له الرقاب وتُذعِن له الجباه ويُقرُّ هؤلاء المخاطبون بحقيقته فهذا الاستفهام في قول الله تعالى : { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا } استفهام تقريري لأنهم مُقرِّون بما فيه .
فابتدأ الله تعالى بالآيات الأرضية ثم ثنّى بالآيات السماوية فقال أولاً :
{ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا } هذه الأرض التي تدبُّون عليها وتتنقلون في أكنافها وتسيرون في مناكبها وتحرثونها وتزرعون ألم نجعلها لكم مِهاداً؟ مامعنى مهاداً ؟ أي ممهدة مفروشة فهم يمتهدونها ويفترشونها كما قالت الآية الأخرى : { أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا } فالله تعالى بسط لنا هذه البسيطة بحيث نطمئن في السير عليها وفي السكنى وفي الحرث والزرع وسائر المصالح فهذه آية قريبة جداً نلامسها ،وجواب هذا الاستفهام بلى لأنه قد صُدِر بالهمزة { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا } ؟ جوابه بلى .
 { وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا } انتقل إلى مظهر آخر من مظاهر آياته الأرضية وهي هذه الجبال الراسيات التي جعلها الله سبحانه وتعالى بمنزلة الأوتاد كالأطناب للخيمة ، فالخيمة لا تستقر ولا تثبُت إلا إذا دُقت أوتادها في الأرض فكذلك هذه الأرض التي جرت الإشارة إليها لا تستقر إلا بهذه الجبال { وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ } فهي على هيئة الوتد، والوتد جزء منه بارز على وجه الأرض وجزء منه غائب فدل ذلك على أن هذه الجبال المنظورة لها في جوف الأرض عمق وامتداد.
 وما وجه كونها أوتاداً ؟
ألأنها تمنع الأرض من الحركة والاضطراب والزلازل فالله تعالى بحكمته البالغة قد وزّع الأثقال في الأرض بحيث تمنعها من أن تميل وتضطرب ؟
 أو أن المراد أن هذه الأوتاد وهذه الكتل الضخمة من الجبال التي إذا رأى الإنسان بعضها يذهل ويندهش ويطير صوابه من هولها وعظمتها أن لها ما يقابلها في أغوار البحار ؟ يعني بمعنى أن الله سبحانه وتعالى كما جعل في البحار وفي الأودية أغواراً قابل ذلك بهذه المرتفعات الشاهقة ، كل ذلك وارد المهم أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الجبال أوتاداً تحفظ الأرض من أن تميد أو تضطرب فكانت آية عظيمة، والله تعالى يذكر الأرض والسماء والجبال في غير ما موضع فيقول مثلاً : { إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ } وسيأتي معنا في سورة سبح ما فيه قرن لهذه الثلاثة.
/ { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } هذه نقلة من الآفاق إلى النفس وكلها آيات لله عز وجل { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ }
{ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا } والمراد بالزوجية الذكورة والأنوثة ، فإن الله سبحانه وتعالى قد ركّب نظام الخلق والتكاثر على هذه الزوجية ليس فقط عند بني الإنسان بل حتى عند الحيوان بل حتى عند النبات والحشرات وغيرها من المخلوقات فهذا التزاوج يحصل به التناسل والتكاثر وحفظ النوع ، وهي آية عظيمة فالله تعالى في الأصل خلقنا من نفس واحدة وهو آدم عليه السلام ، ثم إن الله تعالى خلق من ضِلعه الأيسر القصير أُمنا حواء فنام آدم نومة في الجنة فاستيقظ فإذا هي إلى جواره { خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً } الله أكبر، كم يعمُر الأرض من الآدميين ؟ ما يفوق ست مليارات من البشر -المليار ألف مليون- مختلفوا الأجناس والأعراق والألوان واللغات كلهم يرجعون إلى أب واحد وأم واحدة فهذه آية عظيمة وإذا تفكر الإنسان في خلق الرجل وخلق المرأة وكيف جعل الله تعالى أحدهما يُكمِّل الآخر ، وبما فتح الله تعالى على الناس من العلوم الحديثة والبحوث المخبرية وغير ذلك زاد إيماناً ببديع صنع الله حتى إن هذا التزاوج إنما ينشاء عن التقاء حيوان منوي من الذكر وبويضة من الأنثى هاتان الخليتان تختلفان عن سائر الخلايا فكل خلية من خلايا البدن -يقولوا المتخصصون في علم وظائف الأحياء- أنها تحمل ستة وأربعين مُورِّثاً أي جيناً المُسماة عندهم بالكروموزومات إلا الخلية التناسلية فإن في الحيوان المنوي ثلاثة وعشرين من الرجل وفي البويضة ثلاثة وعشرين فإذا حصل التلقيح والإخصاب -بإذن الله- انضم هذا من الرجل وهذا من الأنثى فحصل الخلق. آية عظيمة {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا }
 ولله الحكمة البالغة في هذا التزاوج لأنه ليس فقط تزاوجاً حسياً بل له بُعد نفسي فإن الذكر يأنس بالأنثى والأنثى تأنس بالذكر ولهذا امتنّ الله تعالى على عباده وجعل ذلك من آياته فقال في الآية الأخرى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } فهذا جانب غير منظور ليس جانباً مادياً لكنه حقيقي لا يستغني عنه الإنسان .
/ { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا } -الله أكبر- هذا أيضاً مظهر من مظاهر القدرة الإلهية والآيات العظيمة في النفس، وهو هذا النوم الذي يُلقيه الله تعالى على أحدنا فيدخل في حالة ليست كحالة اليقظة وليست أيضاً كحالة الموت بل هي حالة وسيطة، هذه الحالة لابد للإنسان منها ولهذا وصفها الله سبحانه وتعالى بأنها سُبات وأحسن ما قيل في تعريف السبات أنه الراحة والسكن ، وقيل غير ذلك قيل أن معنى { سُبَاتًا } أي موتاً أو نوماً أو قطعاً وهذه المعاني تؤل في النهاية إلى هذه المِنة أنه يحصل بهذا النوم الراحة والسكن، فلولا النوم -لو استرسل الإنسان في اليقظة- لأضر به ذلك في بدنه فالبدن يحتاج إلى راحة، ولأضر به في نفسه لأن النفس تُنهك وتُرهق، ولأضر به في عقله فإن العقل لا يطيق أن يعمل بإستمرار، فلذلك ألقى الله تعالى علينا هذا النوم وحتى لو لم نستدعه لأضطررنا إليه ولألقانا، وقد جاء في الأثر أن بني إسرائيل سألوا موسى عليه السلام فقالوا له : يا نبي الله أينام ربك؟ قال : اتقوا الله ولا تكونوا من الجاهلين -أو كما قال عليه الصلاة والسلام- قالوا : نريد آية، فاستحى موسى من ربه ثم سأله، فقال له الله : ياموسى خذ جرتين وقم بهما، فأخذ موسى عليه السلام جرتين -قارورتين- ثم قام بهما من الليل فأدركه النُعاس فقاوم لكنه بعد ذلك غلبه النعاس فاصطكت الجرتان وانكسرتا فأوحى الله إليه أن ياموسى أينبغي لمن يُمسك السماوات والأرض أن تزولاً أن ينام -سبحانه وبحمده-
أما الآدمي فإنه ضعيف بطبعه يحتاج إلى هذا النوم، والنوم من كماله النوم في حق الله نقص يُنزّه عنه { لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ } لكن النوم في حق الآدمي كمال ونفع وفائدة .
{ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا } هذا النوم آية من آيات الله كما قال في الآية الأخرى : { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } فالنوم آية وأمره غريب فإن النوم أخو الموت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لكنه أخوه الأصغر لأنه دون ذلك يقول ربنا عز وجل : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى } وأنت إذا أويت إلى فراشك ماذا تقول؟ تقول : ( باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ) .
بين الروح والبدن أنواع خمسة من التعلقات ندركها بالتتبع والاستقراء ، ليست علاقة الروح بالبدن علاقة متساوية
 النوع الأول : علاقة الروح بالبدن في المرحلة الجنينية وهي علاقة ضعيفة إلى حد أننا لا نذكر هذا التعلّق مع أننا نقطع بأن الجنين بعد أربعة أشهر تُنفخ فيه الروح لكن ما منا أحد يذكر ذلك الحال لا يذكر أحد منا المرحلة الجنينية مع وجود روحه في بدنه .
 الحال الثانية : الحال التي نحن فيها الآن وهو تعلق الروح بالبدن في حال اليقضة في الدنيا ولا نحتاج إلى وصفه لأننا نعيشه .
 الحال الثالثة : تعلق الروح بالبدن في حال النوم في الدنيا فإنه حال مُستقل لا تغادر الروح الجسد مغادرة تامة لها فيه نوع تعلق ولذلك نجد أن النائم أحياناً يظهر عليه التبرم بسبب الحر أو بسبب الإزعاج مع أنه ليس في وعيه، ويظهر عليه أثر البرد مثلاً فيقشعر بدنه كذلك يظهر عليه أثره الراحة والاستغراق فهناك نوع علاقة وسيطة .
 الحال الرابعة : تعلق الروح بالبدن في الحياة البرزخية وهذه حالة عجيبة لا نُدركها ولكن الإيمان بالغيب يقضي أن نؤمن بها فإن روح الميت تُرد إلى بدنه حين يوضع في قبره ولذلك يأتيه الملكان ويسألانه الأسئلة الثلاثة المعروفة ولكنها حال لا يدركها إلا المقبور فهو الذي يُحس بنعيم القبر وعذابه .
 الحال الخامسة : وهي أكمل أنواع التعلقات تعلق الروح بالبدن بعد البعث إما في الجنة أو في النار ، فهذا التعلق تعلق وثيق واتصال عميق ولهذا يجد المؤمن غاية النعيم في الجنة ، ويجد الكافر غاية العذاب في النار لشدة التصاق روحه ببدنه { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا }. / ثم قال الله عز وجل : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا } الله أكبر قد جعل الله هذه الحياة المعاشية تتراوح بين ليل ونهار، بين ظلمة وإسفار، وما أحسن هذا التعقيب ، بعد ذكر النوم ذكر الله تعالى محلّه وظرفه وهو الليل فقال : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا } فما أن تسقط الشمس في المغيب حتى يقبل جيش الليل، يأتي هذا الجند الظلامي ويغطي الأرض ويُكِنها ويغشاها كأنه لباس، أرأيت لو أخذت ثوباً أسوداً وغشيت به إنساناً فإنه لا يبصر شيئاً ، فهذا الغشاء الرباني يكسونا الله تعالى به كل يوم ويحصل من جرائه هدوء وسكينة وأثار قد لا ندركها ولهذا أمتنّ الله على عباده فقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ } لا أحد ، الله تعالى { يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ }، { لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } حكمة إلهية ولو اختل هذا الميزان لظهر ذلك على الآدميين .
 حدثني بعض الناس من من عاش في منطقة قريبة من الدائرة القطبية في شمال إحدى الدول الاسكندنافية قال : "عملت في بلد لا نرى فيه الشمس ستة أشهر يأتي دقائق معدودة يرتفع قرص الشمس ثم يسقط مباشرة ولا نعيش إلا في ظلام دامس إلا الإضاءة الكهربائية حتى إن أحدنا مثلاً يستيقظ من النوم ويبصر ساعته فيجد الساعة مثلاً السادسة والنصف كساعتنا هذه فيقول لمن حوله الساعة السادسة والنصف صباحاً أو مساء؟ لا يدري لأن الزمن كله ظلام ليل ، الشاهد في هذا ماذا ؟ يقول : إن حياة الناس في تلك البلدة - هو ليس من أهلها هو مهاجر للعمل فيها - يقول حياتهم كئيبة قال : يحس الإنسان بالكآبة والانقباض والتجهّم في وجوه الناس" .
 فهذا أمر عجيب وهذا من نعمة الله عز وجل في هذه البلاد فإن البلاد التي أنزل الله تعالى فيها القرآن وجعلها مُنطلق الرسالة والدعوة بلاد متوسطة تتعاقب فيها الفصول ويتعاقب فيها الليل والنهار يزيدان وينقصان فهي سُرة العالم وقلب الدنيا والأطراف لها أحكام .
/ { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } ما معنى { مَعَاشًا } ؟ أي تتعيشون فيه وتطلبون به رزقكم تحرثون وتتجِرون وتعملون لأن هذه الإضاءة الطبيعية تُمكننا من ذلك ولو اجتمع كل من بأقطارها على أن يضيئوا الدنيا بما عندهم من محطات ومولدات لم يبلغوا ولا واحد من مليون من هذا الضوء الذي يجلبه الله تعالى لنا في النهار فهذا النهار هو ظرف المعاش { وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } .
/ ثم قال سبحانه بعد أن ذكر هذه الأحوال البشرية نقلنا نقلة علوية فقال :
 { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا } فإذا بالبصر يشهق إلى أعلى ويُبصر هذا البناء المُحكم المتين السماوات { وَبَنَيْنَا } ولاحظ التعبير بالبناء فالسماء مبنية كما أخبر الله عز وجل { وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ } وقال: { وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا } فهي سقف حقيقي .
قال : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا } وعبّر في موضع آخر عنها بأنها طرائق، ففوقنا سبع سماوات وما معنى { شِدَادًا } ؟ أي متينة محكمة متماسكة كما قال الله عز وجل : { فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَىٰ مِنْ فُطُورٍ } يعني من ثقوب وخروم في السماء { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ } حاول مرة أخرى وثالثة { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ } عجز البصر أن يدرك ثقباً واحداً في هذا البناء المُحكم.
 الله أكبر { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا } ما هذه السماوات السبع ؟ قد لا نُدرك كيفيتها هل المقصود بها ما يشير إليه علماء الفلك الآن أنها المجرات ويقولون أن كل مجرة يتبعها قريب مائة مليون نجم وهذه النجوم أكبر من الشمس بآلاف المرات وهذا غير مستبعد على قدرة الله عز وجل { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } أم إنها غير ذلك ؟ الله أعلم، لكننا نؤمن بوجود سبع سماوات وأن المباشر لنا منها هي السماء الدنيا. { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا } والبناء يدل على وجود نظام مع هذا النظام الذي يحكُمها بحيث لا يحيد جرم سماوي عن مجراه قيد أنملة هذا هو الشد والإحكام والإتقان في بناءها .
/ { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا } لما ذكر السماء ذكر بعض آياتها بل ذكر أعظمها بالنسبة لما تُدركه أبصارنا وهو الشمس ووصفها بهذا الوصف الجميل المُعبر { سِرَاجًا وَهَّاجًا } فإن السراج يجمع وصفين ما هما ؟ الإضاءة والحرارة فهو مجلبة للنور ومجلبة للدفئ وزاد ذلك بأن قال : {وَهَّاجًا } فهو يتوهّج، والذي يُبصر الشمس يراها كذلك، شتان بين الشمس والقمر، القمر كوكب -جُرم- بارد لا يعدو أن يكون كالمرآة يعكس نور الشمس فلذلك لا نجد من القمر دفئاً وإن كنا نجد منه نوراً وإضاءة لكنها دون إضاءة الشمس دون إضاءة السراج أما الشمس فإنها تتوهج وتبعث بالدفئ والحرارة ويترتب على ذلك -أي على الدفئ والحرارة والإضاءة- أمور حيوية كثيرة جداً تتعلق بصحة الإنسان وبنمو النبات وغير ذلك مما نُدركه وما لا نُدركه، ولا ريب أن العلوم الحديثة من علوم الفلك وعلوم الأحياء وعلوم وظائف الأعضاء كشفت آفاقاً واسعة في هذا المقام، لكن القَدر الذي بينه الله تعالى لعبادة كافٍ في إقامة الحُجة فإن الناس يدركون ذلك وهم يتنعمون بضوء الشمس وبدفئها وبرؤية أثرها على النبات، يعلمون أن النبات لا بد له من ضوء الشمس وإلا لم يخضّر ولم يحصل له الدفيء الذي يمكنه من النمو وكذلك الحيوان { وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا }
/ { وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا } { الْمُعْصِرَاتِ } ما المعصرات ؟ قيل فيها عدة أقوال:
 قيل فيها أن المراد بها السحاب ، وقيل الرياح ، وقيل السماء ، وأقربها الأول أن المراد بالمعصرات السحاب ، فهذه السحب التي تسافر إلينا من أماكن بعيدة يُسلِّط الله تعالى ضوء الشمس ووهجها على المسطحات الهائلة من المحيطات فتتبخر كميات هائلة من مياه البحار وتبقى في طبقات السماء ثم تتكثف بعضها إلى بعض ثم يرسل الله عز وجل الرياح كالقطارات تقطُرها وتحملها إلى بلد ميت إلى أرض قاحلة كالمناطق القارية التي هي بعيدة عن مصادر المياه، يسوقها الله عز وجل بهذه الرياح حتى يُوقفها في المكان الذي أراد أن تُنزل فيه حمولتها فحينئذ تعتصر فتنزل عُصارتها على هذا المكان الميت فيحيي الله تعالى به أرضاً ميتة فيحييها الله سبحانه وتعالى بهذا الماء المنقول من مسافات هائلة، ولو اجتمع من بأقطارها على أن ينقلوا عُشر مِعشار هذا الماء ما تمكنوا ، هذا الماء الهائل الذي يغطي مساحات تقاس بمئات الكيلومترات أحياناً طولاً وعرضاً من ذا الذي يستطيع أن يرش به الأرض ولو بثانية واحدة؟ لا أحد ، { وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا } هو ماء ماء مُطلق وماء نقي ماء طهور وما معنى { ثَجَّاجًا } ؟ أي غزيراً كثيراً سبحان من حمَله أطنان من المياه بين السماء والأرض ثم تصُب حيث شاء الله عز وجل فمعنى { ثَجَّاجًا } أي غزيراً كثيراً .
/ وعلى القول الآخر بأن المراد بالمعصرات الرياح كأن التقدير وأنزلنا "مِن" نجعل "مِن" بمعنى الباء يعني كأن الله تعالى يقول وأنزلنا بالرياح ماء ثجاجاً لأن الرياح هي التي تسوق السحاب. لكن القول الأول أولى .
وأما من فسّرها بالسماء فإشارة إلى علوها وكل ما علاك فهو سماء لك كل ما علا فهو سماء { وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا }.
/  {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا } إذا هذا السوق لحكمة ماهي ؟ { لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا } -تبارك الله- أرض قاحلة غبراء لا ترى فيها أثرا لحياة يصب عليها ماء السماء فإذا بها تُنبت أزاهير وتُنبت حبوباً وثماراً وفواكه ، من أتى بها؟ من أودع الأرض هذه البذور ؟ الله سبحانه وتعالى { لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا } والحب اسم جنس يشمل كل ما خطر ببالك من الحبوب من بر وشعير وأرز وغير ذلك ، والنباتات كل نبات مما يأكله الآدمي وتأكله الحيوانات، كل هذا من جراء سَوق الله تعالى لهذه المُعصرات إلى هذه الأرض وماذا ؟
{ وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا } الجنات هي البساتين وسُميت جنات لأنها تُجِنّ صاحبها أي تستره ولهذا قال : { أَلْفَافًا } أي ملتفة، ما الملتف فيها ؟ أغصان الأشجار فإنها لكثرتها التف بعضها على بعض، كل ذلك من جراء ماء السماء الذي سقى الله تعالى به هذه الأرض بإذا بها تتحول إلى حديقة غناء تصدح فيها الطيور وترعى فيها السائمة ويأكل منها الإنسان عجيب خلق الله .
أرأيتم أيها الأخوة الكرام هذه السلسة المتلاحقة من الآيات الكونية العظيمة كيف تُلامس شغاف القلب ، ثم ألا تعجبون من أن هذه المظاهر تقابلنا صباح مساء صيفاً وشتاء ثم لا ننتبه لهذا المعنى العظيم الذي أودعه الله فيها.
 ثم تأملوا ثالثاً في هؤلاء المُخاطبين من كفار قريش الذين يُنكرون البعث، ويُنكرون القرآن، ويُنكرون الرسول، ويُنكرون توحيد الله بالعبادة، كيف أن الله سبحانه وتعالى أيقظهم ونبههم وحرّك عقولهم البليدة ، هم يرون ذلك دوماً ولكنها بمنزلة المعرفة الباردة لأنها مناظر متكررة رتيبة لا تُحدث في نفوسهم الأثر فما أشبههم بإنسان ساهٍ غافل أتاه من أتاه وأمسكه من منكبيه وهزه وقال : انتبه انظر تبصّر.. تفكر.. اعتبر.. أين أنت ؟ فقام مشدوها ليُبصر وينظر أين هو ، لكن كما قال الله عز وجل : { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } فالآيات مبثوثة وموجودة وهي بمنزلة المواد الخام في الكون لكن لا ينتفع بها ولا يستصلح بها قلبه إلا أهل الإيمان فلأجل ذلك ساق الله سبحانه وتعالى هذه الآيات المتتابعة لإخراج هؤلاء من غفلتهم وسدرتهم ليصل بهم إلى النتيجة المنطقية ماهي النتبجة المنطقية ؟ إذا كنتم تُقرّون من أول وهلة ومن أول سؤال { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا } فتقولون بلى .. بلى .. بلى .. في عشر آيات متلاحقة إذا كان الله سبحانه وتعالى هو الذي صنع ذلك فمن المُستحق للعبادة إذاً؟ الذي صنع هذا أو غيره من من لم يصنع شيئاً ؟ لا شك أن المستحق للعبادة هو من صنع ذلك . ولهذا لما أبطل الله تعالى أولوهية المشركين ماذا قال ؟ قال : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا } إذا ماهو مُسوغ عبادتهم ؟ بأي حق صُرِفت العبادة لهم ؟ إبراهيم عليه السلام ماذا قال لأبيه ؟ قال : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } ؟ فهو لا يستحق العبادة إن لم يكن يتصف بصفات المعبود .
 ونختم باستنباط بعض الفوائد من المقطع الأول ومن المقطع الثاني
 فمن المقطع الأول -الآيات الخمس الأول- نستفيد منها ما يلي :
أولاً : عِظم شأن القرآن أو البعث -على الخلاف الذي ذكرناه- وأنه من أصول الإيمان وسيأتي لذلك مزيد التقرير إن شاء الله .
الفائدة الثانية : سَفه المنكرين للأمور اليقينية ألم تروا كيف سفههم الله { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ * الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ * كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } لم يلقي لهم بالاً ولم يناقشهم في شبهتهم لأنها من الظهور بمكان فالله ينعى عليهم أي يتساءلوا في هذه القضية فهذا تسفيه من الله لهم .
الفائدة الثالثة : أن المخالفين للرسل مختلفون فيما بينهم -وهذا ملحظ- ليسوا على قلب واحد قال الله تعالى : { الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُون } { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } فهم في شقاق فكل من خالف الحق ستجدهم فِرقاً وشيعاً وأحزاباً لأن الحق واحد لا يتعدد أما الباطل فشُعَب وظلمات ولهذا دوماً الله تعالى يوحِّد الحق مثلاً { وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } الحق واحد والباطل أشلاء ، يقول الله تعالى : { قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ } إذاً هي سبيل واحد .
الفائدة الرابعة : استعمال أسلوب التهديد في الموعظة الإيمانية ، من أين ؟ { كَلَّا سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ } ياله من تهديد ووعيد وردع وزجر ولذلك لا بأس للداعية في بعض المواقف أن يُهدد المدعو بعقاب الله وبشؤم صنيعه أن يُخوفه باليوم الآخر ويقول ويلك كما قال الله عز وجل :{ وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ } فلا بأس أن يستعمل المرء في موعظة الضال أسلوب التهديد كما صنع الله تعالى في هذه السورة .

/ونستفيد من الآيات العشر التالية ما يلي:
 أولاً : أن توحيد الربوبية أساس لتوحيد العبادة والألوهية وبناء عليه.
الفائدة الثانية : العناية ببيان أدلة الربوبية وشواهدها في النفس والآفاق، تنبغي العناية ببيان أدلة الربوبية وتفصيها وذكر شواهدها في النفس والآفاق. بعض الناس يطيش عنده الميزان لما رأى أن المهم هو توحيد العبادة ظن أن في هذا غضاً في توحيد الربوبية فصار يقول عن توحيد الربوبية هذا توحيد أبو جهل مافيه إشكال .. لا .. هذا التوحيد توحيد الربوبية هو الأساس والقاعدة التي نبني عليها المطالبة بتوحيد العبادة وتأملوا قول الله تعالى في سورة البقرة : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} طالبهم بالعبادة مُستدلاً عليهم بأنه خلقهم والذين من قبلهم ثم قال : { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فابتدأ بالأمر بالعبادة وختم بالنهي عن الشرك وبينهما ذكر توحيد الربوبية .
الفائدة الثالثة : إيقاظ العقول البليدة للتفكر في المشاهد المتكررة ولهذا ينبغي كما أنه وُوجِه المشركون فنحن أيضاً ينبغي أن نعظ أنفسنا به وأن لا تتحول هذه المشاهد حولنا إلى جثث هامدة .
الفائدة الرابعة : الاستدلال بالسهل المُشاهد قبل الصعب الخفي، فهذه الآيات المبثوثة في الكون سهلة مشاهدة لا نحتاج إلى محاضرات لإقامة الدليل عليها يدركها الكبير والصغير والعالم والجاهل والحضري والبدوي وكل أطباق الناس فلا نذهب لإقامة العقيدة وبناء العقيدة على الطرق الكلامية والأدلة العقلية الغامضة .
 الفائدة الخامسة : إستعمال أسلوب الاستفهام والتنويع والتكثير في الأدلة أين ذلك ؟ { أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا } فهو لم يقتصر على نوع واحد لأن القلوب لها مفاتيح، فقد يتأثر الإنسان بمعنى من المعاني أو مشهد من المشاهد ويتأثر غيره بخلافه لأسباب وزّعها الله على بني آدم ، والتكثير لأن توالي الأدلة وكثرتها تؤثر في النفس كتتابع الطَّرْق <ومن أدمن الطَّرْق أوشك أن يُفتح له> .
فكل هذه الأساليب التربوية الإيمانية ينبغي أن يستفيد منها الداعية إلى الله سبحانه وتعلى في إقناع غيرة وفي التأثير والموعظة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق