الجمعة، 13 مايو 2016

تفسير المفصل -٤-/ د. محمد بن علي الشنقيطي / سورة الضحى



بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله الذي خلق الزمان والمكان والإنسان، وفاضل بين الزمان والمكان والإنسان، فلا الزمان على مرتبة واحدة ومكانة واحدة، ولا المكان على مرتبة واحدة ومكانة واحدة ولا الإنسان على مرتبة واحدة ومكانة واحدة، فأفضل الأمكنة على الإطلاق أعلاها وهو عرش الله العظيم جل جلاله ، وأعظم الأزمنة على الإطلاق ما نزل فيه كلام الله جل جلاله { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ } وأعظم الناس محمد ﷺ ، أعظم الأمكنة في الدنيا مكة ، وأعظم الأزمنة في الدنيا زمن محمد ﷺ ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) وأعظم الخلق محمد ﷺ وأمته .
من نَظَر في السيرة النبوية وفي تاريخ نزول الوحي يكتشف أن الوحي انقطع عن النبي ﷺ ثلاث مرات:
 المرة الأولى : انقطع بعد نزول { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } فترة ثم جاء بقول الله جل وعلا : { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ }
واستمر الوحي مستمراً ثم انقطع وابتدأ في المرحلة الثالثة بقول الله جل وعلا : { وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } فما بعد العلق والمدثر انقطاع للوحي، وما بعد سُور عديدة حوالي ثلاثة عشر سورة إلى الضحى حصل انقطاع.
 ثم الانقطاع الثالث : حصل قبل نزول سورة الكهف عندما جاء السائلون من المدينة بعدما التقوا باليهود فسألوهم فقالوا : أخبرونا عن أسئلة لا يعلم جوابها إلا نبي نسأل عنها محمداً فإن أجاب عليها كان نبياً وإن لم يُجب عليها علمنا أنه كذاب، فسألوهم فأعطوهم ثلاث أسئلة السؤال الأول : عن الروح ، والسؤال الثاني : عن أصحاب الكهف ، والسؤال الثالث : عن ذي القرنين ، فقال لهم النبي ﷺ : ( غداً أجيبكم ) ونسي أن يقول إن شاء الله فتوقف الوحي شهراً كاملاْ حتى قالت قريش محمد كذاب فنزل بعد شهر قول الله سبحانه وتعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ } .
 ولو نظرنا إلى هذه الآيات التي افتتح بها الوحي بعد انقطاع للمسنا فيها ذكراً للنبي ﷺ، الانقطاع الأول جاء بعده { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }
الانقطاع الثاني جاء بعده { وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَر * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } 
الانقطاع الثالث جاء بعده بسم الله الرحمن الرحيم { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ۜ * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } إلى ختام السورة .
 إذاً شأن محمد ﷺ عظيم، زمانه عظيم .. ومكانه عظيم لذلك أول سورة ابتدأنا فيها كانت تتحدث عن مكانه وتُقسم بمكانه { لَا أُقْسِمُ بِهَٰذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَٰذَا الْبَلَدِ } وهذا السورة تتحدث عن زمانه { وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } لأن زمان النبي ﷺ في الأمة  كالضحى في اليوم، هو زمان الإشراق، هو زمان النور، هو زمان اتصال الأرض بالسماء، هو زمان اتصال أهل الأرض بالملأ الأعلى، هو زمان يتنزل فيه جبريل من الله جل وعلا بين الفينة والأخرى فلا يحصل في الأرض حدث إلا وينزل جبريل بذلك الحدث يُخبر النبي ﷺ عنه حتى ولو كان خارجاً عن جزيرة العرب كما حصل في قضية القتال بين الفرس والروم بسم الله الرحمن الرحيم
{ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } فكان الناس يعايشون آيات القرآن عند نزولها لذلك لما مات النبي ﷺ فقد الصحابة الكرام هذه النعمة وبكتها أم أيمن رضي الله عنها بكاء شديداً فجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزور أم أيمن وقد قال لعُمر تعال بنا نزور أم أيمن كما كان رسول الله ﷺ يزورها في حياته فانطلقا إليها فدخلا عليها فإذا بها تبكي فقالا لها : ما يبكيك لعل الله أن يكون اختار لرسوله ما يكون خير له من هذه الدنيا ألم يقل الله جل وعلا له : { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَىٰ } ألم يعِده الله انه سيعطيه حتى يرضى وذكّراها فقالت : "والله ما أبكي على أن الله قبض رسوله ولكن أبكي على انقطاع خبر السماء" .
يقول الله سبحانه وتعالى بسم الله الرحمن الرحيم { وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ }
القسم بالزمان بيَّنا فضله وأنه يدل على فضل الزمن، وأن الزمان أفضل من المكان لذلك كثُر القسم به وأنا ذكرنا في تفسير سورة الليل أن تقديم ذكر الليل على النهار فيه دلالة على فضل الليل على النهار هذا الفضل الإجمالي، لكن وقت الضحى من النهار قد يكون أفضل من الليل لذلك خُصّ الضحى بالذكر دون النهار وأُطلق الليل، فالضحى وقت تجلى رب العالمين فيه، وتكلّم رب العالمين فيه، وخاطب فيه موسى عليه الصلاة والسلام قال : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى } فكان ذلك الوقت هو وقت مناجاة بين موسى وربه عندما قال الله جل وعلا لموسى : { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ } فكان وقت الضحى وقت النصر، وقت الضحى وقت المعية، وقت الضحى وقت الإشراق، وقت ملئ الأرض بنور ربها، وكان مناسباً لبداية البعثة حيث كانت الجزيرة العربية والكرة الأرضية كلها من حولها مُظلمة بالجهل والظلم والفساد قد أطبق الظلم عليها من كل جانب فلا ترى إلا حلكا إلا ظلماً وظلمات فانبثق نور الإيمان من بطن مكة على لسان ﷺ { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ }.
وقد بين لنا ربنا جل وعلا أن محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان بشراً لكنه في الحقيقة سراجاً منيرا قال الله جل وعلا : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } والسراج أُطلِق على الشمس { الشَّمْسَ سِرَاجًا } ولكن الشمس سراج يعطي الضوء والحرارة ومحمد ﷺ سراج يبعث النور.
 إنه للعجب العجاب في هذا القَسَم الذي تتحدث السورة فيه عن محمد ﷺ والذي هو في الناس كوقت الضحى في الزمن لأنه إشراقة الزمن ونوره وضياؤه { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ } قيل أنه محمد ﷺ فهو نور يُهتدى بأفعاله ويُهتدى بأقواله ويُهتدى به { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ } عُصِم قلبه فلا يزيغ وعُصِم بصره { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } وعُصِم لسانه { وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ } وعُصِم كله في جميع أفعاله { وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } .
{ وَالضُّحَىٰ } ما سبب نزول هذه السورة ؟
اختلف المفسرون في سبب نزول هذه السورة وأوردوا أربعة أسباب لذلك:
 السبب الأول : أن نزولها كان بسبب مقالة قالها المشركون بعد انقطاع الوحي قالوا : غضب رب محمد على محمد وقلاه وكرهه وأبغضه وسيحوِّل الرسالة عنه إلى غيره فجاء القسم من الله على نقيض ما قالوه فقال الله جل وعلا : بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } والودع: الترك يعني ما تركك { وَمَا قَلَىٰ } والقلي البغض والكُره وما كرهك يعني يحبك -ضد الكراهية- الحب فمحمد يحبه الله، وضد الوَدْع الذي هو الترك عدم الترك والاحتفاظ والتمسك ، فمحمدٌ محتفظٌ به ومحمد محبوب عند الله سبحانه وتعالى ومحفوظ بأمر الله كما أن القرآن محفوظ بأمر الله فالله يحفظ نبيَّه كما قال الله سبحانه وتعالى له ذلك في أكثر من موطن .
السبب الثاني: وقيل أن السبب أن النبيّ ﷺ كان يقوم الليل كل ليلة يُصلي بالقرآن وأُصِيب بمرض لم يستطع القيام لليلتين فكانت أم جميل بنت حرب زوجة أبي لهب تمُرّ فتسمع تلاوته فمرت ليلتين وما سمعت تلاوته فأشاعت وأذاعت في قريش إن رب محمد قلاه وبغِضه ولذلك لم يقم ليلتين يتلوا كلام ربه فانتشر الخبر وبلغ آذان النبي صلى الله عليه وسلم فآذاه فنزل جبريل بدفع الأذى عن المحبوب ﷺ بقول الله : { وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَىٰ } .
السبب الثالث: وقيل سبب النزول أن النبي ﷺ لما انقطع عنه الوحي وكثُر عياله أيضاً ، في تلك الفترة كان عنده أولاد وكان يتحرج من مال خديجة يقول الناس ينفق من مال زوجته، أسرَّ إليها قال : يا خديجة ، قالت له خديجة : مالي أراك يا رسول الله حزيناً؟ قال كثُر العيال يعني أصبح عندنا أولاد والناس يقولوا أو ربما قال الناس كان محمد فقير وإنما ينفق من مال زوجته، فبكت خديجة وجمعت الناس وجمعت مالها وقالت : أيها الناس إن جميع ما تملكه خديجة من مال هو لمحمد ﷺ، فخرجت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها من مالها كله لرسول الله ﷺ ويشهد لذلك قول النبي ﷺ في قصة العجوز التي جاءت إلى المدينة تزور النبي ﷺ فقام إليها وهش وبش وأفرش لها الرداء وأخذ يسامرها الحديث فقالت عائشة رضي الله عنها : يارسول الله من هذه المرأة العجوز التي فرشت لها رداءك وأخذت تهش وتبش في وجهها وتسامرها الحديث؟ فقال لها النبي ﷺ بأبي هو وأمي وهو يبتسم : ( هذه إحدى صويحبات خديجة ) فغارت عائشة رضي الله عنها غيرة شديدة وقالت : يا رسول الله وهل كانت خديجة إلا عجوزاً قد أبدلك الله خيراً منها -وتشير إلى نفسها لأنها البِكر الوحيدة التي تزوجها رسول الله ﷺ بِكراً وهي أصغر أزواجه وأحبهم إليه- فبم أجاب الحبيب المصطفى ﷺ على هذا التساؤل الذي وصل إلى أعماق نفسه ووصل إلى إحدى صويحبات خديجة ولو لم تعلم خديجة به ؟ قال لها ﷺ : ( لا والله لا والله ما أبدلني الله خيراً منها لقد صدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بنفسها ومالها ورزقني الله منها الولد ) فشهد لها النبي ﷺ أنها واسته بمالها كُله وبنفسها وأنها الوحيدة التي رزقه الله منها الولد وكانت هذه الحادثة قبل مولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من مارية القبطية رضي الله عنها وأرضاها .
 { وَالضُّحَىٰ } قيل أيضاً أن سبب نزولها هو أن جبريل عيله الصلاة والسلام أبطأ عن النبي ﷺ فلم يعلم النبي ﷺ سبب بطئه فلما جاء كان النبي ﷺ مُتخوفاً أن يكون قد قلاه ربه أو قد غضب عليه أو قد حصل من النبي ما لا يُرضي الله فقال له جبريل كما قال الله : { وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ }.
القول الآخر في سبب النزول : أن النبي ﷺ رماه المشركون فأدموا جسده وخصوصاً أُصبعه التي يحركها في الصلاة -السبابة- واشتد ألم الأصبع حتى لم يقدر على النوم من شدة ألم أصبعه كان يقول : ( هل انتِ إلا أصبع دميتي وفي سبيل الله ما لقيتي ) -يتمثل بهذا البيت- ولما أبطأ يعني أبطأ قيام الليل تكلّم المشركون فنزلت السورة .
هذه الأسباب التي ذكرها أهل التفسير في سبب نزول هذه السورة .
/ بعد ذلك نأتي للحديث عن مناسبة القسم بـ{ وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } لهذا الموضوع فماهي مناسبة القسم بالضحى والليل إذا سجى لحديث عن النبي ﷺ ؟
لا شك أن الضحى -كما ذَكرتُ- هو أفضل أوقات اليوم أليس كذلك وقد أقسم الله به أكثر من مرة { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } وكذلك
{ وَالضُّحَىٰ } وقد ذُكر في القرآن ست مرات ، هذه الوقت العظيم هو -كما ذكرت- يُناسب زمن بعثة النبي ﷺ والنهار يناسب الطاعة ، والمعصية يناسبها الليل لماذا ؟ لأن الطاعة في الغالب تُظهَر والمعصية في الغالب تُخفَى -كما مر معنا- في السورة الماضية
{ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا } فالتزكية بمعنى الرفع { وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } فمن أراد أن يدُسّ شيء يدُسّه في الليل أو في النهار ؟ في الليل حتى لا يُرى، لذلك النبي ﷺ من أراد أن يدُس قدره أي يُنزل من قدره يأبى الله ذلك فأقسم بالضحى المناسب لحالة النبي ﷺ لأنه بُعِث بالعلن بُعث للجميع فقال : { وَالضُّحَىٰ } ثم ذكر بعده { وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } الليل اذا سجى وإن كان الشيخ الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان يقول : أن كلمة الضحى تعني النهار كله وهو من باب التعبير بالشيء بجزء منه كما يُعبر عن الذات بالوجه { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ } يعني يبقى ربك يقول "وعُبّر بالضحى لأنها أفضل أوقاته وكما عُبر عن المسجد فيه القيام وفيه الركوع وفيه السجود فسُمِّي بجزء الصلاة وهو السجود لأن السجود أفضل مافي الصلاة" إلى غير ذلك.
 { وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } ذكر بعضهم تفسيراً آخر جميل قالوا : "لما كان الضحى ساعة من نهار وكانت هذه الساعة ساعة يقظة وكان الليل ساعات وكان ساعاته ساعات نوم عَبَّر الله جل وعلا بالضحى عن الدنيا وبـ{ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } بالموت بعد الدنيا ثم قال له بعد ذلك : { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَىٰ } فأنت في الدنيا كساعة الضحى ثم يأتي الموت فيكون كالليل إذا سجى ثم تأتي الحياة الآخرة فهي خير لك من الدنيا فاصبر على ما أصابك ولا تحزن" .
/ { وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ } سبحان الله يقول أهل العلم بعلوم القرآن إن خطاب النبي ﷺ في القرآن هو خطاب لأمته ما لم يدل الدليل على تخصيصه فهل هذه السورة هي خطاب للأمة؟ فكأن الله يقول لنا يا أمة محمد { وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } ما ودَعكم ربكم يعني ربكم ما ترككم ولن يترككم فهي أمة محفوظة بحفظ الله وما قلاكم أي لا يبغضكم هي أمة محبوبة عند الله وهذا المعنى صحيح.
 ولو قرأنا الآية بالجمع على أن المخاطب أمة محمد وقرأنا السورة كلها لوجدنا الجواب صحيح ، إذاً محمد في شخصه يُمثِّل أُمته والأمة في شخصها تُمثِّل نبيها لذلك أُعطيت الأمة كما أُعطي النبي وأُعطي النبي كما أُعطيت الأمة، فالأمة شاهدة والنبي شهيد
{ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا } هؤلاء هل هم شهداء ؟ نعم { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } فكانت الأمة شهيدة ونبيّها شهيد ، الأمة شاهدة ونبيّها شاهد ، الأمة مُختارة ونبيّها مختار ، الامة مُكرّمة ونبيّها مُكرّم ، الأمة مُفضّلة ونبيّها مُفضّل ، الأمة خيّرة ونبيّها خيّر ، الأمة جُمعت لها مكارم الأخلاق والنبيّ جُمعت فيه، الأمة على خُلق عظيم والنبيّ كذلك، إذاً وصفُه وصفٌ لأمته وأمته وصفُها وصف له ﷺ فقد جمع الله في شرعِه ما تفرّق في الشرائع قبله، وجمع الله في شخصه ما تفرّق في الأشخاص غيره، وجمع الله في أمته ما فُرِّق في الأمم قبله، فأمته خير أمة أُخرجت للناس وهو خير نبي بعث للناس، وكتابه خير كتاب أنزل على الناس وزمنه خير زمن خرج فيه الناس، ومكانه خير مكان دبّ عليه الناس .
{ وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ }
ما أجمل لفظ { رَبُّكَ } هنا لماذا قال : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّك } ولم يقل ما ودعك الله ؟
 لأن لفظة الرب فيها الرحمة ولذلك اختارها الأنبياء في دعائهم { رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ }، { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي } ،{ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ } فتجد أن الدعاء في القرآن يُفتتح بلفظة رب لما فيها من القُرب والعطف والحنان والرحمة.
 { مَا وَدَّعَكَ رَبُّك } كلمة { مَا وَدَّعَكَ رَبُّك } تكفي عنوان عن الرضا { مَا وَدَّعَكَ رَبُّك }.
 ثم قال : { وَمَا قَلَىٰ } لمَ قال : { وَمَا قَلَىٰ } ولم يقل وماقلاك ؟
عندما قال : { مَا وَدَّعَكَ } الودْع الترك والوِداع قد يكون للمحبوب ألا تودِّع حبيباً
 أودعكم وملئ القلب صابُ ** ودمع مدامعي بدم مُشاب
 قد يدوع الحبيب حبيبه لكن الحبيب لا يمكن أن يقلي ويُبغض حبيبه البتة ، فلما كان الوَدْع مُحتمِلاً للترك ويكون ترك مؤقت للحبيب فقال : { مَا وَدَّعَكَ } لكن القلا بمعنى البغضاء لا يمكن أن يكون من الحبيب لحبيبه البتة لذلك لم يأتِ بالضمير هنا قال : { مَا وَدَّعَكَ} لأنها مقبولة قد يُودِّع الحبيب حبيبه وقال : { وَمَا قَلَى } ولم يقل (ما قلاك) لأن الضمير لا يريد الله أن يُضاف القلا لمحمد ﷺ البتة وهذا من الأدب مع النبي ﷺ والقرآن يعلمنا الأدب مع النبي ﷺ فكما أننا لا ننسِب لربنا جل وعلا الشر فكذلك لا ننسبه لنبينا ﷺ حتى إن اسمه المجرد محمد نُهي أن ينادى به فقال الله حل وعلا : { إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } لأنهم نادوك باسمك المجرد يا محمد ولو قالوا يارسول الله لكان خير لهم لذلك ما جاء في القرآن كله مُناداة لمحمد باسمه محمد إنما يأتي { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ }،  { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } ،{ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ }، { يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ }، { يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ } لكن أن يُنادى باسمه المجرد لم تأتِ البتة ، وكذلك لا يُضاف إلى الضمير الراجع إليه لفظ يُبغضه حتى لو كان فعلاً فعله النبي ﷺ كعبُوسة وجهه يوم أقبل عليه ابن أم مكتوم وهو أعمى لا يبصر وجه النبي ﷺ فحصل أن عبّس النبي وجهه ليراه المشركون فيعلموا من تقاسيم وجهه أنه لا يرضى  بإتيان هذا الأعمى لأنه قد أعطاهم وعداً وعهداً أن لا يدخل من هؤلاء أحد فعبّس وجهه ولم يتكلم بشطر كلمة يسمعها ابن أم مكتوم حتى لا يُجرَح ضميره فماذا قال الله ؟ لم يقل عبست وتوليت لأن عبس ضميرها وإن كانت موجهه للنبي أصبحت كأنها تتحدث عن غائب مجهول عبس من ؟ وتولى من؟ لم يقل عبست ولم يقل توليت لأن ضميراً متصلاً بالنبي لا يمكن ولا ينبغي أن يكون للنبي {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ } ثم قال : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَىٰ } قوله : { وَمَا يُدْرِيكَ } عُلِم أن المراد بـ { عَبَسَ وَتَوَلَّى } محمد ﷺ لكن ادباً معه لم يقل عبست ولم يقل توليت كذلك ما قال هنا : وما قلاك. قال تعالى : { وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } لأن الوداع يحصل بين الحبيب وحبيبه وقال { وَمَا قَلَى } ولم يقل وما قلاك لأن القلي لا يحصل من الحبيب لحبيبه { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى } .
/ ثم يقول الله جل وعلا : { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى } طبعاً الآخرة هنا اختلف فيها المفسرون على أقوال:
 فمنهم من قال : المراد بالآخرة الدار الآخرة فالدار الآخرة خير لك يا محمد من هذه الدار الدنيا وخير لأمتك فأمة محمد في هذه الدنيا حالها أحسن أم حالها في الآخرة ؟ في الآخرة ، في الآخرة يقول النبي ﷺ: ( نحن الآخرون في الدنيا الأولون في الآخرة ) أول من يُبعث الأرض أمة محمد ﷺ ، أول من يحاسب يوم القيامة أمة محمد ﷺ ، أول من يجوز الصراط يوم القيامة أمة محمد ﷺ ، أول من يدخل الجنة يوم القيامة أمة محمد ﷺ ، أمة محمد ﷺ نسبتها في جميع سكان أهل الجنة نسبة الثُلثين، ثلثي سكان أهل الجنة من أمة محمد ﷺ، يقول النبي ﷺ لصحابته : ( أما ترضون أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ) هذه الآخرة لنا والمراد بالآخرة كما ذكرت لكم الدار الآخرة، وقد أخبر الله بهذت الخيرية بأكثر من موطن { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى } وغير ذلك من الآيات .
القول الثاني : أن الآخرة المراد بها المدينة المنورة لأنها الدار الآخرة بعد مكة فيكون حال النبي ﷺ في المدينة بعد الهجرة خير من حاله في مكة قبل الهجرة لماذا ؟ لأنه في مكة قبل الهجرة لم يكتمل الدين فما كان فُرِض عليه إلا الصلاة والزكاة فقط أما الصيام والحج والجهاد وبقية شعائر الإسلام قد فُرضت في المدينة وقد استَدل بهذه الآية بعض من فضّل المدينة على مكة قال : لأن الله عزوجل اختار لنبيه المدينة على مكة فدلّ على فضلها ، وقد صنّف الإمام السيوطي -رحمه الله- كتاباً عظيم النفع قليل الحجم سمّاه [رفع العلمين في التفضيل بين الحرمين] وذكر فيه أن مكة أفضل من المدينة للعبادة لمن أراد التعبد، وأن المدينة أفضل من مكة في السُكنى لمن أراد السكنى، وأن أفضل بقعة على وجه الأرض البقة التي حوت جسد النبي ﷺ لأن جسد النبي أعظم من الكعبة، ثم بعد ذلك الكعبة، ثم بعد ذلك الروضة الشريفة لأنها روضة من رياض الجنة، ثم بقية المسجد الحرام، ثم بقية مسجد النبي ﷺ ثم بقية مكة، ثم بقية المدينة وكان تفصيلاً جميلاً .
{ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى } قيل في الآخرة أن المراد بها عُمُر النبي ﷺ فكل دقيقة بعد دقيقة الثانية خير من الأولى، كل ساعة بعد ساعة الساعة الثانية خير من التي قبلها والثالثة خير من التي قبلها، وهذا يدل على أن النبي ﷺ من ولادته إلى أن مات كل يوم بعد يوم خير من اليوم الذي كان قبله فهذا دليل على ماذا ؟ على رُقيّهِ ﷺ في باب المحامد ولذلك اُشتق اسمه محمد من الحمد فهو دائم زيادة في محامد الله وزيادة في القُرب إلى الله إذا كان الله جل وعلا يقول : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } فمن علَّم أمة محمد الكلم الطيب ومن علَّم أمة محمد العمل الصالح إنه محمد ﷺ وهو الذي قال : ( من دل على خير عمِل به أو لم يعمل به فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة ) فأجر الأمة كلها لمحمد ﷺ فلا غرو أن تكون كل لحظة من لحظاته خير من التي مضت لكثرة العاملين على منهجه والسائرين على طريقه إلى قيام الساعة والمُصلين عليه من ملائكة الله بعد صلاة الله جل جلاله عليه { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } اللهم صلي على سيدنا محمد.
/ وقيل في قوله تعالى : { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى } أنها فيها بيان حال النبي ﷺ بعد حجة الوداع فإن النبي ﷺ لما نزلت عليه آية كمال الدِّين { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } فرح الصحابة بأن الإسلام قد كمُل وحزن النبي ﷺ حتى أن الحجة سميت حجة الوَداع، فالنبي هنا ودع الصحابة وودع الأمة وقال : ( لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ) أليس هذا وِداع ؟ بلى، لكن الله قال : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } وقال : ما قلاك ربك وقال : { وَلَلْآخِرَةُ } التي أنت مُقبل عليها { خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى } وخُيِّر النبي ﷺ قبل موته وقد أُعطي الخبر أن الآخرة خير له، خُيّر بين الدنيا والمكث فيها إلى قيام الساعة وبين أن يموت فاختار الموت لأنه قد تقدم الدرس إليه { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى } .
/ ثم قال : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } يا سلام ما أجمل هذه الترضية، "سوف" في اللغة العربية تعني ماذا ؟ شيء مستقبل أليس كذلك، و "يعطي" في اللغة العربية فعل مضارع يدل على الحال والاستقبال، وإذا نظرنا إلى عطاء الله جل وعلا لنبيه في القرآن نجد أن القرآن استخدم في العطاء للنبي أسلوب الماضي والحاضر والمستقبل فكان عطاء ماضياً وحاضراً ومستقبلاً لا حدَّ له،
 أما الماضي فقال الله جل وعلا : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ } انتهى الموضوع "أعطى" فعل ماضي ،
 وأما المضارع الذي يفيد الحال والاستقبال فقال : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } عندما تقرأ { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } تقول خلاص أعطاه الكوثر وانتهى العطاء، لا لم ينتهِ العطاء لأن الله جل وعلا قال : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ } إن كان أعطاك الكوثر فلا تظن أن العطاء قد انتهى بل سوف يعطيك حتى ترضى وإذا رضيت سوف يعطيك فوق الرضى.
 وهنا نكتة لطيفة جداً [العطاء على قدر المُعطي] يقال : أن سليمان عليك الصلاة والسلام لما أصبح ملكاً بعد موت والده داوود وملَّكه الله الأرض وما فيها والجن والإنس والطير وغير ذلك جاءت الأمم أمة الطير وأمة النمل وأمة النحل والأمم تقدِّم إليه البيعة وتبارك له في الملك وكل أمة تقدم ما تيسر من هدايا واجتمعت أمة النمل وقرروا أن يقدموا هدية للملِك سليمان فما وجدوا هدية أعظم من نصف حبة شعير، حبة شعير قسموها وجاؤا حاملين نصها -مسوين زفة ما شاء الله- فلما وصلوا ونظر سليمان لنصف حبة شعير يقدموها هدية له قال له : يا أيها الملك هذا أعظم ما عندنا، هذا قوتنا لمدة سنة كاملة نحن قدمناه لك وآثرناك به - لو أنك مكانه ماذا تقول ؟
- طبعاً هو قال تقبل الله منكم ورحمكم الله وهذا أنتم أحوج إليه مني فغضبت ملكة النمل غضبت على سليمان قالت له : يا سليمان أما علمت أن الهدية تُقدم على مقدار مُهديها هذا مقدارنا، وهل ما تقدمه أنت هدياً لربك على مقداره ؟ فبكى سليمان، ذكّرته نملة فمن بعد تلك القصة أصبح للنمل مع سليمان شأن عظيم إذا مرّ بواديهم توقف قليلاً حتى يُلقي التحية عليهم لما مر بوادي النمل ماذا قالت النملة؟ { يَا أَيُّهَا النَّمْلُ } توقعت أن الكلام الذي قالت له يمكن زعّله يوم قالت له أن الهدايا وكذا وشافته توقف قالت : خلاص { يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} ولكن {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } ممكن ما يدرون لأن الريح لو جاءت شالت النمل كله ما خلت شيء فقالت : ادخلوا مساكنكم حتى ما تروحوا فيها. فالشاهد في هذا أن الهدية على قدر مهديها.
 طيب إذا كان الله يقول : (يعطيك ربك) فكم مقدار هذه العطية التي يعطيها الله على مقداره جل جلاله!! إذا قال : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } أصح الأقوال في الكوثر أنه الخير الكثير الذي لا حدّ له ونهر الكوثر جزء منه .
 { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } هذا العطاء بعض العلماء قال : هو عطاء في الدنيا وبعضهم قال : عطاء في الآخرة والصحيح أنه فيهما معاً ، فماذا أعطاه الله في الدنيا ؟ أعطاه الله جل وعلا في الدنيا في جسمه ما لم يعطي غيره فالنبي ﷺ يمتاز بخصائص في جسمه ليست لغيره:
 أولاً : يسمع مالا يسمع غيره ويُبصر مالا يبصر غيره يقول النبي ﷺ : ( يا أيها الناس أطت السماء ) هو في الأرض ويسمع صوت أطيط السماء يسمع تسبيح الملائكة فوق السماء يقول : ( أطت السماء وحُق لها أن تئط ) وهو ينظر ( ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد هو كذلك حتى تقوم الساعة ) .
هو على الأرض ويُبصِر الجنة يقول ﷺ -كان في صلاة الكسوف- وقد اجتمع الناس وبدأ النبي ﷺ الصلاة الله أكبر وإذا به يتقدم ويمُد يده ثم يرجع حتى يضرب ثم يرجع مكانه ويتمم الصلاة فلما سلّم منها قال الصحابة الكرام : يا رسول الله لقد رأيناك فعلت في صلاتك هذه مالم تكن تفعله من قبل قال : ( وماذاك ؟ ) قالوا : تقدمت وبسطت يدك ثم رجعت حتى ضربت في الصف ثم رجعت مكانك قال : ( نعم صُورت لي الجنة فأردت أن آخذ من ثمرها لكم ثمرة فصورت لي النار فخفت منها فاذهبهما الله فرجعت مكاني ) لم يرَ أحد ذلك غير النبي ﷺهذا عطاء.
 أيضاً من العطاء الذي أعطي له أنه يرى من خلفه كما يرى من أمام يقول النبي ﷺ للصحابة : ( سووا صفوفكم فإني أراكم من خلفي كما أراكم من أمام ) ولذلك لا يلتفت ﷺ البتة، لما جاء سراقة ما التفت النبي ﷺ ، يقول أبو بكر : فوالله ما التفت رسول الله ولكن أبو بكر كان يلتفت والنبي ﷺ كان يراه من الخلف يرى من خلفه كما يرى من أمام .
 أيضاً كل عرقة من أطيب الطيب ما يخرج منه من عرق في الدنيا أطيب من ريح المسك كان النساء في المدينة يسلتون عَرق النبي ﷺ يأخذونه فيجعلونه في طيبهم يطيبون به الطيب، عليه الصلاة والسلام .
 يده كانت أبرد من الثلج ما وُضعت على مريض إلا وشُفي، أصبعه ما أشار على مريض إلا وشُفي، مسح رأس أقرع فنبت شعره، مسح عين أبي قتادة فرجعت مكانها كأحسن ما يكون، تفل في عين علي بن أبي طالب فذهب الرمد وأصبحت عينه التي كانت رمده أقوى من الأخرى، مسح بيده على محمد بن مَسلمة بعد الجرح الذي حصل له فبرئ، وهكذا خصائص في جسده أُعطيها ﷺ.
 أيضاً ما وقف معه أحد إلا طاله أطول الناس لو يقف جنب النبي ﷺ يكون أطول منه ﷺ، ما مشى مع أحد إلا سبقه كان إذا مشى كأنما ينحط من صبب يقول بعض الصحابة : والله إنا لنمشي مع رسول الله وإنا لنجري والنبي ﷺ ماشي عادي كأنما ينحط من صبب -مرتفع- هذا كله في جسده، أعطي قوة أربعين رجل في جسده، كان أقوى الناس لا يُصرع عليه الصلاة والسلام، لا يخاف البتة أُعطي شجاعة لم يعطها أحد، سمع أهل المدينة وجبة -صوت- قريب من المدينة فخاف الناس وذعروا وأغلقوا أبوابهم عليهم ومنهم من خرج وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم قد ركب على فرس للزبير وتوجه نحو الصوت ثم رجع يقول : ( لن تُراعوا لن تراعوا ) مشى وحده وصل إلى مكان الصوت علِم أنه شيء عادي فرجع يُأمن الناس يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : كنا إذا حمي الوطيس وتطايرت الرؤوس لايكون أقرب للعدو من رسول الله ﷺ وكنا نتترس به أي نجعله كالترس من شدة شجاعته ﷺ هذه عطاءات { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ }.
أُعطِي الخُلُق العظيم الذي وسِع به الأعداء يأتيه عدو من أعدائه يسبُّه ويتبسم، جاءت أم جميل والنبي في المسجد مسند ظهره إلى الكعبة فقالت : "مُذمِماً أبينا وأمره عصينا ودينه قلينا" فتبسم النبي ﷺ ونظر إلى أبي بكر، التفت إليه قال : ( يا أبا بكر أما سمعت ما تقول قريش ؟ إنهم يذمون مُذمماً وأنا محمد فقد دفع الله عني ذمهم ) مذمماً، الصور التي صوَّرها الغربيون هل هي صور للنبي ؟ كلا وحاش هي صور صوروها بأيديهم والنبي منها بريء فليس هو بالفظ ولا بالغليظ { وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ } هو الذي خُيِّر بين هلاك الناس وبين بقائهم وجاء إليه ملك الجبال وملك الرياح وبقية الملائكة كُلاً يعرض خدماته على النبي ﷺ بعد عودته من الطائف فقال النبي ﷺ : ( لا، لعل الله يخرج من أصلابهم من يؤمن بهذا الدين ) رحمة لمن في الأصلاب لم يولدوا بعد مازالوا في ظهور آباءهم { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } هذا في جسده.
 أما في آل بيته - أولاده- فقد أُخِذ أبناؤه الذكور كلهم في حياته ماتوا صغاراً لأن الله قال : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } ولو بلغ واحد من أبناء النبي ﷺ الرجولة لطُعِن في القرآن.
 اثنين بناته كلهن ماتوا في حياته حتى يكون شهيد عليهن، تأخرت واحدة فاطمة بكت لأنها ستتأخر بعد أبيها فبشرها قال : ( يا فاطمة أما ترضين أن تكوني أول أهلي لحوقاً بي  فضحكت) ولا يضحك بالبشارة بالموت غير من أعدّ للموت عُدته { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ }
أما في القبر فلا تسأل فقد جُعِل له في قبره ملائكة يبلغونه سلام المُسلِّمين عليه وصلاة المُصلين عليه وتُعرض عليه في قبره أعمال أمته ﷺ لذلك يكون شهيداً عليهم عليه الصلاة والسلام { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ } يعني على الأمة { شَهِيدًا } ولا يشهد النبي على الأمة إلا إذا بُلِّغ عنها وقد بُلِّغ مرتين مرة في حياته عندما عُرضت عليه أمته كلها من أولها إلى آخرها يقول أبو هريرة : (صعد النبي ﷺ من بعد الفجر يخطب فينا فما بقي طائر يطير بجناحيه إلا أخبرنا عنه حفِظ ذلك من حفظه ونسيَه من نسيه.
 والأمر الثاني : العرض المباشر عليه في قبره لأعمال أمته ﷺ حتى تكمُل شهادته عليهم يوم القيامة .
 أما بعد البعث فإنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة يقول النبي ﷺ : ( لا تفضلوني على موسى بن عمران فوالذي نفسي بيده إني لأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ) .
أيضاً صاحب الشفاعة الكبرى فإنه يوم القيامة لا يأذن الله جل وعلا لأحد بالشفاعة إلا لمحمد ﷺ، آدم ويأبى، نوح ويأبى، إبراهيم ويأبى، كلٌ يعتذر يقول نفسي نفسي إلا محمد يقول : ( أنا لها ) هو صاحب الشفاعة الكبرى ، وهو صاحب الشفاعة بالصراط يوم القيامة ، وهو صاحب الشفاعة بفتح أبواب الجنة ، وهو صاحب الحوض المورود يوم القيامة ، أكبر الأحواض الذي ترِد الناس إليه ولا يُذاد عنه إلا من خالف السنة .
/ { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا } أنطلقنا الآن إلى الثُلاثيات ما معنى الثلاثيات ؟
 لاحظوا معي عدد ثلاثة في هذه السورة { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى } كم هذه ؟ ثلاث بالمقابل { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } ثلاثة وثلاثة مقابل هذه تقابل هذه نأخذها واحدة واحدة.
/  قال الله جل وعلا : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ } هذه الآية فيها أدب مع الله من أوجد محمد ﷺ ؟ الله
من الذي قبض روح أبيه عبد الله قبل مولده ؟ الله
من الذي قبض روح أمه وعمره ست سنوات ؟ الله
 طيب من الذي يتّمه ؟ الله ، ما قال الله ألم أُيتِّمك لا قال : { يَجِدْكَ يَتِيمًا } طيب محمد يتَّم نفسه ؟ من يتَّمه ؟ الله ، العبارة "يجد" فعل مضارع أو فعل ماض ؟ فعل مضارع { يَجِدْكَ يَتِيمًا } اليتيم من هو ؟ اليتيم في الطير هو من فقد أبويه ، واليتيم في الحيوان من فقد أمّه ، واليتيم عند الناس من فقد أباه ، النبي ﷺ كل صفات اليُتم فيه ، فقَد أبوه وفقد أمّه وفقد جده ثم فقد عمّه بعد ذلك ، بس الثلاثة هؤلاء فقدهم في الصِغر قبل البلوغ ، أبوه قبل مولده وعمره ست شهور -في بطن أمه- ،  ثم بعد ثلاثة أشهر ولدته أمّه وعاش ست سنوات أربع منها خارج عنها مع حليمة وسنتين معها ثم ماتت ، عاش سنتين مع أمه ثم ماتت ، ثم عاش سنتين بعد ذلك مع جده عبد المطلب ثم مات ، طيب كيف تكون إواية الله لمحمد ﷺ ؟ 
{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى } هنا أيضاً قال (آوى) ولم يقل (أواك) لماذا ؟ الإيواء زين لماذا ؟
الامتنان نوعان: هنالك امتنان بالحِس وهنالك امتنان بالمعنى ، فالحِسّ يؤثر في الحِسّ والمعنى يزيد في المعنى.
 لو نزلنا لسورة الشرح ماذا قال الله :{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } هذا حس أو معنى ؟ حس من ناحية ومعنى من ناحية،
{ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ } حِس وإلا معنى ؟ معنى
{ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } حِس والا معنى ؟ معنى
إذاً .. عندما يجتمع الحِس والمعنى تأتي الإضافة ، عندما يكون المعنى مجرد تأتي الإضافة ، عندما يكون الحِس مجرد لا ، لأن الحِس المُجرد يُفهِم معنى المَنانة والمنانة الإكثار منها يُتعب النفس .
 اضرب لكم مثال موسى عليه الصلاة والسلام لما رجع إلى مصر ودخل على فرعون وعرفه ماذا قال له ؟ قال : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ } هذا امتنان وإلا لا؟ امتنان { أَلَمْ نُرَبِّكَ } ، الله يقول : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى } ما الفرق بين هذا الامتنان من فرعون على موسى -ولله المثل الأعلى- وبين الإمتنان من الله على محمد ؟ فيه فرق أو لا ؟ فيه فرق ، لأن تذكير موسى أنه كان وليداً وتربى وكأنه يقول أنا غديتك وعشيتك وفعلت لك وفعلت لك ، فأمتنّ بالمحسوس والامتنان بالمحسوس -الملمُوس- قد يُعذِّب لكن هنا قال الله عز وجل { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا } ، { يَجِدْكَ يَتِيمًا } هنا ليس فيها امتنان هذا وصف الحال لكن الامتنان (آوى) ، و(آوى) تركها مطلقا ولم يقل آواك حتى لا يجرح مشاعره بالامتنان بالأوية .
 هنا ننظر لليتيم ، افرض أن يتيماً عاش في مكة في زمن النبي ﷺ ، هذا اليتيم غير النبي ﷺ ماذا تتوقع أن يكون ؟ أمامه ناس يشربون الخمر ويسفِكون الدم ويرفعون الأعلام للزانيات ويفعلون الفواحش وغير ذلك ، هذا اليتيم ليس معه أب يأمره ولا ينهاه كيف تتوقع سيكون حاله ؟ سيضِل وسيفجر وسيفسق لأنه لا آمر ولا ناهي ، كيف أصبح محمد ﷺ اليتيم على خلق عظيم حتى وهو صغير ما رؤيت عورته البتة ، وأيضاً ما حضر مجلس غناء ولا مجلس خمر البتة إلا مرة واحدة يحدث عنها ﷺ سُئِل قيل له يا رسول الله أشاركت في شيء من الجاهلية قال : ( لا إلا مرة واحدة وأنا صغير كان معي غلام في مكة وكنا نرعى الغنم وقال لي الغلام إن الليلة فيها عرس لبني فلان فإن شئت أن تدع غنمك إلى غنمي وتذهب قلت له : لا، اذهب أنت فترك الغلام غنمه عند النبي ﷺ  وأنطلق فحضر العرس ، ثم حصل عرس آخر فأبى على ﷺ وهو غلام مثله إلا أن يذهب فيحضر قال النبي ﷺ : فتركت غنمي إلى غنمه وذهبت فحضرت العرس فألقي علي النوم فما استيقظت إلا من أشعة الشمس من اليوم الثاني ) حضر عرس لكن نوم لا خمر شرَبه ، لا غناء سمِعه ، أُلقي عليه النوم حتى بُكرة ، ويا ليت النوم يلقى على بعض الأعراس التي يحصل فيها شيء من النفاق وغير ذلك والغناء وغير ذلك ، نسأل الله العافية .
 { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ } هذه الآية أخطأ فيها كثير من الناس، يقول لك محمد كان ضالاً فهُدي ، هل كان ضالاً فعلاً وهدي ؟ أم أن الضلال بمعنى النسيان ؟ كان ناسياً وهو بشر ينسى قال تعالى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} قال تعالى في تسمية الضلال بالنسيان قال : { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ } الضلال هنا بمعنى النسيان ، فقد نسي النبي ﷺ وذكّره الله أكثر من مرة { سَنُقْرِئُكَ } ماذا ؟ { فَلَا تَنْسَى } نُذكِّرك ما نسيت ، وأصبح النبي ﷺ بعد هذه الآية لا ينسى شيء من القرآن. وتخيل لو جاءك رجل وقرأ عليك سورة مرة واحدة تحفظها ؟ محمد ﷺ مرة واحدة يحفظ من جبريل هذا عدم النسيان لأن الذي يقرؤه رب العالمين { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَىٰ } .
/ { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ } العلماء ذكروا فيها تسعة أقوال :
قيل { ضَالًّا فَهَدَىٰ } أي ناسياً فذكَّرك
قيل : { ضَالًّا فَهَدَىٰ } أي جاهلاً فعلَّمك
قيل : { ضَالًّا فَهَدَىٰ } أي وجدك ضائعاً فهداك الطريق ، وهذا تقول ضل اللبن في الماء إذا ضاع فيه يعني لو أخذت لبن سكبته على ماء ماذا يحدث ؟ يضيع لن تُرجعه ، وهذا المعنى يدل عليه قول الله عز وجل في الحديث القدسي : ( كلكم ضال إلا من هديته )
وقيل { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ } أي وجدك حيران فهداك للطريق الصحيح ، فالنبي ﷺ قبل البعثة كان حيران فعلاً ، لماذا ذهب إلى غار حراء؟ من الحيرة ماذا يفعل هل يعبد الأصنام ؟ لا ، هل يتبع طريقة اليهود ؟ لا ، هل يتبع طريقة النصارى ؟ لا ، فأحتار فهجرهم كلهم وجلس في الغار فوجده الله في تلك الحيرة فهداه للحق { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } .
{ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ } وما قال : (فهداك) وإن كان الضلال هنا معنوي لكن ذُكر في باب الحِس فلم يُضف { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ}.
 وبعض العلماء يقول: الضلال نوعان: ضلال حِس وضلال معنى، أما ضلال الحس فقد حصل مرتين للنبي ﷺ مرة في مكة ضاع في شِعبها وهداه الله للطريق ، ومرة في طريقه في تجارة الشام ضيِع الطريق فهداه الله ، هذا الضلال الحسي تقول : ضل الطريق يعني ما عرف الطريق مثل إنسان يمشي في البر وضيّع الطريق ماعاد يعرف يمشي كذا والا كذا .. الخ ، وقد يكون ضلال معنوي
-كما ذكرت- يدخل فيه النسيان يدخل فيه الجهل ويدخل فيه غير ذلك والتوَهم وغير ذلك { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ}.
{ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ } العائل : هو الفقير، وقيل العائل هو: ذو العيال ولذلك يُسمى الفقير بالعائل كما قال تعالى :{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} يعني فقراً . { وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ } أي شيء أغنى الله به النبي ﷺ ؟ هل ترك عبد الله للنبي ﷺ ميراثاً ؟ لا ، الميراث الذي تركه عبد الله كان قبل مولد النبي ﷺ وأخده والده عبد المطلب وانتهى الموضوع ، طيب عبد المطلب ترك ميراث للنبي ؟ النبي لا يرث من عبد المطلب لأن أبناء عبد المطلب موجودين ، إذاً ليس هناك أحد يرث منه النبي ﷺ ، آمنة ماتت ما تركت شيء ، ما كان عندها شيء ، كبر النبي ﷺ حتى بلغ وهو ما عنده إلا عملَهُ يرعى الغنم ويأخذ قراريط نهاية الشهر قال :( كنت أرعى الغنم لأهل مكة على قراريط ) القراريط: قليل من المال شهرياً ، راتب شهري يأخذه النبي ﷺ هذا كل ما يملك ، لما ذهب في تجارة خديجة وربحت أخذ النبي ﷺ المال الربح الذي اتفق معها عليه ولما خطبها تكلّم عمه أبو طالب وقال -وأبو طالب بالمناسبة هو عمّ النبي ﷺ
 -الشقيق الوحيد- جميع أعمام النبي ﷺ من جده ، أعمامه من أبي أبيه لكن أبو طالب شقيق عبد الله فأصبح أولى بالنبي ﷺ وأصبح آل أبي طالب أولى من غيرهم من أعمام النبي ﷺ لذلك خُصّ علي بن أبي طالب وجعفر بن أبي طالب وعقيل أبي طالب و آل أبي طالب بقربى دون غيرهم من أعمام النبي ﷺ .
 كيف أغناه؟ أول الغِنى كان الزواج ، أول غِنى النبي ﷺ كان زواجه من خديجة ولذلك خُطبة الزواج التي خطبها أبو طالب في المسجد الحرام خطب فقال : "أما بعد فإن محمداً وإن كان قليل المال فإن مهره عليّ " التزم أبو طالب بدفع مهر النبي ﷺ مما يدل على أنه كان فقيراً فلما تزوّج وحصل الحدث الذي أخبرت عنه قبل قليل -أن خديجة وهبت مالها كله للنبي ﷺ- أغناه الله وفي هذه القصة وبهذه المناسبة يُعلَم أن الزواج من أكبر أسباب الغنى يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه : "عجبت لراغب في الغنى ثم لا يتزوج وما ضمِن الله الغنى في القرآن لأحد إلا للمتزوج قال الله جل وعلا : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } " { إِنْ } شرطية { يُغْنِهِمُ } جواب الشرط. نعم..
 هذا الغنى قيل بزواجه من خديجة ، وقيل هذا الغنى هو غِنى معنوي لأن الغِنى غنى النفس فقد زهَّد الله النبي في الدنيا فأصبح الذهب والحجارة عند النبي ﷺ سواء ولذلك خُيِّر النبيﷺ بين أن تكون جبال مكة كلها ذهب وفضة وجبال الجزيرة العربية ويكون ملكاً نبياً أو يكون نبياً عبداً  فقير يشبع تارة ويجوع تارة فاختار أن يكون عبداً رسولاً ولم يختار أن يكون ملِكاً رسولاً وقال لعمر : ( أما ترضى ﻻن تكون الدنيا لهم ولنا الآخرة ) .
وقيل في قوله : { وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ } أي بما سيكون من الجهاد والغنائم والنصر وقد حصل ذلك فأول ما بدأ الغِنى على الصحابة متى ؟ بعد فتح مكة عندما جاءت غنائم حُنين قال الله جل وعلا : { لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا } هذا فتح مكة { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا } هذه غنائم حُنين كانت من أعظم الغنائم ، ثم بعدها جاء خراج البحرين ، خراج البحرين كان أعظم خراج وصل للمدينة في حياة النبي ﷺ حتى أنه من كثرته جُعِل في المسجد من خلف يعني خزائن الصحابة امتلأت والباقي جعلوه في للمسجد ، ويقول الصحابة : فما مُلئ مسجد رسول الله ﷺ من المُصلين أكثر من ذلك اليوم - حتى المنافقين جاؤا يصلوا الفجر ما جابتهم الصلاة - فلما قضى رسول الله ﷺ الصلاة ونظر إلى الجموع الغفيرة من الناس ورأى وجوهاً لأول مرة يراها في صلاة الفجر خطب فيهم قال : ( يا أيها الناس لقد علمتم ما فتح الله به علينا من خراج البحرين - أو من أموال البحرين - أما والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتُهلككم كما أهلكتهم - وفي رواية - فتُلهِيكم كما ألهتهم ) فالشاهد: أن النبي ﷺ الدنيا ما كان يعمل فيها شيء ، حنين عندما فتحها أعطى ما بين جبلين من الغنم لصفوان بن أمية ، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر .
/ يقول الله عز وجل :{ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ } الآن نرجع لنقابل ما بين الثلاث بالثلاث ليدلك على أن شُكر النِّعمة هو صرفها ولذلك قال بعض علماء الشناقطة رحمه الله قال :
"والشكر صرفُ العبد ما أولاه مولاه من نعماه في رضاه"  يعني أن تصرف كل نعمة أنعم الله عز وجل عليك بها فيما يرضي الله عنك .
طيب .. كنت يتيماً فكيف تشكر نِعمة اليُتم ؟ نعمة أن الله آواك احفظ اليتيم وأنت كبير وارعى اليتيم ، كنت فقير كيف تشكر نعمة الغنى؟ قف مع الفقير وأغنه ، ولذلك قال الفقهاء أو بعض الفقهاء: إغناء فقير واحد خير من إعطاء ألف فقير لا ينفعهم ذلك. يعني افرض إن عندك زكاة وزكاتك هذه مائة ألف فهل الأفضل لك أن توزعها من مائة مائة مائة وكم يكون عشرة آلاف ؟ أو تعطيها شخصين أو شخص يملُك بيتاً وكذا وكذا فقد أغنيته لأن هذا إذا استغنى سيُغني غيره فإغناء شخص واحد خير من وأحب إلى الله من إعطاء خلق كثير لا يستغنون لأن الإغناء مطلوب شرعاً ولهذا قال الله عز وجل : { إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } ما قال يعطيهم الله {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } والنبي ﷺ كان يقول : ( اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى ) فالغنى مقصد شرعي .
/ { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ } فيها قراءة "فلا تكهر" (١) ما الفقر بين (القهر) والـ (الكهر) ؟ القهر: قهر الرجال وقد استعاذ النبي ﷺ منه قال : ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخر وغلبة الدين وقهر الرجال ) الإنسان إذا قُهِر يعني تحكمت فيه إرادة غيره ولذلك العبيد مقهورين تتحكم فيهم إرادة أسيادهم ، والناس مقهورين تتحكم فيهم إرادة القهّار جل جلاله سبحانه وتعالى { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } .
{ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ } ما معنى قهر اليتيم ؟ قهر اليتيم في أحد خمسة أمور ، اليتيم أمر الله في حفظه في خمسة أشياء : في [نفسه وفي ماله وفي نكاحه] هذه ثلاثة
 أولاً : في نفسه من جهتين بدفع الشر عنه وجلب الخير له
 وفي ماله بدفع الشر عنه وجلب الخير له
 وفي زواجه فأصبحت خمسة . فإذا أردت أن تُحسن على اليتيم فأحسن عليه في الجوانب الخمس ، انظر إلى نفسه فاجلب الخير له بالتقريب وإياك ودفعه وطرده قال تعالى : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ } يدفعه إذاً لا تدفع اليتيم ولا تطرده ، ثانياً ماله : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } إن كان مال يتيم عندك وفِّره ونمِّيه { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } إصلاح لهم في نفوسهم وإصلاح في أموالهم ، إذاً في النفس بجلب المصلحة ودفع المفسدة ، في المال بجلب المصلحة ودفع المفسدة هذه كم ؟ أربعة ، بقيت واحدة وهي الزواج إذا كانت اليتيمة أنثى فكيف تُحسن إليها ؟ هل تحسن إليها بالزواج تُزوجها أو تتزوجها ، تُزوجها غيرك أو تتزوجها أنت ؟ وإن كان رجلاً فكيف تُحسن إليه؟ لذلك اشترط العلماء في زواج اليتيمة خمسة عشر شرطاً لا تُزوّج إلا بها ، ومسألة التعدد { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } هذه كلها سبب تشريعها عدم أذية اليتيمة المسكينة ، يعني عندك وحدة .. ثنتين .. ثلاثة بس اليتيمة انتبه إياك وأذيتها .
{ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ } إذاً هو أب اليتامى وإن كان يتيماً ولذلك ما في أحد أرحم باليتامى من محمد ﷺ ، من شدة رحمته باليتامى كلما مات أحد من صحابته عن زوجة لها أولاد تقدم المصطفى ﷺ يخطبها لأجل أن يُربي اليتامى الذين عندها ، لما مات أبو سلمة كانت أم سلمة عندها عيال فتقدم لها بعض الصحابة فقالت : "والله لا أتزوج بعد أبو سلمة أبداً" خلاص مات أبو سلمة ماعاد في الدنيا خير فجاءها النبي ﷺ فقال لها : ( يا أم سلمة قولي اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها ،  قالت يا رسول الله : ومن خير من أبي سلمة؟! قالت : اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها) خرج النبي ﷺ وانتهت عدة أم سلمة وجاء النبي ﷺ هل هو رغبة في أم سلمة أم رغبة في اليتامى الذين عندها ؟ رغبة في اليتامى الذين عندها حتى يربيهم لأن الله يقول : { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ } فرجع إليها قال : ( يا أم سلمة أريد أن أخطبك وأتزوجك قالت له : يا رسول الله لا أصلح لك - ترُد رسول الله - قال :  ولم ؟ قالت : لأني إمرأة غيورة - رقم واحد - كبيرة السن - اثنين - وذو عيال أيتام ضِعاف مالهم غيري وأخشى إن تزوجتك أن لا أعطيك حقك فيغضب الله علي فيدخلني النار ). يالله شفت كيف الخوف من الله ،  قال لها ﷺ : ( أما أنك كبيرة فأنا كبير مثلك وأما غيرتك فأدعو الله أن يذهبها عنك وأما أبناؤك فأبنائي ، قالت : قبلت . فتزوجها النبي ﷺ فكانت أماً للمؤمنين) هذا من حرصه ﷺ على يتامى المسلمين . { فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ } لأنه كان يتيماً { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } اختلف العلماء في السائل ما معناه:
 فقيل السائل هو: الذي يسأل الحاجة وهذا يقابله في الآيات الماضية { وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ } فكنتَ فقيراً فأغناك إذاً أعطي الفقير حتى يستغني كما أغنيتك ، فمن اهتم بالفقراء وإغنائهم أعطاه الله من المال ما لا يعلم حصره وعدَّه إلا الله تعالى ، ومن بخل واستغنى لم ينفعه المال الذي عنده أُخِذ منه لأن المال وديعة وإعارة عندك اليوم وعند غيرك غداً { تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ } فمادام عندك فرصة فأنفق كما قال النبي ﷺ : ( انفق بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً ) هذا القول الأول أن المراد بالسائل هو صاحب الحاجة. وبالمناسبة بعض المساجد يأتي فيها أصحاب حاجات وبعض الناس مسخِّر نفسه لهؤلاء السائلين يطردهم ويسبهم وكأنهم يريدوا من جيبه . { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ }.
 وقد بعث الله مَلكاً مُقرباً في صورة سائل ، كان في بني إسرائيل ثلاثة رجال رجل أبرص ورجل أقرع ورجل أعمى فجاء ملَكٌ الأبرص قال له : ما تتمنى من المال ؟ قال : أن يعطيني الله جلداً حسناً ويعطيني ناقة جميلة ولودة ، قال الملك : اللهم رُدّ عليه بشرته كما كانت وأعطيه من الأبل حتى يرضى ، وذهب إلى الثاني الأقرع قال: ماذا تحب من المال ؟ ماذا تحب أن يعطيك الله ؟ قال يعطني شعرا جميلا ويعطيني من البقر، قال المَلَك : اللهم أعطه شعراً جميلاً وأعطيه من البقر حتى يرضى ، راح عند الأعمى قاله ماذا تتمنى من الله ؟ قال يرُدّ عليّ بصري ويعطيني من الغنم ، وبعد سنة رجع صاحب الأبل أبرص ذهب البرص الإبل صارت كثيرة ، فجاءه في صورة أبرص قال له : يا هذا أنا سائل - طيب هذا ملك ليس إنسان - قال : أنا سائل وفقير فهلا أعطيتني من هذه الإبل ناقة أو جملا أستعين به على سفري فماذا قال الأبرص - سابقاً السليم حالياً -؟ قال : إن هذا مالي ورثته عن أبي وجدي - رقم واحد كذب - ووالله لا أعطيك شيئاً فقال الملك : اللهم إن كان صادقاً فأبقِ له ماله وإن كان كاذباً فأرجعه كما كان ماتت الإبل فوراً وسقط الجلد الجميل وعاد إلى البرص وعاد فقيراً كما كان وبحث عن المَلك ما وجده ، وجاء المَلك إلى ذلك الذي كان أقرع في صورته التي كان عليها - أقرع وكذا - قال له : أنا رجل أقرع ما عندي شيء أن تعطيني بقرة من هذه البقر قال له مثلما قال الأقرع دعا المَلك مثل ما دعا ، مات البقر وتساقط الشعر وعاد كما كان ، وجاء في صورة أعمى للأعمى - كما تعلمون - الأعمى ماذا قال؟  يوم رآه أعمى تذكر حالته قال له والله إني كنت مثلك وإني لا أمنعك الساعة من هذه الغنم شيئاً فخذ ما شئت منها ودع ما شئت فقال الملك : اللهم بارك له في ماله - من هذه الدعوة تباركت الغنم إلى قيام الساعة ، لذلك أبرك الأنعام الغنم وما في إنسان يربي غنم ويفتقر أبداً -
قال : اللهم بارك له فيما رزقته وزده من فضلك وأصبحت الأغنام مُؤثرة حتى في أصحابها لذلك اختارها الله للأنبياء فقال النبي ﷺ: (ما من نبي إلا وقد رعى الغنم ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا كنت أرعى الغنم لأهل مكة على قراريط ) وذكر الله رعي موسى للغنم { هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ } .
القول الثاني في السائل : أنه السائل عن العِلم - المُستفتي - بعض المشايخ وطلبة العلم إذا جاءه المُستفسي يستفتي لا يرد عليه
-مشغول- وقد يتصل فيرد يقفل في وجهه وأنت ما تسمع هذا وقت اتصال ؟! إزعاج ، لا يا أخي { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} 
 النبي ﷺ كان يقف الناس تسأله حتى الجارية تأخذه تستفيه في أمر دينها فيجيب هذا ويجيب هذا حتى إذا انفضوا ذهب ﷺ.
 وهكذا ينبغي أن يكون دأب العلماء وطلبة العلم إذا جاءك سائل يستفتي في الدين فقف ولا تنهره حتى تُفهمه { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ}. {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } ماذا يقابلها هذه ؟ { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ }
{ ضَالًّا فَهَدَىٰ } تقابل { السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } وهذه تؤكد أن المسؤول عنه العِلم لأن الضلالة تُقابل العِلم .
 { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّث } هذه قابلت ماذا ؟ { وَوَجَدَكَ عَائِلًا }؟ أو تقابلها كلها؟ وهذا الصحيح الآية الأخيرة { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } فيها فوائد كثيرة:
 الفائدة الأولى:  أن الله جل وعلا أضاف النِّعمة هنا له قال : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } فالنعمة هذه كلها ليست منك ولا من أبيك ولا من جدك ولا من قبيلتك ولا من العرب كلهم بل هي من الله { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } وهذا الأدب الذي أدّب الله به الأنبياء ، هذا سليمان عليه الصلاة والسلام يسأله سائل يقول له : ما سرّ هذا المُلك الذي أعطاك الله أنت وأبيك ماذا قال سليمان ؟ قال : { هَٰذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } أما من أضاف النعمة إلى نفسه فهو الجاهل الكافر هذا قارون أضاف النِّعمة إلى نفسه قال : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي } كيف كانت نتيجته ؟ قال تعالى : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ } ، سليمان كيف كانت النتيجة ؟ قال الله: { هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } مادام تعلم أن هذه عطاءنا وتعلم إن هذه من فضل ربي خلاص خذ راحتك أمنن وأمسك من غير حساب ، كذلك محمد قال الله : { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } وقال : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } إذاً المسألة من الله إذاً
{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } ، وأنتم النِّعم التي عندكم مِن مَن ؟ واحد سألته قلت له ما شاء الله عندكم تجارة كيف ؟ قال : والله أبوي الله يخليه لنا ، - سبحان الله - أبوي الله يخليه لنا !! يا أخي الله الذي أعطاك وأعطى أبيك وأعطى جدك ، هذا عطاء الله أبوك مجرد رسول والوظيفة رسول وهذا الرِّزق كله من عند الله سبحانه وتعالى { وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ }
{ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } ما معنى النعمة هنا ؟
اختلف العلماء - المفسرون - في المراد بالنِّعمة : فقيل: النعمة هنا المراد بها الإسلام يعني ولذلك قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } ويكون المراد الحديث بالإسلام الدعوة إلى الإسلام فيكون الدعوة إلى الإسلام شُكر ومن أراد أن يشكر الله فليكن داعية فكلما دعيت إلى خلق أُعطيتَه وكل ما دعيت إلى عبادة أُعطيتها وكل ما دعيت إلى خير هُديت إليه هل هناك فضل أحسن من هذا ؟ فتقول للناس صلوا تُعطى الصلاة، وتقول زكوا تُمنح الزكاة ، صُوموا تُعطى أجر الصيام سواء صُمت والا ما صمت ( من دل على خير فله أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ).
وقيل : { أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } المراد به ما أنعم الله عز وجل عليه به وخصّه به دون سائر الأنبياء خصائص النبي ﷺ وقد تحدث بذلك يوم خيبر عندما قدمت شاة فأخذ منها الذراع ثم قال : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر ) ثم ذكر حديث الشفاعة هذا كله من باب الحديث بالنعمة وكان يقول : (ولا فخر ولا فخر) أي لا أقول هذا من باب الفخر وإنما أقوله من باب التحدُّث بالنِّعم .
 هل هذه الآية خاصة بالنبي ﷺ أو عامة ؟ عامة .
 كيف تتحدث بنعمة ربك ؟ كم دخلك؟ كم راتبك ؟ كم زوجة لك؟ كم أولاد عندك؟ وتقف أمام الناس وتقول يا جماعة ترى دخلي كذا وراتبي كذا وزوجاتي كذا وأبنائي كذا هل هذا المطلوب بالتفصيل ؟ أو أنك تقول الحمد لله نحن في نعمة وخير عظيمين من الله ؟ المراد الإجمال أما التفاصيل هذه غير مطلوبة منك وإذا قلتها قد تدفع للحسد يشوفك واحد حسود عينه حارة ولا يقول ما شاء الله تروح فيها . انتهت سورة الضحى أسأل الله أن يشرح صدورنا وصدوركم ولعلنا نجمعها بالتي بعدها .
---------------------------------
[١] وقرأ النخعي والأشهب العقيلي ( تكهر ) بالكاف ، وكذا هو في مصحف ابن مسعود . فعلى هذا يحتمل أن يكون نهيا عن قهره ، بظلمه وأخذ ماله . وخص اليتيم ; لأنه لا ناصر له غير الله تعالى فغلظ في أمره ، بتغليظ العقوبة على ظالمه . والعرب تعاقب بين الكاف والقاف . النحاس : وهذا غلط ، إنما يقال كهره : إذا اشتد عليه وغلظ . وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي ، حين تكلم في الصلاة برد السلام ، قال : فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه - يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوالله ما كهرني ، ولا ضربني ، ولا شتمني . . . الحديث . وقيل : القهر الغلبة . والكهر : الزجر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق