سلام الله عليكم ورحمته وبركاته
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على الهادي اﻷمين على حبيبنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:
نواصل مع قصة موسى وأُمه. ألقته أمه في اليمّ لما خافت عليه لكنها بعد أن ألقته تحرك حنان اﻷم وعاطفة اﻷم وانشغال بال اﻷم مع أن الله -جل وعلا- تأملوا هذه المقدمة: أمرها ونهاها أن تخاف عليه، أمرها بوضعه في اليمّ ونهاها أن تخاف عليه أو أخبرها...طمأنها أﻻّ تخاف عليه وأﻻ تحزن عليه مع وعد وبشرى بأن الله راده إليها بل إنه سيبقى ويكبر ويصبح من المرسلين (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [سورة القصص : 7] ما الذي حدث؟ (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ ) ﻻحظوا ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) من شدة همها وعاطفتها اﻷمومة وخوفها من هذا الظالم الجبار أصبح فؤادها فارغا إلا من هم موسى على القول الصحيح وإﻻ ففي المسألة أقوال حتى إن هناك قراءة (فزِعا) أصبح فؤادها فزعا (إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) ولو أبدت به ماذا كان يحدث؟ لكان أمر الله نافذ
(لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة القصص : 10] تأملتم هذا ما يسمى بالاستغراق في اللحظة الحاضرة، كيف الاستغراق في اللحظة الحاضرة؟ اﻹنسان يدهمه أمر...يفاجأ بحدث...يخاف من عدو...يبشر ببشرى كبيرة تستغرق هذه اللحظة فقد يتصرف تصرفا يندم عليه فيما بعد.
تأملت في مسائل عدة من أبرزها تأملت في قضيتين: قضية الطلاق وقضية القتل فوجدت أن سببهما الرئيس هو الاستغراق في اللحظة الحاضرة، يدخل الزوج على زوجته ثم يبدأ النقاش ثم كلمة وكلمة وقد تقول المرأة كلمة لضعفها أو يقول الرجل كلمة لعدم إدراكه بمآل ذلك ثم يطلق كلمة الطلاق.
البارحة جاءتني رسالة يقول صاحبها: زوجتي حامل فاختلفنا وغضبت ثم قلت طالق...طالق...طالق، وأنا اﻵن نادم أريد أن أرجعها. ما الذي دعاك يا أخي إلى أن تقول هذه الكلمات وياليتها واحدة، هنا إشكال هو استغراق في اللحظة الحاضرة.
يذهب اثنان في طريق، زملاء...أصدقاء يتحدث أحدهما مع اﻵخر ثم نُفاجأ بماذا؟ بارتفاع النقاش...بالغضب...بالقتل، فقصة الذي جاء النبي ﷺ يقود رجلا قال: إن هذا قتل أخي، قال: أقتلته؟ قال:نعم، قال النبي ﷺ لماذا قتلته؟ قال: خرجت أنا وهو نحتطب -أصحاب- ثم سبني فضربته بالفأس فقتلته. استغراق في اللحظة الحاضرة. واﻷحوال كثيرة جدا حتى في الفرح، يأتي الرجل للنبي ﷺ من الفرح ويريد أن يُخرج من ماله فرحا فيقول النبي ﷺ أبقِ عليك بعض مالك. هذا استغراق يحدث بالحاﻻت المفاجئة.
هنا أم موسى -عليها السلام- أصبح فؤادها فارغا (إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) بسبب الاستغراق في اللحظة لكن جاء تثبيت الله -جل وعلا-(لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا) [سورة القصص : 10] إذا مع كل هذه المُبشرات ومع هذا اﻷمر ومع نهيها أن تحزن في اللحظة الحاسمة قد يَضيع بعض اﻷشياء أحيانا إﻻ من يربط الله على قلبه. إذا دعونا نتوجه لمن يربط على قلوبنا، هذه الفتن وهذه المستجدات التي نعانيها في اﻷمة اليوم عظيمة جدا نحتاج أن نفر إلى الله (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) [سورة الذاريات : 50] هذا معنى عظيم جدا تؤكده هذه الحقيقة.
ثم إنني ألفت لفتتة بسيطة: تسألني إحدى اﻷخوات عندها طفل رضيع تقول أريد أن أسافر أنا وزوجي كذا.... في سياحة لمدة طويلة وأريد أن أترك طفلي عند فلانة. أي أمّ هذه؟! رحم الله أمّ موسى. تريد أن تضع ابنها عند فلانة -عند أُمّها..عند أختها..عند الخادمة- أي أمّ هذه؟! أين حنان اﻷمومة؟! أين عاطفة الأمومة؟! هذه معاني تربوية نتصور أن الطفل الذي في المهد ﻻ يفهم، هناك فطرة، هناك جِبلة ولذلك موسى لحكمة الله -جل وعلا- أنه لم يرضع من غير أمه، اﻵن بعض اﻷمهات أصبحت ﻻ تُرضع ابنها، هل ليس عندها حليب؟ ﻻ...ﻻ، وقد سألت إحداهن تريد وتدعي أنها تحافظ على جمالها وترضعه من هذا الحليب الصناعي. ألم تحس بعاطفة اﻷمومة عندما تضم طفلها إلى صدرها ليرضع؟! وهذا من الحكمة، أثر هذا اﻷمر على هذا الطفل عندما ينشأ، هل مجرد أن تملأ بطنه؟ ﻻ.. سبحان الله... هذه معاني دقيقة يجب أن ننتبه لها ونحن نتأمل.
ثم بعد ذلك قال (لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة القصص : 10] هي مؤمنة لكن ليزداد إيمانها ﻷن اﻹيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فالثبات من أعظم الطاعات ( لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) المُوقنين بوعد الله -جل وعلا- وهكذا كان.
ثم بعد ذلك قال (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) [سورة القصص : 11] كم في هذه اﻵيات من دروس.
من بعيد .. انتبهي.. امشِ مع هذا الولد، هذه الفتاة الحكيمة العجيبة (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [سورة القصص : 11] ما ذهبت تمشي خلفه حتى يقولون من أنتِ فيُدركون أنها أخته فيعرفون من هي أمه (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) أنهم أخذوه (عَنْ جُنُبٍ) من بعيد وهم ﻻ يشعرون. هنا ما وعدتُ به وقلت في الحلقة الماضية وهو التلطف، اﻷمور العظيمة تحتاج إلى تلطف، انظر إلى واقع الناس عند اﻷمور العظيمة يُصابون بجلبة..بارتباك يشعر الناظر لهم أن وراءه ريبة أو أن وراءه هدف..ﻻ، (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) [سورة يوسف : 87] ها البحث عن يوسف وعن أخيه أمر عظيم ﻻ تحدثوا جَلَبَة، (لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ) أمر عظيم البحث عن يوسف (تحسسوا) التحسس له دﻻلة. كذلك الفتية لما أرسلوا واحدا منهم من أجل أن يأتي بالطعام (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا) [سورة الكهف : 19] هم اﻵن مُختفون، الفتية الذين في الكهف وقصّ الله قصتهم في سورة الكهف هم قد اختفوا من هذا الظالم، هم لم يعرفوا بعد نومهم الطويل أن اﻷمر قد تغير وأن الحُكم قد تغير وأنها جاءت دولة صالحة بدل دولة كافرة، فأرسلوا مندوبا لهم يأتي بالطعام لكن انظروا إلى عباراتهم أوﻻ أرسلوا بواحد (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) [سورة الكهف : 20] على ما كان عندهم من قبل.
الشاهد: أن اﻷمور العظيمة تحتاج إلى تلطُف، إلى حكمة، إلى بُعد نظر مهما كانت المشكلة (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ) [سورة يوسف : 100] ربنا خالقنا تكرر في القرآن في أمور عظيمة كيف يتحقق ومنها قصة موسى -عليه السلام- فالله -سبحانه وتعالى- لطيف لما يشاء فهل نحن نتعامل مع هذه المشكلات بهذا اللطف؟ (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) [سورة القصص : 11] ما أعقل هذه الفتاة وما أبعد نظر هذه اﻷم التي أرسلت هذه البنت، قامت بدور قد لا يقوم به بعض الرجال، فهي مشت بهدوء ومشت بتلطف وبصُرت به عن جُنب وهم ﻻ يشعرون بحركتها وﻻ بقصدها مع أن قلبها وعينها على هذا الطفل.
كثير من المشكلات عندما نريد أن نحُلها نعقدها ويُشكل بين الزوج وزوجته.. بين اﻷب وأبنائه.. بين الجيران .. بين أفراد المجتمع بدل أن تُحلّ بلطف وبإقناع وبحوار وبسعة صدر وبُعد نظر، أما أن تُحل بالقوة؟! القوة نعم تستخدم عند الحاجة إليها في مواضعها الصحيحة لكنها استثناء أما أن تكون هي السياسة ﻹخضاع الناس بالقوة ليس هذا حلا، هل نفع فرعون وهو يقتل نصف -التطهير العرقي- نصف شعبه كما يحدث اﻵن في بعض الدول، بالقتل الجماعي؟! ﻻ ينفع. اﻷسلوب الجميل، اﻹقناع كما فعلت امرأة فرعون، كما فعلت كما ستأتي في القصة القادمة وفي الدرس القادم وفي الحلقة القادمة أخت موسى.
هنا نصل إلى ما نريد (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [سورة البقرة : 269] الحكمة كما قال ابن القيم "فعل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي" هذه هي الحكمة (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [سورة النحل : 125] بهذا نُحقق أهدافنا بهدوء وبسكينة وببُعد نظر، هذا هو القرآن يربينا ويعلمنا. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم وﻻ تنسوا الدعاء ﻹخوانكم المسلمين في كل مكان .. ﻹخوانكم المستضعفين للمجاهدين. تقبل الله مني ومنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق