الحمد لله الذي خلق آدم من طين وأسجد له ملائكته المقربين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين .. وبعد
نستأنف ثالث اللقاءات حول خبر موسى والخَضِر وهو خاتمها وقد انتهينا في اللقاء الماضي إلى قول الله جل وعلا : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْر) هذا بيان من الخَضِر عليه السلام لموسى ما شأنه مع الأحداث التي كان موسى يستعظم حدوثها ، قال : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْر ) ( فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ ) اللام لام المُلك يعني : كان يملكها مساكين ، ووَرَدَ في القرآن مساكين وفقراء واختلف العلماء في التفريق بينهما والذي يظهر أن الفقر أشد من المسكنة ولهذا فالفقير أشد حاجةً من المسكين بدليل أن هؤلاء يملكون سفينةً ويؤجرون ركوبها ومع ذلك سمّاهم الله جل وعلا مساكين.
قال جل وعلا : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْر ) أي رِزقُهُم في البحر ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) فأسند العيب إلى نفسه تأدباً مع الله ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ ) الآن يُخبُر لِمَ خرقها ( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) فقوله ( مَلِكٌ ) يريد أن يبين أن الذي يريد أن يأخذ السفينة لا أستطيع ممانعنته يعني لو كان الذي سيأخذ السفينة رجلٌ من العوام رجلٌ من الفجار رجلٌ من الذين يتربصون بالناس الدوائر لما أقدمت على خرق السفينة لتعاونت معهم على قتله أو على فكاك السفينة منه لكن أصرّ على أنه ملِك و حدده حتى يبين أنه لا طاقة لي به فخير لي وللركاب ولأصحاب السفينة أن لا يصل الأمر إلى هذا الحد ( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ ) وقيل أن ورائهم هنا بمعنى أمام، أما أن (وراء) تأتي بمعنى أمام ورد هذا في القرآن قال الله جل وعلا : ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ومعلوم أن حياة البرزخ أمام العبد ليست وراءه لكن الأصل بقاء هنا الأمر على ما هو عليه ، لكن إن الذين قالوا بأن وراء بمعنى أمام هنا قالوا المسألة العقلية لأنه إذا كان الملك وراءهم فالأصل أنهم قد فروا منه لكن معنى أمام : أن الملك أمامهم يعني ينتظر مرور السفينة بين يديه. والأمر يعني فيه سعة المقصود منه تسلط ذلكم الملك عليهم فالخَضِر يريد أن يُبيِّضَ صحيفته ويبيِّن عُذره قال : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ) وهم ضعفاء مالاً وضعفاء حالاً لا يستطيعون أن يقاوموا ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) أجعل فيها عيباً ( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) يأخذها غصباً عن أهلها ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ) حتى يزهد فيها الملك، فالآن لجأ إلى مسألةٍ يسيرة وهي عيب السفينة حتى يصلح حالها وهذا الذي يقال دائماً و يقوله أهل الأصول ويعرفه كل العقلاء أنه محال أن تجد في الدنيا خيراً محضاً أو شراً محضاً كل شيء مشوب بشائبة لكن ينظر العاقل إلى الأمر كله فعندما -أحياناً- يريد إنسان ما أن يشوه قراراً أو أن يشوه أمراً قاله أبوه.. قاله أخوه.. قاله عالِم.. أو قاله ولي أمر.. أو قاله تاجر فيأتي لأسوأ ما في القرار فيسلط الضوء عليه مع أنه لو نظر إلى الأمر كله لظهر له الأمر بجلاء لكن الانصاف عزيز وليس كل أحد يقول به ولهذا ورد معنا في اللقاء الماضي : أيُّ عبادك أحكم ؟ قال : الذي يحكم لغيره كما يحكم لنفسه . وهذا قليل في الناس ولهذا كما قيل : ما تنتجه النحلة من أراد أن يمدحه قال هذا عسل ذكره الله في كتابه فيه شفاءٌ للناس ، ومن أراد أن يعيبه قال : هذا قيء الزنابير تلفظه وآتي أنا آكله. فكل شيء بحسب ما تراه لكن كما قلت غياب -أحياناً- سوء الفهم وسوء القصد أو اجتماعهما أو حضورهما هذا الذي يجعل أحكام الناس غير منصفة والمقصود أن الخَضِر لم يبالي بأن يخرق السفينة ما دام قد غلب على ظنه أن خرقها أسهل لأهلها قال : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا ) انتهت القضية الأولى ولم يُعَقِّب موسى وهذا يدل على القناعة .
وأما الغلام أنكرت عليَّ أنني قتلته ( وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا ) طُبِع يوم طُبِع كافراً في علم الله فلو بقي تعلُّق الوالدين به ربما حاد بهما عن الإيمان و لَئن يخسرا ويفقدا ولدهما خير لهما من أن يفقدا دينهما ( فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) وقيل وهذا قول لأهل العلم أن هذين الأبوين رُزِقا بجارية بدلاً من الغلام و العلم عند الله هذا غيب لا يتوصل له بالعقل لكن هذه مقولات لايوجد ما يمنعها ولا يوجد ما يثبتها ( وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا ) ولم يُعَقِّب موسى وهي في ظاهرها دلالة على القناعة .
( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَينِ ) اللام في ( لِغُلَامَينِ ) هي اللام في ( لِمَسَاكِينَ ) لام ماذا ؟ لام المُلْك ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ ) الآن هو يُفَصِّل أي تحت الجدار ( كَنْزٌ لَهُمَا ) وهذا يدل على أنه لا غضاضة ولا حرج على الرجل أن يتخذَ كنزاً يجمعه لأبنائه وبناته من بعده إن كان يؤدي زكاته فإن كان يؤدي زكاته لم يصبح كنزاً مذموماً وإن كان لا يؤدي زكاته فهو كنزٌ مذموم لكن إن كان يؤدي زكاته فلا حرج البتة عليه ، ولاريب -قد مرَّ معنا- كما أن الأبناء قوةً ودَفْع فإن المال جمالٌ ونفع فإن المال جمالٌ و نَفع يتقي به الإنسان تسلط اللئام فهذا الأب سمَّاه الله صالحاً ومع ذلك جعل كنزاً لأبنائه من بعده مع أن الله جل وعلا سماه صالحاً قال : ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) فالذي جعلني -هذا معنى كلام الخَضِر- فالذي جعلني أُقوِّم الجدار وجود وجود الكنز ، والذي جعل الله جل وعلا يبعثني لأقوِّم الجدار ما هو ؟ صلاح الأب .. واضح فالذي جعلني أن أقوِّم الجدار حتئ لا يُهدَم أن أحافظ على الكنز والذي أخرجني من الديار وطاف بي القِفار وجعلني آتي لهؤلاء اللئام أقوِّم الجدار وأحفظ الكنز هو ماذا ؟ صلاح الأب ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) وهذا لا يحتاج إلى عاقل مثلكم بيانه في أنه خير ما تدخره لأبنائك من بعدك مع الأخذ بالأسباب أن تكون صالحاً في نفسك ( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ) .
قال الخَضِر بعدها كما قال الله جل وعلا : (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ) لمَ قال هذا ؟ لانه لو لم يُرِد الله أن يبلغا أشدهما فلا يوجد نفع مني أن أقوِّم الجدار إن كان أصحاب الجدار سيموتون فقال : ( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ) وهذا لم يسنده الخَضِر إلى نفسه لأنه محال أن يكون تحت قدرة الخَضِر ..أُعيد : هذا لم يسنده الخَضِر إلى نفسه تأدباً مع الله هذا هكذا قال العلماء لكن الصواب ليس هذا إنما يكون الأدب مع الله في الشيء الذي يمكن أن تسنده إلى نفسك لكن ( أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ) لا يمكن أن يكون هذا تحت قدرة الخَضِر فهذا إخبار بالأمر على حاله ... على منواله ... على طبيعته ( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ) أي الغلامان ( وَيَسْتَخْرِجَا ) بألف التثنية (كَنْزَهُمَا) وحذفت النون في (يستخرجا) لأنها معطوفة على ( يَبْلُغَا ) وحذفت النون من ( يَبْلُغَا ) أصلها يبلغان لوجود أن الناصبة (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا) ثم قال : ( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) فإذا أراد الله بعبدٍ خيراً رَحمَهُ وخير ما ترجوه والله لنفسك و لولدك بنين وبنات رحمة الله . ثم قال و هي قرينة تدل على أن الخَضِر كان نبيَّاً قوله : ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) حتى لا يتعلق بها كما تعلق بها بعض متصوفة هذا الزمان أو من قبلهم في النسبة إلى الأولياء ما لا يقدر عليه إلا الله وهذا شططٌ في المعتقد وخروج عن المذهب وعدم علمٍ حقٍ بالله قال : ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) أي أنّ ما فعلت ما فلعت بوحي من الله وهذا يقوي أن الخَضِر كان نبيَّاً (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي).
ثم لما فرغ من بيان الأمر كله أوله وآخره ومنتصفه قال : ( ذَلِكَ ) إشارة إلى ما قد فات ( تَأْوِيلُ ) أي و قوع ( مَا لَمْ ) جاء بها مخففة ( ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) فمنعك من الصبر عليه أنك لا تعلم تأويله ( ذَٰلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ) هذا خبر موسى والخَضِر عليهما السلام الذي قصه الله جل وعلا في كتابه قلناه على وجه الإجمال .
تبقى مسألة ألمحنا في اللقاء الثاني إليها عامةً ولم نفصلها فيما بقي من الوقت وهي قضية قول من يقول من أهل العلم أن الخَضِر مازال حياً وهذا قال به أئمة معلوم مكانهم في الدين لا ارتياب في مقامهم ورفعتهم لكن دلّ ظاهر القرآن والسُّنة على أن الخَضِر ميت إذ أن الأصل في كل أحدٍ أن يُعمَّر إلى حين ثم يموت فإخراج الخَضِر من هذا الأصل يحتاج إلى دليل والله جل وعلا يقول : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) وقال صلى الله عليه و سلم : (ما من نفسٍ منفوسة) وذَكَر أنه لا يمر عليها مائة عام، ومن الأدلة التي ساقها العلماء وهي عقلية قالوا : أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدرٍ نَصَرَه خيرة أهل الأرض ولهذا قال : اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبَد في الأرض أبداً . قالوا -أي العلماء- : لو كان الخَضِر يومها حيَّاً للزمه أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم وينصره ولا يرغب أن لا يكون تحت راية سيد الخلق عليه الصلاة والسلام في يوم بدرٍ لأنها أعظم راية في الوجود إذ أنه كان تحتها كما هو معلوم الصدّيق والفاروق وسعد بن معاذ وحمزة وعليّ خيرة الناس من المهاجرين والأنصار وآل البيت ومن كان مع النبي عليه السلام في ذلك اليوم العظيم .. المقصود الصواب الحق -إن شاء الله- أن الخَضِر مات وأنه لا دليل يُخرجه عن أصله أنه باقٍ إلى يومنا هذا.
طبعاً من يقول بحياته من العلماء يقول ما تواتر من الرؤى من الصالحين وغيرهم أنهم يرونه، لكن حتى لو قلنا برؤيا الصالحين رؤيا الصالحين لا يمكن أن تهدم أصلاً ولا أن تقيم دليلاً إنشائياً يُستنَد عليه .
وقد قلنا أن السيوطي رحمه الله كان يقول :
واختلفت في خِضر أهل النقول ** قيل نبيٌ أو وليٌ أو رسول
ورجّحنا أنه نبي و لم نجزم لأن ظاهر قول الله جل وعلا : (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) .
تبقى وصايا مُستَخلَص جملة لطلاب العلم خاصة و لسائر الناس:
يجعل من يُقربُك منه يحفظك .. يحبك .. يواليك .. يعطيك مما علمه الله أدبك معه ، والعلماء صنفوا في أدب الملوك وفي أدب العلماء وفي غيرهم والمقصود من عرف من أحد ما أنه ينفعه وأراد أن يلزمه فلابد أن يُوطن لقلبه معه ويعلم كيف يتأدب معه، أنا لا أتكلم عن الأدب بمعنى الخضوع فالخضوع لا يكون إلا لله لكن اختيار العبارات والألفاظ و الطرائق في التعامل هي الأدب ، لِين أحد الأمراء المؤمنين في رجلٍ يُجلِه، لامه الحُسّاد قالوا : إنك تُعَظِّم فلاناً ، قال : لأدبه ، قالوا : ما رأينا هذا ؟ قال : أنا أُشعِرُكم فدخل الرجل وحول أمير المؤمنين حُسّاده ، فلما دخل الرجل أخرج أمير المؤمنين سواكه -مسواك- قال : يا فلان ما جمع مسواك ؟ قال : ضد محاسنك يا أمير المؤمنين.
من يفطن لهذا؟! يحتاج إنسان لدفتر حتى يحاول أن يفهمها وهو لم يرد أن يقول لأن مسواك ما جمعها ؟ مساويك ، فكأنه يقول لأمير المؤمنين لديك مساويك يعني مساوئ فما قال مساويك تجنبها عاجلاً يعني ، قال : ما جمع مسواك ؟ قال : ضد محاسنك يا أمير المؤمنين ، قال : وتلوموني في هذا ؟ هذا أدب.
وأحدهم جلس مع أحد الخلفاء قال : إني أريد أن أعرف شيئاً وأُجِلّك عن السؤال أي أن الملوك وأمراء المؤمنين ما كانوا يُسألوا ولذلك قالوا عندما كانوا يقابلون العلماء وأهل الأدب عندما كانوا يقابلون الخلفاء لا يقولون له كيف أنت كيف حالك لأن هذا يلزم منه أن يجيبهم فكانوا لا يسألونهم يقولون : أتمّ الله على أمير المؤمنين العافية ، أرجو الله أن يكون أمير المؤمنين أصبح بخير ، وألفاظ مثل هذه لا تحتاج إلى إجابة وحتى مع العلم. تعلمون هذا أن الليث بن سعد دخل المدينة فمرَّ عليه -إن لم أنسى- يحيى بن يحيى فلما رأي يحيى بن يحيى الليثَ بن سعد على بغلة أخذ بلجامها وأخذ يقودها فقال : من أنت ؟ قال : يحيى بن يحيى فدعا له الليث قال : خدَمَك العلم، خدمك العلم ، فبارك الله في الدعوة فخرج يحيى بن يحيى حتى أصبح من أعظم علماء الأمة في الحديث وهو يوم دعا له الليث كان صغيراً لكنه لما رأى العالِم تأدب معه حتى لعله يظفر بدعوة ولم يكن الليث محتاجاً إلى يحيى بن يحيى أن يأخذ له لجام الدابة لكن المقصود أن مثل هذا الأدب متى تتكلم متى تسكت متى تبدأ متى تنتهي هذا يعينك على البقاء عند أهل من تريد أن تبقى معهم، أما شخص لا تريد أن تبقى معه فلا تذمه لكن كما قال الله جل و علا في النساء : ( أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان ) يعني اتركه ويتركك لكن إذا أردت أن تلزم أحد فأشعره بأدبك.
وأنا أقول مراراً مثلاً وأظن الوقت قد نفد لكن تأتي أحياناً لأب وسط أبنائه ويريد الأب أن يحمل شيئاً ثقيلاً مثلاً حقيبة وحوله أبنائه الذي تغلب عاطفته على عقله يعمد إلى الحقيبة يحملها والذي يغلب عقله على عاطفته يترك الحقيبة لمَ ؟ لأنك لو حملت الحقيبة عنه بمحضر بنيه كأنك تقول له إن أبناءك لا يخدمونك أنا الذي خدمتك وأنهم لا يعرفون قدرك وأنا الذي عرفت قدرك. في هذه المواطن يتجاهل المرء ، وقد مرَّ معنا أن المأمون جلس مرةً يبحث عن دواة حبر -وهذا خبر أقوله مراراً ولكن لفائدته- فالدواة التي فيها الحبر بعيدة وبجواره أحد الأدباء فأصبح ينادي : يا غلام يا غلام يريد الدواه وهذا يسمعه ويرى الدواه كأنه لا يسمعه وأمير المؤمنين ينادي: يا غلام يا غلام وهذا كأنه لا يسمع والمأمون من العقل والعلم بمكان ، جاء الغلام قال : أعطني الدواه، أعطاه الدواه قال : يا غلام اكتب خمسين ألف درهم لفلان لأدبه .. أين أدبه ؟ أدبه لو قام وجاء بالدواه كأنه يقول يا أمير المؤمنين إن غلمانك خدمك وأنت أمير المؤمنين لا يسمعون كلامك لولا أنني أتيت بها فهو كأنه لم يسمع ولم يرَ.
وثمة مواطن العاقل إذا دخلها لابد أن يحاول كأنه لا يسمع ولا يرى ولا إذا خرج حدَّث، لا يُحدِّث هذا من أراد الدخول في هذه العوالم ومن لا فأغناه الله عن كل هذا .
والحمد لله رب العالمين .
____________________________
جزى الله خيرا الأخت (**) ونفع بها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق