الاثنين، 29 ديسمبر 2014

الحلقــ الرابعة عشر ـــة/ أعظم الإصلاح ما يكون في داخل القوم



سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي الأمين على حبيبنا وسيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين… (فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ)
 وقفة مهمة جدا: تأملوا في أول السورة (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)
هذا المشهد يدفعنا إلى أن نقول -كما قلت سابقا- أُهلك فرعون.. خُسف بفرعون فإذا هو يُوحَى لأمه أن تُرضعه وهاهي الآن بدأت مرحلة الرجوع إلى تحقيق الرسالة لما يؤدي في النهاية إلى تحقيق الوعد بإهلاك فرعون، كم بينهما؟ قال العلماء بينهما أربعين سنة ، أربعين سنة بين هذا ما نسمعه (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ) وبين (فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ) أي الرسالة. قال بعض العلماء: إن موسى لما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما كان داعية لأنه ورِث الرسالة لكنه لم يكن وقتها رسولا إنما أُرسل وبُعث بما في هذه الآية أي بعد أن انتهى الأجل ، وهذا واضح وصريح. إذا كم بينهما على القول الذي ذكره العلماء والمفسرون وأشرت إليه سابقا؟ أربعون سنة.
ماذا يقول المتعجلون!! أليس فرعون يبطش ويُهلك ويدعي أعظم من ذلك، يدعي الألوهية ويقول أنا ربكم الأعلى!! ويبقى موسى أربعين سنة منها عشر سنوات يرعى الغنم ويقول الله جل وعلا (ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يَا مُوسَىٰ (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) المهمات العظيمة، الرسالة والرسائل تحتاج إلى إعداد عظيم، هكذا كان، موسى عليه السلام من أولي العزم من الرسل كلّمه الله تكليما بُعث ... أُرسل أمام طاغية من أعظم طغاة التاريخ إن لم يكن هو أعظم طُغاة التاريخ يُعدّ أربعين سنة. هذا معنى عظيم جدا.
 ماذا يقول أولئك المتعجلون الذين يريدون وهم لازالت أعمارهم عشرين سنة!! يريدون أن يغيروا الأرض في لحظات. محمد صلى الله عليه وسلم يبقى أيضا وقريش في ظلمها وعُتوها وطُغيانها وشِركها وجبروتها بما فيها فرعون هذه الأمة أبو جهل وغيره من أشكاله وأصحابه فله أصحاب، يبقى النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة حتى يُبعث لكن خلال هذه الأربعين في قصة موسى أو في قصة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يُعَدُّون، كانوا يُهيؤن لأن المهمات والمسؤوليات الكبرى تحتاج إلى إعداد ولهذا فهي رسالة إلى الدُعاة إلى الله أن ينتبهوا إلى أن الأمر ليس فيه عجلة، أن يتعلموا فقه التدرج. الله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق السموات والأرض بكلمة “كن فيكون” (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) في كم خلق السماوات والأرض؟
الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل الحمل لحظة ومع ذلك بين ستة أشهر إلى تسعة أشهر، سُنن كونية سُنن التدرج نجدها في هذه الآيات .
إذا بُعث موسى بعد هذه المرحلة الطويلة من الإعداد والتهيئة فالأمر جد لا تدفعنا ضغوط الواقع إلى أن نتصرف خطأ، أما إذا كان التصرف صحيحا، إذا كان على منهج صحيح لاشك أننا مُطالبون بمنع الفساد وبتخفيف المفاسد كل هذا صحيح ، لا أقول نقف نتفرج، لا يُفهم مني هذا الكلام لكن أن يُؤتى الشيء.. من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه ، ولهذا لاحظوا ما وقع في بعض الدول لأن الأمور لم تنضج بعد كيف تكون المآلات، وكل شيء له زمن وله وقت، تأملوا في النخلة والنجدين هذا الزرع اليسير الذي تبذره اليوم ويخرج بعد أسبوع يُثمِر تأتيه الريح وتسفُه، النخلة تبقى سنوات حتى تُنتج لكن الله ضرب بها المثل (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) أما الأخرى -العَجِل- ينتهي. وكل شيء له بُعد .. له آثار يحتاج إلى إعداد فلذلك بُعث بعد هذه المرحلة الطويلة حتى إن رعي الغنم لاشك كان مرادا (ما من نبيّ إلا رعى الغنم) والله سبحانه وتعالى لا يُعجِّله شيء، مقتضى حكمته سبحانه وتعالى، نتعلم هذه الدروس العظيمة.
ثم بعد ذلك نجد أن موسى ما أعلن دعوته وما بعثه الله وهو في مدين رجع إلى مصر، فالدعوات تكون في داخل القوم (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) أعظم الإصلاح ما يكون في داخل القوم .. من يعرفك وإلا يستغربون دعوتك. الذين يريدون أن يُصلحوا بلادهم من خارج بلادهم قد لا يُفلحون -أقول قد- نعم ممكن أن يذهب الإنسان من بلده إلى بلد آخر ليدعو إلى الله جل وعلا ليُصلِح البلد الفلاني، الأرض كلها بلاد الله جل وعلا (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) لكن أنا أتكلم عن حقيقة ثابتة من يريد أن يُصلح بلده يُصلحه من الداخل وليتحمل المشكلات.. يتحمل العقبات .. يتحمل المصائب، يريد الجنة بدون ثمن (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) يكون من داخل بلده يتحمل الأذى من سُخرية .. من سجن .. من قتل (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) أنبياء قُتلوا، زكريا ويحي عليهم السلام قُتلوا، أصحاب الأخدود قُتلوا. فهذا معنى عظيم جدا. أما إذا كنت تقول لا لا أريد أنا لا أستطيع أن أدعو في بلدي أريد أدعو في الشمال أو في الغرب، أرض الله، كلها أرض الله اذهب وادعو، أما أن تريد أن تُصلح بلدك وأنت من الخارج لا يُطيعك الناس، إذا لم تعش معهم وتتحمل آلامهم ومشكلاتهم لا يستجيبون لك إلا استجابة ضعيفة . هذا أمر يغيب عن البال. فإذا كان الله سبحانه وتعالى قد بيّن أنه ما أرسل من نبيّ إلا بلسان قومه فكذلك يكون في داخل قومه. موسى رجع إلى مصر التي هي بلده ليبدأ مع هذا المحاورة والناس يرونه ويتحمل ما جاءه من أذى وتهديد وبهذا تُفلِح الدعوات ولهذا استجاب له بنو إسرائيل لم يستجب فرعون ومن معه لكن استجاب له بنو إسرائيل لأنه يعيش معهم آلامهم وأحزانهم، ما جلس في بلاد مدين ويُرسل إلى مصر من يدعو أهل مصر، ذهب هو واتخذ لذلك العُدة والأُهبة -كما سيأتي- استعد لهذه المرحلة العظيمة وبيّن له ربه ما يواجهه من عقبات كيف يواجهها . هذه معانٍ تغيب أحيانا عن أذهاننا في قصة موسى عليه السلام ولذلك نحتاج إلى أن فعلا نقوم بالإصلاح بما نستطيع ولنتهيأ بعد ذلك لِما قد يحدث فلذلك قال الله جل وعلا (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ) بدأت المرحلة .. بدأ الوحي، وجد نورا ولم يجد نارا، وجد نور الله جل وعلا ثم هنا أُوحي إليه في البقعة المباركة لأن الأمر مبارك والرسالة مباركة والنبيّ مبارك وهذا الأمر جاء من الله جل وعلا واهب البركة ولهذا ألفِت لفتة سريعة : (البقعة المباركة) أحيانا بعض الناس لما يدخل بيته يقول تبارك البيت، أو يركب السيارة الجديدة يقول حتى تتبارك السيارة، لا .. لا ، هذا خطأ ، لا يأتي هذا إلا لله -على القول الصحيح- تبارك الله رب العالمين، ما جاء في القرآن (تبارك) إلا لله جل وعلا لأنها صيغة تفاعل، لكن ممكن تقول تأتي البركة … ليست بأول بركتكم يا آل أبي بكر، أما تبارك -وهي شائعة مع كل أسف- خطأ فالله جل وعلا هو الذي يبارك غيره أما البيت فلا يتبارك بنفسه ولا تتبارك السيارة بنفسها ولا غيره فتقول لعل الله أن يبارك بمجيئك، نعم هذا لا حرج فيه، لعل الله أن يجعل فيك البركة، لا حرج فيه.
هنا يقول الله جل وعلا (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) موسى كلّمه الله تكليما ولذلك يسمى كليم الله وهذه لاشك ميزة عظيمة جدا له وكل نبيّ تجد له ميزة معينة، وكلّم الله محمد صلى الله عليه وسلم لما عُرج به إلى السماء في قضية الصلاة وغيرها .
أسأل الله جل وعلا أن يُبارك فيكم، لا تنسوا الدعاء لإخوانكم المجاهدين والمستضعفين، أسأل الله أن يُبارك فيكم وفي هذا الإفطار الذي نُفطره ومن هذه البركة التي أعطاكم الله جل وعلا ساعدوا إخوانكم لِتعمّ البركة للجميع والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق