(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ)
جاء في التفاسير أن معنى (وَفَّىٰ) يعني بلّغ كل ما أمره الله به.
وجاء في بعضها أنه -كما قال ابن عباس- وفّى ببلاغِه. وقال سعيد بن جبير: وفّى بما أمر به. وقال قتادة : وفّى طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه. وهذا الذي اختاره ابن جرير.
وذهب بعض أهل التفسير إلى معنى (الَّذِي وَفَّىٰ) أن الله جل وعلا ابتلاه بكلمات فأتمهن. يعني وفّى بما ابتُلي به من الكلمات ومنها الختان -مثلا- فقام بجميع اﻷوامر وترك جميع النواهي وبلّغ الرسالة على التمام والكمال فاستحق بهذا أن يكون للناس إماما يقتدى به يقول تعالى (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل:١٢٣] قد قال الله جل وعلا (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) [النحل:١٢٠] فجعله أمة ﻷجل وفائه.
أقول : وقد ورد روايات عن بعض أهل التفسير واستدلوا بأحاديث منها حديث أبي أمامة قال : (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه اﻵية (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ) قال: أتدري ما الذي وفّى؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : وفّى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار) يعني صلاة الضحى. وفي حديث آخر، حديث عن أنس مرفوعا قال: ( أﻻ أخبركم لِم سمّى الله تعالى خليله إبراهيم (الذي وفّى)، إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) حتى ختم اﻵية.
وأقول -والله أعلم - إن المعنى قد يكون أشمل من ذلك فيكون المعنى باﻹضافة إلى ذلك -وهذا أتى به إبراهيم- أنه وفّى العمل الباطن والعمل الظاهر، يعني أتى بما أُمِر به في الظاهر وأتى بما أُمر به في الباطن وأتمّ حبه لله جل وعلا بائتماره بأمر ما كان يمكن أن يأتمر به أحد وهو أنه أمره أن يذبح ولده فاستجاب. ومن يكون مثل هذا إﻻ من وفى.
وقد يقال إنه لم يفعل ولكنه أراد فجُعل الوفاء أوجُعلت اﻹرادة محل الوفاء وإن لم يفعل لِم؟ ﻷنه أدى ذلك وشرع في اﻷمر لوﻻ أن الله جل وعلا أعفاه، فمن أُعفي من عمل بعد أن يشرع فيه فإنه يسمى موفيا. وهذا معنى أيضا لمعنى الوفاء.
والحاصل: أن كل وفاء يمكن أو يصدق عليه كلمة الوفاء يستحقها إبراهيم ، لِمَ؟ ﻷن الله جل وعلا قال (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ)
وجاءت (وَفَّىٰ) هنا متعدية وﻻ يوجد مفعول هنا فيدل ذلك على أن الوفاء عامّ لكل ما يلحق به معنى الوفاء، كل ما يلحق به معنى الوفاء فهو داخل في وفاء إبراهيم من الخيرات والنفقات واﻷفعال الظاهرة والباطنة كل ذلك يستحق إبراهيم أن يكون مُوفيا فيه.
/ قال الله جل وعلا (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ) أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب فإنما عليها وزرها ﻻ يحمله عنها أحد وهذا ماهو الذي في صحف موسى وإبراهيم، في صحف موسى وإبراهيم أﻻ تزر وازة وزر أخرى، يعني هذا المعنى من المعاني التي أخبرنا بها الله جل وعلا في كتابه وأخبرنا عنها رسولنا صلى الله عليه وسلم في سنته وهي مما جاء صراحة في صحف إبراهيم وموسى.
فيما جاء به القرآن قال الله جل وعلا (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ) [فاطر:١٨] وقد قال الله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ) ليدل أن هذا السعي الذي يسعاه اﻹنسان هو الذي يُؤجر عليه وكسبه هو الذي يُعطى إياه.
وقد قلنا من قبل .. قد تقولين: أنتِ قُلت من قبل أن الولد حينما يعمل يصل عمله إلى أبيه وهذه اﻵية تقول (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ) فكيف نجمع بين هذا؟
الجواب في قوله صلى الله عليه وسلم ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه ) ويدل على ذلك ما جاء في حديث أبي هريرة ( إذا مات الإنسان أو العبد أو ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث من ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية من بعده أو علم ينتفع به) فقوله ( من ولد صالح ) إذا هذا مما يُلحق بالعبد ﻷنه من كسبه يعني من سعيه فقوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ) سعي ولده منه، وقد ذكرنا من قبل أن سعي الطالب أو التلميذ يصل إلى شيخه فكيف نجمع هنا؟ أيضا على نفس الجمع ﻷنه قال ( علم ينتفع به ) وتلميذ اﻷستاذ أو الشيخ من علِمه الذي ينتفع به وإنما يصله من علمه ما علمه ﻻ ما تعلمه التلميذ بكليته -بالجملة- وإنما تعلم منه -من شيخه- سواء كان تعليما له بالمباشرة أو بالدﻻلة ﻷن الدال على الخير كفاعله، فإذا كان علّمه أو شجّعه أو دفعه إلى علم بوجه من الوجوه فإنه داخل في ذلك بإذن الله. ولهذا فإنه ينبغي للإنسان أن يستكثر من الولد ومن التلاميذ الذين يعلمهم العلم الشرعي الذي ينتفعون به وهو من كسبه. والثالث الذي هو الصدقة الجارية التي يدعها بماله.
ولو رأيتي لوجدتي أن هذه شاملة وتعطي جميع مناحي الكسب، فمن عنده ولد سيترك له عملا دائما مستمر، ومن عنده مال وﻻ ولد عنده سيترك عملا دائما مستمرا، ومن لا مال عنده وﻻ ولد وعنده عِلم سيترك عِلما مستمرا أجره يبقى دائماً مستمرا، ومن جمع من هذه الخيرات الثلاث أحسن، ومن جمع اثنتين فهو أحسن ممن جمع واحدة، ومن زاد فالله سبحانه وتعالى خير ثوابا.
/ قال الله جل وعلا (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ) متى يُرى؟ يوم القيامة.
ولم يقل الله جل وعلا وأن سعيه سوف نراه، قال (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ) وقد يكون الرائي الكُل فيراه أهل اﻹيمان وتراه الملائكة ويراه اﻷنبياء ويراه الله جل وعلا قبل ذلك، يراه الله سبحانه وتعالى ﻷنه سيأتي به بين يدي الله ولذلك قال الله جل وعلا(وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ) . قد قال الله جل وعلا (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) [التوبة:١٠٥] وهذا وإن كان ورد في سبيل المنافقين ﻷنه كما جاء في سورة التوبة لكن قول الله جل وعلا، وهذه يُستدل بها كثيرا في غير موضعها (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) والصحيح أنه ﻻ ينبغي اﻻستشهاد بها في هذه المواطن.
فإذا رؤي جُزيَ به الجزاء اﻷوفى وﻻ أتمّ من جزاء الله جل وعلا فهو يجزي الحسنة بعشر أمثالها ويضاعف إلى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء جل وعلا. والمضاعفة تكون بأمور منها : طيب العمل، ومنها صِدقُه ، ومنها نفعه، منها طيبه ومنها نفعُه ومنها صِدقُه أي صِدق اﻹخلاص، صِدقُه صَدَقَ بأنه لله جل وعلا، ومنها قِلة نفعه ﻷن بعض الشيء أنفع من بعض، قد يكون بعضه أنفع من بعض، يعني قد يكون -مثلا - ماء تضعينه في يد من ﻻ يحتاج إليه ليس كمثل ماء تضعينه في يد محتاج إليه، ما تضعينه على امتلأ منك غير ما تضعينه على شُح منك فالصدقة بالشيء هي ذات الصدقة به هنا وهنا ولكن لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم في خير الصدقة قال ( أن تنفق وأنت صحيح شحيح ) قد ينفق اﻹنسان بمئة ألف -مثلا - لكنه ينفقها بعد أن قارب الموت وعرف أنه خلاص فيبدأ ينفق. هي صدقة لكن ليس هذا مثل من ينفقها وهو مُحتاج إليها، ينفقها وهو شاب صحيح وشحيح. كذلك الصدقة -مثلا- من ينفقها وهو مستغنٍ عنها ليس كمن ينفقها ونفسه فيها، ﻻشك أن الذي نفسه فيها أفضل قال الله جل وعلا (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:٩] وقال جل وعلا ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران:٩٢] وقد استدل بذلك الصحابة منهم عائشة رضي الله عنها وقد لبست ثوبا تقيسه -تُجربه- وكان ثوبا جديدا فطرقت عليها سائلة الباب فنزعته وأعطتها إياه ولبست القديم فقالت لها الجارية: يا أم المؤمنين لو أنك تصدقتي بالخلِق. مع أنها روت حديثا فيمن لبس جديدا وتصدق بالخلِق وقال (الحمد لله الذي ألبسني هذا وكسانيه من غير حول مني وﻻ قوة غفر له ما تقدم من ذنبه). روت حديثا ومع ذلك نزعت الجديد وتصدقت به ورجعت تلبس قديمها فلما قالت لها الجارية قالت : تذكرت قول الله جل وعلا ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فهذه مرحلة ﻻ تصيب اﻹنسان في كل لحظة وﻻ في كل صدقة.
عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه كان يصوم كثيرا وفي يوم كان صائما فزوجته بعثت بابنه ليشتري له سمكا -علمت أنه مشتهي للسمك- فصنعته له وجهزته على إفطاره ، فلما جلس على إفطاره طرق الباب سائل فأخذ السمك وأعطاه إياه، فقالت: يرحمك الله سائل كان يجزيه أي شيء، يجزيه رغيف ﻻ تعطيه هذا الذي أنت مُشتهيه، قال يقول الله جل وعلا ( لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ). فتلك نفوس قد تصدقت بأحب ما إليها. هذه الصدقة ليس مثل الصدقة بالخلِق والقديم والحشف وما يستغنى عنه، ﻻشك.
وهذا الذي يتصدق به هو الذي سوف يُرى فإذا جئتي وتذكرتي أن صدقتك ستجيء بين يديك ويطّلع عليها كل أحد .. يطلع عليها رب العالمين .. يطلع عليها النبي صلى الله عليه وسلم .. ويطلع عليها الملائكة، يطّلعون عليها، تصدقت بكذا .. تصدقت بكذا .. تصدقت بكذا، إذا كنت ستأتين يوم القيامة وتُرى تلك الصدقة، لو تخيلتي هذا تكون صدقتك أفضل أم لا؟ ﻻشك أن اﻹنسان سيكون ذلك باعثا على أن ينتقي اﻹنسان أحسن ماله.
كذلك ما قال وأن صدقته سوف ترى قال (وَأَنَّ سَعْيَهُ) إذا ليس هذا فقط أيضا الحج .. العمرة .. الصلاة يعني تخيلوا نحن نصلي ونسرح وكذا وننتهي ونُسلم ما نتخيل .. نتذكر هذه اﻵية ونحن نصلي، لو تذكرنا (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ) تذكرناها ونحن مقصرون يتغير العمل الذي نُقدمه بين يدي الله سبحانه وتعالى. إذا ما الذي يذهلنا عن التذكر؟ كثير، مشاغل الدنيا كثيرة والشيطان وﻻشك وغياب مثل هذه الأمور يجعل اﻹنسان يذهل عن استحضارها ولو استحضرها لأحسن كثيرا من العمل الذي يأتي به ويقدمه بين يدي الله جل وعلا.
/ قال الله سبحانه وتعالى ( ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ) يعني يُجزى إن خير فخير وإن شرا فشر.
/ قال سبحانه (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهَىٰ) ومن ﻻ ينظر إلى ذلك وﻻ يستحضره فليتذكر أن الله جل وعلا إليه المنتهى.
هذا تعليق من إحدى اﻷخوات: في قوله (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ) تقول بالنسبة للرؤية يوم القيامة الرؤية يوم القيامة تكون من الملائكة وغير ذلك من الثقلين ولكن بالنسبة للرب سبحانه وتعالى تكون رؤيته بالمعية الدائمة.
د. رقية: نعم صحيح ولكن هذه الرؤية التي ترونها في الدنيا ﻻ يعني أنه لا يراها في اﻵخرة .. ﻻ، وإنما رؤية اﻵخرة رؤية تقرير كمثل ما جاء ( قال الله جل وعلا من أين جئتم؟ قالوا جئنا من عبادك، قال: على أي شيء تركتموهم؟ قالوا : تركناهم يذكرونك، قال: ماذا يريدون؟) ويسألهم الله جل وعلا وفي الحديث ( والله أعلم ) الله أعلم ولكن هذا من باب التقرير فحينما يسأل الله سبحانه وتعالى العبد أو يظهر ما عمله العبد في الدنيا ليس ﻷجل أن يعلم شيئا لم يكن يعلمه، وهذا معلوم ولكن ﻷجل أن الله سبحانه وتعالى يحضره بين يديه فيُقرره عليه ويوقفه عليه ومن ذلك إيقافه على ذنوبه وسؤاله كما جاء في الحديث ( إن الله جل وعلا ليُدني كنفه من العبد يوم القيامة فيقول ألم تفعل كذا .. في يوم كذا .. في ليلة كذا ) فالله جل وعلا يُقرِرُه بذنوبه وهو أعلم بها لا أنه تُبسَط بين يديه ﻷول مرة.
س : هل يكون في الآية استحثاث واستنهاض لأصحاب الهِمم للأعمال؟.
د. رقية : الكل سواء صاحب الهمة وغير صاحب الهمة، المؤمن وغير المؤمن في ذلك (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ) في ذلك ترغيب وترهيب معا ﻷنه جاء في الحديث أو جاء في تفسير (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ) قال ابن كثير: "إن خيرا فخير وإن شرا فشر" فهي ﻷهل اﻹيمان حافز وهي ﻷهل الكفر تهديد ووعيد.
/ قال الله جل وعلا (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهَىٰ) أي النهاية .. المعاد يوم القيامة ، جاء عن عمرو بن ميمون الأودي قال: قام فينا معاذ بن جبل فقال: "يا بني أود إني رسولُ رسولِ اللّه صلى الله عليه وسلم إليكم ، تعلمون أن المعاد إلى الله ، إلى الجنة أو إلى النار " .
وذكر البغوي عن أُبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهَىٰ) قال (لا فكرة في الرب -يعني لا تفكّروا فيه، لا تفكّروا في ذاته- فإنكم لا تُطيقون التفكّر في ذاته) وجاء في الصحيح (يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته) يعني المنتهى بمعنى (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهَىٰ) يعني انتهوا عن الفكرة في الله . إذا هذان معنيان:
المعنى الأول: (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهَىٰ) أن إليه المعاد.
الثاني: (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهَىٰ) يعني المنتهى في الفِكرة فيه فلا تتفكروا فيه لأنكم لا يمكن أن تدركوا صفاته على الوجه الصحيح الذي هي عليه فالكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . فهذا هو المطلوب منك أو منكِ ألاّ تتفكري في ذات الله جل وعلا لأن التكّر في ذات الله جل وعلا لا يمكن أن يستحضره الإنسان وأن يهتدي إليه . إذا كان لو قُصّ علينا أو حُدِّثنا عن أحد من الملائكة لربما لا نستطيع أن نتخيل ، جاء في الحديث الذي في السُنن (تفكّروا في مخلوقات الله ولا تفكّروا في ذات الله فإن الله تعالى خلق مَلَكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة ثلاثمائة سنة) ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه -يعني خذه المسافة- ما بينها ثلاثمائة سنة .. مسافة .. مسيرة، لا تتخيلينها لماذا؟ لأنها أعظم من طاقة خيال الإنسان، بينما أنتِ وأنتِ تسيرين في الطائرة تقطعين مسافات والطلئرة تسير بسرعة تسعمائة ميل في الساعة وأنتِ تمضين في هذا تسبحين كأنها سمكة تسبح في البحر، هذا والغلاف المحيط بالأرض حينما يُرى من أقطار السموات حينما يُرى في الكون يُرى أنه لا شيء .. مثل النقطة بالنسبة للنجوم ،وأكبر نجم من النجوم ربما لا تُعد الشمس إلا نقطة مثل نقطة الدبوس فما بالك بالقمر وإلا بالأرض!! فالإنسان لا يمكن أن يُدرك .. لا يمكن، وإذا كنا نريد أن نُدرِك أو على الأقل نتخيل فلنقرأ آية الكرسي يقول الله جل وعلا (وَسِعَ كُرسِيُّهُ السَّمواتِ وَالأرْضِ) السموات السبع والأرضين السبع ماهي في الكرسي الذي هو موضع قدمي الرحمن إلا كحلقة مُلقاة في فلاة ، فلا تتفكروا في الله جل وعلا (وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنْتَهَىٰ) ما تستطيعي إذا أن تتفكّري فيه تفكّري في عظمته، لا تتفكري في ذاته وإنما تفكّري في عظمته ومخلوقاته وهذه تدلكِ على صفاته وعلى معانٍ لصفاته تعظمينه بها وتقفين عند هذا الحدّ .
قبل قليل في الآية التي عرجت عليها وهي (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّىٰ عَنْ ذِكْرِنَا) قلت سيأتي ذِكر مُلك الله جل وعلا ، ومُلك الله جل وعلا يأتينا هنا في معنى وهو أن هذا المُلك أعظم من أن نتخيل أو أن نتصور، إن هذا المُلك مُلك شامل كامل ، هذا المُلك ليس مُلك الخلق فحسب،حينما خلق فهو لم يخلق وانتهى الأمر ..لا، مَلَك الخلق قبل أن يكون فلما خلقهم مَلك التصرف فيهم تصرفا تاما ودلائل هذا التصرف (أضحك وأبكى .. أمات وأحيا .. خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تُمنى .. وعليه النشأة الأخرى .. وأغنى وأقنى) فهو بكل هذه التي سنفسرها بعد قليل ملِك مُلكا مُطلقا سبحانه وتعالى ، فلذلك فإذا أعرض العبد إلى الله جل وعلا عمن تولى عن ذكر الله جل وعلا ، إذا إعرض إلى الله .. إذا هرب إلى الله .. إذا فرّ إلى الله، فراره يكون فرار اعتماد .. فِرار إتكال .. فِرار ثقة .. فِرار عوذ .. فِرار لوذ .. فِرار حب .. فِرار عبودية ، هذا الفِرار لأنه هو الملِك الذي يُصرِّف ويُدبِر وهو النصير الذي لا يُقهر ، والقوي الذي لا يُغلب . هذه المعاني يحتاج الإنسان أن يتأملها .. أن يتفكّر فيها، يحتاج الإنسان أن يعيها قلبه وعيا حقيقيا ، فإذا امتلأ قلبه بذلك أصبح لا يُبالي بشيء ، لا خوف من العبيد ولا رقابة لهم ، قالوا .. فعلوا .. تركوا .. زادوا .. نقصوا، ما يهتمّ لماذا؟ لأن قلبه قد تعلّق بالله جميعا، ومن وصل إلى هذا لا يمكن أن يصِل إليه إلا وقد علِم أن الأمر كله لله جل وعلا . فإذا علِم العبد هذا أن الله خلق الموت والحياة .. خلق ابضجك والبكاء أليس الله تعالى قال ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) قال (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) إذا من مُلكه -السورة سورة المُلك- من مُلكه أن خلق الموت والحياة ، الذي يخلق الموت والحياة يعنيرقادر على أن يحيي وعلى أن يُميت ، الذي خلق أفعال العباد قادر على أن يُصرِّفها ، فلذلك من عنده حاجة من هُدى .. من شفاء .. من غِنى، من له حاجة فليسألها من الله جل وعلا لا يسألها من العبيد .. من البشر إلا أن كان سببا كسبب يفعله. ... ﻻ يريد منهم شيئا إنما يريد من الله، يتوجه إلى الله جل وعلا والله بيده ملكوت كل شيء، وهذه المعاني معاني واضحة ما تحتاج تفسير نقول ( وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) ما تحتاج تفسير، كلكم تعرفون معنى الضحك ومعنى البكاء ومعنى الموت ومعنى الحياة، ليس هذا هو المراد وإنما المراد أن هذه المتناقضات .. المتضادات بينهما مسافة ﻷنه إذا مَلك الطرف اﻷقصى والطرف اﻷدنى فهو مالكٌ لما بينهما إذا إليه المنتهى، مالك الموت ومالك الحياة مالك كل ما بينها إذا إليه المنتهى، إذا كان خلق الزوجين الذكر والأنثى ﻻ شيء إما ذكر وإما أنثى فإذا إليه المنتهى، كل ذلك يدل على أن اﻻنتهاء إليه سبحانه وتعالى.
/ قال الله جل وعلا (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَىٰ (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ) وهذه آية أعجوبة من دﻻئل صدق محمد صلى الله عليه وسلم ومن دﻻئل نبوته وأن هذا القرآن أُنزل من فوق سبع سموات وأنه وحيٌ أوحاه الخالق سبحانه وتعالى وأنه ﻻ طاقة لرجل أُميّ ﻻ يعرف القراءة والكتابة فضلا عن أن يعرف التشريح وأن يستخدم الميكروسكوبات الدقيقة ليعرف أن النطفة هي التي تحمل الذكورة واﻷنوثة ﻻ سائر الماء وﻻ بويضة المرأة، المرأة ليس لها أن تتحكم في الذكورة واﻷنوثة، الذي يتحكم في الذكورة واﻷنوثة النطفة (مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ) ماء الرجل. وهذه معلومة ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يعلمها.
كان العرب في الجاهلية يتهمون المرأة باﻷنوثة، أنها هي التي تنجب البنات وهي التي تنجب البنين ولذلك كانوا يُطلِّقون المرأة إذا أنجبت بنتا ويعيبونها ويثنون عليها إذا أنجبت بنينا ويكرمونها، وليس اﻷمر إليها قال (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَىٰ (45) مِنْ نُطْفَةٍ) والنطفة هي ماء الرجل (إِذَا تُمْنَىٰ) وقد جاء في سورة القيامة قوله (أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى) يعني هذا أصله ومنشؤه .
/ قال (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَىٰ) يعني كما خلق البداءة تلك من نطفة إذا تُمنى عليه أيضا النشأة الأخرى لكن كيف؟ الله بها عليم جلء ذكرها في الحديث أنهم ينبتون كما تنبت الحبة، ينبتون نباتا كما تنبت الحبة وأنه ينزل عليهم الغيث أربعين ﻻ يدري أربعين يوما أو أربعين ماذا، أبو هريرة لكنه قال "أربعون" ينزل الغيث أربعين ثم ينبتون من عجب الذنب قال الله جل وعلا ( وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم:٢٧] يعني بعثه .. ردّه مرة أخرى أهون عليه من خلقه اﻷول وكله على الله جل وعلا هين ولكن ذلك للتقرير في اﻷذهان ﻷن المنطق عند الذهن أن اﻹنشاء من أول وهلة أصعب من اﻹعادة مرة أخرى.
/ قال الله جل وعلا ( وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ) واختلفوا في تفسير ( أغنى ) قال : أغنى أي ملّك عباده المال وجعله لهم قُنية يعني مُقيما عندهم ﻻ يحتاجون إلى بيعه فهذا تمام النعمة عليهم.
قال مجاهد: ( أغنى ) يعني مَوّل، الذي هو بالمال. و (أقنى) أخدم ، الذي هو الخدم فإذا قال (أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ) يعني أغنى بالمال وأقنى بالخدم. وقال ابن عباس: ( أغنى ) يعني أعطى، و(أقنى) يعني رضّى -جعله راضيا بما أعطاه- .
/ قال الله جل وعلا (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَىٰ) هو هذا النجم الوقّاد الذي يُقال له مرزب الجوزاء كانت طائفة من العرب يعبدونه. فهذا قد يُذكر أن الشعرى لهذا النجم، واختاره بعض المفسرين قالوا ﻷنه اﻷشهر عند العرب وهو النجم الذي يُقدِّره العرب، بل بعضهم يعبده
/ وقال الله جل وعلا (وَأَنَّهُ) سبحانه (أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَىٰ) و"عاد" هم قوم هود ويقال لهم "إرم" كما في سورة الفجر إرم ذات العماد قال تعالى ( أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ*إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ*الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) فكانوا من أشد الناس وأقواهم وأعتاهم على الله تعالى ومع ذلك أهلكهم الله سبحانه وتعالى (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ) أهلكهم بريح باردة. فهذا آية سبحان الله كلما كانوا أقوى وأكثر كبرا كلما قتلهم بألطف اﻷشياء وأصغرها. فعاد هنا استكبروا فقالوا "من أشد منا قوة" فأهلكهم الله بالريح الصرصر العاتية.
وفرعون قال هذه اﻷنهار تجري من تحتي وأنا ربكم اﻷعلى فأهلكه الله بالماء.
فكل من عصى الله جل وعلا واستكبر عليه عذبه، وعذبه بأضعف اﻷشياء.
عادا اﻷولى أي السابقة التي مضت ومرت هذا ما أعرفه أنه قال (عَادًا الْأُولَىٰ) يعني ما مضى وما مر أهلكهم الله جل وعلا يعني كناية عن قِدمهم.
/ قال الله جل وعلا (وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَىٰ) ثمود أيضا أهلكهم فما أبقى منهم من أحد بل دمرهم وأزالهم عن بكرة أبيهم.
/ (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) كانوا قبل هؤﻻء قوم نوح، قبل عاد وقبل ثمود (إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ) يعني من قبل هؤﻻء كانوا أظلم أشد تمردا وأطغى ومع ذلك أيضا أهلكهم الله سبحانه وتعالى بالماء.
/ قال (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ) قالوا المؤتفكة يعني قوم لوط ﻷنهم نكسوا الفطرة.
/ قال الله جل وعلا (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ) يعني أمطر عليهم الحجارة من السجيل المنضود فلذلك قال (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ) يعني من الحجارة التي أرسلها عليهم. وكيف تكون الحجارة وما حرارتها وما صهّرُها وما قوتها؟ الله بها عليم ﻻ يعلمها إﻻ الله.
/ قال ( فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ) قيل: إن هذا الخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، قيل ( فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ) أي ففي أي نعم الله عليك أيها اﻹنسان أو يا محمد. هما قوﻻن: إما ( فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ) أيها اﻹنسان المخاطب بهذا أي آﻻء ربك تتمارى يعني تمتري فيها وقد أنعم الله بها عليك. وقال ابن جريج ( فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ) يعني يا محمد يعني فيما فضّلك الله به من العلم والفهم والحفظ والتمكين والنصر وأن جعلك خاتم اﻷنبياء كل ذلك هو آﻻء لله جل وعلا عليك. قال ابن كثير : واﻷول -الذي هو خطاب للإنسان- أولى وهو اختيار ابن جرير رحمه الله تعالى.
/ يقول جل وعلا (هَٰذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَىٰ) هذا الذي يُنذركم اليوم محمد صلى الله عليه وسلم نذير من النُذر اﻷولى، هو كمثل سائر النذر، كمثل نوح وهود وصالح ولوط ، كل هؤﻻء الذين مضوا محمد مثلهم ﻷنه جاء بدعواهم وما بدل شيئا وما غيّر كما جاء في قوله جل وعلا (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ) فهو نذير يعني نذير كالنذر اﻷولى على شأنهم وعلى دعوتهم التي دعوا بها، فإن لم يستجيبوا فحذِّرهم وأنذِرهم واعلم يا محمد أن اﻷمر قد اقترب قال ( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) يعني قرُبت القريبة وهي القيامة ( لَيْسَ لَهَا) إن وقعت (مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) إذا أراد الله وقوعها فلا كاشف لها، لا يدفعها من دون الله أحد ولا يطّلِع على علمها سواه سبحانه وتعالى ( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) إذا نزلت فلا تُدفع وهي تأتيربغتة وتأتي بقوة (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا).
وقول الله جل وعلا ( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) قوله (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا) هذا دليل على أن الناس في لحظتها قد يحاولون دفعها.
قد اطّلعت على كلام الدكتور الأستاذ توفيق علوان في أن هناك مراصد ترصد ذلك ويزعمون أن القيامة ستكون أو نهاية الدنيا ستكون بنجم يضرب الأرض فتتفجّر ولذلك قد جعلوا له صواريخ تحرِفه عن المسار .
- أذان العشاء.
/ يقول الله تعالى ( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ* لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) ذكرت قبل قليل أنهم سيحاولون صرفها ويحاولون دفعها لكنهم لن يستطيعوا لأنها تأتيهم بغتة (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) [الأنبياء:٤٠] فستكون من قوتها راجفة تتبعها الرادفة فلن يستطيعوا فعل شيء ولو أرادوه وبذلوا له .
مداخلة: ....
د. رقية: على كل حال لو كان الله جل وعلا يريده هكذا فإنهم لا يستطيعون ردّه.
كيف تقوم القيامة؟
الذي جاء أنه يحدث راجفة ثم بعدها رادفة (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) وهم قدّروا ذلك، قالوا إن النجم هذا إذا ضرب الأرض سيكون الارتطام أولا ثم يتبعه ارتطام ثاني . هم يقولون ذلك. وعلى كل حال القرآن يُثبت أن الأرض سترتج ثم يتبع هذه الرجّة تتبعها الرادفة وتكون القيامة كما وصف الله سبحانه وتعالى تطاير الجبال وأن الناس لا يبقى منهم أحد، كل ما جاء في وصف القيامة في الكتاب والسنة قال الله جل وعلا (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ) يعني هذا دليل على أن الأرض ستُخرج ما في الأثقال، فبعض المفسرين يقولون -مفسري التفسير الحديث- من المعاصرين منةأهل العلم يقولون إن هذا إذا حصل ستتفجّر الأرض ويخرج ما فيها من مواد حارقة ، يعني تصل درجة الحرارة تحت للأرض أكثر من عشرة آلآف درجة فهذه الحرارة تصهر . هناكزأوصاف سمّاها الله سبحانه وتعالى "القارعة" (الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ) فالأوصاف هذه كلها التي جاءت في القرآن ستكون يوم القيامة. فهذه ( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ) ولا أحد يستطيع ردها ، إذا كان لا يستطيع ردّ القيامة الصغرى هي ردّ ساعته، لا يستطيع ردّ ساعته (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) [النحل:٦١] فكيف يرُد عن غيره!! إذا كان لا يرُدّ عن نفسه فكيف يرُد عن غيره؟! والله جل وعلا يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم كأنما يُذكِّره بذلك وقد أعلمه حتى قال (بُعِثت أنا والساعة كهاتين) أو (مثلي ومثل الساعة كهاتين وفرق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام -السبابة-) .
/ ثم قال تعالى مُنكرا على المشركين في استماعهم للقرآن قال (أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) يعني قل لهم يا محمد (أَفَمِنْ هَٰذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) تعجبون من القرآن حيث جاءكم يقصّ عليكم القصص، قصص ما سبق ويُخبركم عما سيأتي ، ويُخبركم عما لا تُدرِكون ، هل تعجبون من هذا؟! فهم تارة يُكذبونه، وتارة يُمارون فيه، وتارة يجعلون أصابعهم في آذانهم ويستغشون ثيابهم، وتارة يقولون ( لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت:٢٦] وتارة يتهمون من يقرؤه عليهم بالسحر والشِعر والكهانة والشعوذة وغير ذلك مِما هم يعلمون أنهم لا يُصدِّقونه فيه لكنهم إنما يفعلون ذلك من باب رد ه وحسده تارة، وألاّ يُلزموا أنفسهم بمقتضى التصديق تارة أخرى كما جاء في قوله تعالى (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً) [النمل:١٤] .
/ قال الله جل وعلا (وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ) يعني أنكم إذا سمعتم هذا الحديث تتعجبون منه ، وتضحكون منه، وتسخرون منه ، ليس حالكم كحال أهل الإيمان إذا سمعوه خروا له سُجدا وآمنوا به وصدّقوه وقالوا ( أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا) فلا أنتم تزدادون به إيمانا ولا أنتم تسمعون وتطيعون ولا أنتم تخِرُّون للأذقان تبكون ويزيدكم خشوعا، فأنتم بعيدون كل البعد عن الانتفاع به بل حالكم حينما تسمعونه تضحكون ولا تبكون فتتندرون بقائله وتسخرون منه ولا تبكون كما يبكي أهل الإيمان والصلاح .
/ (وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ) معرضون، قال ذلك ابن عباس . وقال غيره : غافلون، قال الحسن ورواية عن علي بن أبي طالب (سَامِدُونَ) يعني غافلون ، وفي رواية عن ابن عباس (سَامِدُونَ) يعني مستكبرون. فهذا حالهم أنهم بعيدون عن التذكر بالقرآن. وكل من كان هذا حاله عندما يسمع آيات القرآن فهو يُشبه أولئك من حيث درى أم لم يدري ، فعلى كل من يسمع القرآن أن يقول سمعنا وأطعنا، وأن ينظر إليه نظر الاحترام، ونظر التوقير، ونظر التقدير، ونظر الاتباع والانقياد والموافقة لا المخالفة، لا يضرب بعضه ببعض، ولا يحمل المُحكم منه على المتشابه وإنما يحمل المتشابه على المُحكم وحينئذ يكون مُستمعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما دعاه إلى التصديق به ومُستمِعا إلى الله جل وعلا حينما أوحاه إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وحينئذ يكون حاله حينما يستمِع السجود لله جل وعلا.
/ قال الله جل وعلا (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) أي اخضعوا له وأخلصوا ووحدوه ، روى البخاري عن ابن عباس قال (سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجِنّ والإنس) قال جل وعلا (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) .
لما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم سجد وسجد المؤمنون وسجد المشركون وهم يُمارون في الوحي والقرآن وهم يُجادلون في الله والرسول صلى الله عليه وسلم ، سجدوا لأنها طرقتهم تلك الطوارق الشنيعة .. الشديدة .. الراجفة .. المزلزلة للقلوب ، وهم يعلمون أنه هو الذي أضحك وأبكى ، وهم يعلمون أنه هو الذي أمات وأحيا ، وهم يعلمون أنه الذي بيده كل شيء ، وبيده العطاء فأعطاهم ، وبيده المنع لو شاء منعهم ، وهم يعلمون ذلك كله ولذلك سجدوا لما سجد ثم امتنعوا كِبرا وعُلوا وتضليلا للناس كمثل ما فعل قوم إبراهيم مع إبراهيم لما قال لهم (فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَىٰ أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَٰؤُلَاءِ يَنطِقُونَ (65)) [الأنبياء] وهكذا فعل أيضا ملك الروم حينما جاءه الخطاب من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال ما تجاوز عيسى هذا وﻻ قدر أُنمُلة وكان يريد أن يدخل في اﻹسلام لكنه مع ذلك خشي أن يقوم قومه عليه فارتد وانتكس عما كان أراد، وهذه الحالة النفسية التي قد تصيب الإنسان إنما تصيبه حينما يكون عالما أو حينما يكون عالما ولكنه طامع في الدنيا وهذا الذي يطمع في الدنيا لا يستحق اﻵخرة، هذا الذي يطمع في الدنيا ويجعلها مقدمة على اﻵخرة ﻻ يستحق اﻵخرة ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سجد وسجدوا معه فيما يذكر وذكر هذا بعض أهل التفسير ومنهم ابن كثير في أنه سجد النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم قالوا له إنا سجدنا معك اسجد معنا، وذكروا أيضا قصة الغرانيق -قد سبق علّقت عليها تذكرون- وهذه الحقيقة روايات مفتراة لا تصح وﻻ يمكن أن تقع من النبي محمد صلى الله عليه وسلم وإن أوردها بعض المفسرين المعتبرين كابن جرير وابن كثير إلا أنها مع ذلك ﻻ تُعدّ في علم الحديث شيئا يُذكر في فضائل الأعمال فضلا عن أن تكون في العقائد، والمسألة خطيرة وعظيمة وهي ﻻ يمكن أن تمر هكذا مرورا دون أن تُتناقل نقلا متواترا ومع ذلك فقد يكون طار بها بعض من ﻻ علم عنده، وهذه الرواية تُرد ليس لها إسناد صحيح وﻻ وجه صحيح فلا هي توافق الحديث من حيث الصحة واﻹسناد وﻻ هي توافق -أيضا- في متنها العقيدة وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
بهذا نكون انتهينا من سورة النجم وإن شاء الله اﻷسبوع القادم نشرع في سورة القمر.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يفتح على قلوبنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يسدد خطانا وأن يفتح علينا في التفسير، وأن يجعلنا من المتجالسين فيه المتحابين فيه المتواصلين فيه المتناصحين فيه، وأن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعا مرحوما، وتفرقنا بعده تفرقا معصوما وأن يصلح لنا ذرياتنا وأن يغفر لنا ولوالدينا وأهلينا .. اللهم آمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا
اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ذا الجلال واﻹكرام وهيء لهم البطانة الصالحة التي تأمرهم بالخير وتدلهم عليه
اللهم اكفنا شر اﻷشرار وكيد الفجار
اللهم فك أسر المأسورين وانصر المجاهدين والمظلومين يارب العالمين.
اللهم يا حي يا قيوم يا سميع الدعاء يا بر .. يا رحيم ﻻ تجعل فينا وﻻ منا شقيا وﻻ محروما
اللهم تولنا فيمن توليت .. اللهم اهدنا فيمن هديت
اللهم اجمعنا جميعا تحت ظل العرش يوم ﻻ ظل إلا ظلك.
اللهم أنلنا يارب العالمين الكرامة واجعلنا من أهل الحوض والشفاعة
اللهم اسقنا من حوض نبيك صلى الله عليه وسلم شربة هنيئة ﻻ نظمأ بعدها أبدا
اللهم اجعلنا ممن يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب يارب العالمين.
اللهم أصلح لنا قلوبنا .... وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر وارزقنا الجنة وأجرنا من النار.
اللهم من كان معنا مستمعا اللهم اجعل له من دعوتنا هذه النصيب كما لنا يا ذا الجلال واﻹكرام
اللهم اجزهم خير الجزاء على صبرهم وحرصهم، اللهم انفعنا وإياهم بما علمتنا.
اللهم يا رب العالمين يا ذا الجلال واﻹكرام ما كان في مجلسنا هذا من خطأ اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، وما كان فيه من صواب فإنا نتقرب به إليك يا ذا الجلال واﻹكرام، اللهم اجعله حجة لنا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألاّ إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق