الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شعار ولواء ودثار أهل التقوى وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه على آله وأصحابه وعلى من سار على هديه واتبع أثره بإحسان إلى يوم الدين أما بعد...
أيها المباركون في هذا اللقاء المبارك ونحن نشرُف بتفسير القرآن العظيم سنقف معكم مع قول الله جل وعلا : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) والآيتان كما هومعلوم من سورة الحج والحديث عنها وفق تفسير القرآن نقول :
أن المخاطب في الآية والإخبار ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) المطلوب منه أن يؤذن هو خليل الله إبراهيم بقرينة الآية التي قبلها إذ أن الله جل وعلا قال قبلها : (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ) وذهب بعض أهل العلم إلى أن المخاطب في قول الله جل وعلا : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) على أنه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، لكن الحق أن سياق الآيات لا يساعد على هذا الفهم وعامة أهل العلم على أن المراد به خليل الله إبراهيم .
قال الله جل وعلا : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) الأذان هو: الإعلام، فإذا اقترن بتهديد ووعيد خرج من كونه أذان إلى كونه إنذار هذا إذا اقترن بالوعيد أما إن لم يقترن فيبقى إعلام ويبقى أذان.
قال الله جل وعلا : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) بعد أن بنى البيت صلوات الله وسلامه عليه أمره ربه أن يؤذن في الناس بالحج ، وَرَدَ في الآثار بمجموعها مقبولة أنه وقف وقال : أيها الناس إن الله اتخذ بيتاً فحجوه ، وقد وعده الله جل وعلا بالإجابة إذ أن الله جل وعلا قال : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ ) فـ ( يَأتُوكَ ) : فعلٌ مضارع مجزوم لأنه واقعٌ في جواب الأمر ، أين الأمر ؟ ( وَأَذِّنْ ) فقوله جل وعلا : ( يَأتُوكَ ) جوابٌ لماذا ؟ لـ ( َأَذِّنْ ) ، ( يَأتُوكَ ) : أي سنجعل في قلوب كل أحدٍ يؤمن بنا أو بعضاً ممن يؤمن بنا أن يفد إلى بيتنا مستجيباً دعوتك ، ولَم يقل الله يأتوا البيت قال : (يَأتُوكَ) والكاف كاف الخطاب في ( يَأتُوكَ ) تعود على من ؟ على إبراهيم وإنما هذا من تعظيم الله جل وعلا لهذا الخليل لأنه أعظم الداعين إلى البيت ولأنه القدوة لهم صلوات الله وسلامه عليه في الحجّ قال الله جل وعلا : (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ).
فقال الله جل وعلا : ( يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ ) الواو واو العطف والعطف يقتضي المغايرة وقد ذكر الله جل وعلا أن قدوم الناس إلى هذا البيت العتيق على ضربين : ضربٌ راكب و ضربٌ ماشٍ فقال جل وعلا : ( يَأْتُوكَ رِجَالًا ) جمع راجل أي يمشي على رجليه أي غير راكب. وقوله جل وعلا : ( وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ ) ضامر بمعنى هَزُل ضَعُف أي الدابة ضعُفت من طول الطريق وبُعد المشقة لأن من كان يحجّ يريد البيت عليها مع مشقة السفر ضمُرت و لهذا قال جل وعلا : ( يَأْتُوكَ رِجَالًا ) هذا حال من لم يركب وقوله جل وعلا : ( وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ ) حال من يركب رُوي عن الحبر ابن عباس رضوان الله تعالى عنه وعن أبيه كما ذكر البيهقي وغيره من طرائق مختلفة أنه قال "أنه لما أسنَّ -أي كبُر- قال : "ما آسى على شيء - هذا قول ابن عباس - ما آسى على شيء إلا أني لم أحجّ ماشياً وقد قدَّم الله المشاة على من يركب في كتابه قال جل ذكره : ( يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ )" وفَهْمُ أهل العلم لقول الله جل وعلا : ( يَأْتُوكَ رِجَالًا) على ضربين المشهور وأظنه الأغلب أو أظنه الأرجح المقصود ( يَأْتُوكَ رِجَالًا ) مُشاة في التنقل بين المشاعريعني يأتي الإنسان يبدأ مثلاً بطواف القدوم ثم يذهب إلى مِنىً مشياً ثم من مِنىً إلى عرفة مشياً ثم من عرفة إلى مزذلفة مشياً ثم من مزدلفة إلى مِنىً مشياً ثم من مِنىً إلى البيت العتيق طواف الإفاضة مشياً ثم عَوداً من مكة أي البيت العتيق إلي مِنىً مشياً ثم العودة بعد أيام التشريق إلى مكة مشياً ، هذا الذي يُفهم. وبعض أهل العلم يقول: لا إنما المقصود من الأرض التي يرحل منها وهذا فيه مزيد تكليف لكن العلم عند الله والقول الأول عليه كثير من أهل العلم ( يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ ).
ثم قال جل وعلا : ( يَأْتِينَ) فالفعل "يأتي" والنون نون النسوة عائدةٌ على الإبل -على الدواب- التي تحمل الحُجاج فشرَّف الله جل وعلا الدواب بشرف من تحمله ، شرَّف الله جل وعلا الدواب هنا بشرف من تحمله.
( يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ) (عَمِيقٍ) : صفة لـ (فَجٍّ ) ، فما الفج ؟ الفج في أصل اللغة : الطريق بين جبلين ثم استُعير ليُستخدم في كل طريق، والعميق إنما يُقال في الأصل لما بَعُدَ قعره عمقاً .. لما بَعُدَ قعره عُمقاً ثم استُعير ليُطلق لكل ما بَعُد عرضاً أو طولاً وهذا معنى قول الله جل : ( وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق ٍ) وهذا كما ترى أمرٌ مشاهد في زمننا هذا خاصة في بلاد نائية يأتون الناس تعظيماً لهذا البيت واستجابةً لدعاء الخليل و هو في ديننا الركن الخامس وقد علّق الله جل وعلا عليه كما دلت السُّنة أعظم الثواب ( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم لدته أمه ) أي تحاتت ذنوبه كلها بما فيها الكبائر وتُحفَظ له حسناته إنما رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه لا رجع حاله لأن الإنسان يولد ولا حسنات ولا سيئات له إنما يرجع بعد الحجّ من ذنوبه كيوم و لدته أمه أما حسناته تبقى محفوظة.
قال الله جل و علا : ( مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق ٍ) ثم قال : (لِيَشْهَدُوا ) لام التعليل ( مَنَافِعَ لَهُمْ ) وهذه المنافع يتعلق بها خيري الدنيا والآخرة فأما خير الآخرة كما ذكرنا وأما خير الدنيا فإن الله أجاز لأهل الحجّ مع ما يقع بينهم من تعارف التجارة والاتجار بالأموال.
(لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ) البهيمة : ما كان يمشي على أربع والمراد هنا بهيمة الأنعام وهي ثلاث : الإبل والبقر والغنم، هذه التي يجوز أن يُضحَّى بها أو يُهدى أو يُعَق.
قال جل وعلا : ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ) قوله جل وعلا : ( فِي أَيَّامٍ ) جعل بعض المالكية ومن وافقهم يقولون أن الذبح ليلاً لا يُجزي لأن الله جل وعلا قال : ( فِي أَيَّامٍ ) ويُرَد عليهم أنه ذُكِر اليوم و يُراد به اليوم والليلة في القرآن وفي كلام العرب كثيراً لكن أحوط أن يذبح الإنسان أضحيةً أو هدياً أو عقيقةً في النهار ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ) .
ثم هذا الذي يُذبَح في أيام الحج غالباً لا يخلو من أحد ثلاثة أحوال : إما أن يكون هَدي تطوع، وإما أن يكون هدياً واجباً جاء شكراً، وإما أن يكون هدياً واجباً جاء فديةً وصُوَر هذا على النحو التالي :
/ رجلٌ حج حجاً مُفرِداً فهذا لا هدي عليه .. واضح ، لكنه تطوعاً منه أهدى للبيت وذبح يجوز أن يأكل من هديه أو لا يجوز ؟ يجوز بالاتفاق لأن هذا الهدي هدي تطوع.
الحالة الثانية : رجلٌ حج قارناً أو متمتعاً فهذا عليه هدي، هذا الهدي واجبٌ عليه، يأكل منه أو لا يأكل ؟ الصواب أنه يأكل منه. وقال بعض أهل العلم : لا يأكل منه ، لكن الأرجح أنه يأكل منه فالرسول صلى الله عليه وسلم حجّ قارناً وذبح وأكل ، لكن قد يقال النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بمائة ناقة واحدة منهم تقع واجباً والباقي لا تقع، لكن الراجح من أقوال أهل العلم وعليه الفتوى أنه يأكل منه .
الحالة الثالثة : وقع في محظور من محظورات الإحرام يُكَفّر عنه بفدية بذبح شاة فهذه الفدية وقعت تكفيراً عن جناية ولم تقع شكراً كما في الأول عند التمتع والقِران فهذا لا يأكل منه. مثلاً : حجّ لكنه أحرم بعد الميقات فالإحرام من الميقات واجب فهذا ترك واجباً فعليه فدية لكنه لا يأكل من تلك الفدية إنما يأكل منها فقراء الحرم .. هذا تفصيل يسير حول قول الله جل وعلا : ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَام ).
قال الله جل و علا : ( فَكُلُوا مِنْهَا ) وهذا الأمر أمر إباحة ، ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) فلما قال الله جل وعلا : ( فَكُلُوا مِنْهَا) فالسُّنَّة أن يأكل من هديه إن كان هدي تمتع أو كان هدي قران أو كان هدي تطوع، ( فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ) أي من عَظُم بؤسه وفقره، ويجوز إطعام غيره لكن المقصود في القرآن قضية الأولوية فيمن هو أحق بأن يُطعَم.
قال الله جل وعلا بعدها : ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) ( لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ) أي يتخلصوا من أردانهم ذلك لأن الإحرام يُعيق فإذا فرغ الإنسان من إحرامه وتحلل يوم النحر بما يتحلل به الحاجّ عادة حلّ من إحرامه ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) بما أوجبوه على أنفسهم من هدي وغيره وأضاحي.
ثم قال جل وعلا : ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) ( الْعَتِيقِ ) هنا بمعنى هنا بمعنى الكريم ولا يمنع أن يُحمَل على قِدَمه في الدهر.
وهذا الطواف المذكور في آية الحج هنا هو طواف الإفاضة وهو ركن من أركان الحج فأهل العلم -الفقهاء- يقولون أن النية أي نية الدخول في النُسُك و الوقوف بعرفة و طواف الإفاضة هذه الثلاثة هي أركان الحج واختُلِفوا في السعي هل هو ركن أو واجبٌ أو حتى قيل سُنّة، وبقية المناسك مختَلَفٌ فيها ما بين الوجوب والسُّنن لكن المتفق على أنها أركان نية الدخول في النسك، والوقوف بعرفة وطواف الإفاضة ، والطواف يقع على أضرُب، ما معنى أضرُب ؟ أنواع .
/ يقع سُنَّة وهذا أن يأتي أحدٌ البيت في أي ساعة من ليل أو نهار فيطوف ويقع بالنسبة للحاجّ إن لم يكن متمتعاً يقع في طواف القدوم على أنه سُنَّة.
/ ويقع ركناً وهو طواف الإفاضة.
/ و يقع واجباً وهو طواف الوداع عند الجمهور لأن مالك رحمه الله ومن وافقه لا يروا أن طواف الوداع واجباً فالإنسان يحتاط في كلامه. يقع طواف الإفاضة ركن بالإجماع وطواف القدوم مالم يكن العبد متمتعاً هو طواف سُنّة ، وطواف الوداع هو واجب عند الجمهور .
نأتي لقول الله جل وعلا : ( وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَام ) دلّ على من أعظم مافي شعائر الحجّ هو ذكر الله وهذا دلت عليه أحاديث كثيرة في السُّنة أن هذه الشعائر من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار إنما شُرعت ليُذكَر عندها رب العزة والجلال .
يتعلق بالحجّ الدعاء وثمة مواطن وقف عندها النبي صلى الله عليه و سلم فدعا ، ونقصد بالدعاء المقرون برفع اليدين لا بالدعاء الوارد في الذِّكر فمثلاً قال صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة : ( رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) قالها مابين الركنين اليماني والحجر الأسود .. هذا دعاء لكنه ليس دعاءً مقروناً برفع اليدين ونحن نتكلم هنا عما يُشرَع عنده رفع اليدين في الحجّ هذا يكون أول ما يكون على الصفا وعلى المروة، فالصفا والمروة موطنان من مواطن الدعاء .
ثم أنه صلى الله عليه و سلم لما أتى مِنىً في أيام التشريق قبل أن يأتي مِنىً في أيام التشريق رفع يديه يوم عرفة أي في عرفة ، فعرفة يجتمع فيها عَظَمة المكان و عَظَمة الزمان بالرغم من أن عرفة حلٌّ وليست حرماً لكن النبي صلى الله عليه وسلم وقف ودعا.
والحالة الثالثة : في أيام التشريق بعد رمي الجمرات الاولى والثانية أو قُل الصغرى والوسطى أما الكبرى فلا دعاء بعدها فمادام أنه صلى الله عليه وسلم وقف عند هذه المواطن يستقبل القبلة ويرفع يديه وقد قال الله جل وعلا : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) فهذا من أعظم الأدلة على أن هذه المواطن من أعظم مواطن الدعاء ويُرجى أن يكون فيها الإجابة فمن كتب الله له أن يحج فليحرص عليها وليدْعُ الله بقلبٍ يرغب فيما عند الله من العطاء والنعيم .
متعنا الله وإياكم متاع الصالحين والحمدلله رب العالمين .
______________________________
جزى الله خير أخيتنا (**) وبارك فيها لتفريغها الحلقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق