بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على فضله والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف رُسله وبعد:
ها نحن نتفيأ الجزء الثامن والعشرين ونتدارسه في وقفات ثلاث -كما جرت العادة في مِثل هذه اللقاءات- وفي هذا اللقاء سنتكلم -إن شاء الله- عن فاتحة سورة الحشر قال الله -جل وعلا- (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وقد تحدثنا عن أن التسبيح هو: تنزيه الله -جل وعلا- عمّا لا يليق به في لقاءات ماضية وبيَّنا أنه جاء في القرآن على أحواله الأربعة: بالمصدر والمُضارع والماضي والأمر.
قال الله بعدها (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) فلما قال الله -جل وعلا- (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) خرج من ؟ خرج أهل الإشراك فبقينا في أهل الْكِتَاب، مع ذلك أهل الكِتاب تشمل اليهود والنصارى وليس المقصود إخراج اليهود ولا النصارى إذاً لا يُمكن أن تُفقه هذه الآية إلا بالرجوع إلى السنة، لا بُد من الرجوع إلى السنة والسيرة.
المدينة كان يسكُنها قبل هجرته ثلاث قبائل يهودية بنو قينُقاع وبنو النضير وبنو قُريظة بنو النضير وبنو قُريظة من ذرية هارون عليه السلام، وكان فيهم أمرُ الدين وتُسمى هاتان القبيلتان الكاهنين يعني يُقال لها الكاهنان يعني يحفظون أمر الدين في اليهود، فهؤلاء بنو النضير وقع منهم غدرٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- لمَّا ذهب إليهم -عليه الصلاة والسلام- يطلُب منهم العون في ديةٍ لرجُلين فتآمروا عليه وأرادوا أن يُلقوا عليه صخرة فأمره الله -جل وعلا- أن يخرج إليهم، فلمَّا خرج إليهم كانت لهُم حصون -نأخذ قطوف من السيرة ثم نعود إلى الآية- كانت لهم حصون ولهُم نخل داخل الحصون ونخل خارج الحصون فحتى يصلوا إليهم قام بعض المؤمنين بحرق النخل ثم بعد ذلك اتفقوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يخرُجوا ويحملوا معهم متاعهم الذي يُمكن أن تُقلّه الجِمال فخرجوا -وهم يهود- خرجوا معهم أموال -ذهب- كانوا يجمعونه سنين عديدة ومعهم جواري معهم دُف يضربن على الدُف وينشُدن حتى لا يشمت بهم أحد، وخرجوا مُتوجهين -إذا كان فيكم أحدٌ يعرف المدينة- طريق تبوك القديم الآن عند في سكن المدينة في جبل اسمه جبل الخزان غير بعيدٍ من جبل الخزان ثم أخذوا جهة الشمال الغربي مُتوجهين إلى خيبر لأن تبوك شمال المدينة وفي الطريق إليها -خيبر- ذهبوا إلى خيبر (ما يصنع بِنا مُحمد الأرضُ واسعة والمال معنا) فلمَّا وصلوا إلى خيبر ومعهم أموال استعبدوا الناس واشتروا المزارع ومكثوا فيها سادة وأخذوا ناس يعملون بالفلاحة عندهم لأموالهم التي جمعوها هؤلاء بنو النضير، فسلَّط الله عليهم رسوله يوم خيبر.
نعود الآن للآية: قال -جل وعلا- (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) "اللام" هُنا لام توقيت، وتمُر عليك في القرآن كثيراً:
قال الله -جل وعلا- (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) يعني وقت دلوكِ الشمس
وقال -جل وعلا- (يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) -على أظهر القولين- يعني وقت حياتي وفيه قول آخر للمستقبل.
يعني (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا) الخطاب لمن؟ للمؤمنين -للصحابة- (وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ) الآن الخيل التي يُركب عليها لها سم آخر غير خيل ماهو؟ حِصان، لماذا تُسمى حِصان؟ لأنها تحصُن صاحبها في المعركة فلا تطأه أقدام الفُرسان، حسَّان -رضي الله عنه- لمَّا مدح عائشة قال: "حَصَانٌ رزان" مامعنى حَصَان ؟ حصَنت نفسها بِعفتها والله يقول (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) يعني حَصَنَّ، حافظن على أنفسهن بعفتهن. فهمنا أن لفظ حصَنَ يعني الحفظ.
هم عندهم حصون ظنوا أن حصونهم هؤلاء مانِعتُهم ممن؟ من الله فالحُصون وقتْ من جنود المُسلمين لكِنها لم تقِ ممن ؟ من الله قال رب العالمين (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) كيف أتاهُم الله من حيث لم يحتسبوا ؟ جاءهُم من أنفسهم، قذف الله -جل وعلا- في قلوبِهم الرُعب ومن انهار داخِلياً لا يُمكن أن يقف ظاهِراً فدخل عليهم الرُعب، دبّ في القلوب، فلمَّا دبّ الرعب في القلوب أصبحت هذه الحصون وجودها كعدمِها قال الله -جل وعلا- (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) قذف في اللغة هو: الرمي باليدِ بقوة وهنا معناه أن الرعب وقع منهم موقِعاً عظيماً.
(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ)
معنى (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) :
الآن النبي -عليه الصلاة والسلام- أذِن لهم أن يحملوا ما يستطيعون -مُحدد- فأخذوا المتاع الذي يُريدونه، ينقُضون البيت حتى يأخُذوه معهم وما بقي صالحاً ينقُضونه حتى لا يستفيد المؤمنون منه (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) قال الله (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) العِبر في الأرض إلى اليوم كثيرة لكن أين أُولوا الأبصار الذين يعتبرون (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ).
ثم قال الله -جل وعلا- (وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) هذه الآية معناها: الله -جل وعلا- قضى وحَكَم أنه سيُجليهم من ديارهم والجلاء هو: الخُروج من أرض الوطن بغير نية العودة .
قال بعدها -جل وعلا- (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) لمَ قال الله (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ)؟ حتى لا يُفهم أن مُنتهى أمرهم أنهم مُعذبون في الدُنيا، فالله يقول نعم عذبناهم في الدُنيا بالتشريد والقتل والأسر وأخرجناهم من ديارهم لكن ذلك لا يُغني عن عذاب النار وهذا في عُرف البلاغيين يُسمى احتراس قال طَرَفه:
فسقى ديارك غير مُفسِدها صوبُ الغمام..... وذكر شيئا آخر.
"غير مُفسِدها" يدعو على أرض بالمطر فهو يقول أنا أسأل الله أن يأتيكم مطر غير مُفسِد، هذه "غير مُفسِد" احتراس من مطرٍ يُفسد الأرض موضوع الشاهد.
قال الله بعدها بآيات بعد أن ذكر مُشاقَّتهم لله ورسوله وهي ظاهرة.
قال (مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ) المُسلمون -جند المُسلمين- لمَّا قدِموا على هذه الحُصون وجدوا النخل والمدينة أرضٌ ذات نخلٍ إلى يومنا هذا. أُختلف في معنى اللينة، قيل: هيَ نوعٌ معين وقيل هي عام، والذي يظهر أن العموم (مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا) السبب أن اليهود من الحُصون قبل أن يخرُجوا قالوا يا مُحمد تزعُم أنك بُعثت بالصلاح وها أنت وجُندك تُفسدون في الأرض وتُحرقون النخل وتُقطعونه فحكم الله قال (مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ) قال العلماء: فقول الله -جل وعلا- (فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ) مُشْعِر أن عدم الحرق والقطع أولى. (مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) كيف يُخزيهم ؟ هم يرون نخلاً سنين طِوال غرسوه وسَقَوه ثم يرونه يُحرق أمامهم فلا هم بالذين يقدرون على منعه وفي الوقت نفسه أصابهم الخزي من جهتين:
من النخل الذي حُرق، ومن النخل الذي لم يُحرق ويُقطع.
فالنخل إذا قُطع وحُرق طائفة منه يتقطعون كَمَداً أنهم جلسوا سنين غرسوه وسقوه ثم آخر الأمر يُحرق ويُقطع، والنخل الذي لم يُحرق ولم يُقطع يتقطعون كمدا أنهم غرسوه وسقوه وذهب ثمره لغيرهم فهم في كِلا الحالتين لم ينجو من الخزي وهذا من تسليط الله -جل وعلا- عليهم.
قال الله (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ) وقال هُنا (مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ) من الناحية الفقهية: هذا الفيئُ ما أوجف المُسلمون عليه بخيل ولا ركاب كما قال الله لم يكُن هُناك قِتال ولا حرب فحَكَم به صلى الله عليه وسلم وقضى به أنه لذوي القُربى وأعطاه لفقراء المُهاجرين ولم يُعطي الأنصار إلا لرجُلين كانا شديديّ الفقر منهم أبو دُجانة سِماك ابن خرشة رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
مما يُمكن أن يقف المرء عنده إيمانياً ولو لحظة :
أن الله -تبارك وتعالى- أخبر عن المُهاجرين وعن الأنصار فقال في المُهاجرين ( لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ) وقال في الأنصار ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ.......) ومدحهم. ونحنُ وأنتم لسنا من المُهاجرين الأولين ولسنا من الأنصار فما بقيت إلا واحدة أن يتَّبعهم المؤمن بإحسان.
أحدُ عُلمائنا جادل قوماً من أهل الضلالة والبدع وكانوا قد أتوا مكة للحج فقال للعُلماء دعوهم لي، فلمًّا جلس إليهم قال: أسألُكم بالله هل أنتم من المُهاجرين الأولين؟ قالوا: لا، قال: أسألكم بالله هل أنتم من الأنصار؟ قالوا: لا، فطوى عباءتهُ وقام وقال : وأنا أشهد عند الله أنكُم لستُم ممن تبِعهُم بإحسان.
وإذا انتهت هذه لم يبقَ شيء لأن لا يوجد في القُرآن إلا (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) وقام عنهُم.
وهذه الوقفة الأُولى من الجزء الثامن والعشرين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق