الاثنين، 29 فبراير 2016

الحلقــ الثامنة والعشرون ـــة/ ::وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ::


الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شِعار و دِثار ولواء أهل التقوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله بلَّغ عن الله رسالاته ونصح له في برياته فجزاءه الله بأفضل ما جزى به نبياً عن أمته صلى الله عليه وملائكته والصالحون من خلقه وبعد ..

 أيها المباركون عنوان درس هذا المساء المبارك { َجَنَى الْجَنَّتَيْنِ } فـ (جنى) مضاف و(الجنتين) مضاف إليه وهو مجزوء من قول ربنا جل وعلا :
{ مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ۚ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } وهذا من سورة الرحمن - كما هو معلوم - والتفسير هنا تفسير علمي بمعنى سنُجمل بعض المعاني التي دلت عليها خواتيم سورة آل عمران والتنوع في عرض الخطاب يجعله أكثر قبولاً لدى متلقيه .

قال أصدق القائلين : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } وبعد أن ذكر شيئاً من وصف هاتين الجنتين قال وهو أصدق القائلين قال : {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } فقوله : { وَمِنْ دُونِهِمَا } يدل من حيث الإجمال من حيث الظاهر على أن الجنتين المذكورتين في الآخِر غير المذكورة في الأول ومن الأدلة على ذلك أنه قال في الأول : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } وقال في الثانية : { مُدْهَامَّتَانِ } قال في الأولى : { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } وقال في الثانية : { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } وقال في الأولى : { فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } وقال في الثانية : {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} عيَّن وحصر .. واضح ؟ لكن ليس هذا السؤال لأن هذا ظاهر لكن السؤال هل هاتين الجنتين الأخريتين المذكورتين بعد قوله سبحانه : { وَمِنْ دُونِهِمَا } لأحد غير الأول ؟ أم أنها أربع جنان لمن كان له وصف واحد .. واضح السؤال ؟ هذا السؤال .
 الجواب عن هذا أن من تأمّل وجد أنها أربع جنان لوصف واحد أين الدليل ؟ الدليل أن الله قال في الأول قال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } ثم قال : { وَمِنْ دُونِهِمَا } ولم يذكر وصفاً يعني لم يقل سبحانه - ولا مُلزِم له - ولم يقل ولمن كان كذا وكذا حاله جنتان من دونهما، فلما لم يذكر وصفاً ثانياً عُلم في الغالب - في غالب الظن ولا نجزم - أنها جنان أربعة هذا التنبيه الأول.
 مما يدل كذلك على هذا أن الله قال بعد ذلك وهو أصدق القائلين قال : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } ولم يقل فيهما فلما قال : { فِيهِنَّ } عائدة على ماذا ؟ عائدة على الأربع على المجموع فظاهر القرآن - والعلم عند الله - أنها كلها تعود إلى ذي وصف واحد قال عنه ربنا: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } يقول أهل العلم أن الجنتين أوتيهما من باب أنه أوتي جنة لخوفه من مقام الله والخوف من مقام الله يُورث في الأصل - في الأول- يُورث ترك الحرام فجنة لخوفه من مقام الله وجنة لتركه الحرام عِوض عن الحرام عن الشهوة المحرمة التي تركها إن كانت شرب خمر إن كانت زنا إن كانت غير ذلك عوضاً عن الحرام الذي تركه فيعوضه الله جل وعلا عنه .. ظاهر هذا ؟ . { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } الخوف من مقام الله مر معنا كثيراً في بعض منازل الصالحين لكن بما دلت عليه السنة وجرى عليه عمل سلف الأمة أن الإنسان حال الاحتضار يُغلِّب الرجاء على الخوف لله الواحد القهار فهو في كل حال لا يرجو إلا ربه وفي كل حال لا يخاف إلا من ربه لكنه حال الاحتضار يُغلِّب ماذا؟ يغلب الرجاء ، ومعاذ بن جبل من أجل وأعظم الصحابة علماً وقدراً وكفاه شرفاً ( يا معاذ إني لأحبك ) فلما حضرته الوفاة، أصابه الطاعون في الشام رضوان الله عليه فلما شعر دنو الرحيل وقرب الأجل - وهذا له علامات له ظواهر لا تخفى على أحد - قال وهو يحتضر رضوان الله عليه قال : ( اللهم إنني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك اللهم إنني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك ) فالمؤمن في سيره إلى الله يخاف الله فإذا دنت ساعة الاحتضار وشعر بها وشعر بدنو الأجل وغلب على ظنه أن المرض الذي أقعده مرض موت وأن الساعة التي يعيشها ساعة لقاء وخروج روح يُغلِّب هنا الرجاء فيمن ؟ في الله العلي الكبير وكن على يقين أن رب العالمين - وأنا أقسم على هذا - لا يخيب من يرجوه والله إنك تعلم ولا حاجة للإعادة ممن صحِبت من الناس وعرفت من الرجال إن فيهم من الكرم والشهامة والمروءة ما لو علموا أنك رجوتهم لم يخيبوك فكيف يظن عبدٌ ظن سوء بالله أن الله يُخيّب من رجاه، هذا من أعظم المُحال قال معاذ رضي الله عنه : "اللهم إني أخافك وأنا اليوم أرجوك" ، متى يَعظُم الرجاء ؟ إذا كان العبد يعلم من نفسه أن له خبيئة مُدخرة عند الله يعظُم رجاؤه في الله ، كل من عظُمت خبيئته عظم رجاؤه لأنه يعلم في نفسه ما بينه وبين الله والله جل وعلا رحيم كريم ذو فضل عظيم يُوفِق عباده حال الحياة في الدنيا لما يجعلونه من الأعمال مدخراً لهم يوم القيامة أو يوم يلقونه . قال ربنا : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان } بيَّنا أن المقصود أن جميع الجنان لمن له وصف واحد .
 قال ربنا جل ذكره في الآيات قال : { مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ۚ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } أي قريب يسير التناول هذا عنوان اللقاء { وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } أي يسير التناول قال ربنا في الآيات كذلك : { فيهما } في الجنتين الأخريتين { فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } الأصل أن الرمان والنخل فاكهة لكن هذا من عطف خاص على عام ولما كان الرُمان عزيزاً في جزيرة العرب ذُكِر لوحده والنخل أكثر منه ظهوراً في جزيرة العرب فذكر قبله والفاكهة مجملة لِما أنبته الله في الأرض من الطيبات لكن المقصود هنا فاكهة الجنة.
 أما الرمان فقد جاء في الخبر الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم وهو يذكر أشراط الساعة قال : ( وتخرج الأرض بركتها ) الآن أيها المبارك - بالعقل - لو أنك في رحلة مع رفقائك وأودعوك أمانة مؤونة الرحلة واتفقوا على أن الرحلة في أربعة أيام فأنت في الأربعة أيام في الأيام الأُول تخرج من المؤونة شيئاً فشيئاً وكلما جاء أحد في اليوم الأول يُطالبك بالكثير تقول : باقي ثلاثة أيام أنت تريد أن ننهيها في أول يوم هذا لا يعقل ، فتبقي عليها لكن لا يقبل أحد من من معك من خلطائك.. من أقرانك لا يقبل أن تأتي في الساعة الأخيرة من رحلتهم وهم مُغادرون وقد حملوا متاعهم أن تبخل عليهم بشيء من الودائع ويقول لك أحدهم : أنت لمن تبقيها نحن ماضون .. واضح هذا .
 الأرض تعلم بوحي الله لها قرب الساعة وهي مُكتنزة بركتها وتعلم أنها ستتبدل.. تتغير ربنا يقول : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } وأن الناس يحشرون على أرض بيضاء نقية لم يُعصى الله عليه قط .. ظاهر ، فلما يأتي آخر الزمان وهي تعلم أن وضعها قد انتهى ماذا يحصل ؟ تخرج كل ما تملكه من بركتها فأخبر صلى الله عليه وسلم أن قشر الرمان الرمانة الواحدة قشرها يستظل به الفئام من الناس ولا يعقل ولا يمكن أن يستظل الناس بقشر الرمان إلا إذا كانت الرمانة كبيرة جداً وهذا لأن الأرض كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : ( تُخرج بركتها ) لعلمها بقرب النهاية وقرب فناء الناس وبقرب قيام الساعة .. واضح الآن ، هذا في ذكر الرمانة .
مر معنا لا أذكر في أي درس لكن المقصود لما تكلم الصحابة في القدر قال الصحابي يصف وجنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كأنما فقئ في وجهه حب الرمان ، فهو يكنى به عن شدة الإحمرار هنا قال الصادق المصدوق قال ربنا جل وعلا : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } فالرمان بنص القرآن ثمرة من ثمار الجنة .
/ قال ربنا عز وجل في السورة نفسها : { فِيهِنَّ } و هذا عائد للجنان الأربع { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } يوجد أخلاق ويوجد خَلْق، الله يصِف النساء الحور العين اللواتي في الجنة بقوله : { فيهن } أي في الجنان الأربع التي مضى ذكرها { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } يوجد في اللغة شيء اسمه التخفيف جرى به اللسان العربي يأتون بالكلمة المشددة فيجعلونها مخففة مثلا ً: إنسان سهل جداً، تقول هذا رجل ماذا؟ ليّن أو هيّن ، تمدح أحد تقول فلان ما شاء الله عليه هيّن أو ليّن، هذه هيّن وليّن بالتشديد بإبقاء الشدة عليها هيّن..ليّن .. واضح ؟ العربي يقول في شعره :
هينون لينون أيسار ذوي كرم ** سُواسُ مكرمة أبناء أيسار
من تلقى منهم تقول لاقيت سيدهم ** مثل البدور التي يُهدى بها الساري 
فقوله : (هينون لينون) هو ماذا يريد أن يقول؟ هيّنون ليّنون لكنه ترك التشديد ورجع للتخفيف، إذاً التخفيف لسان عربي مبين التخفيف لسان عربي مبين والقرآن نزل بلغة العرب ربنا يقول :{ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ } بسكون الياء { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } بسكون ياء خيرات إذاً ما أصلها ؟ خيّرات حسان .. واضح ؟ فيهن خيّرات حسان خيّرات في أخلاقهن حسان في خلقهن أعيد خيّرات في أخلاقهن حسان في خَلقِهِن يعني في قوامهن بالكامل يعني .. واضح هذا ؟ هذا يسمى التخفيف .
/ قال ربنا في السورة نفسها : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان } ذكر الماء فقال في الأول : { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } وقال : { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } لكن لا يلزم أن يكون الذي يجري - وإن كان الأصل أن العين ماء - لا يلزم أن يكون الذي يجري ماءٌ فربما كان غير الماء لكنه لو لم يكن ماء سيكون واحدا من ثلاثة ما يقول أهل العلم فيها ماهي ؟ اللبن والعسل والخمر وقد جمعها الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وسلم .. واضح ؟ إما أن تكون عيون من عسل أو عيون من لبن أو عيون من خمر أو عيون من ماء وهو الأصل، قد يقول قائل تلك أنهار وهذا قول قوي لكن لا يمنع أن تكون تلكم العيون والعين تُجمع عيون والله يقول :{ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا } لكن هذا في غير هذا .. ظاهر هذا ؟ نحن الآن نتلمس كيف نفسر الآيات .
قال ربنا جل وعلا : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } كلمة { مَقَامَ } المعنى أنه يستصحب القيام بين يدي الله وليس هذا كافياً أو سبيله وحده في قضية الشهوات واجتنابها وإن كان هذا من أهمها لكن كذلك يخشى المؤمن والخوف من مقام الله أن يظلم غيره فوالله إن من أعظم مناقب الصالحين سِترهم على عباد الله المؤمنين، إذا أراد الله بعبد خيراً جعله يستر ولا يحاول أن يفضح أحداً كائناً من كان يقول صلى الله عليه وسلم: ( من غسّل مسلماً فستر عليه غفر الله له أربعين مرة ) غفر لمن ؟ للغاسل ( من غسل مؤمناً فستر عليه غفر الله له أربعين مرة ) ( ومن ستر مؤمن ستره الله ) ولهذا - مع إجلالنا لإخواننا المعلمين وإخواننا في الجامعات وإخواننا ومشايخنا وأجلائنا في الحسبة وإخواننا في أي موطن - لا يحسن بك أن تأتي إلى مقتنى أخيك أو أي شاب تعرفه أو لا تعرفه فتفتحه لتنظر مافيه لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( من اطلع على بيت قوم بغير أذنهم ففقؤا عينيه فلا قصاص له ولا دية ) ووالله إن ما يقتنيه المرء في يده إما يُعرَف بكذا بكذا أنا لا أحب أن أتكلم في القرآن بأشياء حديثة هذا الذي في أيدي الناس أضحى أعظم سراً بالنسبة للشخص من بيته فلا يجوز لأحد أن يأتي لأحد ويقول أنا فتحت جواله -نطقناها- وجدت فيه كذا وكذا، فأصلاً من الذي أباح لك أن تفتح جواله!! أنت نفسك من الذي يستطيع أن يفتح قلبك؟! فينبغي للعاقل أن لا يغلبه الحماس إن كان مُعلماً أو موجهاً أو أباً أو محتسباً فيأتي لمن تحت ولايته أو غير ولايته من باب أولى أو أبعد فيقول : وجدت .. اسأل الله أن لا يكشف سِترك واسأل الله أن يرحمك وربما خلق ممن تعلمهم وممن لا تعلمهم كانوا على ضياع ثم سترهم الله ثم نقلهم الله إلى خير ولا حاجة للتمثيل فهذا أكثر من أن يُعرَّف وأشهر من أن يُقال لكن المقصود يستزل الشيطان بني آدم يريد أن يقول أنا أريد أن أنكر منكر أنا أريد أن أعرف الرسائل أعرف أعرف ثم يدخل في معظلة إلى معظلة إلى معظلة ، كل الخلق لهم رب يؤوبون إليه وحسابهم عليه ولم يكلفك الله بذلك، وقد أدركنا الأخيار من مشايخنا في المدينة -رحمهم الله- كان أحدهم - وهو من أكابرهم - يقول : "والله إن الله لن يسألك لِم لم تلعن فرعون وإنك لو لعنت الشيطان فإنك لا تؤجر" هذا وهو الشيطان، لو لعنت الشيطان لا تؤجر فكيف من يأتي لعباد الله سترهم الله هم ستروا أنفسهم لما يأتي إنسان وضع أشياء في الجوال هذا ستر نفسه ، متى يحق فتحه ؟ بأمر قضائي إذا وجد أمر قضائي هناك بلاغ عنه وأمر قضائي هذه مسألة أخرى، لكن أن يأتي أحدنا بأي حجة يتولاها حتى إنني أنصح الآباء أن لا يفتح أحد منهم جوال ابنه ولا جهازه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً وأنا قلت هذا مراراً والله إن لي أربعة ابنتان وابنان - والله على ما أقول شهيد - ما فتحت جوال أحدهم ولا جهازه يوماً من الدهر ولا حاولت ولم يقع ذلك في خلدي ولا خطر لي ببال ولا أريد ولا أعلم والله أحد من أهل الأرض أخذت جواله وفتحته منذ أن عرفت الناس حتى إن الإنسان له ذنوب يريد من الله أن يسترها، وللناس ذنوب لهم يريدون من الله أن يسترها فلا تتسلط على غيرك فيُسلط الله إليك من هو أقوى منك. سترنا الله وإياكم بستره والحمد لله رب العالمين .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق