ن
قال ابنُ جُزَيٍّ -رحمه الله- في كلامِهِ عن مقامِ الشُّكْر:
«والشُّكْرُ على ثلاثِ دَرَجاتٍ:
- فدرجةُ العوامِّ: الشكرُ على النِّعَم.
- ودرجةُ الخواصِّ: الشكرُ على النِّعَمِ والنِّقَم، وعلى كلِّ حال.
- ودرجةُ خواصِّ الخواصِّ: أن يَغِيبَ عن النِّعْمةِ بمشاهَدةِ المُنعِم.
قال رجلٌ لإبراهيمَ بنِ أَدْهَمَ: إنَّ الفقراءَ إذا أُعْطُوا شكَرُوا، وإذا مُنِعُوا صبَرُوا؟ فقال إبراهيمُ: هذه أخلاقُ الكِلَاب؛ ولكنَّ القومَ إذا مُنِعُوا شكَرُوا، وإذا أُعْطُوا آثَرُوا».
ت
قولُهُ: «الشُّكْرُ على ثلاثِ دَرَجاتٍ ...»، إلخ:
سلَكَ المؤلِّفُ -رحمه الله- في تقسيمِ مراتبِ الشُّكْرِ والتعبيرِ عنها طريقَ الصوفيَّة، وفي كلامِهِ هذا عِدَّةُ مآخِذَ:
الأوَّل: قولُهُ: «إنَّ الشكرَ على النعمِ درجةُ العوامِّ»:
بل الشكرُ على النعمِ مِن شأنِ العوامِّ والخواصِّ مِن المؤمنين، وقد أثنى الله على إبراهيم -عليه السلام-؛ فقال: ﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ﴾ [النحل : 121]، ولما ذكَر الله ما أعطى سليمانَ -عليه السلام- مِن تسخير الجِنِّ والرِّيح، قال: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ [سبأ : 13].
الثاني: زعمُهُ أنَّ درجةَ الخواصِّ الشكرُ على النِّقَم:
هذا لا يصحُّ؛ فإنه لم يأتِ في الكتابِ ولا في السُّنَّةِ تعلُّقُ الشكرِ بالنقم، وإنما الذي ورَد الحمدُ؛ فيقالُ: له الحَمْدُ على كلِّ حال، وأمَّا الشكرُ، فمتعلَّقُهُ النِّعَم، وشواهدُ هذا في القرآنِ كثيرة.
الثالث: قولُهُ في الدرجةِ الثالثةِ: «إنَّها درجةُ خواصِّ الخواصِّ»، وفسَّرها بأن يَغِيبَ عن النِّعْمةِ بمشاهَدةِ المُنعِم:
هذا مِن جنسِ ما تقدَّم في درجاتِ الذِّكْرِ عند المؤلِّف؛ حيثُ جعَل أعلى درجاتِ الذِّكْرِ الفناءَ، وهي أنْ يَغِيبَ باللهِ عن كلِّ ما سوى الله؛ حتى عن نَفْسِه. وتقدَّم أنَّ مقامَ الفناءِ ليس بكمالٍ، بل هو نقصٌ. ولم يأتِ في الكتابِ ولا في السُّنَّةِ مدحُه، بل الرسولُ صلى الله عليه وسلم - وهو أكمَلُ الخلقِ ذِكْرًا وعبوديَّة - لا يغيبُ وهو يصلِّي، بل يَسمَعُ بكاءَ الصبيِّ فيتجوَّزُ في صلاتِه، وخيرُ الهَدْيِ هَدْيُ محمَّد صلى الله عليه وسلم.
الرابع: ذكرُهُ الحكايةَ عن إبراهيمَ بنِ أدهَمَ، وفيها التحقيرُ للشكرِ على النِّعَم، وأنَّه أخلاقُ الكلابِ؛ فهذا ـ على فرضِ ثبوتِهِ ـ قبيح.
ن
قال ابنُ جُزَيٍّ -رحمه الله-: «الخامسة: قولنا: «الحمد لله رب العالمين» أفضل عند المحققين من: «لا إله إلَّا الله»؛ لوجهين:
أحدهما: ما خرَّجه النسائي عن رسول الله ﷺ: «من قال: لا إله إلَّا الله كتبت له عشرون حسنة، ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة».
والثاني: أنَّ التوحيد الذي يقتضيه «لا إله إلَّا الله» حاصل في قولك: «رب العالمين»، وزادت بقولك: «الحمد لله»، وفيه من المعاني ما قدَّمنا.
وأما قوله ﷺ: «أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلَّا الله»؛ فإنما ذلك للتوحيد الذي تقتضيه، وقد شاركتها «الحمد لله رب العالمين» في ذلك، وزادت عليها. وهذا المؤمنُ يقولها لطلب الثواب، وأما لمن دخل في الإسلام فيتعيَّن عليه «لا إله إلَّا الله».
ت
قوله: "قولنا: «الحمد لله رب العالمين» أفضل عند المحققين من: «لا إله إلَّا الله» " صريحٌ في تفضيل «الحمد لله رب العالمين» على «لا إله إلا الله»، وعزا ابن جزيٍّ هذا التفضيل إلى المحققين، ولم يذكر بعض أعيانهم، ومن أيِّ طائفة هم، فمجرد قوله: (عند المحققين) لا تكفي، وفي دعوى هذا التفضيل نظر، وأما الاستدلال عليها بالحديث الذي رواه النسائي: «ومن قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة»(1)، فهو معارض بالحديث الذي ذكره، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»( 2)، فلا إله إلا الله كلمة التقوى، وهي كلمة التوحيد التي هي أصل دين الرسل، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء (25]، وهي مفتاح دعوتهم، ونبيُّنا صلى الله عليه وسلم منذ بعثه الله مكث عشر سنين بمكة لا يقول للناس: إلا قولوا: لا إله إلا الله، لم يأمرهم بشيء من الكلام غيرها، وهي الكلمة التي شهد الله بها لنفسه، وشهدت بها ملائكته وأولو العلم.
وجواب المؤلف عن الحديث الذي ذكره بأن «الحمد لله رب العالمين» تدل على التوحيد وزيادة، فلا يسلَّم له؛ فإن غاية ما تدل عليه توحيد الربوبية الذي أقر به المشركون، لا على توحيد الإلهية الذي دعت إليه الرسل وأنكره المشركون، ولقد فرق الله بين الرب والإله بقوله: (بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)) [الناس:1-3]، والربُّ هو الخالق المالك المدبِّر، والإله هو المعبود.
وكلمة توحيد الإلهية لا يحصَى ذكرها في القرآن؛ تارة بالاسم الظاهر: لا إله إلا الله، وتارة بضمير الغائب: لا إله إلا هو، وتارة بضمير المتكلم: لا إله إلا أنا، وتارة بضمير الخطاب كما في دعاء يونس عليه السلام: لا إله أنت(3)، وبكلمة التوحيد لا إله إلا الله كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض، ورب العرش العظيم»(4)، وجاء في فضل كلمة التوحيد أحاديث كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان، يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه»(5).
فهذه الفضائل لا يقاومها حديث: «من قال: الحمد لله رب العالمين كتبت له ثلاثون حسنة»؛ فلا بد من تأويله، ولعل هذا التفضيل لأمر قام بقلب الذاكر لقوله: «من قبل نفسه».
ويقال أيضا: إن هذا الحديث قد روي عن كعب من قوله، ونقل ابن رجب في شرح الأربعين عن بعض أهل العلم أن الموقوف أصح من المرفوع(6). ثم وقفت ـ أخيرًا ـ على كلام للحافظ أبي بكر ابن العربي في كتابه المسالك في شرح موطأ مالك أفاض فيه في الكلام على المسألة، وذكر أن أكثر العلماء على أن كلمة التوحيد أفضل من الحمد لله، فيحسن مراجعة كلامه(7).
وبعد: فالذي ظهر لي أن الصحيح ما دلَّت عليه الأحاديث المستفيضة في فضل لا إله إلا الله، مع ما تقدم من الوجوه، فكلمة التوحيد هي أول الأمر وآخره، وعليها مدار الخلق والأمر، فلا يعدلها شيء من كلمات الذكر، فضلا عن أن يكون أفضل منها. والله أعلم.
ن
قال ابنُ جُزَيٍّ -رحمه الله-: «الحاديةُ عشرة: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)؛ أي: نطلب العون منك على العبادة وعلى جميع أمورنا.
وفي هذا دليلٌ على بطلان قول القدرية والجبرية، وأنَّ الحق بين ذلك»(8).
ت
قول المفسِّر صحيح؛ فإن قوله تعالى: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) فيه الردُّ على القدرية لأنهم ينفون قدرة الله على فعل العبد ومشيئته له، وعلى قولهم فلا معنى للاستعانة به؛ لأن الاستعانة إنما تكون بالقادر لا بالعاجز، وفي قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ردٌّ على الجبرية الذين ينفون فعل العبد، بل ينفون قدرته على أفعاله، وفي الآية إسناد فعل العبادة إلى العبد، وهي أجلُّ ما يفعله، فدلَّت الجملتان في الآية على توحيد الربوبية والإلهية، فتوحيد الربوبية يقتضي التوحيد في الاستعانة، وتوحيد الإلهية يقتضي توحيد العبادة، فهو سبحانه المعبود، وهو المستعان، وبهذا جمعت هذه الآية حظَّ العبد وحقَّ الرب. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- - أخرجه أحمد (8012)، والنسائي في الكبرى (10608) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن ضرار بن مرة، عن أبي صالح الحنفي، عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله اصطفى من الكلام أربعًا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله، كتب له عشرون حسنة، وحطت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر فمثل ذلك، ومن قال: لا إله إلا الله فمثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كتب له ثلاثون حسنة وحطت عنه ثلاثون سيئة ". وأخرجه ابن أبي شيبة (29827) عن مصعب بن المقدام، والحاكم (1886) من طريق مالك بن إسماعيل، كلاهما عن إسرائيل، به. وقال الحاكم «هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه». وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1554).
2- أخرجه أحمد (6961)، والترمذي (3585)
من طريق حماد بن أبي حُميد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، به. قال
الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا
الوجه، وحماد بن أبي حُميد هو محمد بن أبي حُميد، وهو أبو إبراهيم الأنصاري المديني،
وليس هو بالقوي عند أهل الحديث".
وينظر الميزان (2244). وله شاهد مرسل من حديث طلحة بين عبيد
الله بن كريز: أخرجه مالك في الموطأ (2/ 300، برقم 726/ 239) -ومن طريقه البيهقي
في سننه الكبير (4/ 470، برقم 8391)، وعبد الرزاق في المصنف (4 / 378، برقم 8125)،
من طريق زياد بن أبي زياد ميسرة المخزومي المدني، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز
مرسلًا. وهذا إسناد مرسل صحيح. وللحديث شاهد آخر من حديث علي: أخرجه
الطبراني في الدعاء (874) من طريق قيس بن الربيع، عن الأغر بن الصباح، عن خليفة بن
حصين، عن علي مرفوعًا. وفي إسناده قيس بن الربيع، قال الذهبي: "أحد أوعية
العلم،صدوق في نفسه، سيئ الحفظ".
الميزان (6911)، فحديثه يصلح للمتابعات والشواهد. وجملة القول: أن الحديث حسن بمجموع
هذه الشواهد، والله أعلم. وينظر: الصحيحة برقم (1503).
3- ينظر: شرح كلمة الإخلاص لشيخنا (ص129).
4- أخرجه البخاري (6345)، ومسلم (2730)
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- واللفظ للبخاري.
5- أخرجه البخاري (6403)، ومسلم (2691) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- واللفظ
للبخاري.
6- جامع العلوم والحكم (2/21).
7- المسالك في شرح موطأ مالك (3/469-471).
8- "التسهيل"
(1/256).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق