الثلاثاء، 8 أبريل 2025

من بلاغة الإيجاز في سورة يوسف | المحور الذي قامت عليه مشاهد السّورة

المحور الّذي قامت عليه قصّة يوسف عليه السّلام بكلِّ تفاصيلها هو تحقّق الرّؤيا، وحصول الفَرَج بعد البلاء والشِّدّة؛ فوجه التّشابه كبيرٌ بين الواقع المُؤلم الَّذي عاشه يوسف عليه السَّلام مع محيطه، والواقع الّذي كان عليه رسول اللّٰه صلَّى اللّٰه عليه وسلَّم مع قومه.

فمن أوجه المناسبة البديعة، والبعيدة في دلالاتها أن تتناسب القصَّة القرآنيَّة مع واقع المسلمين الَّذي نزلت فيه القصَّة.

ولو نظرنا في كتب تاريخ القرآن وعلومه (1) لوجدنا أنَّ سورة يوسف من السُّور الَّتي تنزّلت في أواخر العهد المكِّيّ، وفيها الإلماح إلى المشابهة بين واقع النَّبَّييْن الكريميْن، وفيها الإرهاص بفَرَجِ بعد الهجرة.

وهذا الشَّبَهُ بين ملامح قصَّة يوسفَ وأخيه النَّبيّ محمَّد صلَّى اللّٰه عليه وسلَّم قد لفَتَ نَظَرَ كثيرٍ من المُفسّرين (2)، وعقدوا في مُؤلَّفاتهم أوجهًا للشَّبه بين القصَّتيْن، فالإمام الطَّبريّ في تفسيره يقول: "وهذا، وإن كان خبرًا من اللّٰه - تعالى ذِكْره- عن يوسف نبيّه عليه السلام فإنَّه تذكيرٌ من اللّٰه لنبيِّه محمَّدٍ صلَّى اللّٰه عليه وسلَّم وتسليةٌ منه له عمّا كان يَلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فيه، يقول:

فاصبر، يا محمَّد، على ما نالك في الله، فإنّي قادرٌ على تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون، كما كنتُ قادرًا على تغيير ما لقي يوسف من إخوته في حال ما كانوا يفعلون به ما فعلوا، ولم يكن تَركي ذلك لهوان يوسف عليَّ، ولكن لماضي علمي فيه وفي إخوته، فكذلك تَرْكي تغييرَ ما ينالك به هؤلاء المشركون لغير هوانٍ بك عليَّ، ولكن لسابق علمي فيك وفيهم، ثمَّ يصير أمرُك وأمرُهم إلى عُلوّك عليهم، وإذعانهم لك، كما صار أمر إخوة يوسف إلى الإذعان ليوسف بالسّؤدد عليهم، وعلوِّ يوسف عليهم"(3).


فسيرَة نبيِّنا مُحمَّد صلَّى اللّٰه عليه وسلَّم من أشبَه السِّير بسيرة نبيِّ اللّٰه يوسف عليه السَّلام وقصَّته مع قريش كقصَّة يوسف مع إخوته، حسَدٌ ومحاربةٌ في البداية واعترافٌ وإجلالٌ وندمٌ في النِّهاية..

وإبعادٌ وإقصاءٌ ونُكران وجفاء في الأوَّل وخضوعٌ والتجاءٌ واستعطاف واستجداء في الآخر..

وغيابةُ الجُبّ في محنة يوسف وغارُ ثَوْر في رحلة محمَّد صلَّى اللّٰه عليه وسلَّم..

وسِجنٌ في قصَّة يوسف، وشِعْبُ أبي طالب في قصّة المصطفى صلى اللّٰه عليه وسلم..

وتقريرٌ وإعلانٌ من أعداء كلّ منهما: (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُحْمسنِينَ) [يوسف: 90].

والجواب الرّقيق الكريم من كِلا السَّيدَيْن الكريمَيْن: (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ٱلْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمّ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [ يوسف: 92].

وهكذا نزلت هذه السّورة في جوّ مكَّة التَّقيل المُظلم لتُبشَّر رسولَ اللّه صلَّى اللّٰه عليه وسلّم بمستقبله العظيم المُشرق الزّاهر، فكأنَّ قصَّة يوسف قصّتُهُ صلى اللّٰه عليه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1. الطبري، جامع البيان: 5/13، والثعلب، الكسف والبيان: 5/196.

2. ابن جرير، جامع البيان: 562 /15، والزّمخشريّ، الكشّاف: 445 /2، والسّيوطيّ، الدّرّ المنثور، 500 /4، وابو السّعود، إرشاد العقل السّليم: 255/4، والشوكانيّ، فتح القدير:

3.ابن جرير، جامع البيان: 7/15.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق