السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
{ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ } .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله..
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا ۜ * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ } وأصلي وأسلم وأبارك على سيدنا ونبينا وحبيبنا وقرة أعيننا محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأحبابه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين ..
وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين فنِعم المولى ونِعم النصير وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله أرسله رحمة للعالمين فبلّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الله به الغمة فجزاه الله عنا وعن أمته خير ما جازى نبياً عن أمته ثم أما بعد..
أيها الأحبة في الله ما زلنا وإياكم مع تفسير المثاني وقد وصلنا بفضل الله تعالى إلى الدرس الثالث من دروس تفسير المثاني وفي هذا الدرس نتناول الجزء الثاني من الآية الأولى من فاتحة الكتاب وهي قول الله عز وجل : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } وهذه الجملة (رب العالمين) فيها دروس كثيرة:
الدرس الأول في توحيد ربوبية الله عز وجل ، وتوحيد الربوبية يقوم على أربعة أركان، والأركان الأربعة موجودة في هذه الجملة {رَبِّ الْعَالَمِينَ }
الركن الأول : الخلق ، فأول ربوبية العالم خلقُه، خلق الله عز وجل لهذا العالم { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ } ماذا فعل ؟ { الَّذِي خَلَق َ}
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ } ماذا فعل ؟ { الَّذِي خَلَقَكُمْ } ، وأول صفات ربوبية الله للكون كله وللعالم كله أنه خالق كل شيء { هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } الذين أدعوا أنهم أرباب من دون الله ماذا خلقوا ؟ هل خلقوا شيئاً ؟ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } إذاً أول ركن من أركان توحيد ربوبية الله جل جلاله للكون كله وللخلق كلهم كونه تعالى هو الخالق وهذه أول صفة لله عز وجل يُعرِّف بها نفسه {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } .
الخلق ينقسم إلى أقسام :
/ خَلقٌ من عدم - ليس له أصل - خُلق من عدم
/ وهنالك خَلقٌ من خَلْقٍ .
كم قسم ؟ خلق من لا شيء ، وخلقٌ من خلقٍ .
نبدأ بالقسم الأول : خلقٌ من عدم ، لم يكن شيئا ثم أصبح بأمر الله شيئاً ، ويدخل في ذلك أصول الخلق ، فماهي أصول الخلق ؟
الأصل الأول : العرش ، العرش خلقٌ خلقهُ الله من لا شيء ، كن فكان .
الثاني : الماء ، خلقهُ الله من لا شيء - لم يكن ماء موجود - فخلقه الله بـ (كن).
الثالث : القلم ، خلقهُ الله من لا شيء قال له كن فكان .
الرابع : اللوح المحفوظ خلقهُ الله عز وجل بـ (كن).
الخامس : النار خُلقت أيضاً بأمر الله (كن) .
السادس : النور {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور} .
ثم من هذه الأصول خَلَقَ الخلْق ، فجعل الله من النور الملائكة فكل الملائكة خُلقوا من أصلٍ هو النور ، وخَلَق من النار الجانّ ، وخلق من الماء كل شيء حي { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَي} .
السماوات والأرض خُلقتنا من ماذا ؟
الأرض خلقت من زبد الماء، والسماء خُلِقت من دُخان النار { ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } والدخان له علاقة بالنار ، والأرض { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ } والأرض لها علاقة بالماء.
أصول الخلق تدل على الخالق مع أن أصول الخلق موجودة ، النور موجود فهل يستطيع أي مخلوق كائناً من كان أن يخلق ملَك من النور؟ والنار موجودة فهل يستطيعوا خلق جني واحد من نار؟ والماء موجود فهل يستطعوا خلق ذبابة من ماء؟
وأصول الخلق بين أيديكم فهل يستطيع أحد أن يخلق كائناً حياً ؟ لا يستطيعون .
{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ } المني الذي يخرج من أصلابكم { أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ }، من الذي جعل من الدم الأحمر ماء أبيض غليظ دافق { يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِب } من أخرجه ؟ الله .
أصول الخلق تدل على الخالق فأصبح الخلق خلقان: خلق من عدم ، وخلقٌ من خلق ، والإنسان خلقٌ من خلق ، الإنسان الأول خُلق من طين ، والطين خُلق من الماء والتراب ، طيب التراب من ماذا خُلق ؟ من ماء ، والماء خُلق من (كن) { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } عيسى خلقه من مريم ثم قال له كن فكان ، فالذي أخرج آدم من التراب هو الذي أخرج عيسى من مريم ، وما الفرق بين التراب التي خرج منها آدم وبين مريم التي خرج منها عيسى؟ أي الإثنين يدعو للاستغراب؟ رجل يخرج من تراب أو رجل يخرج من رحم امرأة .
{ رَبِّ الْعَالَمِين } خالق العالمين لأن أول الربوبية الخلق ، فإذا كان الله جل جلاله هو الخالق { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } لا خلاف في ذلك ، إذا كان الله هو الخالق فلماذا خلق ؟ سؤال مطروح لماذا خلق الله الكون ؟
لماذا خلق الله الإنس والجن ؟
لماذا خلق الله الملائكة ؟
لماذا خلق الله الحياة ؟
لماذا خلق الله الموت ؟ { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ } خلق ماذا ؟ { الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } لماذا ؟ {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} خلق ليبتلي ، وابتلى ليصطفي فمن ابتُلي بالخير فشكر فقد اصطُفي للشكر { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } ، ومن ابتُلي بالشر فصبر فقد اصطُفي للصبر { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِعْمَ الْعَبْدُ } فالله يبتلي عباده ليشكروه على ابتلائه بالخير، أو ليصبروا على ابتلائهم بالشر (عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) .
وهل خلق الله شيئاً عبثاً ؟ هل هذا الذباب والنمل والخنفساء والحيات والعقارب والثعابين وما حواه البحر ، وما حواه البر ، وما حواه الجو من المخلوقات والكائنات الحية وغير الحية من النباتات والجمادات والأحياء هل ذلك عبثاً ؟
ما خلق الله شيئاً عبثاً أبداً ، (إنا شيء خلقناه بقدر) وما خلق الله شيء إلا لحكمة واسمعوا هذه القصة :
رجل من الجهلة ـ من أصحاب البادية ـ جلس في البر في ليلة مقمرة وجاءت خنفساء تمشي فنظر إليها فإذا بها صعدت على قدمه صعدت على ساقه ولسعته ، لسعته الخنفساء فقتلها ثم قال كلمة { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } قال : عجباً ما أدري لمَ خلق الله هذه الخنفساء! كان الله غنياً عن خلقها { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا } فلما قال الكلمة تورّم ساقه فحُمل للمستشفيات وقرروا بتر الرجل وأبى قال : أموت ولا تُقطع رجلي ، قيل له إن في البادية رجل طبيب يعالج بالطب البديل ـ الطب الشعبي ـ قال : ائتوني به ـ كان رجل ذو مال ـ ائتوني به ، فلما جاءه قال : إن في البادية خنفساء خلقها الله لهذا النوع من المرض فإن أردت أن أعالجك فاذهب معي إلى البادية قال : نذهب معك ، حُمِل إلى البادية وإذا بنفس الرجل يأتي بالخنفساء التي قتلها الرجل على ساقه ويقول : دواؤك في هذه ـ أنت تسأل لماذا خلق الله هذه ؟ وهذه اليوم دواء لقدمك ـ فإذا بالطبيب يشرط رِجله ويدخل الخنفساء ويخيط عليها فتأكل الخنفساء كل الجراثيم التي في رجله وإذا به يتماثل للشفاء ثم يرجع فيقطع العملية فإذا بالخنفساء متورمة بما فيها من الجراثيم ثم يخرجها ثم يعالجه علاجاً ويطيب ويبرأ ولم تُقطَع رجله بسبب خنفساء كان يتسآل لماذا خلقها الله؟ -سبحان الله العظيم-
ما خلق الله شيئاً عبثاً ، كل دابة خلقها الله فيها فائدة علِمها من علِمها، وجهلِها من جهلِها. الذبابة تحمل داء تحت جناحها وتحمل دواء الداء في الجناح الآخر يقول النبي ﷺ : ( إذا وقع ذباب بآنية أحدكم فليغمِسه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء ) ما خلق الله شيئاً عبثاً.
زد على هذا فائدة أخرى أن الله عز وجل أحسن كل شيء خلَقه ومن هنا يتبين خطأ وزلل وما وقع فيه كثير من الإخوة والأخوات عندما يُقبِّح وجهاً خلقه الله فعبارات تقال عندما يقول : -مثل وجهه- إذا أراد أن يُقبِّح فعله يقول : "فعله مثل وجهه" "اقلب وجهك" وغير ذلك من الكلمات أو "قبّح الله وجهه" وغير ذلك، أو حتى ضرب الوجه أو التفل في الوجه أو تقبيح الوجه، كل هذه الأفعال مخالفة لشرع الله وكل هذه الأقوال مخالفة لشرع الله فإن النبي ﷺ قال : ( لا تُقبحوا الوجه فإن الله خلق آدم على صورته ) يعني هذا الوجه الذي يحمله بني آدم الله الذي خلقه الله الذي شق سمعه وبصره يقول النبي ﷺ في سجوده : ( سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره ) ويقول الله جل جلاله :{ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ۖ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ } ويقول : {ِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَٰذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ } لقد ركبك في أحسن صورة.
أيضاً من الأمور المهمة في هذا الباب أن نعلم أن الله عزوجل خلقنا ، وخلق لنا، وخلق منا .. كيف ؟
خلقنا من ماء مهين، وخلق لنا أزواجاً لنسكن إليها، وخلق منا خلقاً كثيراً ذكوراً وإناثاً وهذا فِعل مَن ؟ الخالق جل جلاله.
وهذه الكلمة -كلمة الخلق- ينطوي تحتها باب كبير من أبواب التوحيد هو توحيد ربوبية الخالق ، أن الله عندما خلق لم يخلق بأمر آمر سواه، سِوى نفسه إنما يخلق بأمره، بأمره جل جلاله { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا } أراده هو سبحانه وتعالى { شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون } فهو يخلق بإرادته، وإذا خلق الله جل جلاله خلقاً أكرمه .. كيف إذا خلق خلقاً أكرمه ؟
عندما يخلق أي خلق يجعل له مع خلقه رزقاً { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } قدّر الرزق فهدى إليه فعندما يخلُق خلقاً يُقدّر للخلق رزقه قبل خلقه، فالطفل قبل أن تلده أمه اللبن قد جرى في ضرعها {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ } إذاً هذا كله داخل في { رَبِّ الْعَالَمِينَ }.
وتحدثنا في اللقاء الماضي عن معنى { رَبِّ الْعَالَمِينَ } الذي ورد في القرآن وأن الرب يأتي على خمسة معاني:
/ المصلح للشيء بعد فساده { وَلَٰكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } أي مصلحين.
/ وكذلك الإله المعبود { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } .
/ وكذلك السيد المطاع كما قال تعالى : { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ } أي زوجها -هذا كلام يوسف- { مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } يعني أنه سيدي أحسن مثواي، وقيل { إِنَّهُ رَبِّي } أي رب العاليمن أحسن مثواي، ولا شك أن عزيز مصر عندما اشترى يوسف قال لامرأته : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا }.
/ وكذلك تُطلق كلمة رب على الملِك ومنه قول يوسف عليه السلام للرسول الذي جاءه من الملك : { ارْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ } أي ارجع إلى الملِك { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ۚ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ }.
هذه المعاني كلها تُطلَق على رب العالمين فهو الإله المعبود بحق، وهو السيد المُطاع ،وهو الملك، وهو المُصلح للشيء بعد فساده أو قبل فساده أو لئلا يفسد، إلى غير ذلك من المعاني الواردة .
( العالمين) ذكرنا أن العالمين تُطلق ويراد بها كل ما سوى الله ، وأن كل ما سوى الله ينقسم إلى أربعة أقسام من حيث النوعية، وينقسم إلى قسمين من حيث العلم والجهل، فمثلاً:
إذا أردنا أن نُقسِّم من حيث العِلم وعدم العلم نقول ما سوى الله إما ذو علم، وغير ذو علم ، فذو علم ثلاثة: الملائكة، الإنس، الجن، هؤلاء عالم وما سواهم عالم.
أو يكون ما سوى الله المراد به كل شيء سوى الله عزوجل فيدخل فيه كل خلق الله، وكل خلق الله ينقسم إلى أربعة أقسام :
الخلق الأول : ذو العِلم يدخل فيه الملائكة والإنس والجن، واحد.
اثنين الحيوان، ثلاثة النبات، أربعة الجماد.
فكل خلق الله لا يخرج عن الأربعة: ذو العلم وهم الأصناف الثلاثة، الحيوان يدخل فيه جميع الحيوان الإبل البقر الغنم والدواب والسباع والهوام كل ذي روح، كل ذي كبد هذا قسم اثنين ، ثلاثة النبات يدخل فيه جميع أنواع النباتات برية وبحرية وغيرها حتى الذي في الجنة نباتات ، أربعة الجماد الحجارة والحديد و..و..الخ -الأشياء الجامدة التي لا تنمو- هذه جماد.
هذه كلها تدل على رب العالمين، فالملائكة {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } { لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } والإنس على رأسهم آدم وحواء { قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }، والله عزوجل خاطب ابن آدم في القرآن في أكثر من موطن { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْر }.
والثاني : الجن { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا ۚ لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } رب الإنس ورب الجن .
الثالث : الحيوان { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }.
الرابع : النباتات { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا } وقال تعالى عن نبات الأرض : { اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } إلى غير ذلك.
وأما الجماد فقد ذكره الله في مواطن كثيرة من قوله تعالى :{ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } { وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } إلى غير ذلك. كل هذا يرجع إلى رب واحد هو خالق الجميع، هو خالق الحياة والأحياء والنبات والنباتات والجماد والجمادات إلى غير ذلك .
قد جعل الله الحياة أقسام:
/ حياة غلبت عليها الروح كحياة الملائكة.
/ وحياة غلبت عليها الأجساد كحياة الإنسان والحيوان.
/ وحياة قابلة للتجسد وعدم التجسد كحياة الجن وكحياة الملائكة أيضاً.
وحياة هي كما هي جماد يتصرف فيها الحي كتصرفه في الأرض هدماً وردماً،وكالتصرف في الحديد وما يخرج من الأرض من معادن إلى غير ذلك.
إذاً { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } عندما تنظر إلى هذا تجد المحمود على هذا كله واحد هو الله سبحانه وتعالى، فمنافع الحديد منه، وكذلك ما خرج من الأرض من معادن منه، والنبات منه { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } ، حتى الحياة التي لا تقوم إلا بالماء { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } ضمِن الله لها الماء ووزع الماء في هذا الكون لتستقيم الحياة، فالماء يجري في بطن الأرض أنهار جوفية، ويسبح فوق الأرض سحب بين السماء والأرض { يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } الرياح تسوق الماء ، وأيضاً بحاراً وأنهاراً من حولكم وأيضاً عيوناً تخرج من الأرض { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } فأنتم وأنعامكم لا حياة لكم إلا بالماء وما نتج من الماء وجعل الله من الماء كل شيء حي حتى النبات، ومن هنا عُلِم أن للنبات حياة لأن النبات مرتبط بالماء وما خرج من الماء كانت فيه حياة، والحياة تختلف باختلاف نوعها، فحياة النبات ينمو النبات بها، وحياة الإنسان ينمو الإنسان بها إلا أن الإنسان يتحرك ذهاباً ومجيئاً والنبات في مكانه لا يتحرك إلا في أُفُقه عندما يطول أو في عرضه عندما يعرض وهكذا يكون النبات منه ما هو أفقي ومنه ما يتوسع عرضاً ومنه ما يكون له ساق ومنه ما ليس له ساق،وكل ذلك من الماء والماء آية من آيات الله ونعمة من عند الله ولو أصبح الماء غوراً ليبُس النبات وعطش الإنسان وانتهت الحياة { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا } أي يغور في الأرض { فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } { أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا } مالحاً لا يستطيع الإنسان أن يشربه { جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلُولَا تَشْكُرُونَ }.
إذاً عندما نقول : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } فإننا نتحدث عن الكون كله وعن علامات ربوبية الله عزوجل لهذا الكون سواء كان في خلق الملائكة أو خلق الإنسان أو خلق الجان أو خلق السماوات العلا أوخلق الأرض أو خلق ما بينهما، لذلك لما سأل فرعون موسى عليه السلام عن معنى رب العالمين { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ } وهذا معنى، ثم قال { قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } قبل ذلك { رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ } { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} وفي الآية الأخرى : { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } وما أجمل هذا التعريف { قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ } فدل على أن الخلقُ وإعطاء الخلقَ للخلق هو أول علامات ربوبية الله عز وجل لهذا الكون.
القسم الثاني أو الركن الثاني من أركان ربروبية الله جل جلاله : هو مُلك الله لخلقه { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } فكل الخلق مُلك لله، فالله عز وجل لا يخلق لغيره -ولله المثل الأعلى- ممكن يكون عندك أنت تملك مصانع وتأتي بناس تصنع لك { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } هذا ممكن يقع من المخلوق للمخلوق لكن الله عزوجل لا يخلق لغيره إنما إذا أراد أن يخلق خلقاً قال له : كن فيكون وهذا هو المُلك إذ لو كان ربنا يخلق لغيره لكان ثمة مالك للخلق غير الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } ، ولو كان هناك خالق غير الله لتشابه الخلق وكل مخلوق دعى خالقه وقامت معركة -ولله المثل الأعلى- فلا يتحكم في الجسد إلا قلب واحد { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } ، كذلك لا يتحكم في الكون إلا إله واحد، فلو كان في جسدك قلبان قلب يحب وآخر يكره، قلب يأمر وآخر ينهى، لما استقامت لك حياة، كذلك إذا كان في الكون إلهين هذا يأمر وهذا ينهى لما استقامت في الكون حياة، لكنه قلب واحد وكون واحد ورب واحد ومنهج واحد { وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } فالتوحيد هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله ، المُلك، ملك الله عزوجل إذا أردنا أن نفهم معنى الملك ما هو المُلك ؟
المُلك ينقسم إلى قسمين : مُلك حقيقي لا يزول أبداً ، ومُلك مجازي يزول بزوال سببه -مثلاً- اشتريت سيارة ملكتها فيكتب في الاستمارة انتقلت من ملكية سيارة كذا كذا إلى المالك الجديد كذا، إذاً هذا مالك ملك سيارة فإذا باعها انتقلت ملكيتها منه إلى مالك جديد لكن الله جل جلاله لا يخرج عن ملكه شيء الملك كله لمن ؟ لله { مَالِكَ الْمُلْك } { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } الألف واللام قبل الملك تفيد الاستغراق أي ليس ثمة ملِك ولا مالك يملك شيء إلا بإذن الله { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ } فالله الذي يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك من من يشاء، ويُعز من يشاء بالملك الذي أعطاه له ويُذل من يشاء بالملك الذي ينزعه عنه، وهذه من ربوبيته جل جلاله وهي ملكية الله للكون كله ومافيه .
إذاً سمعك وبصرك ويدك ورجلك وعقلك وروحك وجسدك ملك لمن ؟ لله فالله يملكك ويملك ما تملك فليس لك من الأمر شيء، وليس لك من المُلك شيء، حتى الروح التي تتحرك بها هي مُلك لله، إن شاء الله أبقاها فأصبحتَ حياً، وإن شاء الله أخذها فأصبحتَ ميتاً (بسمك ربي وضعت جنبي وبسمك أرفعه - باسمه جل جلاله - فإن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها ) فـ { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ۖ فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى } { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ } من يملِك الموت يملك المُلك، إذا خاصمه أحد أو وقف أحد لمحاربته قال له : مت .. انتهى فيموت، فهل لأحد أن يفِر من الموت؟ وهل يملك الموت أحد إلا الله؟ {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ}، { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ } الروح راجعة إلى الله انظروا المُلك { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ } أب ،أخ، زوج، ابن، زوجة، أقارب، كلهم ينظرون إليك وأنت في سكرة الموت { وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ } ملائكة الله { أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } ضعفاء { تَرْجِعُونَهَا } الروح ما زالت في الحلقوم خلاص رجعوها للجسد ، لا لن تستطيعوا لأنها يوم كانت في التراقي ما استطعتم فكيف وقد بلغت الحلقوم { كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ } ترقوت هذا ترقوت وهذا ترقوت العظمة هذه { إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ ۜ رَاقٍ } من يرقيه من يعالجه من يداويه { مَنْ ۜ رَاقٍ } والميت مازال في السكرة يسمع كلام أهله من يرقيه؟ من يداويه؟ من يقرأ عليه .. من ينفث عليه .. من أصابه بعين .. من .. من وتساؤلات لا جواب لها { مَنْ ۜ رَاقٍ * وَظَنَّ } الميت -تيقن- { أَنَّهُ الفِرَاقُ } فراق الروح للجسد، هو نفسه لا يستطيع يرد روح نفسه، ومن حوله لا يستطيعون رد روحه { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } جل جلاله { وَقِيلَ مَنْ ۜ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقُِ } من شدة الألم { وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ } موتى قد خرجت الروح منهما { وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } تُساق الروح، فهل إذا سيقت روحك إلى الله يستطيع أي أحد أن يردها ؟ كلا ، إذاً مُلك الروح لمن؟ لله، { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ } هذه الروح نُفخت فيك يوم نُفخت بأمر الله، وتخرج منك يوم تخرج بأمر الله وما بين نفخها فيك وخروجها منك هو عمرك لا يزيد ولا ينقص بثانية واحدة { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } .
المُلك مُلك الأرواح ومُلك الأجساد أيضاً،الجسد سمعه الذي يسمع به من يملِكه؟ سمعك من يملِكه ؟ بصرك من يملِكه ؟ { فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ } فمن جعلكم تبصرون أشياء وأشياء لا تبصرونها مع أنها موجودة { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُبْصِرُونَ } { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَٰكِنْ لَا تُبْصِرُونَ } هل أبصرتم الملائكة وهم يتنزلون عليكم كل يوم؟ هل أبصرتم الشياطين الذين يأتونكم من بين أيديكم ومن خلفكم وعن أيمانكم وعن شمائلكم ؟ لا .. هل أبصرتم أرواحكم التي تخرج وقت نومك وتعود إلى أجسامكم ؟ لا .. إذاً ما لا تبصرون أكثر من ما تبصرون والنبي ﷺ يقول : ( أيها الناس إني لأسمع ما لا تسمعون وأبصر ما لا تبصرون أطت السماء وحُق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو قائم أو راكع ) هذا كلام من قال الله فيه : {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا } كلام محمد ﷺ { مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ } لقد سمِع كلام الله، لقد شاهد من آيات الله ما لم يشاهده أحد { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ } نزل القرآن بكلماته على قلب محمد ﷺ ، قلب شُرح ومُلئ بماء زمزم {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ } .
المُلك في الدنيا مجازاً وينقسم الملك إلى قسمين : مُلك للأشياء ومُلك للأوامر.
فمُلك الأشياء عام فكل مخلوق له مُلك ، يملِك ثوبه .. يملِك طعامه .. ويملِك شرابه .. ويملِك فراشه ، هذا مُلك الأشياء.
أما مُلك الأمر كأمر الرجل على زوجته أمرها بيده ، وعلى ولده ، وعلى بنته فهذا مُلك الأمر ولذلك يُقال : ولي أمر الطالب ، ولي أمر الطالبة ، ولي أمر الزوجة -زوجها- { إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } زوج ..صاحب أمر على زوجته.
إذاً أصبح المُلك مُلك أمرٍ ومُلك أشياء، والأشياء من الله والأمر من الله، ولولا الله لما ملكت شيئاً ولما ملكت أمراً .
هذا في الدنيا فقط أما في الآخرة فلا مُلك للأشياء ولا ملك للأمر إلا لله { وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا } مُلك الأشياء منفي { وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } فلا أحد له أمر على أحد { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } هذا الثاني من أقسام أركان توحيد الربوبية .
القسم الثالث أو الركن الثالث : التدبير ، من ما يدل على أن الله هو رب العالمين تدبير هذا الكون، فقد دبّر الله الخلق قبل خَلقِ الخلْق. التدبير ينقسم إلى أقسام : تدبير المكان ، وتدبير الزمان ، وتدبير حال الإنسان في الزمان والمكان .. كيف ؟
قبل أن يخلق الله عز وجل آدم خلق الجنة وخلق السماوات والأرض، هذه أمكنة خُلقت قبل خلق سُكانها، قبل خلق الملائكة خُلقت السماوات، قبل خلق آدم خُلقت الجنة، وخُلقت الأرض ، فهذا تدبير المكان قبل خلق من يسكُنه ، فالجنة خُلقت قبل آدم، والسماوات خُلقت قبل آدم، والأرض خُلقت قبل آدم { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا } قبل خلقكم { وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } قبل خلقكم { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } هذا أيضاً من التدبير.
وهذا التدبير ينقسم إلى أقسام :
القسم الأول : ما يُسمى بتدبير الخلق ويدخل فيه أطوار الخلق.
والقسم الثاني : تدبير الرزق ويدخل فيه أطوار وأحوال الرزق .
والقسم الثالث : بعد تدبير الخلق وتدبير الرزق تدبير المكان المناسب للخلق ،والمكان المناسب للرزق، فمكان الخلق رحِم أمك مكان مناسب، ومكان الرزق في رحِم أمك معروف يأتيك من الطعام والشراب عن طريق الحبل السري لكن إذا خرجت دبّر الله لك الرزق عن طريق ثديي أمك، ثم عن طريق ما أخرجت الأرض بعد ذلك وما نزل من السماء وكل هذا من الرزق بتدبير الخالق.
ومن هنا أصبحت كلمات تجمع التدبير وهي : الإيجاد والإعداد والإمداد والإرشاد والإسعاد خمس كلمات، نعيدها:
/ إيجاد ويدخل فيه الخلق وتدبير الخلق .
/ وإعداد ويدخل فيه إعداد المكان سواء كان مكان الدنيا المكان الأول بطن أمك ، المكان الثاني في الأرض ، المكان الثالث أيضاً في الأرض { كِفَاتَاً * أَحيَاءً } فوقها { وَأَمْوَاتَاً } في بطنها ، المكان الرابع الجنة أو النار .
/ الإمداد: والإمداد لا يتوقف يدخل في الإمداد الأكسجين الذي تتنفسه، والماء الذي تشربه،والطعام الذي تأكله، والنور الذي تُبصر به طريقك، والظلام الذي تنام فيه، والضياء الذي تسري فيه، والحرارة التي تُناسبك،والبرودة التي تُناسبك، والفصول المختلفة التي تختلف فيها أحوالك وأطوارك،كل هذا يدخل في الإمداد .
/ ثم الإسعاد بعد الإمداد لتستمر الحياة، إذا جاء البرد أسعدك بالنار، وإذا جاء الحرّ أسعدك بالبرد، فما كان في زمن الصيف سعادة لك -وهو البرد- في زمن الشتاء شقاء لك، وما كان في زمن الصيف شقاء لك -وهو الحرّ- في زمن الشتاء إسعاد لك، وتختلف الأحوال وهذا كله من تدبير المالك جل جلاله.
ولهذا جعل الله جل جلاله للشمس مشارق ومغارب { فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} ثلاثمائة وستين إشراقة للشمس سنوياً تُشرق من هنا واليوم الثاني تشرق من هنا واليوم الثالث تشرق من هنا وكل إشراق يقابله غروب من الجهة الثانية، ومشارقها ومغاربها تختلف بها الأجواء في الأرض فإذا أشرقت من الجنوب غربت من الشمال الغربي،إذا أشرقت من الجنوب الشرقي غربت من الشمال الغربي، وإذا أشرقت من الشمال الشرقي غربت من الجنوب الغربي والأرض تدور { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا } والمشارق مختلفة والمغارب مختلفة والأجواء على أهل الأرض مختلفة لا الليل كالليل ولا النهار كالنهار ولا البقاع متساوية فإذا احتر هذا المكان برُد ذلك،وإذا برُد ذلك المكان احتر ذلك حتى لا يدوم الحرّ على مكان دون مكان ولا البرد على مكان دون مكان .. تدبير من ؟ الله .
ولو نظرت إلى خلق الله جل جلاله في الحياة وخلق الله جل جلاله في النبات لرأيت العجب العجاب،ما يُميت النبات يُديم الحياة، وما يُديم الحياة يُميت النبات .. كيف ؟
الإنسان يستنشق الأكسجين ويُخرج ثاني أكسيد الكربون، والنبات يستنشق ثاني أكسيد الكربون ويُخرج الأكسجين،فكأن النبات يحيا بما هو مُميت للإنسان والحيوان، والإنسان والحيوان حياتهما بما هو مُميت للنبات .. تدبير.
أيضاً من التدبير: تداخل الحياة ،تداخل الحياة عجب عجاب .. كيف ؟
الحياة متداخلة بعضها في بعض وكلها مرتبطة بالأرض مثلاً: الأرض تستقبل جثث الأموات من البشر ما توا فأكلتهم الأرض { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ }، والأرض تُنبت النبات وتستفيد من دفن الأموات فيها فيكون سماداً، ثم إذا نبتت النباتات جاءت الحيوانات فأكلت مِما على الأرض { أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ } أنتم تأكلون وأنعامكم تأكل،ثم يخرج مِما تأكلون ومن ما تأكل أنعامكم -أكرمكم الله- بول وغائط وبعر وغير ذلك من ما يخرج يعود إلى الأرض يكون سماداً لنبات آخر، ولا تزال الأرض تُخرِج ويأكل الحيوان منها ويأكل الإنسان من الحيوان ويأكل الحيوان أيضاً من الإنسان ومن الحيوان.
وانقسمت الحياة إلى أقسام: من الحيوان ما لا يأكل اللحم كالأنعام الأربعة الإبل والبقر والغنم هذه لا تأكل اللحم مطلقاً إنما تأكل نباتات ثم تعطي اللحم ليؤكل تأكل النبات وتؤكل هي لحماً،وهنالك ما يأكل اللحم ولا يأكل النبات فلا يجوز أكل لحمه كالسباع لا تأكل النباتات لو قدمت للأسد برسيم ما أكله تقدم له دجاجة أكلها تقدم له لحم يأكله، فالذي يأكل اللحم مُحرم أكله على المسلمين، والذي يأكل النبات يؤكل لحمه. ثم مع هذا تجد أن الإنسان أيضاً خلق الله له حيوانات من أجل صحته، فالنحلة خُلقت لتكون سببا لدوام صحة الإنسان {وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ } الجبال العالية التي لا يقدر الإنسان أن يصل إليها {بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ} العالي وغيره { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } فانقسم العسل إلى ثلاثة أقسام : جبلي وهو أحسن أنواع العسل، وشجري وهو درجة ثانية، وصناعي { وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } وهو الدرجة الثالثة. كل هذا يدخل في التدبير.
ثم لو نظرت التدبير في كل أمة لعلمت حقاً أنه لا إله إلا الله، كل أمه دبّر الله لها حياتها، فالنحل أمة، والنمل أمة،والطيور أُمم أمثالكم،وكل أمم لها حياة مستقلة فمثلاً : حياة النمل .. النمل ترأسهم امرأة كل النمل .. أمة النمل ترجع إلى ملكة، والنحل ترجع إلى ملكة{ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ } عندهم خبر .. عندهم وزارة إعلام لا يفوتها شيء تعلم ماذا يحصل ويتناقلوا الأخبار بينهم من أجل أن يأمنوا ويعيشوا بأمن وأمان { قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ } من هيأ المساكن للنمل ؟ إنه الله ، ولو رأيت النمل في مساكنه لتعجبت. أنا ذهبت إلى مناطق فيها مساكن بناها النمل لو رأيتها تتعجب كيف بنى النمل مثل هذه المساكن،مرتفعة وأيضاً داخل الأرض وهنالك مساكن خصصها النمل لمعاشه -يعني مستودعات أغذية- ومساكن خصصها لصغاره، ومساكن خصصها للجند الذي يهاجم ويقاتل، أمة مكتملة قد جعل الله عز وجل لها سياستها ولها خصوصيتها وهي مستقلة عن الأمم.
النمل .. لما أصبح سليمان ملكاً اجتمعت أمة النمل وقالوا لا بد أن نقدم هدية لهذا الملك ونبايعه فقدموا له نصف حبة شعير وجاءوا يحملونها وقد عملوا زفة فرح فلما وصلوا إلى سليمان يحملون نصف حبة شعير -وهم يعيشون عليها سنة كاملة- لأن حبة الشعير هذه تكفيهم لمدة سنتين، جاءوا يحملونها سليمان عليه السلام نظر إليها قال : أنتم أحوج إلى هذه مني ارجعوا بها ، غضبت -الكريم ما يريد تُرد هديته حتى النمل- غضبت سيدة النمل وغضب النمل معها وتكلمت قالت : يا سليمان لو كانت الهدية تُهدى على قدر المُهدى إليه فما فائدة كبش وجمل تذبحه أنت قُربان لله؟ ما الفائدة ؟ لكن الهدية إنما تُهدى على قدر مُهديها وهذا قدرنا، لذلك قبِل سليمان هديتهم وأصبح له مع النمل قصص. بعد الأذان نواصل معاكم بإذن الله ..
الركن الرابع والأخير من أركان الربوبية هو رحمة الله عز وجل لجميع خلقه ، فما خلق الله خلقاً إلا ليرحمهم ولهذا استوى ربنا جل جلاله على عرشه باسمه الرحمن فقال تعالى :{ الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ } فما تحت عرشه خلقُه، جميع خلق الله تحت عرشه وعرشه استوى عليه باسم الرحمن والأصل -ولله المثل الأعلى- أن أصحاب المُلك -ولله المثل الأعلى- إذا استووا على عروشهم استووا عليها بالكِبر والغلبة والعُجب وربنا جل جلاله وصف نفسه وأنه استوى على عرشه باسمه الرحمن ليرحم سائر الخلق الذين خلقهم ُولهذا من أقرب خلقِه منه حملة عرشة فماذا يقولون في دعائهم { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} الحمد لله رب العالمين { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } فقد بلغت رحمته حيث بلغ علِمه، وعِلمه أحاط بكل شيء إذاً رحمته أحاطت بكل شيء ولهذا قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } ومن هنا جاءت الآية الثانية من آيات الفاتحة وهي قوله تعالى :{ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ } جاءت بعد قوله : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } ليبين الله جل جلاله للعالمين أنه ربهم وأنه وسعهم رحمة كما وسعهم عِلماً { رَبِّ الْعَالَمِينَ* الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ }.
وقوله تعالى :{ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ } بعد قوله : { رَبِّ الْعَالَمِينَ } فيها بيان سعة رحمته التي وسعت خلقه وقد بين لنا نبينا ﷺ ( أن الله عز وجل له مائة رحمة أنزل منها في الدنيا رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق -رحمة واحدة- فبها يتراحم الخلق وادخر لعباده في الجنة تسعة وتسعين رحمة ) ادخر كم ؟ تسعة وتسعين رحمة لعباده في الجنة ورحمة واحدة أنزلها في الدنيا من هذه الرحمة الواحدة ترفع الأم حافرها عن ولدها رحمة به،وتُرضع الأم ولدها رحمة به، ويرحم النبي ﷺ الصحابة ويرحم الأمة، ويتراحم الناس وتوصل الأرحام، كل هذا من رحمة واحدة من رحمة الله ولهذا لما ذكر الله الصابرين على المصائب قال : { الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ } فجمع الصلوات قال : { صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } ولم يقل ورحمات لأن الحديث عن الصابرين في الدنيا فذكر رحمة واحدة قال : { وَرَحْمَةٌ ۖ } قال {وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُون } فمن رحمته بهم هداهم، ومن رحمته بهم صبّرهم ،ومن رحمته بهم آجرهم على مصابهم وأخلفهم خير وهكذا.
وقد بينا في تفسير البسملة أن الجمع بين الرحمن والرحيم للدلالة على سعة رحمة الله وعلى إنقسامها إلى قسمين:
/ رحمة واسعة تجمع الخلق كلهم وهي ما اشتمل عليها لفظ الرحمن.
/ ورحمة خاصة واصلة للمؤمنين غير منقطعة عنهم وهي ما اشتمل عليها اسم الرحيم ولذلك خصّ الله اسمه الرحيم بعباده المؤمنين فقال تعالى : { وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا } وقال تعالى على ألسنة المؤمنين { إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ } وقال الله جل جلاله في سلامه على أهل الجنة :{ سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } فدل على اختصاص اهل الجنة باسم الرحيم، وعموم اسم الرحمن لجميع خلق الله عز وجل إنسهم وجنهم ، مؤمنهم وكافرهم ، وقد أنزل الله جل جلاله سورة باسم الرحمن اشتملت على مظاهر من رحمته لهذا الإنسان في خلقه وفي تعليمه، وهذا الكون في شمسه وقمره وليله ونهاره، وهذه النباتات التي في الأرض، وهذا الجنة وما فيها بعد ذلك، والنار وما فيها، وخلق الإنس والجن، كل ذلك داخل في رحمة الرحمن فأصبح اسم الرحمن هو الاسم العلم الأعم بعد لفظ الجلالة .
وقد قسّم الله جل جلاله أسماءه الحسنى إلى قسمين :
/ اسم منطوي تحت لفظ الجلالة - الله- تُسمى أسماء الجلالة.
/ وقسم منطوي تحت لفظ الرحمن ويُطلق عليها أسماء الجمال وقد ذكر الله ذلك في قوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ } فالأسماء الحسنى إما أن تكون تحمل معنى الجلالة فتكون مضافة إلى لفظ الجلالة الله، أو تحمل معنى الجمال فتكون مضافة إلى لفظ الرحمن، وعلى ذلك يكون اللفظان (الله) و (الرحمن) يُستفاد منهما أمران أساسيان:
الأمر الأول الخوف من الله، والأمر الثاني الرجاء فيما عند الله، فمن آمن بالله وبالرحمن امتلأ قلبه خوفاً من الله ورجاءً لما عند الرحمن لذلك كان حال المؤمنين في حياتهم أنهم في خوف من الله وفي رجاء لما عند الله لما اشتمل عليه لفظ الله ولفظ الرحمن هذا من أسباب الخوف وهذا من أسباب الرجاء قال تعالى : { تَتَجَافَىٰ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُم } ومن ربهم ؟ ربهم الرحمن .. ربهم الله جل جلاله رب العالمين يدعون ربهم { خَوفَاً } لأنه الله جل جلاله { وَطَمَعَاً } لأنه الرحمن جل جلاله { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فرزقهم دلّ على ربوبيته ودلّ على لفظ الرب، والخوف دلّ على لفظ الجلالة، والرجاء دلّ على لفظ الرحمن، فأصبحت الألفاظ الثلاثة [الرب - الله - الرحمن] هي أسباب كمال محبة العباد لربهم، وخوف العباد من ربهم، ورجاء العباد ما عند ربهم، وهذه الثلاثة هي أصول عبادات القلوب لعلام الغيوب، فإذا امتلأ القلب بالمحبة فإنه يمتلئ تلقائياً بالخوف من فقد المحبوب أو من جعل حجاب بين القلب ومحبوبه، ويمتلئ القلب رجاء باتصاله بالمحبوب وبكشف الحجاب عن المحبوب حتى يرى المُحب محبوبه فكان الناس الذين آمنوا بالله أشد حباً لله وأشد تعلقاً بالله وأشد خوفاً من الله وأشد رجاء فيما عند الله، فكانت هذه اجتماعها في قلوبهم هو سر نطق ألسنتهم بالدعوة إلى الله ،وبذكر الله، وهو سر تحرك أجسادهم في عبادة الله، وهو سر جعل حياتهم كلها لله وشعار كل واحد منهم { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ } حباً لله وخوفاً من الله ورجاء في الله { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ } في محبته ،ولا شريك له في الخوف منه، ولا شريك له أيضاً في الرجاء، فلا نُحب أحداً كحبه، ولا نرجو أحداً كرجائه، ولا نخاف من أحد كخوفنا منه { فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}.. إلى غير ذلك.
إذاً كانت هذه الآية { الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ } ورودها بعد قوله تعالى:{ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فيها تلطيف وبيان لسعة رحمة الله وأنها وسِعت كل شيء .
ثم إنها مقدمة عن الآخرة فالله جل جلاله قد ذكر الآخرة في قوله :{ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } والدين الجزاء، ثم ذكر قبل الآخرة { الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ } حتى لا يخرج أحد من الدنيا إلى الآخرة إلا وهو يُحسن الظن بالله جل جلاله قال النبي ﷺ :( ألا لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بربه ) .
إلى هذا القدر نتوقف بإن الله عند هذه الآية { الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ } في الدرس القادم إن شاء الله نتناولها هي والتي بعدها { مَالِكِ يَوْمِ الدِّين }.
يقول هذا السائل:
س : هل يجوز أكل لحم الضبع وهو من ما يأكل اللحم ؟ وذو مخلب وناب ؟
الضبع مختلف فيه فمن الفقهاء من حرمه ومنهم من أباحه والراجح فيه الكراهة عند المالكية ومثله الذئب أيضاً اختلفوا فيه، والصحيح تحريمهما لأن ما ورد كله من الاستثناءات لكن العموم الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يدل الدليل على خلافه والدليل الذي ورد في الضبع وورد في الذئب أحاديث فيها بعض من التعليل، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل الاستدلال به.
س : هذا سائل يقول الشيخ محمد أيوب رحمه الله أحب القرآن فرفعه الله بالقرآن فهل من حديث عنه ؟
ماذا أقول عن الشيخ محمد أيوب وغيره أن هذا القرآن يرفع الله به أقوام ويضع به آخرين فمن أقبل على القرآن رفعه الله بالقرآن في الدنيا والآخرة والنبي ﷺ كان لا يساوي بين أهل القرآن وغيرهم لا في حياتهم ولا عند موتهم، كان في الحياة إذا علم أن شخصاً من أهل القرآن قدمه في الإمامه ويقول :( يؤم القوم اقرأهم لكتاب الله ) وقدمه في الإمارة يقول:( أمرته عليكم ) عندما كان ذلك يحفظ شيئاً من القرآن قال :( أذهب فأنت أميرهم ) لأنه يحفظ من القرآن ما لم يحفظه أصحابه وكذلك يُزوّج بما معه من القرآن، فالقرآن خير مهر يُعطى للنساء فقد جاءت امرأة وعرضت نفسها على النبي ﷺ فنظر النبي ﷺ إليها وكأنها لم تعجبه فقام رجل من الصحابة فقال لرسول الله زوجنيها قال:( معك شيء ) قال :لا ، قال:( اذهب فالتمس ولو خاتما من حديد ) ذهب والتمس ولم يجد شيئاً وعاد فجلس، فقال له رسول الله ﷺ : ( أمعك شيء ) قال: لا.. قال:( وجدت شيء ) قال: لا.. ليس معي من الدنيا إلا إزاري قال :( وما تفعل المرأة بإزارك ) إن لبسته أنت خلت هي منه ؟ وإن لبسته هي خلوت أنت منه ، فجلس الرجل فقال له رسول الله ﷺ :( أمعك شيء من القرآن) قال :نعم معي سورة كذا وسورة كذا وسورة كذا حتى عدّ فيما يحفظ من السور سورة البقرة فقال له رسول الله ﷺ :( أتحفظ البقرة ) قال: نعم ، قال :( بخٍ .. بخٍ قد زوجتكها بما معك من القرآن ) فعُلم أن القرآن خير مهر للنساء، وأن أهل القرآن يرفعهم الله في الدنيا ويرفعهم في الآخرة، ورفعتهم في الآخرة دل عليها الحديث ( يؤتى يوم القيامة بقارئ القرآن فيقال له اقرأ ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرأها ) .
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى وخيري الدنيا والآخرة مع كفاية هميهما ، اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار اللهم ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشداً اللهم{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } اللهم اجعل لنا من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.
اللهم إنا نعوذ بك أن نضِل أو نُضل، أو نذل أو نُذَل، أو نزل أو نُزل أو نظلم أو نظلم أو نعتدي أو يعتدى علينا أو نكتسب خطيئة أو ذنباً لا تغفره، اللهم إنا نعوذ بك من سحر الساحرين وعين العائنين وحسد الحاسدين ومكر الماكرين وكيد الكائدين وفرط المفرطين وطغيان الطاغيين وظلم الظالمين، اللهم اجعل لنا يا ربنا من لدنك سلطاناً، نصيراً اللهم اجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيراً، ربنا ادخلنا مدخل صدق وأخرجنا مخرج صدق واجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيراً واجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيراً، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً اللهم، علمنا القرآن وما حوى وعلمنا السنة وما حوت، علمنا علم الأولين وعلم الآخِرين وانفعنا بما علمتنا واجعله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا وانفع به أمة محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل ولايتنا في من خافك واتقاك، اللهم أصلح ولي أمرنا، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى والعمل الصالح الذي عنا وعنه به ترضى، اللهم إنا نسألك أن تحفظ ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين بحفظك وتكلأه برعايتك وعنايتك، اللهم إنا نسألك أن تنصر به دينك وتعلي به كلمتك وتوفقنا لما تحب وترضى وتوفقه يا حي يا قيوم، اللهم أصلح ولي عهده وولي ولي عهده وخذ بنواصيهم للبر والتقوى والعمل الصالح الذي عنا وعنه به ترضى، اللهم احفظ بلاد الحرمين الشريفين بحفظك واكلأها برعايتك وعنايتك، اللهم احفظها في برها وبحرها وجوها ياذا الجلال والإكرام، وسائر بلدان المسلمين، اللهم إنا نستودعك الإسلام وأهله، اللهم احفظ الإسلام والمسلمين، اللهم احفظهم في برهم وبحرهم وجوهم، اللهم إنا نستودعك إخواننا في بلاد الشام، اللهم إنا نستودعك دينهم وأمانتهم وخواتيم أعمالهم وأعراضهم ودورهم وحياتهم، اللهم احفظهم بحفظك من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ونعيذهم اللهم بك أن يُغتالوا من تحتهم أو من فوقهم أو من جوانبهم، اللهم احفظهم بحفظك وعليك بمن ظلمهم، اللهم عليك بمن ظلمهم، اللهم عليك بمن تسلط عليهم، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم أرنا في الظلمة عجائب قدرتك، اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تغادر منهم أحداً ابداً، اللهم عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، اللهم رد أمة محمد صلى الله عليه وسلم إليك رداً جميلاً، اللهم انصر هذه الأمة، وارحم هذه الأمة، وأكرم هذه الأمة واجمع شمل هذه الأمة على البر والتقوى يا حي يا قيوم، اللهم إنا نسألك خير المسألة، وخير الدعاء، وخير النجاح، وخير الدنيا وخير الآخرة { رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا } اللهم صلِ وسلم على سيدنا محمد واجعلنا من ورثة الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولائك رفيقاً نحن ووالدينا ومن ولدوا وجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، على الله توكلنا وإلى الله أنبنا وإلى الله المصير سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق