الاثنين، 23 مارس 2015

تفسير سورة الأنبياء (٩٢ إلى نهاية السورة) دورة الأترجة

د. محمد بن عبد العزيز الخضيري





(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴿٩٢﴾ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ﴿٩٣﴾ فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ﴿٩٤﴾ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴿٩٥﴾)
 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد.
 فهذا هو المجلس السادس من مجالس تفسير سورة الأنبياء في هذه الدورة المباركة دورة الأترجة المقامة في جامع الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله بحي الخليج في بُريدة. وهذه الليلة هي ليلة الخامس والعشرين من شهر شوال من عام ألف وأربعمائة واثنين وثلاثين من الهجرة النبوية الشريفة.
وقد وصلنا إلى قول الله عز وجل (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) بعد أن ذكر قصص الأنبياء ودعوتهم والجدال مع المشركين في أمر التوحيد قال الله عز وجل (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أي دينكم وملّتكم. وكلمة الأمة تطلق على معاني عدة:
- فتطلق على الجماعة من الناس (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ) [القصص:٢٨]
- وتطلق على الرجل الجامِع لخِصال الخير كما قال الله عز وجل (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل:١٢٠]
 - وتطلق أيضاً على المِلّة والطريقة (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ) [الزخرف:٢٢] يعني على طريقة وملة.
- ومنه هذه الآية التي هي قوله (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) أي دينكم دين واحد.
والأنبياء كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم إخوة لعلّات مثل الإخوة الذين أبوهم واحد وأمهاتهم شتى فالأنبياء كلهم يدعون إلى عبادة الله وتوحيده وهم يجتمعون في الأصول وقد يختلفون في الشرائع كما قال الله (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) [المائدة:٤٨].
 (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) بيّن الحقيقة التي يجب أن يُدعى إليها وهي أن الرب هو رب الجميع فيجب أن يُعبَد هذا الرب وأن يُفرَد بالعبادة وهذا استدلال بالربوبية على العبودية بمعنى أنه إذا كنتُ أنا الرب الخالق المدبر المتصرف بأمر خلقي المُربي لخلقي بنعمي فإن الواجب أن لا يُعبد أحد سواي فجعل الربوبية دليلاً على الألوهية.
قال الله عز وجل (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ) أي اختلفوا فيما بينهم وحصل بينهم التفرّق من بعد ما جاءهم العلم وكان ذلك لأجل البغي لا لغير (فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ) [البقرة:٨٩] تقطعوا أمرهم بينهم منهم من آمن بالله ومنهم من أشرك معه غيره ومنهم من زعم أن عيسى ابن الله، ومنهم من زعم أن الله ثالث ثلاثة -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- مع وضوح الحُجّة وظهور الطريق الذي سلكه الأنبياء ودعوا إليه جميعاً واجتمعوا عليه ولم يتفرقوا ولم يختلفوا.
 قال الله عز وجل (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) هم اختلفوا لكنهم سيرجعون جميعاً إلينا وسنحكم بينهم.
/ قال (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ)
بعد أن هدد أولئك المختلفين في أمر التوحيد ذكر الوعد للصالحين فقال (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) أي لن يجحد شيء من سعيه ولن يُنسى لأن الله سبحانه وتعالى لا يدع شيئاً من عمل الإنسان
  (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) [طه:١١٢] لا يجحد شيئاً من عمل الإنسان
(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) [الزلزلة]
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:٤٧].
 قال الله سبحانه (فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) أي سيلقى جزاءه على ذلك السعي وسيعُطى أجره.
 قال (وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) أي موثّقون هذا بالكتابة، فما من عمل تعمله صالح لله إلا ويكتب.
تذكرون في سورة التوبة قال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)) .
وهم يمشون ويسارعون ويركبون الإبل أو الخيل أو السيارات أو الدبابات ويجلسون ويصنعون الشاي ويشربون القهوة ويفطرون ويتوضؤن ويقومون ويقعدون وينامون كل ذلك يُكتب لهم عند الله به عمل صالح فإذا جاء العبد يوم القيامة وجد كل هذا قد تحول إلى عمل صالح عند الله لأن هذا الرجل قد خرج بنفسه في سبيل الله، قال (وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) نوثِّقه بالكتابة.
/ ثم قال (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) قال العلماء:
حرام هنا بمعنى واجب أي واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يتوبون يعني كل القرى التي أهلكناها لم يتوبوا من ذنبهم ولذلك حق عليهم إهلاك الله عز وجل، واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يتوبون ولذلك استحقوا أن يُهلَكوا.
وقيل: واجب على أهل قرية أو قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون إلى الدنيا بعد أن أهلكهم الله فكل من أُهلِك فلا مجال أن يعود إلى الدنيا وإنما يلقى جزاءه وحسابه عند الله سبحانه وتعالى.
/ قال الله عز وجل (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ)
(حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) فُتحت أي أذن الله عز وجل ليأجوج ومأجوج أن يسيروا في الأرض فلا يدعوا بقعة إلا ملؤها واستولوا عليها من كثرتهم.
ويأجوج ومأجوج قبيلتان عظيمتان هاتان القبيلتان مفسدتان في الأرض وهما من نسل آدم عليه السلام بل من نسل نوح عليه السلام من نسل يافث، وهاتان القبيلتان لهما غارات على البشرية مرّ -كما يقول العلماء- خمس منها  وبقيت السادسة التي يكون بها الدمار النهائي للبشرية في ذلك الوقت إلا من عصم الله ثم يُهلكهم الله عز وجل بأن يُرسل عليهم النغف في رقابهم فيقتلهم فلا يبقي منهم أحداً وكانوا في ذلك الوقت قد حصروا المؤمنين إلى جبل الطور لأن الله يقول لعيسى حرّز عبادي إلى الطور فيحرّزهم إلى الطور ثم يقولون قد قاتلنا أهل الأرض فقاتلناهم فهلُمّ نقاتل أهل السماء فيرسلون سهامهم إلى السماء فيعيدها الله -ابتلاء لهم- ملأى بالدم فيقولون قد قتلنا أهل السماء، فلما يصلون إلى هذه المرحلة من الطغيان يدعو الله عز وجل عيسى ومن معه من المؤمنين ويتضرعون إليه فيرسل الله عليهم دابة مثل الجراد تقع في رقابهم فتقتلهم فيملأون الأرض من ريحهم ونتنهم فيخرج المؤمنون ويعتقهم الله من شر هؤلاء القوم الذين هم يأجوج ومأجوج.
وهؤلاء القوم من بني آدم وموجودون الآن ويظن بعض الناس أن بيننا وبينهم السد الذي بناه ذو القرنين، هذا السد انتهى لكنهم موجودون تأتي فُرص يتكاثرون فيها تكاثراً شديداً فهم قوم همجيون لا يؤمنون ولا يعرفون الله عز وجل ويهوون ويعشقون الظلم والتدمير والفساد والإفساد وسيُدمرون البشرية كما تبين بالأحاديث النبوية وكما أشارت إليه الآيات القرآنية وحديث ذلك يطول ولعله مرّ بكم في سورة الكهف.
 قال (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ) من كل حدب أي من كل مرتفع، ينسلون أي يسرعون يأتون ركضاً والنّسَلان هو السرعة في المشي يقال أن الصحابة اشتكوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم شدة المشي عليهم في الحجّ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (عليكم بالنسلان) يعني عليكم بالمشي الذي مثل الهرولة مع مقاربة الخطى يسمى النسلان وقد جربته مع جماعة من الشباب في إحدى الحجّات فوجدناه يخفف علينا ثقل المشي.
قال عز وجل (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ) قيل هذا هو الجواب يعني: حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق، وتأتي الواو في بعض الأحيان مع الجواب مثلما قال الله عز وجل (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ) [الصافات:١٠٤] الجواب (وناديناه) والمعنى فلما أسلما وتله للجبين يعني تلّ اسماعيل على جنبه ناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، لكن جاءت الواو مع الجواب. فيكون الجواب حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق لأن يأجوج ومأجوج يأتيان في آخر الزمان عند اقتراب قيام الساعة.
وقيل الجواب (يَا وَيْلَنَا) يعني حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا قالوا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين.
/ قال الله عز وجل (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) هذا خطاب للمشركين الذين يعبدون الأصنام والآلهة من دون الله سبحانه وتعالى. (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) حصبُها الذي يلقى فيها، الحصب من الحصباء فأنتم حصبُها أي تُلقون فيها فتهلككم النار وتُحرقكم إحراقاً شديداً أنتم والذين تعبدون من دون الله وهي تلك الآلهة.
وقيل حصب بمعنى حطب وقد قُرئت في بعض القراءات حصب جهنم حطب جهنم. وإذا كانت بمعنى حطب فهم تُوقد بهم النار.
 في الأول إذا قلنا بمعنى الحصباء فهم يلقون في النار فتحرقهم النار أما إذا قلنا حطب جهنم فهم يكونون وقوداً للنار كما قال الله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) [التحريم:٦] وقودها أي حطبها الناس والحجارة.
قال الله عز وجل (أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) أنتم أيها المشركون ومن تعبدون سترِدونها.
/ ثم قال (لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ) لو كانت هذه الأصنام التي تعبدونها آلهة ما وردوها كيف يردونها وهم آلهة؟ هذا يدلكم على أن هذه الأصنام المُدّعاة ليست بآلهة (لَوْ كَانَ هَؤُلَاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ) كلٌ من العابدين والمعبودين خالدين في النار وهذا جزاء كل من أشرك فإن قيل هذه التماثيل التي عبدوها لماذا توضع في النار؟ يقال تبكيتاً لأولئك العابدين. أنتم تعبدون هذه الآلهة وتستنصرون بها وتظنون أنها تنفعكم وصرفتم لها العبادة هي معكم في النار. وقد ورد الحديث "الشمس والقمر ثوران مكوران في النار" قال العلماء: إنما يدخلهم الله النار تبكيتاً وخزياً لعابديها وقطعاً لأملهم في النجاة من النار إذا كانت الآلهة التي كنا نعبدها وهي الشمس والقمر معنا في النار إذا لا أمل لنا في النجاة أبداً.
/ قال الله عز وجل (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ) لهم فيها زفير الزفير هو: صوت إخراج النَفَس بخلاف الشهيق الذي هو صوت إدخال النَفَس. من شدة ما يُقاسيه هؤلاء الكفار من حر جهنم وأهوالها يقول الله عز وجل (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ) من الحسرة العظيمة التي تكون في قلوبهم وتُلقى على أبدانهم والعذاب الأليم الذي يحسّون به في نار جهنم.
قال (وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ) لماذا لا يسمعون؟ كما أنهم كانوا لا يسمعون الحق والآيات التي تتلى عليهم (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ) [البقرة:٨١] يكافئهم الله عز وجل بأنهم لا يسمعون أيضاً في نار جهنم. قيل إنهم لا يسمعون لأن في السماع أُنساً فالله عز وجل يُصِمّ آذانهم فلا يسمعون فيشعرون بالوحدة والتفرّد وهذا حال أهل النار كل واحد منهم يظن أنه هو الوحيد الذي في النار فيزداد ألمه وعذابه كما قال الله في سورة النساء (تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا ) لما ذكر المؤمنين قال (خالدين) لأن الإنسان يأنس بوجود الأصحاب والقرناء والأمثال والنظراء ولذلك يقول الله عز وجل (عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) [الحجر:٤٧] (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ ) [الواقعة:١٧] أما أهل النار قال (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) قال ذكره بلفظ الوِحدة ليبين شدة العذاب عليه باعتقاده أنه هو الوحيد الذي في النار وأنه لا يقاسي أحد حرّها معه فيكون أشد في إيلامه، وهنا قال (وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ) لأن في السماع أُنساً.
وقيل (وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ) لا يسمعون لشدة غليان النار فشدة صوتها تصخّ وتصمّ آذانهم.
ثم استثنى الله عز وجل (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) يقال إن سبب نزول هذه الآية أن الله لما أنزل قوله تعالى (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال بعض المشركين إن مِنّا من يعبد الملائكة والنصارى يعبدون عيسى واليهود يعبدون عُزيراً فهل هؤلاء معنا في النار؟ هنيئاً لنا ولهم بالنار أو كما قالوا فأنزل الله هذه الآية رداً عليهم (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى) سبقت لهم الرحمة والسعادة (أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) لا يمكن أن تصل إليهم (لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ) أي لا يسمعون صوت إحراقها للأجساد، هذا هو الحسيس (لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ) .
فإن قيل أليسوا يمرون على النار عبر الصراط المنصوب على جهنم؟ قيل نعم ولكن إنما مرور أمثال هؤلاء ممن سبقت لهم الحسنى كمرور البرق أو مرور الريح أو أجاويد الخيل فما أسرع أن يجوزوا نار جهنم قبل أن يسمعوا ذلك الصوت منها.
قال (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ) أي في الجنة يطلبون ما يشتهون فيُلبّى كل طلب لهم (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) [الزخرف:٧١] وهذا من أبلغ أوصاف الجنة أن كل ما تشتهيه يكون، حتى إن من أهل الجنة من يشتهي الولد فيولد له في ساعة، ومن أهل الجنة من يشتهي الزرع فيزرع ويستوي الزرع ويحصد في ساعة لأن الله عز وجل قد حقق لأهل الجنة مطالبهم.
 / قال الله عز وجل (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) الفزع الأكبر عندما ينفخ إسرافيل النفخة التي فيها قيام الناس من قبورهم في ذلك الموقف يفزع الناس كلهم ويحزنون إلا أولئك المؤمنون الذين سبقت لهم من الله الحسنى فإنهم لا يحزنون من ذلك الفزع.
وقيل الفزع الأكبرعندما تُطبِق النار على أهلها أو عندما يؤتى بالموت على هيئة كبش أقرن فيّذبح ثم يقال يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود ولا موت فذلك هو الفزع الأكبر.
وعلى كلٍ كُلُّ أحوال يوم القيامة فزع فالمؤمنون يكونون آمنين من هذا الفزع إذا فزع الناس لأنهم كانوا يخافون في الدنيا فيؤمّنهم الله يوم القيامة جزاء من جنس أعمالهم. وأما الكافرون والمنافقون فكانوا آمنين في الدنيا فيجعل الله خوفهم وفزعهم ورهبتهم في الآخرة.
/ قال الله عز وجل (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ) أي تستقبلهم الملائكة وتقول بعد أن تسلّم عليهم (هَذَا يَوْمُكُمُ) هذا هو اليوم الذي ترون فيه العز والنصر ترون فيه الفوز والكرامة من الله (الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) أي قد وعدكم الله عز وجل.
 قال الله عز وجل (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) أي في يوم القيامة نطوي السماء كطي السجل للكتب أي كما تطوى الصحيفة على المكتوب فيها فالكتب بمعنى المكتوب والسجل بمعنى الصحيفة يطوي الله السماء مثلما تطوى الصحيفة كما تطوى الصحيفة على هذا الكلام فيها (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) هكذا تطوى السماء. قال الله عز وجل في سورة الزمر (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ) على عظمتها وضخامتها وطولها وعرضها (مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ)  سبحانه وتعالى، طيّ في هذه السورة قال (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) أي كطيّ الصحيفة على المكتوب فيها.
وقيل السجل اسم ملك أي كما يطوي الملك المُسمّى بالسجل الكتب.
أو قول آخر كما يطوي السجل وهو صحابي كان من كُتّاب الوحي اسمه السجل كان يطوي الكتب بعد أن يكتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قول ضعيف جداً معتمد على حديث أقرب إلى أن يكون موضوعاً وليس في أسماء الصحابة من كان اسمه السجل. والقول الصحيح هو القول الأول أي كطي الصحيفة للمكتوب عليها.
 (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ) أي مثلما بدأناكم فأخرجناكم من بطون أمهاتكم حفاة عراة غُرلاً غير مختونين نعيدكم يوم القيامة فنأتي بكم حفاة عراة غُرلاً غير مختونين.
 أو كما بدأنا أول خلق نعيده أي نهلك كل شيء ونعيده كأن لم يكن
 أو قال بعض العلماء أن السماء تمطر مطراً كمنيّ الرجال فينبت الناس كما يخلقون في بطون أمهاتهم ينبتون كما تنبت الحِبَّة في حمي السيل، يعني البقلة الصغيرة الخضراء التي تكون على شواطئ الأودية ينبت الواحد منا من الأرض من بقيته التي بقيت منه وهي العصص أنت تفنى وتبيد ولا يبقى منك شيء إلا تلك النقرة الخفيفة جداً من أسفل ظهرك العصعص هذه تبقى ما كتب الله عليها الفناء فإذا أراد الله بعثنا نزل من السماء مطر كمنيّ الرجال فتلقّحت بهذه البقية وهي العصعص فينبت الإنسان من جديد نباتاً حتى إذا استوى أمر الله إسرافيل أن ينفخ الأرواح فينفخها فإذا هم قيام ينظرون لكنهم يقومون حفاة عراة كأنهم ولدوا من بطون أمهاتهم.
قال الله عز وجل (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا) وعداً علينا أن هذا سيكون (إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ).
/ ثم قال الله عز وجل (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) كتب الله عز وجل أن الأرض ستكون لعباد الله الصالحين، ما هي هذه الأرض؟ أكثر المفسرين على أنها الجنة كما قال في سورة الزُمر (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)).
وقال بعض المفسرين (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ) أن الأرض المقصود بها الدنيا (يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) أي من صَلُح شأنه في عبادته لله عز وجل فإن الله يورثها الأرض وهم أمة محمد عندما كانوا صلُحوا واستقاموا وأطاعوا محمداً صلى الله عليه وسلم أورثهم الله الأرض وأباد الأمم العظيمة التي كانت تملك الأرض وتملك الأموال وتملك العدد والسلاح ذهبوا هؤلاء كلهم وبادوا لأن الله أورث هؤلاء القوم الصالحين الأرض. ولا مانع من أن يجتمع المعنيين فهم يرثون الأرض متى كانوا صالحين أرض الدنيا ولا شك أن لهم الجنة لصلاحهم في الآخرة.
فإن قيل (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ) ما هو الزبور وما هو الذكر؟ فنقول : من العلماء من قال (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ) الزبور هو جميع الكتب التي أوحاها الله عز وجل إلى عباده، من بعد الذكر أي من بعد اللوح المحفوظ (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ) أي في الكتب المُنزلة على الرسل (مِن بَعْدِ الذِّكْرِ) أي من بعد ما كتب في اللوح المحفوظ أن الأرض يرثها عبادي الصالحون أي أن هذه الحقيقة موجودة في اللوح المحفوظ وموجودة في كتب الأنبياء كما قال موسى عليه السلام (إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) [الأعراف:١٢٨].
وقيل إن الزبور جميع الكتب والذكر هو التوراة ومما يؤيد هذا ما جاء في سورة الأنبياء (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ (48)) فسمّاه ذكراً وقال في أول السورة (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (7)) يعني اليهود والنصارى فهم أهل الكتاب.
وقال بعض العلماء (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ) أي في القرآن والذكر التوراة.
وقال بعضهم (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ) أي الذي أُنزل على داوود عليه السلام (مِن بَعْدِ الذِّكْرِ) أي من بعد التوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام لأن داوود جاء من بعد موسى عليهم الصلاة والسلام.
والحاصل أن هذه الكلمة موجودة في الكتب السابقة وموجودة في اللوح المحفوظ أن الأرض وهي الجنة وكذلك الأرض في الدنيا يرثها عباد الله الصالحون فجعل الله عز وجل لهم وراثتها، لكن متى هذا؟ إذا صلُحوا وصدَقوا مع الله عز وجل وكانوا له عابدين.
 قال الله عز وجل (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ) إن في هذا الذي قلناه لكم وأوحيناه لكم لبلاغاً يعني بلاغاً كافياً لقوم عابدين فهل تكتفون به وتأخذونه وتفرحون به وتحملونه محمل الجِد؟
/ قال الله عز وجل (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) لم نرسلك يا محمد لتكون شقاءً على نفسك وعلى الخلق وإنما أرسلناك لتكون رحمة على نفسك وعلى الناس من حولك. فإن قيل إنما هو رحمة للمؤمنين فكيف قال الله رحمة للعالمين؟ كيف يكون رحمة للكافرين وهو يقتلهم؟ قيل لأنه عليه الصلاة والسلام لما بُعث رفع الله سبحانه وتعالى العذاب المُستأصِل عن الكفار فلم ينزل على الكفار عذاب مُستأصل بخلاف الأنبياء السابقين، نوح جاءهم الغرق فأغرقهم الله أجمعين، وهود وشعيب وغيرهم من الأنبياء أهلك الله أممهم فلم يبقي منهم أحد إلا من آمن أما محمد صلى الله عليه وسلم فقد رفع الله عز وجل عن أمّته المسخ العام والخسف العام والهلاك العام فلا يُهلَكون بِسَنَةٍ عامة.
/ ثم قال الله عز وجل له (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) هذه خلاصة هذه الدعوة وخلاصة هذه السورة. الذي أوحيَ إليّ هو شيء واحد قد أوحي إلى الأنبياء من قبلي وأنا مبلِّغ وأنا رسول وبشرلست ملكاً ولست شيئاً آخر بل أنا جسد آكل الطعام وأحمل رسالة الله التي كُلِّفت بها وأبلغكم إياها، إنما يوحى إليّ شيء واحد (أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) أي مستسلمون له ومنقادون له بالتوحيد والطاعة.
(فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء) يعني فإن توليتم على أعقابكم وأعرضتم فلم تستجيبوا فقل لهم يا محمد (آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء) أي أعلمتكم وحذّرتكم وأنذرتكم وعاديتكم على سواء مني ومنكم بالعلم بهذا فأنا وأنتم الآن على علم بأنكم لن تلقوا بعد هذا مني إلا الحرب ولن تلقوا من الله إلا العذاب فقد أعذرت وأنذرت.
(فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ) أذنتكم أي أعلمتكم (عَلَى سَوَاء) أي على علم مني ومنكم بالعاقبة.
(وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ) "إن" هنا بمعنى "ما" التي قال فيها مجاهد "إن" في القرآن بمعنى "ما" يعني وما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون لا أدري متى يكون ذلك لكن مهمتي أن أبلغكم أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون، أما عذابكم متى ينزل بكم؟ ومتى سيكون؟ هذا ليس إليّ، أنا لا أعلمه ولم يطلعني الله تعالى عليه ولا أستطيع أن أستجلبه لكم.
قال الله عز وجل (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ إنه) أي الله (يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ) عاد إلى أول السورة، قال في أول السورة (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ (5)هنا قال الله عز وجل (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ) يعلم ما جهرتم به وما أسررتموه عن محمد صلى الله عليه وسلم وسيجازيكم عليه.
/ (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) 
(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ) ما هو الذي لعله فتنة لكم؟ أي ما توعدون لأنه قال (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ) ما أدري هل هو قريب الذي توعدونه أو بعيد، وما أدري لعله فتنة لكم وقد كان فتنة لكم لأنهم قالوا (وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) [الأنفال:٣٢] يعني أعطنا العذاب الذي تتحدانا به هاته فجعله الله فتنة فهم يتحدون النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم ليس بيده أن يأتيهم بالعذاب وهذا يزيدهم إمعاناً في كفرهم ويقولون لو كان محمد صادقاً لجاء بالعذاب الذي يتحدانا أو يتوعدنا به. (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) لعل هذا التأخير الذي يكون من الله عز وجل متاع لكم إلى حين.
/ ثم قال الله عز وجل في ختام هذه السورة (قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ) ربي اقضِ بيني وبينهم بالحق وليس لهذا مفهوم مخالفة بمعنى أنه يمكن أن يقضي الله عز وجل بغير الحق ولكن هذا من باب التأكيد اقض بيني وبينهم بالحق، الحق الذي تعلمه وقد قال هذه الكلمة قالها الأنبياء قالها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
 (وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) ربنا الرحمن وهو في الوقت ذاته المستعان على ما تصفون به ربكم سبحانه وتعالى وتنسبونه إليه من النقص ومن الصاحبة والولد فالله هو المستعان على كلامكم هذا ووصفكم لربكم بما لا يليق به وهو مع ذلك الرحمن فكأن نهاية السورة فيها ترغيب وترهيب ترغيب لمن أقبل على الله وقبل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وترهيب لمن أعرض وأمعن في شركه واتهامه لربه ووصفه لربه بما لا يليق به ونسبته الصاحبة والولد له جلّت صفاته وتقدست أسماؤه.
 وبهذا نكون قد انتهينا من هذه السورة العظيمة الكريمة نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما مرّت بنا من آياتها وعظاتها وعِبَرها ودروسها وأن يجعلنا جميعاً من أهل القرآن الذين هم أهل القرآن وخاصته.
 اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك نواصينا بيدك ماض فينا حكمك عدل فينا قضاؤك نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وجلاء أحزاننا وهمومنا، اللهم علمنا منه ما جهلنا وذكِّرنا منه ما نُسِّينا وارزقنا تلاوته على الوجه الذي يرضيك، عنا اللهم اجعله لنا شفيعا يوم لقائك واجعله، حجة لنا ولا تجعله حجة علينا، واجعله نوراً لنا في الدنيا وفي قبورنا ويوم نلقاك يا ربنا.
 وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
______________________________
مصدر التفريغ ملتقى أهل الافسير (بتصرف يسير)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق