الأحد، 5 يوليو 2015

وقفات مع آيات الصيام -٦-

د. عويض العطوي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد وبعد .. أيُّها الإخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
 تحدَّثنا في الليلة الماضية عن قوله تعالى ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) نُكمِل اليوم .
يقول الله سبحانه وتعالى بعد ذلِك :
(عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ) تحدَّثنا عن دلالة ورود هذه الآية المُتعلِّقة بذكر حِلٍ بعد حُرمة وذلك أنَّ هذه الأشياء المُحرَّمة في نهار رمضان فذُكر حِلّها في ليل رمضان قال الله عزَّ وجل بعد ذلك (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ) نِسبة العِلم إلى الله سبحانه وتعالى هُنا فيه تربية للنُّفوس على مراقبة الله وبيان أنَّ علم الله سبحانه وتعالى مُحيط، وذِكر لفظ الجلالة "الله" -كما ذكر كثير من المُفسِّرين- لتربية المهابة، ويُمكن لكُلِّ قارئ للقرآن أن يتتبع بحسب ما يستطيع ورود لفظ الجلالة "الله" في المواضِع التي ورد فيها.
 (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ) أي في هذه الأمور التي نُهيتُم عنها علِم الله أنَّه يأتي في صدورِكم أو أنَّكم تقومون بأمور تحتالون فيها على أنفسكم لِتجِدوا المُبرر لفعلها هذا معنى (تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ) الخيانة ضِد الأمانة والخِيانة هي التَّفريط في الأمانة وما جاء هُنا كُنتم تخونون أنفسكم بل قال (تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ) للإشعار بأنَّ النفس البشرية -أحياناً- تفعل أشياءً كثيرة لتجعل المحظور مشروعاً فتفعله بدون أن يكون هُناك تأنيب ضمير هذه طبيعة الإنسان والله عزَّ وجل أثبتها له، فبيَّن الله سبحانه وتعالى أنَّ هناك من يفعل ذلك فيحاول أن يحتال حتى يفعل هذا الأمر فرِفقاً بِهم وتيسيراً علينا جميعاً وعلى الأمَّة كُلِّها الله عزَّ وجل ما عاقبهم بل بالعكس عفا عنهُم وسمح لهم بذلك ويسَّر عليهم ذلك وهذه من رحمة الله سبحانه وتعالى (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وسيظهر يُسر الله عزَّ وجل وتيسيره كثيراً في هذه الآية التي نتحدَّث عنها.
 (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) ما قال الله عزَّ وجل فعاقبكم وهذه يُسمُّونها المُفارقة فأحياناً عِندما تقرأ بداية الآية تظُن أنَّ ما يأتي شيء والذي يُذكر شيء آخر مِثل قوله تعالى (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ) عادة الأم إذا تخاف على ولدِها ماذا نتوقع أن تفعل؟ تهرب به أو تحفظُه أو تُحيطه (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ) خِلاف المتوقع يُسمَّى المُفارقة .
(فَتَابَ عَلَيْكُمْ) ليس فقط التوبة بل (وَعَفَا عَنكُمْ) والفرق بين التَّوبة والعفو: أنَّ التوبة هي السَّماح عن الشيء، والعفو هي ذهاب أثرِه وبعضُنا قد يغفر لصاحِبٍ له في زلَّة لكن يبقى في صدرِه شيء، والعفو فوق ذلك ولذلك العفو لا يأتي إلا عن قُدرة وعن قرار رجولي كبير ولذلك رتَّب الله عليهم من الأجر ما لم يُرتِّب على كثير من الأمور فقال سبحانه وتعالى (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) وقالوا هذا أحد الأمور التي لا يعلم أجرها إلا الله ومنها الصَّوم والصبر ومنها العفو، أجرُك على الله لا تنتظِر أحد يأتيك في البيت أو يُكلِّمك أو يُحدِّثك خُذ هذه الآية وكفى.
 (وَعَفَا عَنكُمْ) ثُمَّ قال (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) هذا إذن لما كان محذوراً أو ماكانوا يظُنون أنَّه محذور فهذا إذن بذلك من الله سبحانه وتعالى والأمر هُنا ليس للوجوب وإنَّما للإباحة (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أي في هذا الأمر الذي سُمِح لكم، والذي يبتغيه المُسلم في مِثل هذا الأمر هو حصول النَّسل وتكثير الأمَّة ووجود الولد الصَّالح إلى غير ذلك. وبعضُهم قال (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) أي من الأجر في الليالي أي لا يُشغلكم ذلك العمل في الليالي الفاضلة ومنها ليلة القدر.
 ثُمَّ قال سبحانه وتعالى (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) كلوا واشربوا هذا بيانٌ لبقية المُفطِّرات إذا جمعنا معه المُفطِّر الأول وهو الرَّفث المذكور فهذا جِماع المُفطِّرات، هُنا قال (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) هذا أمر والأمر هُنا أيضاً للإباحة وليس للوجوب إذ لو كان للوجوب لوجب علينا أن نأكل ونشرب ولا نتوقف عن ذلك أبداً والذي يتوقف عن ذلك آثِم، لكِن عُلِم من فعل النَّبي صلى الله عليه وسلم ومن الواقِع أنَّه للإباحة لأنَّه سبقه أمرٌ لا يحِّل فيه الأكل والشُّرب وهو يوم الصِّيام.
 (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) أي أنَّك تستمر في الأكل والشرب حتَّى يحصُل هذا التَّبيُّن، "حتى" حرفٌ يأتي لتبيُّن انتهاء الغاية أي الوقت الذي تتوقف عنه في الأكل أو الوقت المسموح لك به في الأكل والشرب هو تَّبيُّن طلوع الفجر لذلك الله عزَّ وجل ما قال إلى طلوع الفجر بل قال (حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ) يعني حتَّى يظهر ولذلك هُناك فجرٌ صادِق وهُناك فجرٌ كاذب حتَّى يظهر (حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ) وهُنا قال الله سبحانه وتعالى (حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ) ولم يقل سبحانه وتعالى حتى يبِيِن فدلَّ ذلك على أنَّه لابد أن يَظْهر بوضوح الفجر عند ذلك يتوقف الإنسان عن الأكل والشُّرب. وهذا أيضاً فيه رحمة فهذا مدٌّ للأكل والشُّرب والتَّمتع بها والأخذ بِها إلى أقصى حدٍّ ممكن لأنَّه فيه نفعٌ لك.
 ثُمَّ قال سبحانه وتعالى (حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) أي ظهور ضوء النَّهار (مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) الذي هو ما بقي من الليل (مِنَ الْفَجْرِ)  قالوا إمَّا بسبب الفجر أي طلوع الفجر أو هذه بيانيَّة أي هذا وقت الفجر.
 ( ثم ) لماذا قال ثمَّ؟ وما قال سبحانه وتعالى فأتِمُّوا؟ بل قال (ثُمَّ أَتِمُّوا) بخلاف قوله تعالى (كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ) لاحِظوا معي في التَّوبة جاء التَّعقيب سريعاً مُباشرة وما قال الله سبحانه وتعالى ثُمَّ تاب عليكم لا، قال ( فتاب) مُباشرة أمَّا هُنا فقال ثُمَّ أتِمُّوا الصيام إلى الليل لبيان فترة النَّهار فإنَّها فترة ليست هيِّنة ولذلك جاءت مع التَّراخي (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) .
لاحِظوا معي (إِلَى اللَّيْلِ) معناه أنَّه نتوقف كُل هذا صيام ينتهي موعد الصِّيام (الى الليل) وينتهي موعد الأكل (حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ) هُناك ذكر معها "حتَّى" وهُنا ذكر معها "إلى" في الأكل والشُّرب قال (حَتَّىٰ) حتَّى : يدخُل ما بعدها فيما قبلها، و إلى: يدخل ما بعدها فيما قبلها إذا كان من جِنسِه ولا يدخُل إذا لم يكُن من جِنسِه والليل ليس من جنس النَّهار وإلا للزِم على الصَّائم أن يستمِر في صِيامِه بدخُول الليل يعني الليل يدخُل معه، أمَّا ماجاء في قوله تعالى (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) فالمرافِق جُزءٌ وجِنسٌ من اليد ولذلك تُغسل المرافِق فتدخُل في ذلك أيضاً.
أيضا هُنا أيُّها الإخوة الكِرام لاحِظوا معي اليُسر والتَّيسير والفضل من الله سبحانه وتعالى، لمَّا جاء الحديث عن الملذَّات وما يأكل الإنسان وما ينتفِع به طال الكلام، كُلّ ما سبق هو لإباحة هذه الأشياء التي يتمتَّع بها الإنسان فلمَّا جاء الصِّيام الذي هو مشقَّة جاء معه الكلام مُختصراً جداً قال (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) فيه مشقَّة ما فصّل فيه -وهذا كثير يا إخواني ترى- فصاحب الجنَّتين في سورة البقرة ذكر الله في تفصيل الجنَّة وجمالِها شيئاً كثيراً لكِن ذكر الله في إهلاكِها كلِمات يسيرة جدَّاً قال تعالى ( وأُحيط بثمره ) فقط، لكِن تفصيل الخير طويل وهذا منهج لازم نتَّبعه نحن ففي ذكر الخير والفضل نُزيد في الكلام، نوضِّح في الكلام، نُكثر، وفي ذِكر ما يكون مُقلقاً أو مؤذياً أو شاقّاً نختصِر ونوجِز.
 (حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)
 إنَّما نهى عن تلك المُباشرة التي سبق الأمر بها أمر إباحة لِبيان أنَّ هذه المُباشرة ليست مسموحة في كُل وقت ولا في كُل حين فهذه محظورة على الذين يعتكِفون وقال (فِي الْمَسَاجِدِلأنَّ الاعتكاف لا يكون إلا في المساجِد وأيضاً لتعظيم فعل ذلك في المساجِد.
 (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) وللحديث بقية. هذا وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمد .
-----------------------
المادة الصوتية 

   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق