الخميس، 19 مارس 2015

تفسير سورة الأنبياء (١٦-٤٧) دورة الأترجة

 د. محمد بن عبد العزيز الخضيري



(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴿١٦﴾ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ﴿١٧﴾ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴿١٨﴾)
 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد..
فهذا هو المجلس الثاني من مجالس التفسير لسورة الأنبياء, نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها ويفقّهنا فيها وأن يجعلنا جميعًا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصّته. ها هو المجلس الثاني في هذه الدورة دورة الأترجة المقامة في جامع شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بحيّ الخليج في مدينة بريدة وهذا اليوم هو الرابع والعشرين من شهر شوال من عام اثنتين وثلاثين بعد الأربعمائة والألف للهجرة النبوية.
/ يقول الله عز وجل (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) يبيّن الله جل جلاله أنه ما خلق السماء والأرض وماخلق الإنس والجنّ عبثًا وإنما خلقهم لحكمةٍ وغايةٍ عظيمة وهي أن يعبدوه لا يشركون به شيئًا (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)  [الذاريات:56] (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّـهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل:36]. وهذه الحكمة الظاهرة جليّة قد أفصح عنها القرآن وأبانها أعظم إبانة ثم بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ البيان وأوضحه وأجلاه، فكانت حياته عليه الصلاة والسلام العملية وكانت مقارعته للمشركين وقيامه بالدولة الإسلامية كل ذلك لإقامة عبودية الله عز وجل أو لعبودية الله جل وعلا وتسخير هذه النفس وكل ما يملك الإنسان ليكون لله (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ (162) وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:163].
يقول الله (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ) ماخلقناهما للعبث إنما خلقناهما لحكمة فعلى كل إنسان أن يعرف هذه الحكمة وأن يعمل بمقتضاها. والعجيب أن كثيرًا من الناس يعرف حكمة كثيرٍ من الأشياء الدقيقة ولكنه يغفل عن الحكمة التي خُلِقَ هو من أجلها! يعرف لماذا خُلِقت العين والأذن ولماذا جُعِلت الأذن في جانبي الرأس؟ ولماذا جُعِلت بهذا الشكل المعين؟ ولماذا جُعِل اللسان بهذه الطريقة؟ ولماذا جُعِل القلب في ذلك المكان؟ ويأتي لك بدقائق وتحليلات عجيبة في بيان حكمة الله في خلق هذه الأعضاء وهذه الأجزاء، لكنه لا يعرف لماذا خُلق هو وهذا من الأعاجيب! أن تعرف كل شيء من أجزاء جسدك وكل شيء من أجزاء هذا الكون وتركيباته قد خُلِق لحكمة ولا تعلم أنك أنت خُلِقت لحكمة! ماهي؟ لماذا خُلِقت؟ تجده يقول أنا جئت لا أدري لماذا جئت! وسأذهب لا أدري إلى أين أذهب؟! ومن هو الذي أتى بي؟ ولماذا أتى بي؟! وما المقصود من الاتيان بي؟! كل ذلك لا أدريه ولا أعرفه، هذا والله عين الجهل وعين الحمق! -نسأل الله سبحانه وتعالى العافية والسلامة- فالحمد لله على نعمة الإسلام والحمد لله على نعمة القرآن والحمد لله على نعمة الهداية.
/ قال الله عز وجل (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ)
 (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا) يعني لو أردنا أن نتخذ شيئًا نتلهّى به من زوجة أو ولد -كما تزعمون أيها المشركون أو أنتم أيها النصارى واليهود- (لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا) يعني لاتخذناه شيئًا عندنا وليس شيئًا عندكم, لأن العادة إذا اتخذ الإنسان صاحبةً أو ولدًا يجعلهما عنده في بيته ولا يجعلهما عند غيره، فكيف تدّعون أن لله ولدًا أو زوجة كمريم أو ولدًا كعيسى أو عُزير أو غيره ممن نسبتموه إلى الله ويجعله الله عز وجل عند غيره ينزلهما إلى الأرض مثلًا؟! قال (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا) أي شيئًا نتلهّى به من زوجة أو ولد (لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا) أي عندنا، قال بعض السلف لاتّخذناه من الحور العين.
قال (إِن كُنَّا فَاعِلِينَ) "إن" هنا يا إخواني بمعنى "ما" و"إن" كثيرًا ما تأتي في القرآن بمعنى "ما" (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) [المجادلة:٢] أي ما أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم - وتمرّ بنا كثيرًا في الآيات- أي ما كنا فاعلين لأنه ما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدًا,وما ينبغي للحيّ القيوم أن يكون له صاحبة, فهو الغنيّ عن كل أحد القيوم القائم بنفسه المُقيم لغيره الذي يحتاج إليه كل أحد.
وبعضم قال (إِن كُنَّا فَاعِلِينَ) يعني لو كنا فاعلين لاتخذناه من لدنّا ولكنّا لن نفعل ذلك ولا يلزم من الشرط وقوع المشروط كما قال الله عز وجل (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر:٦٥] هذا شرط معلّق على شرط, هل يمكن أن يُشرِكَ النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا، حاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك ومع ذلك قال (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)، وقال في سورة الزخرف (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ) فاشترط ومادام اشترط قال العلماء لا يلزم وقوع المشروط.
/ قال الله عز وجل (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)
أي دع ذلك الذي قالوه فإنه باطل (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ) أي نسلِّط بهذا الحق الذي هو القرآن على الباطل الذي جاءوا به وهو الشِرك ودعوى أن لله ولدًا. (فَيَدْمَغُهُ) أي فيكسره ويُزهقه وإنما قيل فيدمغه لأن العادة أن الذي يُصاب أو يُضرَب على دماغه يموت (فَيَدْمَغُهُ) أي فيذهبه ويقتله. (فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ) أي باطل مُنمحي قد ذهب. وهذه عادة القرآن أنه إذا جاء بأدلة وبحجج وبراهين اكتسحت كل شُبهات الباطل وزيغه وزُخرفه مثل قول الله عز وجل في سورة الطور (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴿٣٥﴾ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ ﴿٣٦﴾) يعني أنتم أيها الناس إما أن تكونوا خُلِقتُم من غير شيء أو تكونوا أنتم الذين خلقتم أنفسكم, واحد من اثنتين, وكل واحدة منهما أنتم تعلمون بطلانها, لا يمكن أن يقول إنسان نحن خُلِقنا من غير شيء ولا يمكن أن يقول نحن الخالقون لأنفسنا. (أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۚ بَل لَّا يُوقِنُونَ) يعني هل لهم قدرة على أن يخلقوا السموات والأرض؟ هم جاءوا ورأوا السموات والأرض ويعلمون حقًا أنهم ما خلقوهما, إذًا فمن هو الخالق لهذا كله؟! ثبت بهذا الإستقراء الذي اشتمل على هذه الأدلة العظيمة على قلّة ألفاظها وقلّة حروفها أنه لا خالق إلا الله ولا يصح أن يعبد إلا الخالق وهو الله. انظر كيف استدل على التوحيد بأعظم أدلّة. ولاحظوا هنا الآن ستأتيكم الآن رُسُل الحق التي لا تدع من الباطل شيئًا تأملوها معي قال (فَيَدْمَغُهُ) أي فيكسره وأصل الدمغ أن يُصابَ الإنسان في دماغه والعادة أنه إذا أُصيب في دماغه قُتِل, قال فَإِذَا (هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي لكم العذاب المُعدّ مما تصفون الله به عندما وصفتم له الصاحبة والولد.
/ ثم قال الله عز وجل (وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) كل من في السموات والأرض حتى هؤلاء الذي ادّعيتم أنهم أولاد أو صواحب لله عز وجل كلهم له فكيف يكونون أولاداً له؟! الولد إنما يتخذّه الأحَد عندما يحتاج والله غنيٌّ عن كل أحد.
قال (وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ) أي هؤلاء الذين تدّعون أنهم أبناء الله أو غير ذلك مما تدّعونه في حقهم كالملائكة هؤلاء عبادٌ لله حقاً لا يفترون عن عبادة الله فاتقوا الله في أنفسكم.
(وَمَنْ عِندَهُ) وهم الملائكة (لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ) لا يترفّعون عنها (وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ) الاستحسار يُقال من الحَسِر والحَسِر هو: المنقطع الحَسِر هو المنقطع الواقف إعياءًا وكلالًا الذي وقف قد أصابه العيّ والتعب (وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ) أي لا يتوقفون وينقطعون عن عبادة الله عز وجل أو لا يملّون كما عبّر بعض السلف.
(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) أي شغلهم في الليل والنهار هو التسبيح، فإن قلت كيف يكون التسبيح ملازمًا لهم في الليل والنهار وهم قد كُلّفوا بأعمالٍ وأُنيطت بهم مهام قد كلّفهم الله بالقيام بها وأمرهم بأن يؤدّوها أليس في تلك الأعمال والمهام شغلٌلهم عن التسبيح في الليل والنهار؟ فيقال إن الله عز وجل قد ألهمهم التسبيح كما ألهمنا النَفَس. فأنت الآن تأكل وتنام وتشرب وتعمل ونَفَسُك يذهب ويجيء لا ينقطع كذلك هم (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ) لا يملّون ولا ينقطعون وهم مع ذلك قائمون بأعمالهم لا يتركون شيئًا منها (لَّا يَعْصُونَ اللَّـهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: ٦] سُئل كعب الأحبار أما يشغلهم شأن؟ أما تشغلهم حاجة؟ فقال للسائل يا ابن أخي جُعل لهم التسبيح كما جُعل لكم النَفَس.
/ قال الله عز وجل (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ) يُنكِر على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره وجعلوا هناك أصنامًا تُعبَد, هل هذه الأصنام التي عبدتموها وجدتموها تخلق أو تُعيد الناس بعد موتهم؟! هل وجدتم من خصائصها أنها تُحيي الموتى؟!يقول أأتخذتم آلهة تُنشِر أي تُعيد الناس بعد موتهم فغرّكم أنهم يبعثون الناس بعد موتهم فعبدتموهم؟! هل وجدتم فيها هذه الصفة؟! لا والله إن الذين تعبدونهم ليس عندهم شيء من ذلك بل إنهم في كثير من الأحيان لا يُبصرون .. لا يسمعون .. لا يأكلون .. لا يشربون .. لا يقومون لا يقعدون .. لا ينفعون أنفسهم ولا ينفعون عابديهم ولا يدفعون عن أنفسهم ضرًا فضلًا أن يدفعوه عن عابديهم قال (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ) يُنكِر عليهم.
/ ثم قال الله عز وجل (لَوْ كَانَ فِيهِمَا) انظر أدلة التوحيد (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا) لو كان في هذا العالم آلهةٌ غير الله لفسدتا وهذا ما يسمى عند العلماء بدليل التمانع لأنه لو كان للكون إلهين وأرادا في شيء أن يحرّكاه أو يسكّناه أحدهما أن يحرّكه والثاني أن يسكّنه فإما أن تنفذ إرادتهما جميعًا وهذا مُحال لأنه لا يمكن أن يتحرك ويسكن في نفس اللحظة، وإما ألا تنفذ إرادتهما وهذا محالٌ لأن الشيء لا يخلو إما ان يكون متحركاً أو ساكناً، وإما أن تنفذ إرادة أحدهما فهذا الأحد الذي نفذت إرادته هو الإله. والله هنا عز وجل يستدلّ عليهم بأوضح دليل وأيسر أسلوب وبالطريقة التي ذكرت لكم، يقول لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّـهُ لَفَسَدَتَا) وهذا صحيح. الآن لو كان في سيارة يقودها اثنان ماذا سيصبح حالها يا إخوان؟ ستنتهي إلى هلاك ولابد، لأن أحد السائقين يريد أن يذهب يمينًا والثاني يريد أن يذهب يسارًا فيهلكان جميعًا. كذلك هذا الكون لابد له من إلهٍ مُدبِّر وأنتم تدّعون أن هناك عدد من الآلهة تدبر وتقدر فكيف يكون هذا؟! هذا لا يكون.
 قال (فَسُبْحَانَ اللَّـهِ) ينزّه الله عن وجود الشريك والنظير والشبيه والمثيل والصاحبة والولد. (رَبِّ الْعَرْشِ) إنما ذكر العرش لأنه أعظم المخلوقات وهو فوق المخلوقات. تصوروا يا إخواني حتى نصوّر لكم هذا العرش, ما نستطيع ما يستطيع بشر يتصور شيئاً لكن نحن نصوّر لكم العظمة فقط. هذا العرش يحمله ثمانية من ملائكة الله لا ندري كم بين كل ملك وملك من ملكوت الله, هؤلاء الثمانية كيف صفتهم؟ إسمعوا ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصفهم, وصف أحدهم, يقول النبي صلى الله عليه وسلم -صلّوا على النبي- [أُذِنَ لي أن أُحدّث عن ملَك من حملة العرش مابين عاتقه وشحمة أذنه خفقان الطير سبعمائة عام] إحسبها سبعمائة سنة من هذه المنطقة إلى هذه المنطقة, لو قدّرنا أن صورته مثل صورة الإنسان إذا كانت هذه سبعمائة عام إذًا كم طوله؟! وخفقان الطير انتبه ليس مجرد طيران, يخفق طير يخفق بجناحيه يفعل هكذا يعني بأقصى سرعة سبعمائة عام لا ينقطع ما يصل بين عاتق الملَك الذي يحمل عرش الرب -وهو واحد من ثمانية- إلى شحمة الأذن, كم طوله؟ كم عرضه؟ كم سُمكه؟ هذا واحد. أمامك آلاف أو مئات الآلاف أو ملايين من السنين لكي يقطع طير من الطيور واحدًا من حملة عرش الرحمن سبحانه وتعالى, هذا المَلَك كيف بالعرش؟! ما تستطيع عقلي وعقلك صغير جدًا أمام تصور شيء من هذا الملكوت المبهر العظيم .ولذلك قال (رَبِّ الْعَرْشِ) الذي يملك العرش العظيم .. الكريم .. المجيد .. الضخم .. الهائل (عَمَّا يَصِفُونَ) ينزهه عما يصفه به هؤلاء الواصفون.
قال الله عز وجل (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) أي من عظمته ورهبة الخلق عنده جلّ وعلا لا أحد يسأله عما يفعل (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) أي كلهم يُسألون سواء كانوا ملائكة أو أنبياء أو عباد صالحون أو غير ذلك.
/  قال الله عز وجل (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً) بعدما انتهى من الدليل العقلي جاء إلى الدليل السمعي أو الدليل الشرعي. قبل قليل أبطلنا كون هذه التي تتخذونها آلهة أبْطلنا ألوهيتها، هل وجدتموهم يحييون الموتى؟ لا، ما وجدناهم، إذن كيف تعبدونهم؟ (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) واضح جداً لو وُجِدَ إلهين في هذا الكون لفسد الكون، هذا دليل عقلي.
الدليل الشرعي على دعوى وجود آلهة مع الله عز وجلّ (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً) أي بل اتخذوا من دونه آلهة (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) هاتوا حجتكم من كتب الأنبياء السابقين (هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ) أي القرآن (وَذِكْرُ مَن قَبْلِي) أي التوراة والانجيل والزبور وغيرها من كتب الله على أنبيائه ليس فيها شيء مما ذكرتم. وأنا أقول لكم الآن النصارى يدّعون أن عيسى عليه السلام ابن الله - تعالى الله عما يقولون عُلواً كبيراً – لا يوجد في الكتاب المقدّس في نُسَخِه الأصلية ولا آية واحدة يمكن أن يتشبّث بها هؤلاء في صحة هذه الدعوى بل حتى في كثير من النُسَخ الموجودة الآن لا يوجد آية في الإنجيل تدل على هذا المعنى الذي هو أكبر معنى يكافحون ويدعون من أجله، ما يوجد، إنما توجد كلمات تدل على الاصطفاء والاجتباء والقُرب وأحياناً في الترجمة يغيّرون الكلمة إلى كلمة تدل على البُنوّة وإلا في الحقيقة ليس في الإنجيل ولا في التوراة ما يدلّ على هذا الشِرك الذي هم عليه وهو أعظم شيء الآن في دينهم يجاهدون من أجله ويدعون إليه وما عليه بيّنة وهذا يذكّرني بما عليه الرافضة. الرافضة الآن يعتبرون أهم المُهمات وركن الدين الركين هو الإمامة من لم يقل بالإمامة -إمامة الأئمة الإثني عشر- فهو كافر عندهم، حلال الدم والمال. هذا الأمر أين هو في القرآن؟! يا أيها الشيعة أعطونا آية واحدة على هذا الركن الركين. أنتم لو تطلبون منا الآن آيات على التوحيد أعطيناكم مئات الآيات، على الصلاة مئات الآيات، على الزكاة عشرات الآيات، على الصيام على الحج على الجهاد كل واحدة منها عليها آيات كثيرة، ما في القرآن كله من أوله إلى آخره آية تدل على إمامة الأئمة الاثني عشر وهو أعظم ركن في الدين عندكم؟! على ماذا يدلّ هذا؟! ولذلك لجأوا إلى القول أن القرآن الموجود بين أيدينا ناقص أن هذا ثلث القرآن وثلثيه سيكون مع المهدي المنتظر وهو قرآن فاطمة وفيه آيات الإمامة، سبحان الله! نقول لهم لو كان هذا صحيحاً لبطل القرآن الذي عندنا لأن الله قال (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) [الحجر:٩] فكيف تقولون بهذا؟! .
قال الله عز وجل (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) على هذه الآلهة (هَذَا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ) هذا ذكر هذه الأمة وهو القرآن التي أوتيت هذا الخير وهو القرآن ما فيه شيء مما تقولون، وهذا (وَذِكْرُ مَن قَبْلِي) ما فيه شيء من هذا الشرك الذي تدّعون فمن أين جئتم به؟ قال الله عز وجل (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُونَ) ما عندهم شيء من الحق ولذلك أعرضوا عن هذا الحق لما جاءهم وهذا المعنى موجود في آيات أخرى من القرآن كقول الله عز وجل (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) [الزخرف:٤٥] يعني إسأل يا محمد الرسل الذين جاؤوا من قبلكم هل جعلنا مع الرحمن آلهة يعبدها الناس؟ كلا والله إن الأنبياء جميعاً جاؤوا بشيء واحد ولذلك قال الله مثبتاً هذه الحقيقة في الآية التي تليها (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ما أرسلنا قبلك يا محمد من رسول إلا نوحي إليه بهذه الحقيقة العظمى أنه لا إله إلا الله فعليكم أيها الناس أن تعبدوا الله.
ثم عادت الآيات في مناقشتهم مرة أخرى وما زالت هي في التوحيد ومناقشة هؤلاء المشركين في شركهم
  (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) يدّعون لله بأنه قد اتّخذ الولد ولاحظوا في سورة مريم جاء الرد قوياً وشديداً في آخر السورة عندما قالوا (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ) قال الله (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)) وهنا يقول (سُبْحَانَهُ) وأنتم قولوا سبحانه. سبحانك يا الله! ما لك من شريك ولا ولد ولا صاحبة ولا شبيه ولا نظير ولا ندّ لا إله إلا هو جلّ في علاه.
قال (سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ) أي هؤلاء الذين ادّعيتم أنهم أولاد لله -تعالى الله عما تقولون علواً كبيراً- هم عباد لله ومكرمون لأنهم يعبدون الله فلا يعصونه فيما يأمرهم به ويسبحون الليل والنهار لا يفترون. قال الله مبيناً لماذا كرّمهم (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) لا يتقدمون بين يديه بالقول بل ينتظرون متى يؤمرون من قبله جل وعلا فيمتثلون (وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أي ينفّضون أوامره كما أمر بدون زيادة ولا نقص.
ثم قال (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) يعلم ما قدّموا وما خلفهم وما أخّروا من العمل فهو محيطٌ بهم عالمٌ بكل أحوالهم وليس منهم أحد ادّعى أنه ولد لله كما قلتم في حقهم.
قال (وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) أي لا يشفعون يوم القيامة بل ولا يستغفرونإلا لمن ارتضى إلا لمن رضي الله عز وجل حاله فكان من أهل التوحيد والإيمان. (وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) أي خائفون كما قال في سورة النحل (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)).
/ ثم قال الله عز وجل (وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) يعني لو قال أحد منهم أي من هؤلاء الملائكة إني إله من دون الله عز وجل فإن الله سيجزيه جهنم وما قالها أحد ولكن على طريقة العرب أن الشرط لا يلزم وقوعه مثلما قلنا في قول الله عز وجل (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) [الزخرف:٨١] وقوله (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [الزمر:٦٥].
 قال (فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) لاحظوا جعل الظاهر في مكان المُضمَر ليبين أن من يقول هذه المقالة فهو ظالم بل ظلمه أبلغ الظلم.
/ قال الله عز وجل (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ)
بعد أن بيّن أنه الإله الواحد شرع يذكر أدلة ربوبيته وألوهيته وأنه الخالق المتفرد وأنه سبحانه وتعالى الذي بيده ملكوت كل شيء فكيف يُدّعى له الصاحبة والولد وكيف يُتّخذ الشريك معه جلّ في علاه؟!
قال (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أولم يعلموا (أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) ما هو الرتق؟ الرتق هو: الشيء الذي ليس فيه ثقب وهو مصدر يوصف به المذكر والمؤنث والجمع والمفرد (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا) أي ملتصقتين كانت السموات والأرض شيئاً واحداً (فَفَتَقْنَاهُمَا) أي فصلنا السماء عن الأرض هذا قول، والقول الثاني: أن السموات كانتا رتقاً ففتقها الله إلى سبع سموات أي شيئاً واحداً مجتمعاً ففتقها الله إلى سبع سموات، والأرض رتقاً فجعلها الله سبع أراضين وجعل بينهما الهواء. وقيل: كانت السماء رتقاً لا تُمطر والأرض رتقاً لا تُنبِت ففتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات.
 وابن كثير -رحمه الله- على عادته في جمع أقوال السلف إذا لم تكن متعارضة جمع هذا كله فقال:
"(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا) أي ملتصقتين منصهرتين في بعضهما (فَفَتَقْنَاهُمَا) أي فصلنا هذه عن هذه وجعلنا بينهما هواء ثم فصلنا السماء فجعلناها سبعاً والأرض فجعلناها سبعاً ثم فتقنا هذه بالمطر وفتقنا هذه بالنبات " لأنه يرى أن هذا كله يدخل تحت اسم الرتق والفتق.
 قال الله عز وجل (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) ولذلك يقول إذا قلنا أن الله فتق هذه بالماء وفتق هذه بالنبات ناسب أن يأتي بعده قوله (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) وهل المقصود (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء) الماء المعروف (كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) أي كل شيء يحيا من الأحياء لابد أن يحيا بالماء؟ أو المقصود جعلنا من الماء الذي هو النطفة؟ قيل بهذا وقيل بهذا.
(أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) من الذي قدر على هذا وقام به؟ إنه الله فلِم يُدّعى أن لله صاحبة وأن له ولداً أن له شريكاً؟!.
ثم استمرت أدلة القدرة والوحدانية (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ) هذه الجبال الشامخة العظيمة الراسية الثقيلة الهائلة، من الذي جعلها وألقاها في الأرض؟ إنه الله، ولماذا جعلها؟ لتثبت الأرض ولذلك سمّاها رواسي هي راسية مرسية قال (وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ) أي لئلا تميد بهم وتضطرب.
(وَجَعَلْنَا فِيهَا) أي في تلك الرواسي (فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) جعل في الجبال فجاجاً والفجّ هو: كل مُنخرق بين جبلين قال (فِجَاجًا) أي خروقاً (سُبُلًا) أي نافذة لو قال فجاجاّ ما لزم أن يكون نافذا لكن لما قال (سُبُلًا) عرفنا أنها نافذة ينفذ منها من ناحية إلى ناحية واعتبروا بهذه الآية العظيمة في جبال السروات منذ أن تخرج من قعر عدن أو من جنوب صنعاء إلى أن تتعدى المدينة النبوية أو قريباً منها سلسلة جبلية ليس فيها فتحة واحدة إلا في المكان الذي يُحاذي الكعبة فأهل نجد إذا جاؤوا يريدون الكعبة من أين يذهبون؟ من طريق السيل، السيل هي المنطقة الوحيدة المفتوحة في هذه الجبال العظيم -فجّ- وهذا يدلك على أن الله عز وجل قد اختار هذه البقعة كوناً لكي تكون بقعة يفِد إليها الناس من كل مكان لأنه لو كان جبلاً قائماً لشقّ على من كان شرق البيت وشرق هذه الجبال أن يصلوا إليها إلا أن يذهبوا حتى يصلوا قريباً من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يلتفّ فيعودوا إليها وفي هذا من الشمقة ما لا يخفى على كل أحد. قال (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) وهذه الفجاج يجعلها الله عز وجل أيضاً فيها هداية للناس لأن الناس يقيسون بها الأرض ويعرفون المداخل والمخارج ويحددون بها الاتجاهات وكما جعل الله في هذه الجبال فجاجاً ليهتدي بها الناس جعل الله في هذه الدنيا سبُلاً يهتدي بها الناس إلى الجنة وهي هذه الكتب التي ينزلها الله عليكم.
قال الله عز وجل (وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا) يعلوكم ترونه وقد رفعت بغير عمد ترونها كذلك (مَّحْفُوظًا) أي محروساً، محروسا من مجيء الشياطين واقتحامهم لها ومحروساً أيضاً من أن تسقط عليكم أيها الناس (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ) [فاطر:٤١] وهذه آية عظيمة جداً ولكن نحن مع تكرر الآية علينا لا نتفقّه فيها ولا نُبصِر عظمتها كما قال الله عز وجل (وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف:105] ما ينتبهون ولا يبصرون.
نحن نبحث الآن عن دقيقة من دقائق صنع الله عز وجل في شيء مثلاً في نملة أو كذا وننسى هذه الآية العظيمة التي أمامنا! أمامنا سقفٌ هائل لا يعرف مداه ولا مقداره ولا مساحته إلا الله عز وجل قائم لا يسقط ولا يتزحزح ولا يستطيع أحدٌ أن يغيّر فيه شيئاً.
قال الله عز وجل (وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا) أي آيات هذه السماء (مُعْرِضُونَ) لا يتبصرون (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) خلق هذه الأشياء كلها فهل خلقت هذه الآلهة التي تدّعونها شيء من ذلك؟ (كُلٌّ) من هذه الأشياء الشمس والقمر والنجوم وغيرها (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) حتى الليل والنهار تسبح في فلك، والفلك هو: مدار النجوم التي يضمّها ومنها فِلكة المِغْزَل، المِغْزَل له مدار معين كذلك هذا الكون مفلّك يقال تفلّك ثدي المرأة يعني استدار كذلك هذا الكون كله مستدير ولذلك يدور بعضه على بعض (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ) [الزمر:٥] والشمس والقمر يتعاقبان (لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) [يس:٤٠] سبحان الله! سبحان من يجريها!
قال (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ)  رجع إلى حقيقة الأنبياء أنه هكذا خلق الأنبياء بشراً وكتب عليهم الفناء كما كتب على سائر الخلق الفناء وهذا من أعظم أدلة أن الأنبياء بشر وأن محمداً يجب أن يكون بشراً لأن الأنبياء الذين سبقوه مانوا من البشر وما كانوا خالدين، أين صالح؟ أين هود؟ أين ابراهيم؟ أين اسماعيل أبوكم أنتم أيها العرب؟ كلهم قد ماتوا وهم أنبياء. قال (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) يعني إن مِتَّ أنت هل سيخلّدون؟ لا، لن يخلّدوا (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن الخَضِر قد مات لأن الله عز وجال قال (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ) فلو كان الخَضِر حيّاً من عهد موسى إلى عهد محمد ما صحّت هذه الآية لقال "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد إلا الخضر" فلما قال (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ) دلّ ذلك على أن الخضر قد حيا حياة كما يحياها البشر ثم مات. قال (أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (35)) كل النفوس ستذوق الموت ولن يسلم من ذلك أحد حتى عيسى الذي رفعه الله عز وجل ولم يمت -على قول وعلى قول آخر مات- رفعه الله عز وجل وسينزل في آخر الزمان مصدّقاً لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام وحاكماً بشريعته ويقتل الدجّال ثم يموت الميتة التي كتبها الله على البشر عليه الصلاة والسلام.
قال (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) نبلوكم بالغنى والسَعَة ونبلوكم بالمصائب والضُرّ كلها على وجه الفتنة أي على وجه الابتلاء والاختبار. (وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) كلّكم سترجعون إلينا، أنت ستصيبك مصائب اصبر سترجع إلى الله، ستذهب منك أشياء أموال وأولاد وأعضاء وغير ذلك وأشياء عزيزة عليك ومحبوبة لديك، اسمع يا أخي هي رجعت قبلك وأنت تلحق بها. ولذلك المؤمن يتعزّى دائماً بقول الله عز وجل (إنا لله وإنا إليه راجعون) إذا أصابته مصيبة قال نعم أنا لله، مملوكٌ لله، يتصرف فيّ كيف يشاء وليس من حقي أن أعترض "وإنا إليه راجعون" كلنا في الأمر هذا الشيء يتقدم وأنا بعده أو أنا أتقدم وهو يلحق بي وفي النهاية سنؤول إلى الله عز وجل وهو الذي سيبعثنا ويحكم بيننا. أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا وأن يرزقنا علماً ينفعنا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المجلس الثاني
(وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ﴿٣٦﴾ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ ﴿٣٧﴾)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد فهذا هو المجلس الثالث من مجالس تفسير سورة الأنبياء في هذه الدورة المباركة دورة الأترجة المقامة في جامع شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بحي الخليج في بريدة هذا اليوم هو الرابع والعشرون من شهر شوال من عام إثنين وثلاثين بعد الأربعمائة وألف من الهجرة النبوية الشريفة.
 وقد وصلنا إلى قول الله عز وجل (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ) إذا رآك يا محمد هؤلاء الكفار فإنهم لا يقارعون الحُجّة بالحُجّة ولكنهم يستعملون أساليب الضغط عليك لصدّك عن الدعوة إلى دينك. ومن الأساليب التي يستعملونها الاستهزاء والسخرية فهم يسخرون منك ويستهزؤن بك ويحاولون تثبيطك عن دعوتك والعجيب أن هذا الأسلوب إلى اليوم لا زال مستعملاً عند الكفار وعند أذنابهم فهم يستهزئون بالمؤمنين ويسخرون منهم ويتخذونهم هزواً - وسيأتي إن شاء الله في سورة المؤمنون - ماذا سيكون حال هؤلاء في يوم القيامة عندما يلتقون بالمؤمنين فيُؤنبون ويُعاتبون ويثربون على كونهم سخروا من المؤمنين ويسخر المؤمنون منهم وقد جاء مثل هذا في سورة المطففين عندما قال الله عز وجل (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31)) أي يضحكون ويتفكهون بالاستهزاء على المؤمنين (وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ) أي في يوم القيامة (الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)) جزاءاً وفاقاً (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)) بلى قد ثوّبوا وجوزوا.
 قال الله عز وجل (إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا (36)) وفي سورة الفرقان (وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)) أهذا الذي بعث الله رسولاً؟! يقولونها على سبيل التحقير (إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (41)).
قال الله عز وجل (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36))
يعني هم يتعجبون أن النبي صلى الله عليه وسلم يعيب آلهتهم يقول إنها لا تسمع ولا تجيب ولا تبصر ولا تضر، يقولون هذا الذي يذكر آلهتكم بالعيب ويذكرها بالسوء وأنتم ماذا تقولون في حق الله؟ إن كان محمد قال ما قال فقد قاله بحق والدليل معه والواقع يشهد له لكن أنتم هذا الذي قلتموه في حق الله وادعيتم أن لله صاحبةً وولداً من أين جئتم به؟ (وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)).
/ قال الله عز وجل (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)) من هو الإنسان هنا؟ قيل الإنسان آدم ومعنى خلق الإنسان من عجل أي خُلِق الإنسان عجولاً كأنه من كثرة ما طُبِع على العجلة كأنه خُلِق منها وكأن العجلة قد خُلِطت في طينته وهذا ظاهر في طباعنا، نحن نستعجل نريد كل الأمور تنتهي بسرعة ولو أن الواحد منا أراد الآن أن يعود إلى بيته فتأخر مثلاً يعني عشر دقائق لضجر وتعب نفسياً! مستعجل في كل شيء مستعجل، يصلي فيستعجل، ويزرع فيستعجل الثمرة ويدرس أو يطلب العلم فيستعجل أن يكون عالماً أو مُتعلماً للعلم الذي يطلبه في أقرب فرصة.
(خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ) يعني خُلِق عجولاً وعلى الإنسان أن يكافح هذه الصفة ولا يتعجل الأشياء بل يأخذها شيئاً فشيئاً.
قال العلماء إن ربنا سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق السماوات والأرض بالكلمة -كُنْ فتكون- ولو قال لها كوني لكانت كما يريد الله عز وجل في أسرع من لمح البصر ولكن ليعلِّم خلقه الأناة في تكوين الأشياء وصنعها وإبداعها خلقها في ستة أيام. وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة، جعل آدم في آخر شيء خلقاً ولم يخلق شيئاً يوم السبت جلّ جلاله وما مسّه من لغوب تعالى الله عما يقول اليهود علواً كبيراً. فإنهم يقولون إن الله لمّا خلق الخلق تعب فاستراح يوم السبت فنحن نستريح يوم السبت، فاتهموا الله بهذه التهمة التي يقف شعر الإنسان من هولها! كما قالوا (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة:٦٤] وقالوا (إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ) [آل عمران:١٨١].
 إذاً إذا قلنا إنه آدم فيكون المعنى أن آدم خُلِق ولكثرة العجلة فيه كـأنها خُلِطت في طينته كما قال الله عز وجل في سورة الإسراء (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً) [الإسراء:١١]. لما ذكر دعاء الآباء على أبنائهم بيّن أن الإنسان يستعجل ويتعجل ثم يندم.
أو تكون في خلق آدم (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) أي خُلِق في عجلة لأنه خُلِق بعد العصر يوم الجمعة فلما خلق الله عينه ورأسه وأذنه وأنفه ونظر استعجل ربه في إتمام خلقه قبل أن تغرب الشمس، هكذا يقول بعض المفسرين من السلف والله أعلم بصحة هذا.
 إذاً إما أن يكون خُلِق عجولاً أو خُلِق بعجلة. وإن قيل أن الإنسان إسم جنس وليس خاصاً بآدم عليه السلام فالمقصود أن الإنسان خُلِق من عجل يعني لكثرة ما طُبِع على العجلة كأنه خُلِق من العجلة مثلما يقال: أنت من اللعب أو خُلِقت من اللعب لكثرة ما فيه هذا الإنسان من اللعب. إذاً خُلِق الإنسان من عجل.
/  قال الله عز وجل (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)) إن قيل ما حكمة ذكر هذه الآية وهو أن الله خلق الإنسان من عجل؟
 قيل لما ذكر أن المشركين يستهزؤن برسول الله صلى الله عليه وسلم ويسخرون منه قد يقع في نفوس المؤمنين استعجال العذاب عليهم حتى في نفس النبي صلى الله عليه وسلم فيُقال لا، تَرَى الإنسان خُلق من عجل، لا تستعجلوا العذاب على أعدائكم أو على هؤلاء المدعوين كما قال الله عز وجل في آخر سورة الأحقاف (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ(35)) يعني لا تستعجل لهم بالعذاب. فيُنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يستعجل لهم بالعذاب لأن من طبيعة الإنسان أن يستعجل خصوصاً مع شدّة الأذى وكثرته عليه.
/ قال الله عز وجل (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) لعلّ هذا أيضاً من الأسباب التي ذُكِر فيها أن الإنسان خُلِق من عجل وهو أن المشركين يستعجلون بالعذاب. فيقولون هات العذاب الذي أنت تعِدنا به، سبحان الله! أنتم في سعة فلماذا تستعجلون العذاب على أنفسكم؟! لكن هذه طبيعة الإنسان يستعجل كل شيء غائب عليه. (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) يقولون لكم هذا الذي تعِدوننا به من الخسف والمسخ والعذاب والريح وغيرها أين هو؟ ما جاء، لو كان كما تقولون حقاً لنزل بنا.
/ قال الله عز وجل (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ)
لما استعجلوا بالعذاب لو كانوا يعلمون حالهم عندما تأتيهم النار من قِبَل وجوههم ومن قِبَل ظهورهم ولا يجدون أحداً ينصرهم ما استعجلوا هذا العذاب ولكن لكونهم يجهلون العاقبة ولا يؤمنون بالآخرة هم يستعجلون.
قال الله عز وجل (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ) أي في الوقت الذي لايستطيعون أن يكفوا فيه النار لا عن وجوههم ولا عن ظهورهم لأن النار تأتيهم من كل جانب (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) [الزمر:١٦] وقال (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ) [الأعراف:٤١] يعني غطاء يغشاهم من فوقهم، فالفراش من نار والغطاء الذي يعلوهم أيضاً من النار. والنار تأتيهم من قِبَل وجوههم وتأتيهم من أقفيتهم وظهورهم نسأل الله العافية والسلامة. قال (وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ) أي لا ينصرهم أحد ولا يخرجهم من هذا البلاء الذي هم فيه.
/ قال الله عز وجل (بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ) النار تأتيهم مباشرة فجأة من دون مقدمات فتبهتهم تحيّرهم لا يدرون كيف يفرّون منها ولا كيف ينقذون أنفسهم من لهيبها، تبهتهم أي تذعرهم وتخوّفهم وتحيّرهم (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) أي ولا هم يُمهَلون وهذا من عظيم عقوبة الله لهؤلاء وهو أن العذاب يأتيهم بغتة وفجأة كما قال الله عز وجل في سورة الزمر (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا (71)) جاؤوا هكذا فُتحت أبوابها. الواو هذه ما ذُكِرت في حق الكفار لماذا؟ للدلالة على المباغتة والمفاجأة. أما في المؤمنين ماذا قال الله (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا (73)) أي كانت أبوابها مفتوحة قبل أن يأتوا مثلما يفتح الكريم أبواب بيته للضيفان قبل أن يدخلوا فيها. إذا كنت تُكرم إنساناً تلجئه إلى أن يطرق بابك أو تفتح الباب قبل أن يأتي؟ تفتح الباب بل وتريه أنوار البيت والطيب تُشَمّ رائحته من بعيد كما قال الله عز وجل (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا ) [مريم:٨٦] أي عطاشاً. قال الله عز وجل (بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) أي يُمهَلون.
/ قال الله جل وعلا (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون) يا محمد إن كان هؤلاء قد استهزأوا بك وسخِروا منك وعابوك وقالوا فيك ما لا ينبغي أن يُقال في مثلك مما هو محض افتراء وكذب فاعلم أن مثل هذا قد قيل في الأنبياء الذين سبقوك وهم رسل الله وصفوته من خلقه ولابد أن يُسلَك بك مثل ما سُلِك بهم لأن أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ويُبتلى الرجل على قدر دينه، وكلما كان في دينك صلابة كان البلاء عليك أشد وأعظم.
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا) أي رجع بأولئك الذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون فبدل ما كانوا هم المستهزئين صاروا مُستهزأً بهم مثلما قال الله عز وجل في أواخر سورة المؤمنون (قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) الله أكبر! كذلك في سورة (ص) قال الله عز وجل مبيّناً ماذا يقوله الكفار في ذلك الموقف؟ (قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ) ثم قالوا بعد ذلك كلمة عجيبة متسائلين فيما بينهم (وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)) هل نحن بالفعل ما رأيناهم معنا؟ زاغت أبصارنا عنهم؟ أم أننا كنا نهزأ بهم وهم ليسوا محلاً للإستهزاء؟ (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)) سبحان الله.!
/ يقول الله عز وجل (قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ) من يكلؤكم أي يحفظكم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ) أي بدل الرحمن مثلما قال الله في سورة الزخرف (وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ(60)) ما معناها؟ (وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) معناها بدلاً منكم ملائكة في الأرض يخلفون، يعني لو شاء الله لجعل بَدَلَكُم أيها الناس ملائكة في الأرض. وهنا (قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ) أي بَدَل الرحمن وغير الرحمن، لا أحد، فكيف تجترؤن على الكفر به والإستهزاء برسله؟
 وقيل في معناها كما ذكر ابن الجوزي في زاد المسير (قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ) أي من يحفظكم من بأس الرحمن إن نزل بكم؟ لا أحد، وهذا إستفهام إنكارٍ عليهم.
(بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ) هم لايقدرون الله حق قدره ولا يعرفونه كما ينبغي أن يُعرَف ولذلك هم معرضون عنه لم يعلموا بعلمه ولا بإحاطة ملكه ولا بشيء مما يستحقه الرب جل وعلا ولذلك أعرضوا عنه واستهانوا به جل جلاله.
/ ثم قال الله عز وجل (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا) هل لهم آلهة تمنعهم من دوننا؟ وتستطيع أن ترد عنهم ما نريد أن نوقعه بهم؟
  (لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ) أي لا تستطيع هذه الآلهة نصر نفسها.
(وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ) أي ولا هذه الآلهة تُجار مِنّا، لا أحد يُجيرها منا إن أردنا بها سوءاً فكيف يظنون أن الآلهة يمكن أن تمنع عنهم السوء الذي يمكن أن نقدّره عليهم أو نريده بهم؟! إذاً ليس لهم آلهة تمنعهم من دوننا وهذه الآلهة لا تستطيع نصر نفسها ولا تستطيع أن تستجير من عذابنا أو أن تُصْحَبَ منا بخير.
/ قال الله عز وجل إذاً ما الذي متّع هؤلاء وغرّهم فيما غرّهم فيه؟ (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) بالفعل الذي يغرّ كثيراً من المكذبين في تكذيبهم هو طول أعمارهم، يقول لك أنا من أربعين سنة ما رأيت شيئاً مما يقال لي أنه سينزل عذاب على المكذبين وأن الله سيعاقبهم وسيمحقهم ويحيطهم! ما حصل شيء من ذلك، أين هذا الذي يعدوننا به؟ نحن وأنا أبي أيضاً بقي ثمانين سنة ما جاءه شيء مما يقولوه هؤلاء الرسل! فيقول الله عز وجل (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) غرّهم طول العمر، يُعمر واحدٌ فيغرّ قوماً وينسى من يموت من الشباب حتى طال عليهم العمر (أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) أفلا يرى هؤلاء الكفار المكذبون أنا نأتي الأرض المحيطة بهم فننقصها من أطرافها لأنها تدخل في الإسلام حتى يضيق الأمر عليهم ثم لا يشعرون إلا وقد أحاط بهم المسلمون وجاءت دولة الإسلام واجتثت دولة الكفر وهذا ما حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك هذه الآية تعتبر بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم في أن دولته ستكبر وأن دولة الكفار ستصغر ثم يجتثّها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تدين جزيرة العرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها أحد له كلمة إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه الآية مثل قول الله عز وجل (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [محمد:٢٧].
 قال الله عز وجل (أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) لا، بل هم المغلوبون المرذولون المهزومون.
/ يقول الله عز وجل - لا تظنوا أني سآتي بشيء أكثر مما كلّفني الله به فأنا لم يطلب الله مني أن أخلق الإيمان في قلوبكم إنما أنا لكم نذير ولا أنذركم بشيء لم أبلَّغ به بل أنذركم بالوحي ولا أزيد عليه ولا أنقص منه (قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ). هذا الذي جئتكم به من عند الله لا أزيد فيه ولا أنقص منه.
قال الله عز وجل (وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء) لكن أنتم صمٌ بكمٌ عمي لا تعقلون ولا تتعظون فمهما دعوتكم وناديتكم وضربت لكم الأمثال وصرّفت لكم الأقوال لن تنتفعوا ولن تستفيدوا. (وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ) الأصمّ لو أُنذِر ما يسمع الدعاء لو صرخ إنسان فيه صرخة عاتية ما سمع! كذلك أنتم قد أصممتم آذانكم عن أن تسمعوا الحق مع ظهور الحق وجلاء أدلته لكنكم أبيتم أن تستمعوا. ولذلك قال الله عز وجل في سورة سبأ (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ (46)) ما هي يا رسول الله؟ (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ) ماذا؟ (تَتَفَكَّرُوا) فقط فكِّر فيما أقول لك فكِّر في الوحي الذي جاء الله به إليّ (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ) هذا صاحبكم تعرفونه، أنتم أعرف الناس به، ما به من جنون ولا به من مسّ، ما به من جِنّة، ما هو إلا نذير جاءكم بنذارة من عند الله لو تأملتم فيها لوجدتموها موافقة للعقل وموافقة للنقل. قال الله عز وجل (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى) أي إثنين إثنين (وَفُرَادَى) أي يقوم كل واحد منكم وحده يخلو بنفسه ويتفكّر.لكن إذا جلستم في نواديكم وجاءكم الحق قال واحد من الناس لا، لن نترك ما كان عليه أباؤنا، هذه دعوة ما سمعنا بها! ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق، إن هذا لشيء يراد، وبدأوا يتكلمون وغابت عقولكم وسكت البقية وعميَ الحق عليكم جميعاً. لا، أنا انصحكم يقوم اثنين ويتناقشون بهدوء في الذي قلته لكم، هل هو حق أو باطل؟ وليذهب كل واحد يخلو بنفسه في حجرته أو في بريّته ويسأل نفسه هذا الذي جاء به محمد هل هو حق أو باطل؟ سيكتشف وسيعلم قطعاً ويقيناً أنه حقّ ولن يرُدَّه عن ذلك خفاء الحق إنما يرده أحد شيئين إما الحسد أو الكبر.
/ قال الله عز وجل (وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) مما يؤكد أنهم معتقدون للحقّ عارفون به أنهم لو مسّتهم نفحة من العذاب ماهي النفحة؟ هي أدنى شيء من العذاب، أو طرف من العذاب كما قال ابن عباس. لو مسّهم أدنى شيء من العذاب مباشرة استسلموا وقالوا إنا كنا ظالمين، إنا كنا ظالمين، مثل ما قالته عاد وقالته ثمود وقالته الأمم المكذبة عندما نزل بهم العذاب كلهم يقولون آمنا .. آمنا .. آمنا لكن لا ينفعها إذا نزل العذاب انتهى كل شيء وانتهت المهلة.
وهذا يؤكد لنا يا إخواني أن تكذيبهم إنما كان بألسنتهم ولم يكن حقيقياً ولذلك قال (وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) يعترفون بالظُلم وهذا يؤكد لنا ما جاء في بعض سور القرآن مثل قوله جل وعلا (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ) [النمل:١٤] جحدوا بها في الظاهر ولكن أنفسهم مستيقنة بأنه حق. وموسى ماذا يقول لفرعون؟ (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ) يعني يافرعون (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء) أي الآيات التي معي (إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ) [الإسراء:١٠٢] أنت تعلم يا فرعون أن الذي أنزل هذه الآيات هو رب السماوات والأرض (بصائر) بيّنة واضحة لا خفاء بها ولكنك تجحد وتكذب وتفتري بأنها ليست آيات وأنها سِحر وأنت أعلم الناس بأنها حق من عند الله. قال الله عز وجل (وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)
/ ثم يتهددهم الله عز وجل فيقول (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) نضع الموازين التي توزَن بها أعمال العباد وهل هي موازين متعددة أو ميزان واحد أو ميزانان؟ خلاف بين العلماء وأكثر أهل العلم على أنها ميزان واحد وإنما جُمِع لتعدد الأعمال ولتعدد الموزونين فقيل (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ). ومعنى قسط أي ذوات القسط أي ذوات العدل التي لا يمكن أن تخيس أو تميل أو تجور أو تحيف وتظلم، ميزان قسط ما يُظلَم فيه أحد. ومن هو الذي يوزن هل هو العمل أو العامل أو الصحيفة؟ من كمال عدل الله أن الجميع يوزن، فالإنسان يوزن وعمله يوزن وصحيفته توزن وهذا من كمال عدل الله لأن ربك سبحانه وتعالى يُظهِر لك تمام  عدله يوم القيامة إظهاراً بيناً ومن ذلك إنه يقول لعبده من تريد يشهد عليك يا عبدي في إنك كنت كافر فاسق عاصي متكبر فاجر؟ فالعبد يجدها فرصة فيقول يارب لا أرضى شهيداً عليّ إلا من نفسي لا أرضى أن يكون أحد شهيداً علي إلا من نفسي لأنه يعرف أن الملك الذي يشهد يشهد عليه وأن الرسول الذي يشهد يشهد عليه وأن الصحيفة تشهد عليه فيقول لا أرضى يارب شهيداً عليّ إلا من نفسي وعند ذلك يُخرِس الله لسانه فتشهد يده ورجله ولسانه فتشهد عليه كما في سورة فصلت.
قال الله عز وجل (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) الموازين العادلة التي لا ظُلم فيها ولا حيف. (لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) كل شيء يوزن حتى قولك سبحان الله والحمد لله تُوزن قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله العظيم سبحان الله وبحمده"، حتى هذه الكلمة توضع وتوزن. الله أكبر!
  (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) "نفس" يقول العلماء نكرة في سياق النفي فتعمّ أيّ نفس مؤمن، كافر، طاغية، عادل، جبّار، مُحسن، نبي، رسول لا تُظلم نفس شيئاً، لا يُزاد عليها شيئاً لم تفعله ولا يُنقص منها شيئاً فعلته.
قال (وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) والله هذه الآية شديدة على النفوس يا إخواني إن كان مثقال حبة من خردل، ماهي الحبة من خردل؟ يقول مثل الذرة أو وزن الشعرة أو الشعيرة وزنها يؤتى به يوم القيامة فتُجازى عليه إن خيراً فخير وإن شراً فشر كما قال الله عز وجل (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)) [الزلزلة] ستراه يوم القيامة حتى مثل رأس الدبوس من الدمعة يُقاس ويراه الإنسان ويوزن. قال الله عز وجل (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ) [غافر:١٩] ما هي خائنة الأعين؟ هي ما يراه الإنسان بطرف عينه لا بوَسَطِها، يعني وأنا أنظر إليكم مرّت امرأة في جانب الطريق فأنتم تروني أنظر إليكم وأنا بطرف عيني وأنتم لا ترون أنظر إليها، يعلم الله ذلك ويدوّنه ويأتي العبد يوم القيامة وقد كُتِبَ عليه ذلك.
(وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا) جئنا بكل شيء قليل عملك وكثيره. قالوا حتى أنه يجد الإنسان في صحيفته حارّ .. وحرّ وبارد .. وبرد وأفّ وكل شيء، ما يُترك شيء. فمنه ما يجازى عليه الإنسان لأنه محل للجزاء إذ هو من الخير أو من الشر ومنه ما يُحسب ليَعلم الإنسان أنه لم يُترك من عمله شيء مثل قولك هذا حر هذا برد واليوم فيه هواء شديد هذه الكلمة تُكتب لكن هل ستعطى عليها أجراً أو تكسب عليها سوءاً؟ لا، لكنك ستراها وستندم إذا رأيتها لأنك تتمنى لو أنك وضعت بدلها كلمة تنتفع بها يوم القيامة عندما تلقى ربك سبحانه وتعالى، قال (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ).
قال الله عز وجل (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ) هذه الآية سنتحدث عنها إن شاء الله في المجلس القادم. أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعني وإياكم بالقرآن، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك ماضٍ فينا حكمك عدل فينا قضاؤك نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا وغمومنا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
______________________________
مصدر التفريغ ملتقى أهل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق