الجمعة، 24 يونيو 2016

الأمثال في سورة يس

د. محمد بن عبد الله بن جابر القحطاني


الحمد لله رب العالمين .. الرحمن الرحيم .. مالك يوم الدين ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين وإله الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد ..
فحياكم الله أيها الأخوة الكرام في هذا المجلس المبارك، ونسأل الله -جَلَّ وعلا- أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، ونسأله -جَلَّ وعلا- أن يجعلنا جميعًا من أهل القُرْآنِ الذين هم أهله وخاصته وبعد ..
 تتواصل هذه اللقاءات في التعليق على أمثال القُرْآنِ التي ضربها الله -عز وجل- للناس لعلهم يتفكرون ولعلهم يتذكرون، ولاشك كما مر معكم وكما استمعتم من إخواننا المشايخ الكرام على أهمية تدبر هذه الأمثال وتعقّلها والوقوف معها لأنها مجال رحب للتذكر والتفكر، وذلك من أعظم مقاصد هذه الأمثال ومقاصد القُرْآنِ، لأن هذا الكتاب العظيم أنزله الله -عز وجل- لهداية الناس وتعليمهم، ولبيان كل ما يحتاجون إليه في أمر دينهم ودنياهم فيما يقربهم إلى الله -عز وجل-.
وهذا الأمر أيها الأخوة يحتاج من أهل الإسَّلَام والإيمان والقُرْآنِ إلى تفكّر وتعقّل، وهذا أمرٌ مهم نحتاجه جميعًا وهو ما يتعلق بالتفكر في القُرْآنِ الكريم، لأن التفكّر في آياته على وجه العموم، والتفكر في أمثاله على وجه الخصوص مما يكشف لنا هدايات هذا القُرْآنِ، وما ينبغي لنا في التعامل معه والاهتداء به، ولذلك جعل الله -عز وجل- التفكر قسيمًا للبيان النبوي، في قوله -عز وجل-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[النحل: ٤٤]، فليس المطلوب منا فقط أن نتلقى ما جاءنا من التفسير عمن قبلنا سواءً كان عن النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- أو عمن بعده ودونه وإنما يُطلب منا كذلك أن نتفكر: (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، يتفكرون في هذه الأمثال لاستخراج ما فيها من العبر والعظات والمواعظ والدروس التي يحتاجونها في حياتهم وتفتح لهم أفاقًا من المعرفة، وتكشف لهم خفايا تنفعهم في دينهم ودنياهم، وهذا ما قد ينقصنا كثيرًا في هذه السنوات على وجه الخصوص الذي يعني التفكر. طول النظر والتفكر وهذا مقصدٌ جليل من مقاصد ضرب الأمثال، كما قال الله -عز وجل- وسيأتي معنا في سورة الحشر: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)[الحشر: ٢١]. والتفكر تفعُّل وهو إعمال الفكر والنظر والتأمل حتى نستخرج دلائل هذه الأمثال والمقصود منها، وهو التدبر الذي يُراد به معرفة ما وراء المثل، ماذا يقصد به؟ ولاشك أن هذا له الأثر الكبير في بناء العقل وتكوينه ورياضته، حتى يكون عقلًا مُنتجًا مبدعًا يخترع وينشئ ما ينفع نفسه وينفع أمته.
 نواصل أيها الأخوة الكرام الأمثال المتبقية، والتي شرح المشايخ الكرام ما مر عليكم منها وسوف يكون نصيبنا في هذين الدرسين بين المغرب والعشاء وبعد العشاء، ما تبقى من الأمثال من سورة يـس إلى أخر القُرْآنِ الكريم.
/ أول مثل كما هو عندكم المثل المضروب في سورة يـس في قول -اللَّهَ تَعَالَى-: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ)[يـس: ١٣]. وهذا الخطاب موجهٌ للنبي صلى الله عليه وسلم أمره الله -عز وجل- بأن يضرب لهم، والضمير في "لهم" لكفار قريش المكذبين الذين كذبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا به، وكذبوا بالحق الذي جاء به. فيقول الله -عز وجل-:
 (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)[يـس: ١٣- ١٧].
إلى أخر الآيات التي ذكرها الله -عز وجل- في سورة يـس في شأن هذا المثل، لأن الآية المذكورة عندكم هي أول المثل، وإلا تتمته إلى نهاية الآيات التي فيها الإخبار بهلاك أصحاب هذه القرية، فإذا هم خامدون أهلكهم الله -عز وجل-.
المقصود من هذا المثل -أيها الأخوة- هو بيان حالة المُكذب وأن من كذب بالحق الذي جاءت به الرسل هالكٌ لا محالة، كما حدث لأصحاب القرية التي جاءها المرسلون ودعوهم إلى الإيمان وإلى التوحيد فكذبوا المرسلين فكانت العاقبة أن أهلكهم الله -عز وجل-. وكذلك كلُ من كذب بالرسل سيناله ما نال هؤلاء، ففي هذا المثل تهديدٌ للمشركين وبيانٌ لعاقبة تكذيبهم، وأنهم إن استمروا في تكذيب الرسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام-، وعدم الإيمان به فسيكون مصيرهم مصير أصحاب القرية المضروب بهم المثل هنا.
فيقول الله -عز وجل-: (وَاضْرِبْ لَهُمْ)، يا محمد مَثَلًا: (أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ)، من أصحاب القرية؟ 
ذكر المفسرون أنهم أهل أنطاكيا -وعلى هذا أكثر أهل التفسير- إلا أن ابن كثير -رَحمه اللَّهُ- ردّ هذا القول، وقال: لا يصح لأن المعروف أن أهل أنطاكيا آمنوا بعيسى لأن هؤلاء المرسلين كانوا في زمن عيسى، فيقول: المعروف أن أهل أنطاكيا آمنوا بعيسى وليسوا ممن كذب. على كل حال لا يهمنا من أصحاب القرية، لأن القاعدة في مثل هذا وهو ما يسمى بالمبهمات أبهم الله -عز وجل- ولم يحددهم من هم أي قرية، من هم بالتحديد؟ لم يذكرهم الله. ولم يأتِ في القُرْآنِ دلالةٌ صريحةٌ واضحة تدل عليهم، ولا في السنة نصٌ صحيحٌ يُبين من هم، فالقاعدة في مثل هذا أننا لا نجزم بتحديدٍ لهم وإنما نُبقي الأمر كما ذكره الله. ولو كان في تحديدهم فائدة لذكرها الله -عز وجل-، ولذكرها الرسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- وهذا من محاسن التأويل كما قرر صاحب "محاسن التأويل" الإِمَامِ القاسمي ذكر تعقيبًا على هذه الآيات أن من المفسرين من اجتهد في تحديد هذه القرية ومن أصحابها، ثم نبّه على أن هذا لا ينبغي وأن من محاسن التأويل إبقاء المبهمات على ما هي عليه وعدم الخوض فيها إلا بدليلٍ قاطع، والدليل القاطع إما نص من القُرْآنِ أو من السنة أو إجماع تُجمع عليه الأمة. ولا يوجد هنا لا إجماع ولا يوجد لا نص من القُرْآنِ ولا من السنة، يُبين من أصحاب القرية ولا يهمنا من هم أصحاب القرية، المهم أنهم من خلال السياق أنهم قومٌ أرسل إليهم رسولان (إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) نفس التكذيب الذي كذب به كفار قريش كان موجودًا في السابق عند هؤلاء: (قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا) ، وهذا يدل على أن هؤلاء رسلٌ من الله خلافًا لمن قال: بأنهم رُسل عيسى، كثير من المفسرين يقولون: أن الرسل هؤلاء أرسلهم عيسى، فهم رُسل الرسول وظاهر الآيات أنهم رسلٌ من الله وهذا هو الظاهر.
 (قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) وهذا الكلام دعوى لا حقيقة لها، مجرد تكذيب لا يُبنى على برهان ولا على حجة، وهذه شبهةٌ قالها الكفار: (مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)، فماذا تريدون نرسل إليكم ملكًا؟ فلو أرسلنا ملكًا لقلتم: ليس من جنسنا كيف نؤمن برسولٍ ليس من جنسنا وليس كمثلنا؟! فلابد أن يكون الرسول من جنس من أرسل إليهم.
(قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) أكدوا، قالوا أولًا: إنا إليكم مرسلون فلما كذبوا زاد التوكيد. وهذا من الفوائد أنه كلما كُذب الخبر يستحسن زيادة توكيد هذا الخبر حتى يُقبل، إلى أخر الآيات وفيها: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)[يـس: ٢٠].
يهمنا هنا أيها الأخوان بعض الفوائد التي تستجلى من هذا المثل:
 أولًا: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ)
 قد يؤخذ من هذا أنه يُستحسن ويُطلب في بعض الأحوال تعزيز أو تكثير الدعاة عندما يكون الحال يستدعي ذلك. وهذه حالة تكاد تكون استثنائية، يعني أن يُرسل أكثر من رسول إلى قرية كأنهم بلغوا في التكذيب والكفر والفجور مرحلةً كبيرة، فكان من الحكمة أن يُرسل إليهم عدة رسل لأن الخبر إذا تعددت مصادره يقوى، فأُرسل إليهم رسولان ابتداءً فكذبوهما فعزز الله هذين الرسولين بثالث، ففيه أنه ينبغي أن نُعزز إخواننا من الدعاة أن نقف معهم ولا نقول قاموا بالواجب ولم يُستجب لهم ..لا، قد يكون في التعزيز زيادة فائدة قد يحصل فيه أو من أجله استجابة، المهم تعزيز الدعاة بعضهم لبعض أو ورثة الأنبياء والرسل مطلب. وقد ذكر الله -عز وجل- نموذجًا واضحًا صريحًا له هنا.
 أَيْضًا -نحن سنختصر على بعض الفوائد لأن الوقت ضيق ولا نستطيع أن نستغرق في هذا-
ثانيا: وجود دعاة على مستوىً عالٍ من العلم والتأثير لا يعني عدم قيام من هو دونهم بواجب الدعوة والتذكير، لأن الله ذكر في سياق هذه القصة خبر رجلٍ لم يُذكر اسمه جاء إلى هؤلاء وشارك هؤلاء المرسلين في الدعوة. ولم يقل: لماذا أذهب وقد جاءهم ثلاثة رسل، (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ)[يـس:٢٠].
 وهذه فائدة مهمة جدًا يا إخوان -خاصةً في هذا الزمن- لأن كثيرًا ممن يحمل همّ الدعوة إلى الله إذا قيل له: أذهب أو قُم، قال: فيه غيري،فيه علماء كبار يكفون .. فيهم بركة.. لا، لا يُقبل هذا الكلام، أنت مُكلف وأنت مطلوب منك أن تُؤيدهم، وأن تدعو الناس إلى الاستجابة لهم، وأن يسمعوا كلامهم، وأن يستجيبوا لهم، هنا رجل ولم يذكره الله وليس برسول. ولكنه رجلٌ يحمل همًا ويستشعر بالمسئولية المهمة، التي ينبغي أن يستشعرها كل عاقل يحمل همّ هذا الدين (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ لم يمنعه بُعد المكان عن المجيء، يسعى حريص (قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ).. إلى أخر الآيات.
/ ثم هذا المثل يؤخذ منه أن من كذب الرسل وعاند الحق وكذب سيهلك لا محالة، سواءً كان هذا في الدنيا أو في الآخرة، لأنه بعد مجيء النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- بل بعد مجيء موسى لم يبقَ هناك إهلاك عام يَهلك فيه جميع الناس وإنما إهلاك جزئي لأن الهلاك العام كان للأمم السابقة؛ لكن بعد فيه هلاك أو إهلاك جزئي، فمن كذب بالحق سيهلك سواءٌ لحقه الهلاك في الدنيا أو في الآخرة، وهو أشد وأعظم يوم القيامة.
/ وفيه أنه ينبغي أن يُضرب لمن كذب أو خالف، يُضرب له المثل بمن قبله وفعل فعله، وهذا يُفيد أهمية استقراء التاريخ ودراسته للدعاة، وهذا من العلوم الضرورية للدُعاة ، دراسة التاريخ وقراءة تاريخ الأمم وما حصل لهم. بل عدّه بعض العلماء من العلوم الضرورية للداعية، وأنه لا ينبغي للداعية أن يكون مُمارسًا للدعوة ويقوم بها أو يتخصص أَيْضًا فيها إلا وعنده إلمام بالتاريخ، وهذا من أهم العلوم لأن هذا التاريخ هو الذي يعطيك العِبر والسنن التي تكرر، لأن السنن تتكرر وما حدث في أمة يحدث في الأمم التي تفعل فعلها، وتمارس دورها -سُنن- والسنن لا تتبدل ولا تتغير، فدراسة التاريخ مطلب وقراءة -خاصةً- قصص الأنبياء التي ذكرها الله -عز وجل- في القُرْآنِ، ومعرفة السنن التي فيها، وقراءة تاريخ الأمم بعد مجيء الرسول -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- الدول التي تولّت الحكم وحكمة المُسْلِمِيْنَ ماذا حصل؟ ما الذي ينبغي أن يؤخذ من هذه التواريخ، لأنه ضُرب لهم مثل لأقوام سابقين فعلوا مثلما فعلوا فهلكوا، فيُنذر الناس بمثل هذه الأخبار والمواقف التي سبقت. 
هذا ما يمكن أن يقال في مثل هذه المناسبة على المثل الأول المضروب في سورة يـس.
 المثل الثاني ذكر عندكم في سورة يـس، لن نقف معه طويلًا لأنه ليس مثلًا ضربه الله عز وجل وإنما حكاه عن كافرٍ من الكفار وهو: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ)[يـس: ٧٧- ٧٩ ]. هذا المثل من ضربه؟ كافر وهو أُبي بن خلف، أو العاص بن وائل، أو أبو جهل ، أقوالٌ قيلت ولا يهمنا من قالها، ولعلهم كلهم قالوها قالوا هذا القول. وهذا من جهالتهم وسفاهة رأيهم وعقلهم، طَبْعًا تعرفون إن المشركين كانوا ينكرون البعث وهذا من أعجب الأشياء، إنكار البعث يدل على الجهل بالله، والجهل بحكمته وبعلمه وبقدرته. وسورة يـس تركز على هذا الجانب كثيرًا، جانب البعث واليوم الأخر، فمِما جاء في هذه السورة -في أخرها- حكاية شبهة أثارها أحد المشركين. شبهة تسمى بالاصطلاح شبهة -اشتبه عليه الأمر- فأخبر الله عنها في قوله: : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ) طَبْعًا المراد بالإنسان هنا الخصوص، إنسان خاص ليس للجنس. لأنه لا يمكن أن يكون المراد للجنس لأنه ما قال كل أحد هذا القول: (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ). يعني أولم يعلم أنا خلقناه من نطفة قذرة فإذا هو خصيم -شديد الخصومة- بيّن الخصومة والجدال قال: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ) هو ضرب مثل. جاء في كتب التفسير بأن أُبي بن خلف أو العاص بن وائل أو هذا الإنسان الكافر، جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده عظمٌ بالٍ رميم في منتهى البِلاء، قارب على التفتت. فذرّه بيده وفتّته بيده -عظم- ثم ذرّه في الهواء، فقال: أتزعم يا محمد أن الله يحيي هذا بعدما صار هكذا هباءًا؟ فقال: (نعم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك النار). 
وهذا المثل يدل على سفه هؤلاء، لأنهم ينسون أشياء كبرى واضحة بيّنة قريبة منهم لذلك قال الله: (وَنَسِيَ خَلْقَهُ)، هو نفسه خلْقه، ما هو شيء بعيد ولا دقيق حتى ينسى. هو شيء يتعلق به، أنت كيف كنت أين كنت؟ مَن خلقك؟ ماذا كنت قبل أن تُخلق؟ (وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ). والقاعدة عند كل صاحب عقل أن الإعادة أسهل من الابتداء، يعني لو واحد ابتدأ شيء هل الأصعب الابتداء وإلا الإعادة؟ الابتداء أصعب ، الإعادة أهون من الابتداء (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ).
 على كل حال هذا المثل هو مثلٌ حكاه الكافر، لا نقف معه كثيرًا؛ لكن نأخذ منه فائدة مهمة منهجية معي يا إخوان. ما هي الفائدة هذه؟ أن حكاية شبهة الكافر للرد عليها مطلبٌ شرعيٌ لاشك في أهميته وصحته، لأن بعض الناس يقول: لا تنقل شُبه الكفار، هي ما هي شبهة سخيفة هذه، أليست سخيفة؟ سخيفة. وإلا لو كان عنده عقل ما ..، ومع ذلك حكاه الله في القُرْآنِ وذكرها للرد عليها، لا تذكر الشبه لمجرد الذكر لا..، للرد عليها ونلاحظ أنه ذكرها بإجمال ورد عليها بالتفصيل، وهذا هو المطلوب لأن الآيات كلها التي جاءت بعدها في الرد عليها: (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[يـس: ٧٩ - ٨٣]. كلها رد قوي جدًا على هذه الشُبهة بحيث نسفها نسفًا، ولم يبقِ لها قائمة وهذا هو المنهج الصحيح في إيراد الشُبه. فالشبهة التي يثيرها الأعداء ليس من الحكمة ولا من العقل أن تتركها وتقول: هذه لا تستحق الرد. لأن لكل ساقطةٍ لاقطة، يمكن أن تعرف أنها سخيفة لكن فيه بعض الناس عقولهم سخيفة عقولهم ناقصة، فقد يقبلون هذه الشبهة ويغترون بها. خاصةًً إذا كان من رجل يُنظر إليه على أنه من الزعماء، وإلا من الملأ وإلا من أهل العلم وصاحب جدل فيذكر هذه الشُبه. وما أكثر الشُبه التي يقولها بعض مدعي العلم، ويتفننون في عرضها ويعجبون بها وليس لها أساس؛ لكن تنطلي عن من لا علم له. فمن الواجب على من أتاه الله العلم أن يذكر هذه الشُبهة ذكرًا كما ذُكرت، ثم يرد عليها بردٍ لا يبقي لها بعد ذلك قائمة ولا قبول عند الناس. أما أن نتركها ونقول: شبهة سخيفة ما يُرد عليها، أنت إذا رددت عليه يعني تحيي ذكره وشبهته وتنشرها، لا.. منهج قرآني، بل كثير في القُرْآنِ، كثير جدًا في القُرْآنِ ذكر شبه الكافرين والرد عليها.
 إذًا من منهج القُرْآنِ ذكر شبه المبطلين والرد عليها، لكن ينبغي عندما نرد عليها أن يكون الرد أقوى من الإيراد. لأن بعض الناس يُورِد الشبهة ويذكر أدلتها ويقررها، ثم يرد عليها ردًا هزيلًا، فتُقرر الشبهة ولا يُقبل الرد، فيكون ممن يثير الشكوك ويُفسد عقول الناس بهذا المنهج. فنقول لهذا: لا.. لا تذكر طالما أنك لا تستطيع فلا تذكر، أما أهل العلم فيذكرون الشبهة ويردون عليها حتى لا يبقِ لمبطلٍ حجة ولا لجاهلٍ مجالًا لجهل بعض الحقائق التي جاء بها هذا الإسَّلَام، لأنه دين الحُجّة ودين البرهان. وما من شبهة يثيرها الأعداء، إلا وفي الشرع قرآنًا وسنة ردٌ عليها؛ لكن أين أهل العلم هم الذي يستخرجون هذه الأمور ويردون عليها.

لتحميل الملف الصوتي :


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق