الأحد، 22 مارس 2015

تفسير سورة الأنبياء (٤٨-٩١) دورة الأترجة

د. محمد بن عبد العزيز الخضيري
  (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ﴿٤٨﴾ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ﴿٤٩﴾ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ﴿٥٠﴾)
الحمدُ لله والصَّلاةُ والسَّلام على رسُولِ الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمَّا بعد.
فهذا هو المجلس (الرَّابِع) من مجالسِ تفسير سُورةِ الأنبياء، في هذه الدَّورة المباركة (دورة الأُتــرُجَّــة) المقامة في جامِع شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهَّاب- رحمه الله- بِحيِّ الخليج في بُريدة، وهذه اللَّيلة ليلة الخامس والعِشرين من شهرِ شوَّال من عامِ ألْفٍ وأربعمائة واثنين وثلاثين. وقد وَصَلْنا إلى قول الله عزَّوجل   (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ ﴿٤٨﴾ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ)
 يَذكُر الله عزَّوجل أنَّهُ آتَى مُوسى وهارُون الفُرقان،والمقصُودُ بالفُرقان -في أَكْثرِ أقوالِ الــمُفَسِّرين- أنَّه الكِتَابْ الذِّي أُوتِيَه موسى وهو التَّوراة لأنَّ الله فَرَقَ به بين الحَقِّ والبَاطِل، والحَلال والحَرام، وما يُحِبُّهُ الله، وما يُبغِضُهُ ويَسْخَطُهُ، وسُمِيَّتْ التَّوراة فُرْقَاناً في أكثرِ من موطِنْ: كما في سورة البقرة (ولَقَدْ آتينا مُوسى الكتابَ والفُرقان لـعلَّكُم تهتُدون (53)) فَعَطَفَ الفُرْقان على الكِتَاب من بابِ عطْف الوَصْف وليس من بَاب عطْفِ الذَّات على الذَّات،لأنَّ التَّوراة فُــرقانٌ يُفَرِّق اللهُ فيه بين الحَقِّ والباطِل.
قال الله (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً) أَيّ يُستَضَاءُ بِهِ، ويُستَنارُ بِهدْيِه والفَرْقُ بين الضِّياءِ والنُّور: أنَّ النُّور مَا يُهتدَى بِنُورِه دُونَ أن يكُونَ فيه حرارة، وأمَّا الضِّياء ففيهِ حرارة كما قال اللهُ جلَّ وعلا في سورة يُونس (هُو الذِّي جَعَل الشَّمسَ ضِيَاءً والقَمَر نُوراً) قال العُلماء: إنَّـــمَا جُعِلَ الضِّياء للشَّمس لِمَا فيها من الحرارة. والنَّبي صلى الله عليه وسلَّم عندما ذَكَرَ الأعمال الصَّالحة قال "الصَّلاةُ نُور، والصَّدقةُ بُرهان، والصَّبرُ ضِيَاء" فجَعَل الصَّبر ضِياءً لِــمَا في الصَّبْرِ من الحرارة والــمَشَقَّة على النُّفُوس.
 وهُنا قال (وَضِيَاءً) لأنَّهُ يُضِيْءُ الطَّريق، لكِنَّ الاستمساك به فيهِ شيءٌ من الــمَشقَّة ويحتاجُ إلى مُجَاهدة وإلى عَـزيـمةٍ صادقة وإلى مُخالفَةٍ للهَوى. كما أنَّ في اِتِّباع الكِتاب الذِّي أنزَلَهُ الله مُعادَاة لِــمَنْ عادَوْا الأنبياء ومُخالفة لــِمَا عليه كثيرٌ من النَّاس من العَادَات والــمألُوفات.
قال (وَذِكْرًا) أيّ تذْكِرةً (لِلْمُتَّقِينَ) أيّ لـــمَنْ اتَّقَى الله، فمنِ اتَّقى الله تذَكَّرَ بالكتاب واتَّعَظَ به. وذِكْرُ أنَّ الكتابْ سَواءً القُرآن أو غَيرُه هو ذكرى للمُتَّقين كثيرٌ لأنَّ الذِّي ينتَفِعُ بهذه الكُتُبْ حقَّاً هُمُ الــمُتَّقُون، وإلاَّ فهي نافعة وذكْرى لِكُلِّ أَحَد كما قال الله عزَّوجل في سورة البقرة (ذلك الكتاب لا ريبَ فيه هُدىً للمُتَّقين (2)) لماذا؟ لأنَّ الــمُتَّقي قَدْ لانَ قَـلبُه، وأَذْعَنَ لِرَبِّه، ولذلك إذا جَاءتْهُ آياتُ الكتاب اسْتَقْبَلَها فأَثَّرَتْ فيه وتَغَيَّر بـِها، أمَّا غيرُ الــمُتَّقي فقلبُهُ قاسي كالأرضِ السَّبِخَة، ينزلْ عليها المطر العَذْب فلا تستفيدُ منه ولا تَنتفِعُ به.
 ثُمَّ وصَفَ هؤلاء الــمُتَّقُين فقال (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) وكَلِمَة (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ) يَصِحّ أن يكونَ معناها:
- يَخافُون ربَّهُم وهُمْ لَــمْ يَرَوْه، فَهُم يخْشَون ربَّهُم وهُمْ ما رَأَوْه ومع ذلك خائِفُون مِنْه وَجِلُون، يخـْشَوْنَهُ ولــمْ يَروْهُ جَلَّ جلالُه، فكيف لو رَأَوْه، لاَزْدَادُوا لَهُ خشْيَة.
- أو يكُونَ المعنى: يخافُونَ ربَّهُم في المكان الذِّي يَكُونُون فيه غَائِبين عنْ أعيُنِ النَّاس، يخافون ربَّهُم عندما يَغيبُون عن النَّاس، لأنَّ النَّاس عندما يَـحضُرُون مع النَّاس يترُكُونَ المعاصي لكن إذا خَلَوْا بِـمَحارمِ الله ظَهَرَت حقيقةُ التَّقوى في قُلُوبهم، فمن يخشَى ربَّهُ بالغَيْب يعني إذا غابَ عن أعْيُنِ النَّاس هو الذِّي يتَذكَّرُ بالكتاب ويكُونُ من الــمُتَّقين.
 قال الله عزَّوجل (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) أيّ وهُمْ وجِلُون خائِـفُون من السَّاعة، يَـخافُون منها لأنَّهم لا يَدْرُون هل يَكُونُونَ من أهْل الجَنَّة أو يكُونُون من أهلِ النَّار كما قال الله عزَّوجل (والذِّينَ يُؤتُون ما آتَوْا وقُلُوبُهم وَجِلَة أنَّهُم إلى ربِّهم راجِعُون) فَهُمْ يخافُون من لقاءِ أعمالهم ومِنْ عرْضِها على الله، ويستَحْـيُون لأنَّهُم يعْلَمُون أنَّهُم مُقَصِّرُون، وأنَّهُم قَلَّمَا يُؤَّدُون عَمَلاً على كَامِلِ وجْهه بل لابُدَّ من النَّقْصِ والتَّقصير، ولابُدَّ من السَّهْوِ والغَفْلَة، ولابُدَّ من النِّسْيان والخَطأ، ولابُدَّ أيضاً من التَّقديـم والتأخِير وهذا شيءٌ يعرِفْهُ كُلُّ واحِدٌ منَّا من نفسه.
/ ثُمَّ قال الله عزَّوجل (وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ) أيَّ هذا القُرآن الذِّي أُنْزِل عليك يا مُحمَّد (ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ) وكثيراً ما يأتِي في القُرآن أن يُقْرَن بين التَّوراة وما أُنْزِلْ على مُوسى وبين القُرآن الذِّي أُنزِلَ على محمّد صلى الله عليه وسلَّم كما في آخرِ سورةِ الأنعام.
 قال (وَهَذَا ذِكْرٌ) يتذَكَّر به المؤمنُون ويتَّعِظُون ويستَجِيبُون بِسَبَبِهِ لأَمْرِ الله ويُطِيعُونَ به ربَّهم جلَّ وعَلا.
قال (مُبَارَكٌ) ونكَّرَها ليَدُلّ على أنَّ بَرَكَتَهُ عامَّةٌ شامِلَــة جامِعَة لِكُلِّ أنواعِ البَرَكَة: بـــركَة في معانيه فهي كثيرة، وبَرَكَة في ألْفَاظِه، وبَرَكَة على المرضى، وبَرَكة في استنباط الأحكام، وبَرَكة على الأَفْهام، وبَــركَة عَلى الــمُجْتَمِع، وبركة على المؤمن، وعلى الكَافِر، والبَرّ، والفَاجِر، والذَّكْر، والأُنثى، وعلى الأَحياء، والأَموات، بَــرَكة عظيمة جِدَّاً شامِلة واسِعة.
قال الله (أَنْزَلْنَاهُ) أنزلَهُ اللهُ من السَّماء على عَبْدِه ورَسُولِه مُـحمّد صلى الله عليه وسلّم.
 قال الله عزَّوجل (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أيّ أفَتُنكِرُون هذا الكتاب مَعَ أنَّه بَــيِّن أنَّ هذَا الكتاب من عندالله عزَّوجل، وأنَّهُ قد سَبَقَتْهُ كُتُبْ كالذِّي أُنزِلَ على مُوسى، فما الذِّي يَدْعُوكُم لِكيْ تُنكِرُوا هذا الكتاب الذِّي أُنزِلَ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلَّم؟.
/ ثُمَّ قال الله عزَّوجل (وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) لاحِظُوا أنَّه لـَـمَّا جاءَ إلى قِصَّةِ موسى وهارون اِختَصَرَها وذَلِكَ لأنَّها جاءَتْ في سُورةِ طه مُطوَّلة فاختَصَرَ هُنا - وهَذهِ عادةُ القُرآن- مثاني، يأتي بِذكْر مُوسى وهارُون في سُورةِ مريـَم بشكلٍ مُختَصِرثُمَّ في سورة طَه بشكلٍ مُطَوَّل، ثُمَّ في سورة الأَنبياء بشكْلٍ مُختَصر، وهكذا في سُورةِ الحَجّ. ثُمَّ في سورةِ المؤمنون تكونُ مُتوسِّطة في خمسة أو ستة أسطُر، وهَلُمَّ جَرَّا. حتَّى تأتيَ سُورةُ الشَّعُراء فيُطيل في ذِكْرِ تِلْك القِصَّة، ثُمَّ تأتي سورةُ النَّمْل وتكُونُ مُتوسِّطة، ثُمَّ تأتي سُورة القَصَص ثُّمَّ تُطِيلْ في قِصَّةِ مُوسَى عليهِ الصَّلاة والسَّلام. كُلُّ ذَلِك من أجْلِ أن ينتَبِهَ الــمُؤمِنُون لــِمَا في هذه القِصَّة من العِظات والعِبَر. وفي كُلِّ مرَّة تُذْكَرُ القِصَّة من جهةٍ لا تُذكَرُ فيها المرَّةَ الثَّانية. ثُمَّ أيضاً قِصَّةُ مُوسَى يـُمكِنْ التَّأكُد من أحْدَاثِها من اليَهُود الذِّين يَعيشُون بينَ ظهْرانِي العَرَب فإذا أشكَلَ عليكُم شيْء اسأَلُوهُم هل هذا وقَع لموسى أو لــمَ يَقَعْ؟ لِتَعْلَمُوا أننَّا لا نقُولُ إلاّ حقَّاً. ولذلك قال في أوَّلِ هذه السُّورة (فاسأَلُوا أهلَ الذِّكْرِ إن كُنْتُم لا تعْلَمُون) يعني أهْلَ الكتاب.
 ثُمَّ لــمَّا جاءَ هنا إلى قِصَّة إبراهيم أطَالَ فِيها، ولكنَّه ذَكَرَ جانباً من جَوانِبِها وهي قصَّةُ إبراهيم في تحطِيمِه للأَصنام،وإبراهيم أوَّلُ نَبيٍّ من أنبياءِ الله حطَّمَ الأصنام، وله أَوَّلِياتٌ كثيرة منها:
- أنَّه أوَّلُ مَنْ ضَافَ الضَّيف
-  وأَوَّلُ من ناظَرْ في دينِ الله عزَّوجل فهُو كما يقولُ ابنُ القيِّم: "سيِّدُ الــمُنَاظِرين" كما في قِصَّتِهِ في سُورةُ الأنعام.
 وفي هذه السُّورة ذكَــــرَ الله قِصَّته في مُحَاجَّة قَوْمِه على أُلُوهِــيَّة الأَصْنام. والعجيب أنَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام لِتَفَانِيه في دعوَةِ النَّاس إلى دينِ الله يَسْتَعْمِلُ كُلَّ ما بِوسْعِهِ من الأَساليب من أجل أن يُقنِعَ قومَه، فماذا قال؟ - تأمَّلُوا هذه القِصَّة العجيبة- قال الله في مُقَدِّمتِها: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) قيل: من قبلِ مُوسَى وهَارُون الَّلذَيْن ذُكِرا قبل قليل. وقيل (وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) أيّ من قبل النُّبُوَّة. يعني قبل أنْ يكون نبيِّاً كانَ راشِداً فهُو لــمَ يُشرِك بالله طَرْفَةَ عيْن. ولذلك أكثرُ الأنبياء في القُرآن الذِّين أُكِّدَ أنَّهُم لم يُشرِكُوا بالله هو إبراهيم: *(وما كانَ من الــمُشركين) *(ولــم يَكُ من المُشركين). *واقرَأُوها في سورة النَّحل (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(١٢٣)). فهذا هو معنى الرُّشد هُنا (آتيناهُ رُشدُهُ) أنّه لم يكُنْ مُشْرِكاً. ولذلك كُلّ من وفَّقَه الله عزَّوجل إلى ترك الشِّرك قَصْداً لِقناعته بالتَّوحيد وعِلْمِه به فهُو راشِدْ.
وقيل (وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ) أيّ مِنْ قبلِ البُلُوغ. فهذه الــمناظَرات التِّي حصَلَت له قبل أن يُوحَى إليه، والله أعْلَم.
 قال الله (وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ) عِنْدما نَبَأْنَاه، وَوَضَعْنا فيه النُّبُوَّة كما قال الله عزَّوجل (اللهُ أعْلَمُ حيثُ يجعَلُ رسَالته) فهو لا يجْعَلُها إلاَّ فِيمَنْ يَصْلُحُ لها.
/ ثُمَّ قال الله عزَّ وجلّ (إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) يَسْأَلْ سؤُالاً يستثيرُ به انتباههم يقول لأبيه ولقومه،وبدأ بالأَبّ لِحَقّ الأبّ عليه،وأَحقُّ الحُقوق وأعظَمُها أن تُنْقِذَ أباك من الكُفْر وتُخْرِجَهُ من حظيرة الشِّرك إلى روْضة التَّوحيد.
(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ) سـَمَّاها تماثيل.ما هو التِّمثال؟ الشَّيءْ المصنُوع يُشْبِهُ شيئاً مخْلُوقاً كَمَا تفعَلْ الكُفَّار عِنْدما يَنْحِتُونَ الصُّخُور على شَكْلِ رَجُلٍ أو امرأة أو طَيْر أو غيْرِ ذلك يُسمَّى تمثالاً.
(مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ) التِّي تنْحِتُونها ثُمَّ تعْكُفُون على عبادتها أيّ تُقيمُونَ عليها؟ وهَذا السُّؤال سُؤالٌ فيه دَهَاء:
أوَّلاً: سمـّـَاها تـَماثيل ولــمْ يُسَمِّها آلهة، لِيُبَيِّن أنّها تـَمَاثيل جوْفاء، صَمَّاء،بَكْماء.
ثانياً: وأنتم الذِّين صنعْتُمُوها، وليست هي التِّي صَنَعَتْ نفسها أو أوْجَدَها أحدٌ غيرُكُم، كما لو مثلاً عَبَدُوا طيْراً، أوْ عبَدُوا بهيمةً لَقِيلْ إنَّ هذه خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الله. لكن هذه التَّماثيل أنتُم نَــحَتُّمُوها بأيديكم، كيف يَصْنَع الإنسان مَعْبُودَهُ؟! فالسُّؤال نفْسُه ينْطَوي على جواب. يعني: هذا لا يستَحِقّ أن يُعبَد ولا أنْ يُعْكَف عليه.
 (الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) يعني تَخُصُّونها بالعُكُوف دون أحدٍ سِوَاه وهي لا تستَحِقُّ ذلك. فكان الجواب الأَبْلَه، السَّخِيفْ، السَّاذِج (قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) يعني ما عِنْدنا من حُجَّةٍ ولا بَــيِّنة على عبادتها إلاَّ أنَّا وجَدْنا آباءنا كذلك، أينَ عُقُولُكُمْ؟ (قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) حتَّى ولو كان آباؤكُم يعبُدُونها إذا لم تَعرفوُا وجْهَ كونها مُستَحِقَّةً للعبادة فبأيّ حُجَّةٍ تعبُدُونها؟!
(قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) لأنَّهُ لا حُجَّةَ لَكُم، كَما أنَّه لا حُجَّة لآبائِكُم، بدليل أنَّكُم لا تَعْرِفُون حُجَّةَ آبائِكُم في عبادةِ هذه التَّماثيل، والظَّاهِرْ -الذِّي يُحِسُّهُ ويلْمَسُهْ كُلُّ واحد- أنَّ هذه التَّماثيل مصنُوعة بأيدي البشر لا يُمكِن أن تكونَ آلهةً تُعبَد، ولا أنْ تستَحِقّ أن يُعكَفَ عليها.هؤلاءِ القوم لأنُّهم قد أَخَذتْهُم سكْرَة تعظيمْ هذه الآلهة، فكأنَّ هذا السُّؤال لــمْ يُطْرَح عليهم من قبْل يسألُونَ إبراهيم (قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) بمعنى أنت تسخِر بنا وتحاول أن تجعلْها فلسفة أم أنَّك جادٌّ فيما تقول، تطرَح هذا الكلام بِجدِّية؟! فبيَّنَ لهم أنَّه لا يَهْزَأ ولا يسْخَر، وأنَّها قضيِّة حقيقية وأنَّه يجب عليهم أنْ يُفَكِّروا كما يُفكِّرْ هُوَ، وأن يُوجِدُوا إجابة لهذا السُّؤال الذِّي طَرحْتُهُ عليكم.
  (قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) لا يـَجُوز لي ولا لَكُم إلاَّ أنْ نتوَجَّه إلى الذِّي خلَق السَّماوات والأرض، أمَّا تِـمثالْ نصْنَعُهُ بأيدينا ثُمَّ نسْجُد ونعبُد ذلك التِّمثال كيف يكُون؟! بَـــلْ ربِّي الذِّي يَجب أن أعبُدَه وربُّكُم الذِّي يـجِب أن تعْبُدُوه هُو الذِّي خَلَقَني وخَلَقكُم وخلَقَ من فَوْقنا ومن هو أكْبَرُ منَّا (السَّماوات والأرض)، (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) ليس لنا إلَهٌ غيرُه. يُقال: إنَّه جاء عيدٌ من أعيادهم فدَعَوْهُ للخُروج معهُم، أو كانوا لا يسمحُون لأحَدٍ أن يَبقى في البَلْدة التي هُم فيها بل يأمُرون الجميع بالخُروج الرِّجال والنِّساء والكِبَار والصِّغار. فَذَهَبَ معهُم فَلمَّا كان في الطَّريق تظاهَرَ بأنَّهُ مريض، فقالوا: مَالَكْ؟ قال (إنِّي سقيم) اِختَلَف العلماء في كونه قال (إنِّي سَقيم):
  قيل: إنَّه قال ذلك من باب التَّــورية، يعني ما يخْلُو إنسان من سَقَمٍ يكُونُ فيه لأنَّ ابن آدم من طبيعته الضَّعف والسَّقم.
أو (إنِّي سقيمٌ) منكُم ومن طريقتكُم وعبادتكُم لغير الله.
 أو (إنِّي سقيم) بمعنى سأُسْقَمْ، لأنَّهُ ما مِنْ آدمي إلاَّ وهُو مُعَرِّضٌ للسَّقَم في حياتِه.
وعلى كُلِّ الأحوال فإنَّه قال ذلك في ذاتِ الله، كما أخبَرَ النَّبي صلى الله عليه وسلَّم: "قال لـَـمْ يكذِبْ إبراهيمُ إلاَّ ثلاثَ مرَّات اِثنتَانِ مِنْها في ذَاتِ الله، قوله (بل فَعَلَهُ كبيرُهُم هذا) وقولُهُ(إنِّي سقيم)".ولــمَّا كانَ مع زوجِهِ سارَّة،وذهب إلى مصر عَلِمْ به مَلِكُهَا إلى آخرِ القِصَّة التِّي تعْرِفُونها. عندما عَلِمَ أنَّ مَلِكْ مِصْر لن يَدَعَ هذه المرأة مَعَهُ, فقال لها: إنِّي قُلْت للمَلِكْ أنَّك أختي فأنتِ أُخْتي في الله، وليس في الأرض مسلمٌ غيري ولا غيرُكِ فإنْ سأَلَكِ فَصَدِّقيني،قُولي نعم، هو أَخِي، لأنَّها لو قالتْ هو زوْجي لَقَتَلَها فأرْسَلَها إبراهيمُ إليه فلمَّا هَمَّ أنْ يـَمَسَّها قَبَضَ الله عزَّ وجلّ على يَدِهْ، فقال: إدْعِي الله لي وأترُكُكِ، فَدَعَت الله له، فهَمَّ بها مرَّةً أخرى، فنَشَفَتْ يَدُهْ ثُمَّ المرَّة الثَّالثة، فأمَرَ بإطْلاقِها وقَال لِصَاحِبِهِ: إنَّكَ لم تأتِ بإنسان وإنَّما أتيْتَ بشيطان، ثُمَّ أخْدَمَها هَاجَرْ. يعني هذه الثَّالثة وهي أنَّه وقَى نفسَهُ القتْل بقولِهِ هذه أُختي. وكثيرٌ من العُلَماء يَرَوْن أنَّ هذه الثَّلاث كُلُّها من بابِ المعاريض يعني أنَّها ليْسَت من الكَذِبْ الصَّريح، وإنَّما لها وجْهٌ في ظاهِرِهِ أنَّهُ كَذِبْ وفي بَاطِنِهِ أنّه صحيح، مثل لو قال لَكْ إنسان: أين مُحمَّد؟ أخوك أو ابنك، تقول: ليسَ هاهُنا وتقصِدْ ليس في يَدِكْ، فيقولون: هذا من المعاريض. وهذه المعاريض يستَعْمِلُها الإنسان عند الحاجة، أيّ إذا احتاج إليها، وخَشِيَ على نفسه، أو ماله أو خَشِيَ من الأَذى جَازَ له أن يستعْمِل المعاريض، وهو أنْ يقول كلمةً لها ظاهر وباطِنْ السَّامِع يظُنُّك أنَّك تُريد الظَّاهر وأنت تُريد البَاطِن،مثل لو قال لك إنسان: هل رأيْتَ فُلاناً؟ تقول: والله ما رأيْتَهُ- وأنت رأيته- بمعنى: ما ضَربَتُ رئَتَهُ فهُو يَظُنّ أنَّك ما رأيتَهُ أيّ ما رأيتَهُ بِعيْنِك وأنتَ تُريد مَا رأيْتُهُ أَيّ ما ضَربْتُ رِئَتَهُ كما تقول: والله ما رأيتُهُ، ولا بطَنْتُهُ، ولا جَلَدْتُهُ. بَطنْتُهُ: أي ضَربْتُ بطْنَه وجَلَدتُهُ: أيّ ضَربْتُ جِلْده ورأيْتُه: أيّ ضَربْتُ رِئَته.
 قال (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ) لــمَّا سَقَطْ قالوا: مَالَكْ؟ قال (إنِّي سقيمْ) تَوَلَّوْا عنه مُدْبرين. فلمَّا بَقيَ ضِعافُ القوم أو أواخرهُم قال (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ).وقيل في قِصَّةٍ أخرى: إنَّهم جاؤُوا إليه يقولون له اُخْرُج معنا (قال إنِّي سقيم) ولم يَخْرُج معَهُم فلمَّا تَوَّلُوا قال كلمةً سَمِعَها بعْضُهُم وهي هذه الكلمة. فإن قُلْت لــِمَ قالها إبراهيم؟ لِــمَ سَكَتَ إبراهيم؟ وفي النِّهاية ذهبْ وحطَّم الأصنام، وانتهت القِصَّة. الجواب: إبراهيم ليست قَضِيَّتُهُ أن يَهْدِمَ الأصنام وتنتهي القِصَّة، الأَصْنام بَدَلْها أصنامٌ أُخْرَى أكْبَرُ منها، هُو يُريدْ أنْ يَستَدِلَّ النَّاسُ عليه لِيَقُولَ الحَقّ بينَ يَدَيِّ النَّاس،ولَكِنْ كيف يجْمَعْ النَّاس؟ ليس لديه تلفاز، ولا إذاعة، ولا مُنتدَى أو نادي، ولا مَلْعب كرة قدم يَجْمَع النَّاس فيه حتَّى يقول لهم كلمة الحَقّ. إذاً كانت هذه هي الوسيلة لكي يَـجتمع النّاس فيسمعوا من إبراهيم كلمة الحقّ، لكن لماذا لم يُعْلِنْها أمام النَّاس كُلِّهم؟ لأنَّه لو أعْلَنْها لَقَبَضُوا عليه ومنعُوه، فهُو قالها من أجلِ أن إذا عُرِفَت القضيِّة، قيل: نحنُ سمعْنا فَتىً في البِلَدِ يُقولُ له كيْتَ وكيْت، فيُؤْتَى به للتَّحقيق معه وعنْدها يحصُل لإبراهيم الفُرصة في أنْ يتكَلَّم وأنْ يُبينَ الحَقَّ الذِّي عنْدَه.
(قالَ وتَالله لأَكِيدَنَّ أصنامَكُم بعد أن تُوَلُّوا مُدبرين) وبالفِعْل ذهب إلى أصنامهم فجَعَلها جُذاذاً إلاَّ كبيراً لهُم لعلَّهُم إليه يَرْجِعُون،جَعَلَهُم قِطَعَاً وفُتَاتاً –كُلّ الأصنام- وهذا يَدُلّ على أنَّ إبراهيم كانَ قَوِيَّاً في بَدَنِه، قد آتاهُ الله قُوَّةً في بَدَنِهْ. وممَّا يُؤكِّد هذا الــمَعنى (فَراغَ عليْهُم ضَرْباً باليَمين) [الصافات:٩٣] يَضْرِبْ الأَصنام الــمُكَوَّنَة من الحِجارة الصَّلْبة بِيَدِهِ اليُمنى فيَهْشِمُها،وممَّا يُؤكِّد أنَّه كانَ قَوِيَّاً والمؤمن القَوِيّ خيرٌ وأحَبُّ إلى الله من المؤمِن الضَّعيف قوله تعالى عن إبراهيم (فَراغَ إلى أهْلِه فَجاء بِعِجْلٍ سَمِينْ) [الذاريات:٢٦] أسَأَلُكُم يا إخواني لو كان مَع الواحد منكم صحْن وفيه عِجْل يستطيع الواحِد منَّا يحْمِلُه؟! يحتاج أربعة أو خمْسة من الأشخاص يحْمِلُونه. ممَّا يُؤكِّد أنَّ إبراهيم كان قوِّياً وهذه عادَةُ المؤمن أنَّه يكونُ قَوِيّاً ما لم يمْنَع من ذلك مانِع.
 (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا) لماذا لــَمْ يُكَسِّر إبراهيم الكبير؟ قالوا: لأَجِلِ أن يُوجِدَ أَسْئِلةً عندَ هؤلاء، لأنَّ إبراهيم لــمْ يَكُن مقْصُودُه تحطيمَ الأصْنام فقط، لو كان مقصوده تحطيم الأصنام حطَّمَها وانتهت القِصَّة وعاد كُلّ أحد، ثُمَّ يسأَلُون ما يَجِدُون فيعُودُون ويأْتُون بأصنامٍ أخرى.إنـَّما أرادَ أن يُحَطِّمها في قُلُوبهم، ويُعَرِّفَهُم بأنَّها لا تُغنِي ولا تُسْمِن ولا تَدْفَع ولا تَرْفَع ولا تَصْنَعْ شَيئاً لِنفْسِها ولا تستطيع أن تَضُرّ من يَضُرُّها. فهُو جَعَل الكبير من دُونْ تكسير بل يُقال إنَّه وضَعَ الفأس على عاتِقِهِ، حتَّى إذا جَاء النَّاس تَسَاءَلُوا: من الذِّي حَطَّمَ أصْنامنا وآلهتنا؟ فيقولُ أحدهُم: لعلَّ الذِّي حطَّمَهُما هو هَذا الكبير. فيُقَال له: لا، لا يُمكنْ لأنَّه لا يتحَرَّك، ما يَفْهم، ما يَرى، ما يسْمَع، مِن هذه العَمَلية تَحقَّق لإبراهيم ما يُريد. وقد قُلْت في مَرَّة من الــمَرَّات لَو كُنْت مكان إبراهيم لَحطَّمْتُها جميعاً لأنِّي لا أعْقَل مثل إبراهيم، ولا أفْهَم مثل ما يفهم هذا النَّبي العظيم، نحنُ أحياناً نُريد أن نُلغِيَ الـمُنْكَر في ساعةٍ واحِدة ولا ندْري أنَّ إلغاءَ الــمُنْكَر أحْياناً يتَضَمَّنْ أُسلُوباً، وطَريقةً، وذَكاءً، يُحْتَاجُ إليه، هو الذِّي يَقضِي على الــمُنْكَر. فإبراهيمْ تَرَك الكبير من أجْل أن يتساءَل النَّاس: فيقول أحَدُهُم: لعلَّ هذا الكَبير غَارَ من هؤلاء الصِّغار فهُو لا يُريدُها أن تُعبَدَ معَه ولا يُحِبَّ الشُّركاء فيكُون سبب لاستِثارة الأَسئلة.
أو يقُولْ قائل: من هذا الذِّي حطَّم آلهتنا؟ أينَ هَذا الصَّنَم الكبير لــمْ يُدافِع عن إخوانه؟ فيُقال: إنَّه لا يَستطيع الــمُدَافعة، لأنَّه لا يتحَرَّك،لا يَنْطِقْ، لا يَسْمع، لا يرى، لا يتكَلَّم، إذاً هِي ليسَت آلهة، إذاً هي لا تستَحِقّ أن تُعبَد ولا أن يُعكَف عليها.
 قال (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) لَعلَّهُم يذهبُون إليه ويَسْألُونه: يا كبيرنا، ويا إلهنا، ويا ربَّنا، من الذِّي حَطَّمَ إخوانك وجميع آلهتنا؟ فَمَا يَجِدُونَ جَواباً ولا يسْمَعُون صوْتاً!. (قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا) إذا كَانْ هناك أَحَدْ فَعل هذا بآلهتِكُم إذاً آلهتُكُم ليست آلهة، إذا كانْت آلهتُكُم يُفعَلُ بها إذن هي ليست آلهة، كما قال الله في أوَّل السُّورة (أَمِ اتَّخَذُوا آلهةً من الأْرضِ هُم يُنْشِرُون. لو كانَ فيهما آلهةٌ إلاَّ الله لَفَسَدَتا).
/ (قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ*قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) من الذِّي سَمِعْ هذا؟ هُمْ أُولئك الذِّين كانُوا عنده، عندما قالوا له: اِذْهب معنا إلى العيد، أو أُولئك الذِّين سَأَلُوه عندما سَقَط وقال إنِّي سقيم. قالوا سـمعناه يقول (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) لكِنْ ما ظَنَّنا أنّه يفعلُ ذلك، ما توقعنا أنْ أحداً يجْرُؤ على مقام الآلهة فيُحَطِّمها!.
 (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى) وهذا يَدُلّ على أنَّ إبراهيم في ذلك الوقت كانَ في سِنِّ الفُتُوَّة، في شبابه، وهذا يُبيِّن لنا يا إخواني أنَّ الفِتيان لا يُسْتَهانُ بهم، وأنَّه قد يكُونُ مِن الصِّغار ما لا يكُونُ من الكِبَارْ، وهذا مرَّ بنا في سورة الكهف (إنَّهُم فِتْيَةٌ آمَنُوا بِربِّهِم)، ومَرَّ بنا في سورة مريم (وآتيْنَاهُ الحُكْمَ صَبيِّاً).
قال الله عزَّ وجلّ (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) أيَّ يَذكُرُهُم بِسُوء (يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) هَذا يَدُلّ على أنَّ إبراهيم كانَ غِيرْ مَشْهور ولا مَعْرُوف، ما قالُوا وهُوَ إبراهيم بل (يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) أيّ يُرْوَى لنا أنَّ اسمه إبراهيم، أوْ إمَّا في بداية أمْره أو كانتْ المدينة كبيرة ودعوتُه لازالتْ محصُورة في مجمُوعاتْ من النَّاس قليلة جِدَّاً.
/ (قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) جاءَك يا إبراهيم ما تتمنَّى، إبراهيم كان يُريد هذه القَضِّية، كيف يُجْمَعْ النَّاس له؟ وهذا الذِّي حَصَلْ لِنَبِيّ الله مُوسى في سورة طه، لــمَّا كَفَر فِرْعون (وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آَيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى(56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (٥٨)) مُباشرة ماذا قال موسى؟ (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) أنا أريد اليوم الذِّي يجتمع فيه كُلُّ النَّاس، لا تجعل لي يوماً من أيَّام العمل يكون النَّاس فيه مشغولين في فِلاحتِهم، ومشغُولين في أراضيهم، أريد أن تقوم الحُجَّة على الخَلْق كُلِّهم (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ). ومثلها قِصَّة أصحاب الأُخدود الغُلام لــمَّا قال: اِجْمَع النَّاس في صعيدٍ واحِد، واربِطْني في أصْلِ شجَرة، وخُذْ سهْماً من كِنانتي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في كَبِدِ القَوْس ثُمَّ قُلْ: بسْمِ الله رَبِّ هذا الغُلام فإنَّك إنْ فَعْلتَ ذلك قَتَلْتَني، فالــمَلِكْ فَرِح بالطَّريقة، ونَسِي ماذا صَنَع الغُلام داخِل هذا الكَلام. فَلــمَّا فعل ذلك وقال: بسم الله رَبِّ هذا الغُلام. قال النَّاس: آمنَّا بِرَبِّ هذا الغُلام. سبحان الله! الأَنبياء أصحابْ رسالة يبحَثُون عن مجَامِع النَّاس لِيُبَلِّغُوهُم دِينَ الله.
ومن هنا نقول يا إخواني: أهمية الإِعلام الذِّي الآن تَروْن أنَّا حريصين عليه، نحنُ نُريد نُبَلِّغ الكلمة، ونعلم أنَّ هذه وسيلة تُبَلَّغ بها الكلمة،ويَصِل بها هذا الخير إلى آفاق الأرض مَشْرق الأرض ومغْرِبها.
 قال الله عزَّ وجلّ (قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) يَشْهدون ماذا؟ يَشْهدون مُحاورتنا له أنَّه قال لآلهتنا ما قال، أو فَعل بها ما فعل، أو يَشْهدون عُقُوبَتنا لهذا الأَفَّاك الذِّي اعْتدَى على آلهتنا.
قال الله عزَّ وجلّ حَاكِياً عنهُم (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ) قال الله عزَّ وجلّ عن إبراهيم (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) هذه ظاهرُها الكَذِبْ (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) للعُلُماء في هذه الآية نوعانِ من التَّخريج:
النَّوع الأوَّل: أنَّ مثل هذا لا يُعَدُّ كَذِباً، لأنَّ ما يُعرَف أنَّه لا يَقَع مــمَّن يُنْسَبْ إليه لا يُعَدُّ كَذِباً، فلو جاءَكْ طِفْل وأنْت تكْتُبْ وقال لك: هذه كِتابتك، أوْ هذا خَطُّك؟ قلت: لا هذا خَطُّك. ماذا تقصد؟ نعم هذا خَطِّي. -لاحظُتُم - فهو لا يقصد بهذا أن ينْفي أن يكُونَ خَطَّهُ وإثبَاتُه للطِّفل الصَّغير الذِّي لا يكْتُب ولا يقرأ وإنّـَما يُريد أن يُؤكِّد المعنى: نعم، هُو خَطِّي وليس خَطَّ أحَدٍ غيري. فقوله (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) كيف يفعله، أين عقولكُم؟ نعم، أنا الذِّي فعَلتُه، ولذلك يقول بعضُهُم: هذا وإن كانَ في صُورة الكَذِبْ إلاَّ أنَّ الــمُراد به التَّنبيه عَمَّن لا قُدْرَة له، لا يَصلُح أن يكُونَ إلهاً، ومِثْلُه قول الــمَلَكَيْن لِداود (إنَّ هذا أخِي لهُ تِسْعٌ وتسعون نعجَة ولِيَ نعْجةٌ واحدة ) [ص:٢٣] وهو ليس أخاه وليس له تسعٌ وتسعون نعجة، وليس لأخيه نعجَةٌ واحدة، وإنَّـما كان ذلِكَ من باب ابتلاء داود عليه الصَّلاةُ والسَّلام. ولذلك قال الله (وظَنَّ داودُ أنَّما فتنَّاهُ فاستغفرَ ربَّه وخَرَّ راكعاً وأناب) [ص:٢٤] . ومثلُ هذا كما يقول ابن الجَوْزي - رحمه الله-: لا تُسَمِّيه العَرَبُ كَذِباً. ومن العُلماء من قال: بل هَذا من مَعاريضِ الكَلام - كما قُلنا - في قوله: (إنِّي سقيم) وقوله: هذه أختي، قالوا: هَذا من معاريضِ الكلام. واختَلَفُوا كيف كانَ من مَعَاريض الكلام:
- فأمَّا الكِسَائي فقالْ (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) قرَأَها هكذا (بَلْ فَعَلَهُ) وتوَقَّف ثُـمَّ بَدأ (كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ). بَل فَعلَهُ من هو؟ فَعَلَهُ الذِّي فَعَلَه يعني: أنا، ثُمَّ بدأ فقال: (كَبِيرُهُمْ هَذَا) فَظَنُّوا أنَّهُ يَقول: (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) وهو يُريد فَعَلَهُ الذِّي فَعَلَه يعني أنا ثُمّ بَدأ فقال (كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) وهذا تأْويل وفي نَظَري أنَّه لا يَصِحّ لأنَّ الكلام لــمْ يَكُن بِلُغَة العرب حتَّى يُقال مثل هذا. - وقال الفَرَّاءإنَّما قال (فَـــعَــلَّهْ) أيّ فلَعلَّهُ هُو ولم يقُل (فَعَلَه) وهذا أيضاً مُخَالِفْ لِظاهِرْ الكَلام.
- وأكثرُ العُلُمَاء على أنَّ هذا من بابِ المعاريض، أوْ مِنْ بابْ التَّعليقِ بالشَّرْط (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) يعني إنْ كانُوا ينْطِقُون فالذِّي فَعَلُهُ كبيرُهُم، إذا كانُوا لا ينْطِقُون فكبيرهُم لم يَفْعَلُهُ.
 - إذاً من العُلماء من يَرى أنَّ ظاهِرُهُ وإنْ كانَ كَذِباً إلاّ أنَّه ممَّا لا تُسمِّيهِ العَرَبُ كَذِباً لأنَّ السَّامع يَعلم خلاف ظاهِرْ الكلام.
- ومن العُلمَاء من قال: إنَّ هذا من المعاريض واخْتَلَفُوا: فمنهم قال (بَلْ فَعَلَهُ) ثُمَّ سكَتْ (كَبيرُهُم هَذا). وقال الفَرَّاء: (بَلْ فَعَلَّهُ) أيّ فَلَعَلَّهُ (كَبيرُهُم هذا)، وأكثَرُهُم الذِّين قَالُوا إنَّه من المعاريض قالوا: إنَّه علَّقَ على الشَّرط فقال (إنْ كانُوا ينْطِقُون فَعَلَهُ كبيرهُم هذا) والله أعلم. وعلى كُلّ الأحوال فإبراهيم لــمْ يَقُلْ هذا إلاَّ من أجْلِ أن يستَنْطِقَهُم، ويَدُلَّهُم على الحَقّ ، قال (فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ).
/ قال الله عزَّ وجلّ (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ) إمَّا أن يكون رَجَعُوا إلى أنفُسِهم كُلّ واحِدْ جَلَس يُفكِّر، فتكُون (أنْفُس) هنا حقيقية أيّ كُلَّ واحِدٍ رَجَعَ إلى نفسه.وإمَّا أن تكُون (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ)  أيّ رَجَعُوا إلى بعْضِهِم، لأنَّه تَرِدُ النَّفْس في القرآن كثيراً بِـمعنى البَعْض. كما قالَ الله (ولا تَلمِزُوا أنْفُسَكُم) قال الله (ولا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُم) أَيّ لا يقتُل بعْضُكُم بعضاً وعلى أيِّ الحَالَيْن، فالمعنى واحِد.
(فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) بالفِعْل كيفْ تعْبُدُون من لا يتكلَّم، من لا يسْمَعْ، من لا يُبْصِرْ، مِنْ لا يُدَافِعْ؟ أَوْ (فقالُوا إنَّكُم أنتُم الظَّالمُون) عندما تَرَكتُم آلِهَتِكُم من غيْر أن يكُون لها حَارِسٌ يَحْرُسُها، لأنَّ هذه الآلهة تحتاج من يَحرُسُها ويَحْفَظُها، ويَقُومُ عليها، آلهة بشكْل آخَر تُخْدَمْ، ولا تَخْدِمْ، تُنْفَع ولا تَنْفِعْ.
 قال الله عزَّ وجلّ (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) أدْركَتْهُم حيْرَةُ سُوْء- كما قالَ قَتَادة رحمه الله تعالى- يعني يُفَكِّرُون كيف يُجِيبُون إبراهيم؟ لَقَد بهَتَهُم إبراهيم بِشَيْءٍ ما تَوَقَّعُوهُ، وأعطاهُم درْساً لا يُمـْكِن أن ينْسَوْه، درْس عَمَلِي في الحياة، اِستطَاعَ إبراهيم أن يُقْنِعَ الأُمَّة كُلَّها بأنْ هَذه الأصْنام لا تستَحِقّ أن تُعْبَد. ثُمَّ نُكِسُوا على رؤوسِهِم فَقَالُوا (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ) أنْتَ تَعرِفْ يا إبراهيم أنَّ هذه الأصْنام لا تَنْطِقْ. وقيلَ (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) أي انقَلبُوا على إِبراهيم يَحتَّجُون عليه كالذِّي جَعَلَ رأسَهُ في أسْفَلْ الأَرْض وكأنَّه لا يعْقِلْ ما يتكَلَّم بِه. فقَــالُوا لإبراهيم (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ) هُنَا نَزلَ إبراهيم عليهم بكَلامٍ صَارِخٍ قَوِّي يُؤنِّبُهُم ويُعاتِبُهُم ويقول لهُم: أينَ عقُولُكُم؟ (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) إِبراهِيم ما قال هذا الكلام في أوَّلِ الأَمْر، بَـــلِ اِستأْنَى إلى أنْ أَظْهَر لهُم بالدَّليل القَاطِعْ والبُرهَان السَّاطِعْ والحُجَّة الـمَلْمُوسَة العَمَلية التِّي يَراها كُلُّ النَّاس،الأَصْنَام مُكَسَّرة يَـمين ويسار، وهذا الصَّنَمْ الكبير على عاتِقِهِ فأْس، والنَّاس تُشَاهِد هذا المشهد الذِّي لَــمْ تَتوَقَّع أن تُشاهِدَهُ في حياتِهم، وعنْدما يَصِلْ إبراهيم إلى النتيجة التِّي كان يبْحَثْ عنها وهُو أن يُقنِعْ هؤلاء بأنَّ هذه لا تَستَحِقّ أن تُعبَدْ قال (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أينَ عقُولُكُم؟ عندَ ذلك لَمْ يَبْقَ في وُسْعِهِم إلاَّ شيءٌ واحِد يَلْجَأْ إليه الظَّالــمُون في كُلِّ الأحوال، في كُلِّ الأزمان، في كُلِّ الدُّوَل، في كُلِّ العُصُور، كُلَّمَا جَاءَت شمسُ الحَقّ وبَهَرَت أعيُنْ هؤلاءِ الــمُبْطِلين، لَجَأُوا إلى مَنْطِق القُوَّة الــمَادِّية فقط. أمَّا الحُجَّة والبُرهان والدَّليل فإنَّهُم لا يستطيعون لأنَّ الله جَعَل النَّصْر في كُلِّ الأحوال بالحُجَّة لأهْلِ الحَقّ. فماذا قالوا؟ (قالوا حَرِّقُوه وانْصُروا آلهَتِكُم إنْ كُنتُم فَاعِلِين) لَعَلَّنا نأتِي إنْ شاء الله إلى إتْمام بقيِّة هذه القِصَّة في المجْلِس القادِم.
أسأل الله سبحانه وتَعالى بِـمنِّه وكَرَمِه أن يُفَقِّهنا في الدِّين، ويُعَلِّمُنا تأويلَ الكتاب الـمُبينْ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّم وبَارَك على نبيِّنا مُحمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم أجمعين.

 المجلس الثاني:
 (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴿٦٨﴾ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴿٦٩﴾ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ ﴿٧٠﴾ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ﴿٧١﴾ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ
﴿٧٢﴾ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ﴿٧٣﴾)
 الحمدُ لله والصَّلاةُ والسَّلام على رسُولِ الله وآله وصحبه ومن والاه أمَّا بعد.
فهذا هو المجلس (الخَامِسْ) من مجالسِ التَّفسير لِسُورةِ الأنبياء، في هذه الدَّورة المباركة (دورة الأُتــرُجَّــة) الــمُقَامة في جامِع الشَّيخ محمد بن عبدالوهَّاب- رحمه الله- بِحيِّ الخليج في مدينة بُريدة، وهذه اللَّيلة ليلة الخامس والعِشرين من شهرِ شوَّال من عامِ ألْفٍ وأربعمائة واثنين وثلاثين بعد الهجرة. وقد وَصَلْنَا إلى قَوْلِ الله عزَّ وجلّ فى قِصَّة إبراهيم عندما حَطَّم الأصنام (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ)
بيَّنْا فى المجلس الماضي أنَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام لــمَّا حطَّم الأصنام، جاءَ قومُه فانبَهرُوا لِــمَا حصل لها وسألُوا عمَّن فعل هذا بها فقال من سِمِعَهُ يقول (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ)، (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) يعني يذكُرُهُم بِسُوء (يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ*قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ) فَأُتيَ به على أعين النَّاس، ثُمَّ لــمَّا أقنعهُم إبراهيم أنَّ هذه الأصنام لا تستحق أن تُعبَد لأنَّها لا تَسْمع، ولا تنْطق، ولا ترى، ولا تَنْفع، ولا تَدْفع.قال الله عزَّ وجلّ مُبيِّناً ماذا قال إبراهيم بعد هذا المشهد (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)) عند ذلك قالَ القوم حرِّقوه وانصروا آلهتكم، وهذه هي طريقة الظَّالمين، المجرمين فى كل زمان وفى كُلِّ مكان لا يستطيعون أن يُقابِلوا الحق بالحُجَّة، لأن الحقّ واحد، والحُجَّة ساطعة، لا يستطيع أحدٌ أن يَرُدَّها (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ) [الصفّ:٨] ما يمكن، الإنسان يا إخوانِي يريد أن يُطفِئ الشَّمس، هل يستطيع؟ ما يستطيع، لو بَذَل الذِّي بَذَل. نعم يستطيع أن يَضَعْ أصابِعَهُ أمام عينيه فلا يَرى الشَّمس هذا يُـمْكنه، لكنَّها لا تنطفئ الشَّمس بذلك، وهكذا الحُجَّة والحَقّ، لا يـُمْكن لأحدٍ أن يُطفئَهُ بكلمة، أو كلمات، أو أن ينفُخَ عليه أو أنْ يَرُدَّه بِشُبهة أو غيرِ ذلك. ولِذلِكْ يَلجأ أهلُ الباطل إلى أُسلُوبٍ واحد معروف عندهم -تَقدَّم معنا في سورة طه- عندما فَعَل فرعون بالسَّحرة ما فعل:
 - (إِنَّ هَـذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)
- (قال آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) ما عند فرعون إلاّ هذا.
فجاء منطق القُوَّة، ماذا قال هؤلاء؟ (حَرِّقُوهُ) هذا الرَّجل يعتبر عندنا عنصر فاسد ما عنده شيء من الوطنية، لماذا؟ لأنَّه إنسان لا يؤمن بما يُؤمِن به المواطنون، ليس فقط لا يُؤمِن بالحقّ، بل لا يؤمن بـما يؤمن به المواطنون والآباء السَّالفون.
 فقال الله عز وجل عنهم (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ) بدل أنْ نطلُب النَّصر من الآلهة صِرْنا نحن ننْصُر الآلهة (إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ) وبالفعل جمعوا له حطباً كثيراً حتى إنَّهم يُقال جلسوا أربعين يوماً وهم يجمعون الحَطَب، والمرأة إذا أصابها شيء من المرض نذرت إن شَفَتْها الآلهة أن تَجمع حطباً لإحراق إبراهيم، فلمَّا اجتمع ذلك الحَطب الكثير أضْرَمُوا النَّار، وألقوا إبراهيم بالمنجنيق من شِدَّةِ حَــرِّ النَّار. وعندما أُلقيَ جاءه جبرائيل فقال له: هل من حاجة يا خليل الرحمن؟ قال أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم، وقال إبراهيم لحظتَها حسبى الله ونعم الوكيل (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:١٧٣] قالها إبراهيم حين أُلقى في النَّار، وقالها محمد صلى الله عيه وسلم حين قيل له (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ). عند ذلك أمَرَ الله النَّار بقوله -وهو ربُّـها- (يا نــار كُونــِي بَرْداً)، يُقال: إنَّه انطفأت كُلُّ نارٍ في الدُّنيا لأنَّ الخِطاب كان عامَّاً (يـــا نـار) ما قال "يا أيُّها النَّارُ التِّي على إبراهيم كُوني" بل قال (يا نــار) فَكُلّ نار سَمِعَتْ هذا الكلام، (كُـــونِي بـــَرْداً) ولــمْ يقف، ولو قال (كُــونى بــَرْداً) لَقَتَلَتْ إبراهيم من شِدَّة بَــرْدِهَا، لكنَّهُ عَطَف فقال (وسَلاماً) فَبَردُها لا يُــؤذِي إبراهيم بل يُسَلِّمُهْ. (على إبراهيم) لَــمَّا قالْ على إبراهيم عَادَت كُلُّ نار إلى ما كانت عليه إلاَّ النَّارُ التي كانت مع إبراهيم انُظُروا القُدرة الإلهية، أيُّ الإلهيْن أعظم؟ الإلــــــه الذِّي يُقال فيه اُنْصُروا آلهَتِكُمْ أو الإِلـــــــه الذِّي يقول (يـا نـار كـونِـي بـرداً وسَلاماً) على إبراهيم فتَسْتجيب كُلُّ نــارٍ في العالَــمْ، وتَنْطفئ في تلك اللَّحظة استماعاً، واستجابةً، ورهبةً، لتلك الكلمة الرَّبَّانِيَّة؟.
 (وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ) جَعلْناهم الهالكين، يُقال إنَّ الله سلَّط عليهم البَعُـوض فأَهْلَكَهُم.
/ (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُــوطاً) أمرهُ الله بالهجرة، فأوَّل من هاجَــر مِن عباد الله الصَّالحين، وأنبياءِ الله هو إبراهيم قال (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً) لأنَّه ما آمَن معه من قومِه إلاَّ قليل، يُقال ما آمن معه إلاَّ لُوط، وفى سورة العنكبوت قال الله عزَّ وجلّ (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ (26)) ولُوط كما يقولُ كثيرٌ من المؤرخين هو ابنُ أخِ إبراهيم.
(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) وهِيَ أرضُ الشَّام على الصَّحيح من أقوالِ أهل العلم لأنَّه قد ثَبَتَ وصْفُ تلك الأرض بأنَّها هي (الأَرضْ الـــمُبَارَكة) (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) [الإسراء:١] قال (بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) وأكثرُ الرِّسَالات في تِلْك البُقْعة.
 قال (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) لَــمَّا هَجَرَ قومه وترَكَهُم أَخْلَفَهُ اللهُ عزَّ وجلّ بأنْ جَعَلَ لَهُ ذُرِّية وهو إسحاق وجَعل له أيضاً إسماعيل، وجَعَلْ مِنْ بعد إسحاق يعقوب، ولذلك قال هنا (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) أي وزِدْناهُ أيضاً يعقوب، وسُمِّيَ يعقُوبُ (يعقوباً) لِكَثْرة عَقِبه، فَكُلُّ بني إسرائيل من يعقوب الذِّي يُسمَّى إسرائيل وكُلُّ أنبياءْ بني إسرائيل مِنْ يعقُوب عليه الصَّلاة والسَّلام، الذِّي وُلد له إثنا عَشَرَ ابناً، وقِصَّتْهُم معروفة فَكُلُّ أنبياء بني إسرائيل من هذا النَّبي.
قال (وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ) كُلاًّ من إبراهيم وإسحَاقْ ويعقوب جَعلْهُم الله مِنَ الصَّالحين.
/ (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا) يَدُّلُون النَّاس إلى اللهِ عزَّ وجلّ.
(وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) أنواعْ القُرُبَات والطَّاعات
 (وَإِقَامَ الصَّلَاةِ) أيّ وإقامة الصَّلاة لكن حُذفت التاء تخفيفاً للإضافة (وَإِيتَاء الزَّكَاةِ*وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) تأمَّلوا هذا الوَصْف يا إخواني في سورة الأنبياء تردَّد كثيراً وهو أن يُوصَف الأنبياء بكثرة عبوديتهم لله، هذه هي حقيقة الأنبياء أنَّـهُم عبادٌ لله حقّاً، وأنّـَهم يجتهدون في عبادة الله، ولذلك يستجيبُ الله دعاءهم، ويَنْصُرُهُم، ويُؤيِّدُهُم،وينتَقِمُ لهُم مــمَّن ظَلَمَهُم،ويجعلْ الخيْر بين أيديهم، ويُهيئْ لهُم أسبابَ النَّصْر... إلخ.
/ قال (وَلُــــوْطاً) أيّ الذِّي هَاجر مع إبراهيم وهُــوابن أخيه (آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً) والحُكْم والعِلْم إذا اجْتَمَعا كثيراً في القُرآن دلَّ ذلك على النُّبُـــوَّة أيّ المعنى بالحُكْم يعنى الفَهْم، والعِلْم أيّ العِلْم الذِّى يُورِثُهُ الله عزَّ وجلّ من يَشاء من عباده.
(وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ) التِّي أُمِرَ أن يذهَبَ إليها ليُبَلِّغَهَا دينَ الله وليس فيها أحدٌ من قومه قَال النبي صلى الله عليه وسلم "ما بَعَث الله نبيِّاً بعد لُوط إلاَّ في مَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِه" لأن لوط بُعث فى غير قومه، ولذلك اِستضعَفُوه وآذَوْه وجاؤُوا يُريدون فعل الفاحشة في ضيوفه، وعرض عليهم أن يُزوِّجَهُم بناته لأنَّه ليس لديه قُدرة في أن يـمتنع منهم (قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود:٨٠] يعني لو عندي شيءْ أركَنْ إليه، سبحان الله!.فقال اللهُ عزَّ وجلّ (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ) منها أنهم يأتون الذُكران من العالمين، ومنها أنهم كانوا يقطعون السَّبيل، ويأتُون في ناديهم المنكر، وغير ذلك من أعمالهم المنكرة الفاحشة.
(إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ) خَارِجين عن طاعة الله.
 (وَأَدْخَلْنَاهُ) هُو أي لُوط (فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).
/ ثم انتقل إلى قصة نوح عليه السَّلام فقال (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ) نادى من قبل إبراهيم ولوط (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) لاحظوا عندما قال (نَادى) عقَّبَها بقوله (فَاسْتَجَبْنَا) للدَّلالة على سُرعة الاستجابة لأنَّ الذِّي يُنادي نوح وهو رسولٌ من رسُلِ الله العِظام، وهو ينادي مَن؟ قال (إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ) نادَى ربَّه مُسْتغيثاً مُسْتجيراً من هؤلاء القوم الذِّين اِسْتنكفواواستكبروا عن عبادةِ الله (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً) [نوح:٧]. ثُمَّ قال (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً) [نوح:٢٧] فاستجاب الله لَه وأغْرق قومه كُلُّهُم إلاَّ مَنْ آمن.
 قال (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ) أيّ الذِّين آمنوا من أهله لأنَّ ابنه وامرأته لــم يكونوا من أهله (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [هود:٤٦].
قال (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ منَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) وهو الطُّوفَان الذِّي عمَّ الأرض كُلَّها (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) أيّ مَنعناهُ من القوم الذِّين كذبوا بآياتنا. قال بعضُ المفسرين (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ) أي "على" القوم فجعل "مِنْ" بمعنى "عَلَى".
(إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) فَلم يجعلِ الله فيهم أحداً،ونَــجَى نُــوح والــمُؤمِنُون معه ومَنْ أمَرَهُ الله عزَّ وجلّ بأنْ يحملهُم معه وهو أنَّه حَمَلَ مِنْ كُلٍّ زوجين اثنين من النَّمل، والبَعُوض، والدَّواب، والــمَاعِزْ، والإبل، والبَقَر، والأُسُود، والنُّمُور، والفُهُود، والقِطط وغيرها حَمَلَها مَعَه في السَّفينة لِيَبقى أُصولُ هذه الأنواع. فلمَّا اِنتهى الغَرَق (وقِيلَ يا أرضُ اِبْلعى مَاءَكِ وياسـَماءُ أقْلِعي) [هود:٤٤] نَــزلَ نوحٌ ومَنْ مَعَه ونَــزلَت هذه الحيوانات فَدَبَّتْ فى الأرض، ودَبَّت معها الحياة.
/قال الله عزَّ وجل (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ) أي اُذكر قِصَّة دوواد وسُليمان إذْ يحكُمَان في الحَرْث أي يقضِيَانِ فى أَمْرِ الحَرث وهو الزَّرع (إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) النَّفش هو: أنْ تنتشر الغنم في اللَّيل فتأتي إلى الزَّرْع أو إلى الكَلأْ فتأْكُلَهُ. قال العُلماء النَّفش هو الرَّعْيُ ليْلاً، والهَمْلُ أو السَّرحُ هُو الرَّعيُ نـَهَاراً، نَفَشَت أي رَعَتْ ليلاً.
(إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) فَأَكَلَتْ الزَّرع كُلَّه فجَاؤُوا إلى دَاوود يحتكِمُون إليه فقضَى داوود عليه الصَّلاةُ والسَّلام باجتهاده وقال: يا صاحبَ الغَنمْ أعطِ غَنَمكَ صاحِبَ الزَّرع وانتهتْ القَضِيَّة، فقال سُليْمان: يا نبيَّّ الله أوَ غيرَ ذلك؟ قال وما هو يا بُنَيّ، قال: يأخُذُ صاحبُ الحرث أي -صاحب الزَّرع- يأخُذُ الغَنَمْ فينتَفُعُ بِـها يشربُ من لَبِنهَا، ويستفيدُ من أَشْعارها ومِنْ أولادها، ويُعطَى صَاحبُ الغَنَم الزَّرع فيَزْرَعُه، فإذا كانَ في مثل تِلْكِ اللَّيلة التِّي نَفَشَتْ فيها الغَنَم سَلَّمَ صاحبُ الغَنم الزَّرع للمُزارِع واستلَم صاحبُ الغنمُ غَنمَه، وكان هذا اِجتهاداً عظيماُ لأنَّه لا ضرر فيه على الطَّرفين وإنَّـما فيه أن يُدارُ َالضَّرُر بِقَدَرِه.
قال الله عزَّ وجل (وكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ) أيّ شَهِدْنا حُكْمَ داوود وسُليْمان.
/ قال (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ) أيّ أعْطيْنا سليمان فَهْم تلكّ القضيِّة وهَذا يَدُلّ على أنَّ القاضي إذا قَضَى باجتهاده فأَخْطَأ، أنَّه لا تثريب عليه.(فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) لاحِظُوا مَدَحَ سُلَيمان ولــَمْ يَذُمَّ داوود بل مَدَحهُ بالحُكْم والعلم، لكنَّ الكَمَال عزيز والله عزَّ وجلّ فــَرَّقَ بين العباد، فسُليمان اجتهد وأبُوه داوود اجتهد، لكنَّ داوود اجتهد فلم يُصِبْ وجْهَ الحَقّ، وسليمان اجتهد فأصَابَ وجْهَ الحقّ فَلِذاك أجْرٌ واحدٌ على اجتهاده ولِهذا أجْران على اجتهاده وإصابته.
قال الله عزَّ وجلّ (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ) يُبيِّن فضَائل داوود عليه الصَّلاةُ والسَّلام سخَّر الله مَعهُ الجبال يُسبِحْن فإذا سبَّح سمِعَ دَوِيَّ الجبال وهِيَ تُردِّد معه (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) ردِّدي معَه الذِّكْر فيتَحمَّسْ داوود ويُطَرِّبْ، وكان ذا صَوْت عذبٍ نَدِيّ إذا سَـمِعَهُ كُلّ شئ أَصْخَى حتى الطَّيْر، ولذلك قال النبي صل الله عليه وسلم في أبي مُوسى لــمَّا ســمِعَهُ وهو يتلو قال: (قَد أُوتيت مزماراً من مزامير آل داوود). فياليتنا سَمعنا مزامير آل داوود، وعرفنا كيف هي، حتى نعرف ما أصواتنا قريبةٌ منها أو بعيدة.
قال (وَالطَّيْرَ) تستمِعُ له (وَكُنَّا فَاعِلِينَ) أي نَقْدرُ على ما نريده. يقولون أنَّ الطَيْر يَقِفْ في السَّماء إذا ســمِعَ داوود عليه الصَّلاةُ والسَّلام وهو يُسَبِّح يَقِفْ في السَّماء ويُـــرَدِّد مع داوود عليه الصَّلاةُ والسَّلام، آية من آيات الله!.
/ قال الله عزَّ وجلّ (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ) أي علَّمناه صَنعةُ الدُّرُوع فأوَّلُ من صَنعَها على هذه الشَّاكِلة حِلَقاً تُحيطُ بالجَسد وكانت قبلَ داوود ألْواحاً إمَّا أنْ يكونَ لَوْحاً فِي الأَمَام، ولَوْحاً في الخَلْف جعلها داوود عليه الصَّلاةُ والسَّلام حِلَقاً صغيرة فيَلبَسُهُا الــمُقاتل فإذا ضَرَبَهُ سيْفٌ أو أَصَابَهُ سَهْمٌ، ردَّهُ الحديد من النُّفُوذْ إلى الجسد.
 قال (لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ) أي من الــحَرْب،(فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ) نعمةَ الله عزَّ وجلّ التِّي أَنْعَمَها عليْكم بتعليمِكُم مِثْل هَذِه الصَّنعة؟.
 ثُمَّ قال (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ) أي جَعلَ الله عزَّ وجلّ وسَخَّرَ له الرِّيح فسليمان سُخِّرت لَهُ الرِّيح لأنَّه كانَ مَلِكاً من مُلُوك الأرض العِظَام فجعل الله عزَّ وجلّ لَهُ الرِّيحَ مُسخَّرة، وذلك استجابة لدعائه عندما قال (وهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) وكانَ مــمَّا وهبه الله عزَّ وجلّ أنْ سَخَّر لَهُ الرِّيح وسَخَّر لَهُ الشَّياطين يَعملُون بأَمْره. كما قال الله عزوجل في هذه الآية (وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ).
(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً) أَيّ قوِّية شَديدة الـــهُبُوب (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) لأنَّها تَذْهَبْ فِي غُدُوِّها مسيرة شَهْر كَامِلْ أي مسيرة شهر تذهَبُهُ في الغَداة في الصباح وترجِعكما قال الله (غُدُوُّها شهْرٌ ورَواحُهَا شَهْر) أي مسيرة شَهر تقْطَعُهُ فى المساء. فإنْ قلتْ الطَّائرات قَدْ تفعل أكثر من ذلك أي تنقُل النَّاس مثلاً من دمشق أو من بيت المقدس إلى صنعاء في ثلاثْ ساعات، نقول نعمْ الطائرة كمْ تحمل؟ أربعمائة، خمسمائة، ألْف، لِنَقُل ألف، هذا يحمِلُ جُنودَه كُلُّهُم ومـَمْلكته، يَضعَهُم على ظَهرِ لوحٍ من الخَشَبْ ثم تأتي الرِّيح فتحمِلُهُم جميعاً، فتذهب أُمَّة كاملة من البَشَر تَسيرْ فِي غَداةٍ واحدة مَسيرة شَهر ثم تعود في ذلك اليوم إلى المكان الذِّي جاءت منه وهي الأرض المباركة. قال الله عزَّ وجلّ (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ).
/ (وَمِنَ الشَّيَاطِينِ) أي سَخَّرنا لِسليمان مِنَ الشَّيَاطِينِ (مَن يَغُوصُونَ لَهُ) أي فى البِحَار فيأتُونه باللآلئ والجواهِر والدُرَرْ.
 (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ) أي غيرَ ذلك وسِوَاه (وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) أي أن يخرجوا عن مُلْكِ سليمان نحفُظُهُم فَلا يـَخرُجُوا عن مُلْكِه ولا يَتمَردُّوا عليه، أو نحفظهم فلا يُفسِدُوا شيئاً مِـمَّا عَمِلُوا.
/ قال الله عزَّ وجلّ (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يعني اُذْكر أيوب إذ نادى ربه، كل هذا يا إخواني يـَجرى فى فضائل الأنبياء،ونِعَمِ الله عليهم، ومكانتِهِم عند ربِّـهم سبحانه وتعالى وإكرامِ الله لهم، ولهذا سُمِّيَتْ هذه السُّورة سورة الأنبياء.(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ) متى؟ عندما مَسَّهُ الضُّرّ واشّتدَّ به البَلاء فماذا قال؟ قالَ بِكُلِّ أدَبٍ مع الله (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ما قال أَزِلْهُ عني ولا ارْفَعْهُ مِنْ بدنِي، قال (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لأنَّ أيُّوب كانَ رَجُلاً تاجراً كان صحيح البَدَن كان كثير المال والعِيَال، فيُقالْ إنَّ إبليس قال لو سَلَّطْتَنِي يَاربّي على أيُّوب لفَتَنْتُهْ، فقيل له: دُونَكِ إيَّاه -وهذه طبعاً من قَصَصْ بنِي إسرائيل التِّي لا تُصَّدَق ولا تُكَذَّب- فَالــمُهِمّ سَلَّطَهُ الله على مَالِه فَأحْرقَهُ كُلَّه وعلى أنْعامِه فأهْلكَهَا كُلَّها ولا يزيدُ أيوب إلاَّ على أنْ يَسْترجع ويَـحمد الله. ثُمَّ سَلَّطَهُ على أولاده فأهلكهم جميعاً ولا يزيدُ أيوب إلاَّ على أنْ يحمد الله ثم قال: سَلَّطْنِي ياربّي على بدنه، فنفَخ في قَدَمِهِ، فأُصيب بِحِكَّةٍ عظيمة حتى أنْتنَ منها جِسْمُه، وكَرِهَهُ النَّاس وأَنِفُوا منه حتَّى إنَّهُم جَعلُوه في أطْرَف المدينة ولم يبقَ معه أحد يَخْدِمُه إلاَّ امرأته.قالوا فى ذاتِ يومٍ من الأيام جاءَه أخوانِ لَهُ فلمَّا قَرُبا منه لــمْ يُطيقا أن يدنوا منه من ريِحه، فقالوا والله ما أصاب أيوب الذي أصابه إلا مِنْ ذنْبٍ قَدْ كانَ منه، فغارَ أيوب، غار لــمَّا سَمِعْ هذه الكلمة، قال اللَّهُمَّ إنَّك تعلم أنِّي لــَمْ أبِتْ يوماً شَبْعاناً وأنا أعلمُ أحداً من عبادك جائِع إلا وأطعَمْتُه، وأنِّي لــَمْ أبِتْ ليلةً مُكْتسياً وأعلم أحداً عارياً من عبادك إلاَّ وكَسَوْتُه، اللَّهُمَّ إنِّي أسألُك أنْ تُصَدِّقَنِي، فَسَمِعَ صَوْتاً فَصُدِّق إنَّ أيوب قد صَدَقْ فيمَا قال، عندها سَجَد وقال (رَبِّ إنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وعند ذلك نزل عليه فــرج الله عزوجل عندما قيل له (هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ) فأَخَذَ الــماء وغَسَل به جِسْمِه فَشُفِيَ.
/ ثُمَّ قال الله عزَّ وجلّ لَه (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ) آتاهُ اللهُ أهْلَه ومثلَ أهله معه.
قِيل إنَّه رَدَّ عليه مَن مَات من أهْله وهذا هو ظاهرُ الآية. وقيل: إنَّه قيل له إنْ شِئْت أحيْيناهم، وإن شئت اِسْتبقيْناهُم لَكَ في الجنَّة، قال بل اِسْتَبِقْهُم في الجنَّة فأَعطاهُ الله مثلهُم في الدُّنيا.
 قال (رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا) بعبدنا الذِّي صَبَر وهُو العَبدُ الذِّي شَهِدَ الله له بالصَّبر لأنه قال (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) هَذهِ الشَّهادة ما اِسْتحقها أيُّوب إلا بصبرٍ عظيم. يُقال إنَّه بَقِيَ فيه البَلاء يتكفَّؤهُ مِنْ كُلِّ جِهة ثمانية عشرَ عاماً وهو لا يَزداد مع كثرة البلاء إلا ذكراً لله تعالى، بل ولا يَدْعُو الله عزّ وجل برفعِ البلاء عنه، حتى إذا اشْتدَّ عليه الأمر قال تلك الكلمة (إنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
قال الله عزوجل (رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) ذكرى لــمَنْ يعبُد الله حَقاًّ ويستكثرُ من عبادته أننَّا نستجيبُ له دعاءه إذا دَعَانا، فَهِي مَوْعظة للعِابِد. ولذلِك يا إخواني تعرَّف إلى الله في الرَّخاء يَعْرفك في الشِّدة، إذا دَعَوْتَ الله عزَّ وجلّ دُعاء الــمُضطَــر قالت الملائكة ياربّ هذا عبدُك يستغيثُ بِكْ فيُقال: هذا صوتٌ مَعرُوف من عبدٍ معروف، وإذا كان الرَّجُل لا عَهْدٌ له بعبادة الله فاضطُـرّ فدعا الله في الضَّرورة قيل: هذا صوتٌ مَعروف من عبدٍ غير معروف،لأنَّه ما يُعرَف بعبادة الله عزَّ وجلّ.
/قال (وَإِسْمَاعِيلَ) وهو ابنْ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام من غير سَارَّة ولكنَّه مِنْ هاجَر.
(وَإِدْرِيسَ) وهُو الذِّى تقدَّم في سُورة مــَرْيَم.
(وَذَا الْكِفْلِ) اُختُلف فيه هل هُو نبيٌّ أو رجُل صالح؟ وقَرْنُهُ بالأنبياء يَدُلُّ على أنَّه نبِيّ واختُلُف في تسْميته ذا الكِفْل، فيُقال إنَّه تكفَّل لِنَبِيٍّ بُعِثَ في قومه أنْ يحكمَ فيهم بالحقّ وألاَّ يَغضَب إذا استُقضِي فقامَ بالأَمانة فسُمِّيَ ذا الكِفْل، وقيل إنَّ رجلاً كان يُصَلِّي لله في اليوم واللَّيلة مائة ركعة فلمَّا مَات قامَ رجلٌ شابٌ من قومه، فقال أنا أتكفَّلُ بمثل عبادته فَسُمِّيَ ذا الكِفْل.
قال (كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ) أي كُلُّ هؤلاء من الصَّابرين.
/ قال (وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا) أي في جَنَّتنا (إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ) أي بسبب أنهم من الصالحين.
/ ثم قال الله عزَّ وجلّ (وَذَا النُّونِ) اُذكر يا محمد خبرَ ذي النُّون وهو يُونُس ابن متى الذِّي بُعِث إلى نَيْنَوى قرية من قُرى العِراق
(إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) خرجَ من قومه غاضباً لأنَّهم لم يستجيبوا لدعوةِ الله التِّي دعاهم إليها.(فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) قال العُلماء (فَظَنّ أنْ لن نقدِر عليه) أي أن لَن نُضيِّق عليه كما قال الله عزَّ وجلّ (ومن قُدِرَ عليه رزقُه) أي من ضُيِّقَ عليه رزقه. ظَنَّ ذو النُّون أنَّ الله لن يُضيِّق عليه فضيَّق الله عليه، لماذا؟ لأنَّه خرج من قومه قبل أن يستأذِنَ ربَّه، لأنه لا يَحِلَّ للنبِيّ أنْ يَدَعَ قَوْمه حتَّى يَأذَنَ الله له بالخُرُوج، فهو استعجل بالخُروج عليه الصَّلاة والسلام. وقيل (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) أي لن نُقَدِّرَ عليه العُقُوبة، ولا ينْبَغي أن تُحمَل الآية على معنى (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) أيّ ظَنَّ أنَّ الله لا يقدرُ عليه لأنَّ هذا لا يَظُــنُّــهُ آحادُ المؤمنين فكيف بِنَبِيّ من أنبياء الله!. ولذلك يُقال إنَّ معاوية بن أبى سفيان لــمَّا جاءه ابن عباس قال: يا ابن عَمِّ رسول الله أدركني فقد كِدْتُ أغرق في لَجَجْ القرآن- لُجة من لُجج القرآن - قال: وما هي؟ قال إنِّي قرأت البارحة قول الله عزوجل (وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ) فقُلت: كيف يَظُنّ نبيٌ من أنبياء الله أنْ لا يقدر الله عليه، إن هذا لا يقع من آحاد المؤمنين! قال: يا أمير المؤمنين إنَّـما هِيَ من القَدْر بمعنى التِّضييق، وليسَتْ من القُدرة. فقال: أنقَذتني أنقذَك َالله، أو كما قال معاوية.
قال الله عزَّ وجلّ (فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى) لاحظوا كلمة (نادى) مرَّت بنا أكثر من مرة مع نوح (وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فاستجَبْنا له). قال (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ) نداءٌ يُنادي الله عزّ وجل (أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) لاحظوا أدعية الأنبياء يا إخواني في غاية الأدب وفي أكمل ما تكونُ من جمالِ الألفاظ، وحُسنِ التعبير والتَّعريف بمقام العبودية بين يَديّ الرَّب سبحانه وتعالى، فهو يعترف لله بالأُلوهية والوَحدانية وفي الوقت ذاته يعترف لِنفسه بالتقصير والذَّنب ويُنزِّه الله فيقول ( لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فأَنا ظالــمٌ لِنفسي، ولا يُكثِرْ أكثر من ذلك. ولذلك مَدَح النبي صلى الله عليه وسلَّم هذه الدَّعوة بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام "دعوةُ أخي ذي النِّون إذْ دَعا ربَّهُ وهو في بطن الحُوت لا إله إلا أنت سبحانك إنِّي كنْت من الظَّالمين لم يَدعُ بها رجلٌ مسلم في شَيء قطّ إلاَّ استجاب الله له" رواه الإمام أحمد، والترمذي، والنَّسائي، اِحْفَظوها يا إخواني.
قال الله عزَّ وجلّ مُبيِّناً جمال هذه الدَّعوة وعِظَمَ أثَرها وأن الله استجاب لها إكراماً لِنَبيِّه يونس (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) وجاء بالفاء الدَّالة على الترتيب والتعقيب وأنَّ الله أسْرعَ باستجابة دعائه (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) أيّ بـِمِثل هذا الإنجاء نُنْجِى المؤمنين، فإذا وقعْت فى كربة قُلْ (لا إله إلاّ أنتَ سبحانك إنِّي كنت من الظالمين) يُنجِيك الله كما أنجى ذا النُّون من الظُّلُمات.
ما هي الظُّلُمات؟ ظُلمة الليل، وظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر لأنَّ الحُوت التقم ذا النُّون ثم غاصَ به فى أعْمَق البُّحور، يقال: حتى سمع تسبيح قاعَ البحر.
/ قال الله عزَّ وجلّ (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً) لاحِظُوا مواقف الأنبياء، وهمومهم، وحاجاتهم مختلفة، ومع كل هذا الاختلاف يُجيبهم اللهُ عزَّ وجلّ، ويستجيبُ دعاءهم، ويُدنِيهم، ويُعطيهم سؤلهم، لماذا؟ لأنهم كانُوا من العابدين، كانُوا من الصابرين، كانُوا من المطيعين، المخبتين.
(وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ) بأي شيء؟ (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً) وقد جاءت قصته مُستوفاة في سورة مريم (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي (5)) إلخ تلك الدعوة
 (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) خيرُ من يَرث كلَّ موروث لأنَّ كل شيء سيؤول إلى الله عزوجل.
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) جاءت الاستجابة مباشرة ولم تتأخر، ووهبنا له يحيى بعد أن وهن العظم منه وكانت امرأته عاقراً (وَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) أي جعلناها صالحةً للولادة بعد أن كانت عاقراً لا تَلِد.
 (إِنَّهُمْ) أي الأنبياء السَّابقون أو زكريا ويحيى وزوجة زكريا (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) هذا هُو السَّبب في إكرامِ اللهِ لهُم وفي سرعة استجابة الله لدعائهم (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ) كُلُّما دُعُوا إلى خيرٍ أجابُوا ولم يجيبوا بتبَاطُؤ وتكاسُل وتَرَدُّد بل بــِمُسَارعة ومُبادرة (يُسارعُونَ في الخَيرات). (وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً) أي يُكثرون من الدُّعاء فلا يدَّخِرُون الدعاء لساعات الشِّدة بل يدعون الله عزوجل دائماً وأبداً، في الرَّغَب والرَّهَب، ويدعُونه فيما يُحبون وفيما يخافون، فيما يطلبون وفيما يرهبون.
(وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) كانوا مُستكينين ذليلين لنا، وهكذا الدُّعاء المُجاب من أعظم أوصافه أن يستكين الإنسان بين يديّ ربه فيدعو وهو مُتَضَرِّع خائف ذليل مُقْبِل على الله عزوجل. أما إذا دعوت وقلبك لاهٍ مشغول يهيم في أودية الدَّنيا فإنَّ الإجابة قد تكون منك بعيدة.
/ قال (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا) أي واذْكر خبَر تلْكَ المرأة وهي مريم التِّي أحصنت فرجها أي حِفَظتْه من أن يُنال بسوء (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا) جاءَها جبريل فنفَخ فيها من رُوح الله عزَّ وجلّ، أمره الله أن ينفخ فيها من الرُّوح ليُخلَقَ عيسى عليه الصلاة والسلام في رحمها. (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ).
كُلُّ هذه كَرامَات الله عزَّ وجلّ للأَنبياء، الذِّين هُم صفوةُ الله من خَلْقه، وهَكَذا من يَسِير على دربهم ويَـمْشِى عَلى مِنوَالهم ويَقْتدى بهم فإنَّه يَنَالُهُ من الكَرامَة ومن الحَظْــوة عنْد الله سبحانه وتعالى ما هو حقيقٌ به. أقولُ قَولــِي هذا وأستغفرُ الله لِيْ ولَكُم، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا مُحمد.
_________________________
مصدر التفريغ ملتقى أعل التفسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق