هذه الوقفة الثانية مع الجزء الثامن والعشرين وهو جزءٌ مُتعدد السور فسنقِف هذه الوقفة من آيات من سورة الصف وآيات من سورة الجمعة.
فأما الآيات التي من سورة الصف فإن الله يقول (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) الإيذاء هُنا إيذاء ديني، والإيذاء الذي مرّ في سورة الأحزاب إيذاء بدني، الأحزاب الإيذاء المذكور فيها إيذاء بدني قال الله ( فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) ومرّ معنا خبر الحجر الذي فرَّ بلباس موسى. أما هُنا فالإيذاء ديني بِقرينة (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) في الآية قال (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِه) قال بعدها ( وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) ولم يقُل ياقومِ وإن كان هو منهم من جهة أُمه لكن لمًّا كان لا أب له لم يُخاطبهم يا قومِ لأن الإشعار بأن الإنسان ياقوم يكون من آبائه وأعمامه وإن كان هذا فيه خلاف كبير بين العُلماء ذلك أن ابن الولد هل يقوم مقامه ابن البنت؟ هل يُسمى ولد؟ هذه مسائل المحاكم تفصل فيها في مسائل الوقف لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الحسن إن ابني هذا سيَّد وهو ابن ابنته وليس ابن ابنه والعربُ تقول :
بنونا بنو أبنائنا وبناتُنا ** بنوهُن أبناءُ الرجال الأباعِد
يعني أبناؤُنا القريبون، أبناؤُنا الذين يٰطلق عليهم الحق أنهم أبناء هُم بنو أبنائِنا أي الأحفاد وأما أبناء البنات -وفق هذا البيت- بنوهن أبناء الرِجال الأباعِد مع أن النبي عليه الصلاة والسلام قال ابنُ أُخت القومِ مِنهم وقال صلى الله عليه وسلم في حق سعدٍ وهو من بني زُهرة من أخواله هذا خالي فليُرِنِ امرؤ خاله.
نعود للآية: فيها كذلك أن عيسى قال (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) فقطعاً أحد أسمائه صلى الله عليه وسلم هي أحمد لكن محمداً هو اسمه الذي سمّاه به جده عبد المُطلب لمًّا وُلِد والذي نستلُّه من الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر -والقُرآن تُفسره السُنة في مواضع كثيرة- قال (أنا دعوة أبي إبراهيم وبِشارة أخي عيسى) فإبراهيم لمَّا وضع هاجر وابنها دعا الله جل وعلا بأن يبعث فيهم من أنفُسهم نبياً صالحاً كَذاَ أوصافُه ويكون على يديه تعليمُهم فكان صلى الله عليه وسلم هو ذلك الدعوة من أبيه إبراهيم، وقال هُنا (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) هو صلى الله عليه وسلم بِشارة أخيه عيسى ودعوة أبيه إبراهيم.
في سورة الجمعة قال جل وعلا (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) هذا تشبيه لحالِهم -والعياذ بالله- من رُزِق علماً من أهل الكِتاب ثم لم يعمل بعِلمه لكن أردت التنبيه هُنا على أنه اشتهر بين الناس بيت يقول:
كالعيس في البيداء يحملها الظمأ ** والماءُ فوق ظهورِها محمولُ
هذا أراد به صاحبُه أن يقول إن هذا المثل مُقتبسٌ من الآية، كما صوّر الله تعالى حمَلة العلم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا برسوله صلى الله عليه وسلم ولم ينتفِعوا بعلمهم قال (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) أي كُتُباً جمَّة كثيرة قال هُنا: كالعِيس -الجِمال- في البيداء يقتُلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمولُ
أراد أن يقول إن العيس قد تكون في البيداء وعليها الماء فوق ظهورها ومع ذلك لا تنتفع به لكن هذا التشبيه ناقص وليس كتشبيه الآية ويجب أن يُتدبر تشبيه الآية كيف تُعرف؟ العيس أي الجِمال لو قُدِر أن الماء المحمول عليها في الغرائر سقط ماذا تفعل به ؟ تشربُه تعرف أنه ماء فتشربه لكن عدم شُربها له لعجزها عن الوصول إليه، في حين أن الحمار الذي يحمل أسفار، يحمِل كُتباً ينتقِل بها من بلد إلى بلد، من قرية إلى قرية لو أن هذه الكُتب سقطت بين عينيه لما انتفع شيئاً. واضح الفرق ؟ فالعِلَّة في العيس في الجِمال هي قضية العجز أما قضية الحِمار قضية الفهم وعدم العمل بالعِلم.
في سورة الجمعة كذلك قال أصدق القائلين ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) يوم الجُمعة -بالاتفاق- هو اليوم الذي خلق الله جل وعلا فيه آدم وفي يوم الجمعة أدخله الجنة، وهذا اليوم هو اليوم الذي تقُوم به الساعة، ونبيُنا صلى الله عليه وسلم نزل في بني عَمْرِ بن عوف أول ما نزل المدينة فمكث عندهم يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس -على الصحيح- يوم الجُمعة قبل الزوال بقليل -على الزوال- ركِب ومعه أصحابُه المهاجرون وخرجوا يُريدون المدينة -يعني يدخلون المدينة- بني عَمْرِ بن عوف يسكُن بجوارهم بني سالم بن عوف على مقرَبَه يسيرة فأناخ المطايا صلى الله عليه وسلم وصلى بهم الجمعة وهي أول جمعة في الإسلام أول جمعة في الإسلام بإمامته صلى الله عليه وسلم كانوا قبلها يُصلون الجمعة جَمعهُم أسعدُ ابن زُراره -رضي الله عنه وأرضاه- ولهذا حسان رضي الله عنه لمَّا كبُر كان ابنه يراه -يسمعه- كُلما سمِع مؤذن الجمعة يستغفر ويدعو لأسعد بن أبي زُراره -أبي أُمامه رضي الله عنه- فسأل الابن أباه حسان قال: يا أبتي إني أراك كُلما سمعت مؤذن الجمعة دعوتَ لأبي أُمامه، قال يا بُني إنني أذكُره هو أول من جمعنا في المدينة. فأسعد ابن زُراره -رضي الله عنه وأرضاه- هو أول من أقام الجُمعة في المدينة.
ثم إنًّ الجمعة أُقيمت في مسجده -صلى الله عليه وسلم- ولم تكُن الجمعة تُقام أيام حياته إلا في مسجده ثم أُقيمت صلاة الجمعة -كما عند البخاري في الصحيح- في جواثى -من أرض الأحساء اليوم غيرُ بعيدة عن مدينة الهفوف- وهي ثاني جُمعة أُقيمت في الإسلام في قرية جواثى والمسجد موجود إلى الآن لكنه مهدوم يعني طين وحِجارة لا يُصلى فيه. المقصود هذا ثاني مكان صُلي فيه الجمعة.
نعود الآن لصلاته عليه الصلاة والسلام الجُمعة: لِم صلى في هذا المكان ولم يُصلِ في مسجد قُباء؟ هو صلى في مسجد قُباء الفروض ثم مضى غير بعيد يعني أقل من كيلو متر ثم أناخ وصلى الجُمعة. لأن بني عوف ينقسمون قِسمين بني عمْرْ وبني سالم فلمًّا مكث في قُباء عند بني عمْرِ بني عوف وأرضاهُم أياماً أحب أن يعدِل حتى لا يتَأتَّى هؤلاء على إخوانِهم فصلى في بني سالم الجُمعة يُكرمُهم بها صلى الله عليه وسلم فيكون قد عدل بين الفريقين لأنهم أبناءُ عمومة.
أسعدُ هذا أُصيب بما يُعرف في زماننا بالجلطة فكواه النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك مات فكأن بعض يهود أخذ يلمِز فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه عبد وأنه بشر وأنه لا يملك إحياء الموتى وأنه لا يملك لنفسه فضلاً عن صاحبه شيئاً وإنما مات أسعد رضي الله عنه بأجَلِه، وأسعد ابن زُراره أول من دُفن في البقيع من الأنصار، ويُقابله من المُهاجرين أول من دُفن في البقيع عُثمان بن مظعون -رضي الله عنه وأرضاه- فعُثمان ابن مظعون أول من دُفن في البقيع من المُهاجرين وأسعد ابن زُراره أول من دُفن من الأنصار.
قال الله جل وعلا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا نداء تشريف وقد مرّ معنا أن النداء قد يكون: - نِداء نِسبة (يا بني آدم)
- وقد يكون نداء تنبيه نداء اسم يا داوود، يا نوح
- وقد يكون نداء ذم (يا أيها الذين كفروا)
- وقد يكون نداء تكريم وتشريف مثل هاهُنا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) فسمَّى الله الخطبة والصلاة ذِكراً، ولا ريب أنها من أعظم وأجل الذِكر الذي تعبَّد الله جل وعلا به عِباده فحريٌ بمن رقى منبراً أن يُذكِّر الناس بما ينفعهُم، وحريٌ بمن أتى أن يعلم أنه في عبادة جليلة كريمة قال صلى الله عليه وسلم : (نحنُ الآخرون السابِقون يوم القيامة) الآخرون أُمماً السابقون يوم القيامة، وهذا اليوم ضلَّت عنه الأُمم من قبلنا، كُلها نشدَتْهُ فاليهود ضلوا فظنوا أنه يوم السبت، والنصارى ضلوا فظنوا أنه يوم الأحد فهدانا الله إليه فهو يوم الجُمعة فنحنُ السابقون يوم القيامة كما أخبر نبيُنا صلوات الله وسلامه عليه قال الله جل وعلا ( فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ).
هذه جُملة ما يُمكن أن يُقال في الوقفة الثانية من هذا الجزء المُبارك الجزء الثامن والعشرين جمعنا في هذه الوقفة ما بين سورتي الصف والجُمعة.
في الوقفة الثالثة سنفرد الحديث على صدرِ سورة التحريم إن شاء الله تعالى عند قول الله جل وعلا ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق