أيهاالمباركون نتدارس معكم كما جرت العادة في اللقاءات التي سبقت والتي ستأتي بإذن الله بعضاً من آيات كلام ربنا جل وعلا في تفسيرنا لبعض آيات القرآن العظيم .
والآية التي سنشرع ونشرُف بالحديث عنها في هذا اللقاء قول الله عز وجل في سورة البقرة : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) وظاهرٌ من الآية أن لقاء هذه الليلة سيأخذ مجرىً فقهياً وهذا من باب التنويع في التدريس ، وكلما كان طالب العلم وغير طالب العلم مُلماً بكل ما صرَّفه الله جل وعلا في كتابه كان أكمل وأجمل وأفضل في حقه.
الله جل وعلا جعل هذا الدين وشرائعه حاكمةً على العباد كلهم ، وقد كتب الله جل وعلا على عباده الموت ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) فما من زوجين إلا وسيترك أحدهما الآخر ، نسأل الله أن يمتعنا وإياكم متاع الصالحين ، فإذا كانت الزوجة هي أسبق موتاً فلا يتعلق بموتها في حق الزوج شيء اللهم إلا الإرث ، وأما إن كان الزوج هو المُتوفي قبلُ فإن على الزوجة الإحداد، والإحداد في معناه المجمل : ترك المرأة ما يدعو غيرها لأن ينكحها ، أو بمعنىً أجمل أكمل : ترك الزينة مع البقاء واللزوم ،وسيأتي هذا ان شاء الله تفصيلاً في ثنايا الحديث .
هنا قال أصدق القائلين : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ) يذرون بمعنى يتركون لكن هذا الفعل في العربية لا يأتي منه إسم فاعل ولا إسم مفعول ، لم يْسمع منهم -أي العرب- والأصل في اللغة .. ماذا ؟ مالأصل في اللغة ؟ السماع - هذا مهم جداً أن تضبطه - الأصل في اللغة السماع فجميع ما قعّده النحاة إنما قعَّدوه بناءً على السماع ، فسيبويه وقبله الخليل وأئمة اللغة إنما كانوا يجوبون البوادي ، يأخذون من أفواه العرب ويجمعون ثم يُجمع ما جمعوه وما استقرأوه عليه خرَّجوا القواعد ، فلا يأتي منه إسم فاعل ولا اسم مفعول في المشهور من كلام العرب . ( وَيَذَرُونَ ) بمعنى يتركون ( وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا ).
قال جل وعلا : ( يَتَرَبَّصْنَ ) من اللواتي يتربصن ؟ الأزواج ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ) أي أن مدة العِدّة أربعة أشهرٍ وعشراً وهذه عِدة الإحداد ، واختلف العلماء في الإحداد على من يكون ؟ على ثلاثة تقسيمات :
أما المرأة المتوفى عنها زوجها فقد اتفقوا على أنه يجب عليها أن تُحِد كما دلت عليه الآية
و أما المرأة التي في عدة الطلاق الرجعي فقد اتفقوا على أنها لا إحداد عليها .. هذه مقابل هذه .
بقينا في المرأة التي طُلِّقَت طلاقاً بائناً وهي في عدة الطلاق البائن هل عليها إحداد أو ليس عليها إحداد ؟هذا فيه خلاف بين العلماء والذي يترجح عندي -والعلم عند الله- أنه لا إحداد عليها .
نبقى في الآية ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ) هذه مدة عِدة الإحداد في كل متوفىً عنها زوجها .. صغيرةً كانت أو كبيرة ، مسلمة كانت أو كافرة -يعني من أهل الكتاب- ، من اللواتي يحِضن أو مِمن يئسن من المحيض أيَّاً كان حالها دخل عليها أو لم يدخل عليها ، كل ذلك يجب عليها الإحداد ، لكن هذا العموم مُخصص بقول الله جل وعلا في سورة الطلاق ( وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) ذهب جمهور العلماء مم السلف والخلف إلى أن أُولات الأحمال أجَلُهُن أن يضعن حملهن كما قال ربنا ، واشتُهر عن ابن عباس رضوان الله تعالى عنه وعن أبيه أنه قال : "تعتد بأبعدالأجلين" ، وروي هذا عن علي .
ونُقل ابن عبد البر رحمة الله عليه في التمهيد وفي غيره على أن ابن عباس رضوان الله تعالى عنهما تراجع عن قوله هذا ، والذي جعل العلماء يأخذون بهذا القول وهو العمل بأن الآية مخصِصة - آية الطلاق ( وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ )- مُخصِصة لعموم قول الله جل وعلا : ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ) حديث سبيعة الأسلمية، وسبيعة الأسلمية رضوان الله عليها امرأة توفي عنها زوجها وهي حامل ثم لم تلبث قليلاً أن وضعت حملها فلما وضعت حملها - على فقهها الذي تعلمه - تزينت للخُطّاب وهذا حق مشروع للمرأة فقابلها رجل يقال له أبو السنابل فلما لقيها ورآها متجملة قال : لعلك تتجملين للنكاح ؟ قالت : نعم ، فأقسم - بناءً على علمه - قال : والله هذا ليس لك حتى تمضي عليك أربعة أشهرٍ وعشراً ، فلما اختلفا يلجؤون إلى من ؟ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتباره حياً صلوات الله وسلامه عليه ، فذهبت سبيعة إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام مستفتية فأخبرها صلى الله عليه وسلم أنها حَلَّت منذ أن وضعت حملها . بهذا الحديث قوّى قول جمهور العلماء بأن ( َأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) يعني فهِموا أن آية الطلاق مُخَصِصة لآية البقرة استناداً على حديث سبيعة الأسلمية رضي الله عنها وأرضاها وهو حديث صحيح .
قلنا أن هذا في كل امرأة مات عنها زوجها صغيرة كانت او كبيرة ، دخل عليها او لم يدخل عليها بدليل أن امرأةً مات عنها زوجها قبل الدخول ولم يفرض لها مهراً و لما مات زوجها جاء أهلها إلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يترددون عليه يستفتونه وهو يتعذر أن يجيب تحرجاً من الفتيا فلما أكثروا عليه قال : أقول فيها رأيي فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فالله ورسوله بريئان مما أقول ، فقال : عليها العِدة ولها المِيراث ولها مهر مثلها يعني من كان مثلها في النساء . ثم أنه لما قال هذا وأفتى به جاءه معقِل بن يسار رضي الله عنه وارضاه - صحابي آخر - قال : أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مثلما قلت في امرأةٍ منا إسمها بَرْوَع بنت واشق - يعني حصل لها نفس الموقف، نفس القضية مات عنها زوجها وهو لم يدخُل بها - ففرح ابن مسعود رضي الله عنه فرحاً شديداً .
وقبل أن أتجاوز هذا إلى غيره : ابن مسعود من هُذَيل وقد قيل فيه : كُنَيّفٌ مُليء علماً ، وقد أخذ أكثر القرآن رطباً من فِيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع هذا ينقلون عن الحجاج بن يوسف أنه قال : لو أدركت عبد هُذَيل - يقصد عبدالله بن مسعود - لضربت عنقه. قال الذهبي وغيره : فانظر إلى جرأة هذا الرجل على الله . وهذا إحدى المسائل التي كفَّر بها من كفَّر الحجاج بن يوسف لكن بالجملة له توحيد ومن الصعب القطع بكفره ، وإنما قلت هذا حتى تعلم أن الأئمة توقفوا في تكفير رجلٍ مثل الحجاج رغم قولته تلك ، حتى أن الإنسان لا يتعجل في تكفير أحدٍ إذا جاء بالتوحيد بالجملة ، قلنا العلماء توقف أكثرهم بالقول بكفر الحجاج رغم أنه ثبت عندهم أنه قال : لو أدركت عبد هُذَيل لقطعت عنقه يقصد عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه .
نعود إلى ما نحن فيه ..
ما الإحداد ؟ قلنا أن تترك المرأة ما يدعو إلى نكاحها .
الله تبارك وتعالى يقول : ( يَتَرَبَّصْنَ ) معنى ينتظرن والخروج لها ينقسم إلى ثلاثة أقسام .. إلى كم قسم ؟ إلى ثلاثة أقسام :
خروج انتقال - مامعنى خروج انتقال ؟ تترك المسكن إلى مسكن غيره .. هذا خروج انتقال ، فعامة أهل العلم على أنها لا تخرج لنص الآية ( يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ) فمُنِعت من الخروج بنص الآية إلا ما رُوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومن وافقه إلى أنه يجوز لها أن تخرج ، وقطعاً عقلاً ابن عباس حَبر ولا يمكن أن يُسمى حَبراً حتى يجمع ورَعاً مع العلم ، ولا يمكن أن ابن عباس يأتي فيُخالف عامة العلماء ويقول بأنه يجوز لها خروج ولا دليل معه .. محال ، لابد له من دليل ، دليل ابن عباس أن هذه الآية الكريمة في البقرة ناسخة لآية قبلها في النزول بعدها في الترتيب ، قبلها في النزول وإلا ما يُسمى نسخ .. ناسخة لآية قبلها في النزول وبعدها في الترتيب يعني في ترتيب المصحف وهي قول الله جل وعلا : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ۚ) ثم ماذا بعدها ؟ ( فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) هذا نص الآية، ماذا يقول ابن عباس ؟ يقول أن أول الآية التالية هذه التي تلوناها أولها منسوخ بقوله جل وعلا : ( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ) يعني ما الذي منسوخ ؟ المدة من عام إلى أربعة أشهر وعشراً ، لكن الخروج بما أنه مُثبت في الآية الأولى ليس في الآية الثانية ما يدل على أنه منسوخ .. واضح ، أبقى قول الله عز وجل : ( فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ ) أبقاها على ماهي عليه ، قال : هذا قسم من الآية غير منسوخ ، المنسوخ متاعاً إلى الحول نُسخ ب ( أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) اما هذا غير منسوخ ، وجمهور أهل العلم عامة العلماء يرون أن آية البقرة المُتقدمة ناسخة للثانية التي هي الأولى في التنزيل لكنها الثانية في الترتيب .. واضح ؟ هذا دليل ابن عباس.
والفتوى عند المسلمين اليوم على فتوى ابن عباس على فتوى عامة العلماء .. هذا الخروج الأول .
الخروج الثاني : خروج العبادة ، مامعنى خروج العبادة ؟ أن تخرج المرأة المُعتدة لوفاة زوجها إلى الحجّ أو العمرة ، فأما خروجها للحج والعمرة نافلة فلا ينبغي أن يُتردد فيه، لا يحوز ، لكن الإشكال إذا أرادت أن تخرج لحجٍ أو عمرةٍ وهو فريضة - حجة الإسلام أو عمرة الإسلام عند من يقول بوجوب العمرة في العمر مرة مثل الحجّ - هذا الذي مثار خلاف ، فالمشهور عن ابن عباس وعطاء أنه يجوز لها أن تخرج إذا كانت الحجة حجة فريضة وإن كانت العمرة عمرة فريضة لأول مرة تعتمر ، والجمهور على أنها لا تخرج وهذا مذهب عمر من الخلفاء ومالك ال.. ؟ أجيبوا .. على وزن الخلفاء - مذهب عمر من الخلفاء ومالك من العلماء ، هذا مذهب عمر من الخلفاء ومالك من العلماء على أنها لا تخرج ، وقد كان أمير المؤمنين عمر يردُّ المعتدات من الحج بالبيداء، والبيداء مكان في المدينة إلى الآن موجود عند وادي العقيق عند ميقات ذي الحليفة إذا تجاوزته بقليل فيردهن إلى بيوتهن .. هذا خروج العبادة.
والحُجة عند هؤلاء في المنع أنهم يقولون أن الحج حقٌّ لمن ؟ حقٌّ لله ، والعِدة حقٌّ لله وحقٌّ للزوج لحفظ مائه ونسبه وطهارة فراشه فقالوا أن حق الله وهو في الحجّ لا يخلوا من أحد حالين: إما أن نقول بقول من يقول أن الحجّ للتراخي - ليس على الفور -فإذا قلنا أنه للتراخي فلا يجوز أن نُقدمه على العدة وهو على التراخي ، ومعنى على التراخي يعني تحج على العام المقبل تحج العام الذي بعده وحتى إن قلنا الحج يجب على الفور فاجتمع حقان : حق لله وحده ، وحقٌّ لله وللزوج فهذا الثاني مقدَّم على على الأول عند من يقول بهذا القول من العلماء.. واضح .
الخروج الثالث : لا خروج انتقال ولا خروج عبادة إنما هي في بيتها لكن تخرج في النهار ولايخلو خروجها في النهار من ثلاثة أحوال لا يخلو خروجها في النهار من ثلاثة أحوال :
- خروج ضرورة وهذا لا يمكن أن يمنعه أحد .. مرِضَت فخروجها للمستشفى ضرورة لا يمكن أن يُمنع ، تسلط عليها أحد خِيف عليها تخرج .. هذا خروج ضرورة.
- خروج حاجة وهذا يُقَدَّر فإن كان بالإمكان تجاوزه أو الإستغناء عنه فالأولى أن لا تخرج ، وإن خرجت تخرج نهاراً لا ليلاً.
- والخروج الثالث : خروج لغير حاجة لغير ضرورة فهذا قول واحد : لا تخرج ، فهذا قول واحد : لا تخرج .
نأتي لمثال لا نريد الآن يعني أن نقول في حق أحد لكن مثال : معلمة ما ليس ليس إلا إياها في القرية ومات زوجها عنها فلو قلنا لها بعدم الخروج إلى المدرسة لتعذر حال الطالبات ولا يمكن إيجاد بديل بين عشية وضحاها عند المعنيين بالتربية فكون هذا لا يخرج عن كونه إما ضرورة وإما حاجة فمثل هذه تخرج .
نعود للآية .. هذه الآية قلنا أنها ناسخة والنسخ من خصائص هذه الأمة وأنكرته اليهود وقد يأتي سؤال مادام الآية منسوخة حكماً لماذا نتعبد الله بها لِمَ تبقى في المصحف ؟ وقد أجاب الزركشي في البرهان وغيره عن هذا بجوابين ..
الجواب الأول : أننا نتعبد الله بتلاوة كلامه وهذا شرف لنا وإن كانت الآية منسوخة حكماً
والأمر الثاني : أن الأصل أن النسخ غالباً لا يكون إلا في التخفيف فهذا يدل على على رحمة الله بهذه الأمة فيتذكر المؤمن إذا قرأ الآية رحمة الله تبارك وتعالى بالأمة.
متعنا الله وإياكم متاع الصالحين والحمد لله رب العالمين.
___________________________________
جزى الله خيرا من قامت بتفريغ الحلقة وأحسن إليها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق