الأربعاء، 21 أكتوبر 2015

الحلـقـ الحادية والعشرون ـة / نحن نعيش بعفو الله عزوجل ورحمته


سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. .
أيها الإخوة الصائمون..أيها الإخوة المصلون..أيها الإخوة المؤمنون نواصل مع هذه السورة في تعقيباتها على هذه القصة العجيبة
يقول الله جل وعلا :
(وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة القصص ٤٧] 
كم مرة في القرآن ربط المصائب بما تُقدم اليد؟
 (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ..) [سورة الروم ٤١]
(وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [سورة الشورى ٣٠]
(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ..) [سورة آل عمران ١٦٥]
هل نحن نتأمل هذه المصائب التي تحُلّ باﻷمة أو بالمجتمع أو بالفرد؟!
هل نحن عندما تقع على الواحد مصيبة بدل أن يقول مباشرة قضاء وقدر -وهو لاشك قضاء وقدر- أن يرجع إلى نفسه، أن يكون هو السبب (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ) نكرة في سياق النفي فهي تعُمّ (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) نحن نعيش بعفو الله عزوجل ورحمته.
لما الصحابة رضوان الله عليهم خير القرون مع محمد ﷺ وحدثت الهزيمة في أُحد استغربوا أو بعضهم استغرب كيف وقع علينا هزيمة ونحن نجاهد ومع النبي ﷺ ؟! يأتي القرآن يُحرر القضية (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ..) [سورة آل عمران ١٥٦] يُقال لصحابة النبي ﷺ في قصة الرُماة المعروفة.
 (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بماذا؟ بما كسبت أيدي الناس، وهنا يقول (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بما قدمت اﻷيدي..بما كسبت اﻷيدي كلها بهذا المعنى.
فأيها اﻷحبة: عندما نُعيد اﻷمر إلى نصابه سنتخلّص من كثير من الذنوب والمعاصي واﻵثام، كيف؟
 عندما يُدرك اﻹنسان أن هذه المصائب بسبب ذنبه فإنه سيتخلص من الذنب. أعرف أناسا ممن يتدبر القرآن إذا وقع عليهم مصيبة رجعوا إلى أنفسهم يُحاسبونها ويرجعون إلى الله يتوبون إلي فتنحلّ المصيبة.
أحيانا قد يغيب عن بالنا شيء، قد تقع مصيبة وأنت تعرف أن السبب فلان أو فلان أو الجهة الفلانية وفعلا قد يبدو لك أن هذا وقع عليك وأنت ليس لك سبب لكن لو تأملت أنك ربما وقعت في ذنب آخر فعُوقبت بهذه المصيبة. هذا جانب مهم جدا فتنحلّ المشكلات. ولذلك فيه لفتة تدبرية في سورة آل عمران :
(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
بعض الناس يمشي بسرعة (١٢٠ - ١٨٠) ثم يقع حادث..ثم تقع مشكلة يأتي اﻷهل يقولوا قضاء وقدر، نحن نعرف أنه قضاء وقدر لكن ألم يكن هو أسرع سرعة لا تليق!!
فلان فعل كذا وكذا ثم هلك أو خسِر ماله بسبب الربا بسبب الظلم. قضاء وقدر.
اللفتة في آل عمران (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) فهو أعاد اﻷمر إلى أنفسهم مع أن الله على كل شيء قدير القدر الكوني.
جاء رجل إلى عمر رضي الله تعالى عنه جيء به وقد سرق فقال له عمر: لماذا سرقت؟ قال: يا أمير المؤمنين قضاء وقدر -هنا استدلال خاطئ بالقضاء والقدر- فقال عمر: نعم قضاء وقدر -أي قضاء الله الكوني- وأنا أيضا سأقطع يدك وقطع يده قال قضاء وقدر) أي مقدرقدرا كونيا وشرعيا أيضا أن تُقطع يده ﻷنه سارق لأن استدلاله كان خاطئا، ليس كل قضية  مباشرة نقول قضاء وقدر. نحن نعلم أنه قضاء وقدر ولا يقع في الكون إلا فعلا بقضاء الله وقدره لكن نُحاسب أنفسنا. فاﻵيات تؤكد هذه الحقيقة (وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) هذا معنى عظيم يُبين لنا هذه الحقائق.
هنا أيضا بعد ذلك (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ ۚ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِنْ قَبْلُ ۖ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا) سبحان الله كيف؟ هكذا الجدل، أصحاب الباطل تأتيهم اﻵية تلو اﻵية ومع ذلك لا يتعظون.
ثم قال جل وعلا بعد ذلك (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) على الداعية، على اﻵمر بالمعروف والناهي عن المنكر، على طالب العلم أن يهيئ نفسه لكل شيء فقد لا يستجيب له الناس، كثير من اﻷنبياء لم يستجب لهم قومهم فأذن الله لهم بالهجرة وأهلك قومهم. نوح..هود..صالح.. لوط كلهم أهلك الله جل وعلا أقوامهم موسى اللي هو فرعون ومن معه -كما أخذنا ورأينا- (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) يقال لمحمد ﷺ (فَاعْلَمْ) عدم الاستجابة ليس الجهل ﻷنك قد بيّنت (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [سورة فصلت ٥٣] لكن (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) [سورة اﻹسراء ١٠٢] .
السبب الثالث هو الهوى (فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) الوقفة هنا: على الداعية وطالب العلم أن يهيئ نفسه أن الناس قد لا يستجيبوا له أو أن بعض الناس قد لا يستجيبوا له فلهذا (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) [سورة الغاشية ٢١ - ٢٢] أقول هذا ﻷن البعض يبدأ يدعو الناس فإذا لم يستجيبوا له تركهم. يونس عليه السلام دعا قومه فلم يستجيبوا له فتركهم، فحدث له ما حدث -كما تعلمون-  وأُلقي في البحر والتقمه الحوت ثم بعد ذلك استغفر ربه (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [سورة الصافات ١٤٣ - ١٤٤] أعاده الله إلى قومه فآمنوا مئة ألف أو يزيدون.
إذا على الداعية أن يهيئ نفسه لعدم استجابة بعض الناس، أنت تدعو إلى الله أما استجابة الناس أو عدم استجابتهم ليست لك، لم تكن للأنبياء -كما سيأتي بإذن الله- لكن اعلم أن القضية هو هوى، ما دمت قد بيّنت الحق وبيّنت الطريق الصحيح فما عليك بعد ذلك
(وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [سورة القصص ٥١]  القول تلو القول نزَل القرآن منجما ماذا يجب علينا نحن؟
 على الداعية وطالب العلم أن يأتي للناس بالتدرج، لاشك أن أمور الشريعة المستقرة يجب أن تُبين للناس تماما أصول العقيدة وأصول المنهج، المعلوم من الدين بالضرورة تبين للناس لكن أيضا الرفق بالناس وتحاول (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ) قول بعد قول، القرآن نزل منجما  ولو شاء ربك لهدى الناس جميعا (١) لكن الحكمة أن نزل القرآن منجما.
هذه المعاني تغيب عن بالنا عندما نريد أن نصلح بعض اﻷوضاع، نريد أن تصلح الأوضاع بلحظات، هذا لم يكن للأنبياء، لم يكن للمعصومين فكيف بنا ونحن الضعفاء بمعاصينا وآثامنا وقصورنا وجهلنا، هذه العجلة هي التي أودت إلى مصائب إما اندفاع -غلو- أو تنازل أو يأس. فلذلك هذا من المنهج العظيم أن نراعي هذا الجانب، ونراعي هذه الجوانب في منهجنا وطريقتنا.
بعد ذلك ينقلنا إلى مشهد آخر عظيم، ماهو هذا المشهد؟
يقول الله جل وعلا بعد ذلك (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) [سورة القصص ٥٢] كما ذكر أن هناك من لم يؤمن (فإن لم يستجيبوا لك) هناك أيضا مؤمنون بالنبي ﷺ وهم من أهل الكتاب من اليهود النصارى (وَإِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا) ﻷنهم آمنوا بالكتب السابقة التي لم تُحرّف -التوراة واﻹنجيل- وآمنوا بالنبي ﷺ ولذلك كما ورد عن النبي ﷺ في الحديث الصحيح أن ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين، رجل آمن بكتابه ثم آمن بي -أي بكتابه الصحيح- ورجل أعتق أمته ثم تزوجها وأيضا مملوك أطاع ربه جل وعلا وأطاع سيده. أو كما ورد في الحديث. هؤلاء يؤتون أجرهم مرتين لكن تأملوا هذه المعاني (أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [سورة القصص ٥٣ - ٥٤] ثم يقول الله جل وعلا (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [سورة القصص ٥٥] معاني عظيمة جدا تُمهّد لقبول الحق، صفات جميلة جدا، كل واحد منا يعرِض نفسه على هذه الصفات، كيف؟
الصبر يقول الله جل وعلا (أُولَٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ثم يقول (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ). لعلنا في الوقفة القادمة نقف مع هذه اﻵيات ونعرِض أنفسنا على هذه اﻵيات.
 ولذلك من عدم الاستجابة أحيانا أن اﻹنسان تخلى عن هذه الصفات سواء الداعي أو المدعو، صفات عظيمة جدا أثنى الله فيها على من آمن من أهل الكتاب (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) هكذا يكون، ولنا أجرنا أيضا سأُبيّنه بإذن الله في الحلقة القادمة مع وقفات مهمة جدا تتعلق بهذه الدلالات وهذه اﻵثار وهذه اﻷخلاق وهذه السمات المضطردة على مدى اﻷنبياء، فاﻷنبياء اتفقوا في العقائد وفي محاسن اﻷخلاق أما الشرائع فإنهم يختلفون بل شريعة النبي الواحد قد يدخلها النسخ.
مرة أخرى إلى اللقاء القادم بإذن الله ولا تنسوا إخوانكم من الدعاء ومن دعوة صالحة ﻷنفسكم وأهليكم ووالديكم والمستضعفين والمجاهدين. نسأل الله جل وعلا أن يتقبل صيامنا وقيامنا وأن يتجاوز عنا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
 ---------------------------------
١- (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) [سورة يونس ٩٩]             

    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق