الاثنين، 13 يناير 2014

الحلقــ الرابعة عشرــة / جنة بربوة -١-


..وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره واتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
 فنستأنف دروسنا في هذا الجامع المبارك جامع -جامع ناصر الطيار- بمدينة الرياض في دروس التفسير هذا العام، وكنا قد حررنا كثيرا أننا نحرص -قدر الإمكان- أن يكون العنوان مضافا ومضافا إليه مجزوءا من آية كريمة من كلام رب العزة والجلال ثم ناتي على تلك الآية أو ما شابهها من الآيات.
 لقاء اليوم يحمل عنوان (جنة بربوة) وليس هذا من المضاف والمضاف إليه لكنه قريب منه قال الله -عز وجل- في كتابه العظيم (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) في لقاءين -إن شاء الله تعالى- متتابعين نشرح هذه الآية، في اللقاء الأول منهما -أي هذا الدرس- نمهّد ونوطئ لجملة من القواعد حول تفسير هذه الآية ثم نعكِف -إن شاء ربنا- في الدرس الذي يليه على تفسير الآية.
 فنقول مبتدئين مع قول الله -جل وعلا- (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ) نقول إن هذا القرآن نزل بلسان عربي مبين والله -عز وجل- يقول (وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) فقول الله -عز وجل- (قُرْآنًا عَرَبِيًّا)   يدل على استقامة ألفاظه، وقوله -جل ذكره- (غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) يدل على تكامل معانيه ومن كلام لغة العرب الذين نزل بهم القرآن أنهم كانوا يضربون الأمثال وتكثر فيهم الأمثال ويُقرِّبون المعقول عندما يضربون له مثلا بالمحسوس فشاع في العرب ضرب الأمثال وانتشرت وهذا من صميم كلامهم، فلما نزل القرآن بلغتهم كان بدهياً أن يكون في القرآن كثير من ضرب الأمثال والله يقول (وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ) ومن تدبر القرآن وقرأه وتلاه من غير تدبر علِم ذلك فكيف لو تدبره وتأمله لعِلم ذلك جلياً ان الله -عز وجل ضرب كثيراً من المعقولات قربها بالضرب بالمحسوسات وهذا على نسق كلام العرب، والعرب في جاهليتهم قبل الإسلام كان هذا شائعاً منه فيهم حتى ضربوا الأمثلة على ألسِنة الحيوانات أو شبهو أحوال الحيوانات وذكروا أشياء لأي شيء يريدوا أن يرفعوه أو يضعوه جعلوه متعلقا بالأمثال. يقولون في أمثالهم مثلاً "أسمع من سِمع" أسمع: يعني أشد سماعا، والسِمع -بكسر السين-: حيوان يتولد إذا الذئب نزا على الضبع يعني أنثى الضبع ما يتولد منهما يُسمى سِمع، والعرب تضرب به المثل في شدة سمعه ويقولون أنه حيوان لا يموت حتف أنفه مثله مثل الحية، فالعرب تزعم أن الحية لا تموت حتف أنفها وهذا ظاهر فكذلك قالوا أن السِمع هذا الحيوان شديد السمع، شديد العدو -الجري- ويضربون به المثل في شدة السماع والمقصود من إيراد هذا المثل أن العرب قلّما تركوا شيئا إلا وضربوا به مثلاً لأمر ما يرفعونه أو يضعونه، ولهم بهذا أمثال عدة نكتفي بذلك لأن حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق فالمراد التأصيل الأول في أن لماذا كثُر ضرب الأمثال لأن هذا من صيرورة كلام العرب.
 الامر الثاني: دلّ الشرع المُطهّر على أن الإنفاق في سبيل الله من أعظم القُربات وأجل الطاعات على الإطلاق وكان أبو ذر -رضي الله عنه وأرضاه- يحث الناس على الإنفاق فقال له رجل يا صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والصيام؟ قال الصيام قربة. لا يستطيع أحد أن يجحد أن الصيام قُربة لكن قال إن الله يقول في الإنفاق (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فهذا يؤيد قول أبي ذر-رضي الله تعالى عنه وأرضاه- على أن الإنفاق من أعظم القٌربات، وأهل العلم يقولون إن المال نفيس للإنسان فإذا أراد الإنسان أن يُرسّخ الطاعة في قلبه فلينفق فكلما كان الإنسان قادراً على الإنفاق كان ذلك أكثر إعانة له أن ترسخ الطاعة في قلبه.
 الامر الثالث: أن الإنسان المؤمن يعلم أن وراءه حياة برزخ ربنا -رب العزة والجلال- يقول (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ومعلوم أن الحياة الدنيا على ظهر الأرض، وأن حياة الآخرة على أرض المحشر ثم إلى جنة أو إلى نار، أما حياة البرزخ فموطنها القبور ربنا يقول (أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً (25) أَحْيَاءً ‎ وَأَمْوَاتاً) فظهرها للأحياء وباطنها للأموات، هذه القبور يقول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح يقول: (إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حرّ القبور) فالمؤمن إذا فطن إلى هذا الحديث وعلِمه واستشعر صدق قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم وهو بلا ريب ولا شك أعظم الصادقين من الخلق- إذا استشعر هذا علِم أن الإنفاق يقيه الله - عز وجل- به حر القبور ولابد -متعنا الله وإياكم متاع الصالحين- ولابد من دخول القبور فلما يسمع المؤمن قوله النبي -عليه الصلاة والسلام-(إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حرّ القبور) يزداد إنفاقا. وهذا توطئة للآيات التي نحن فيها.
 نعلم يقيناً -حتى نعرف المثل بعد ذلك- لأن الله ضرب المثل بالوابل وبالطل، أن الله -جل وعلا- جعل من الماء كل شيئ حيّ قال ربنا (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) وجعل الماء حياة بل أخبر -جل وعلا- أن بني آدم، أن الإنسان خُلِق من ماء، هذا الماء ليس له مصدر أول إلا السحاب (وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً {14} لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً {15} وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً) وهذا الماء عَني به العرب فقلّما ينزلون إلا على ماء، وقد مضت سنة الله في الرسل قبل نبينا أن الناس إذا أجدبوا استسقوا ربهم فلذلك كثر في كلام العرب العناية بالماء من كل وجه، تفننوا في أسماء السحاب، في أسماء الماء، في طرائق خروجه وهذا شائع حتى في غير الماء لكنه في الماء أوكد لعلمهم عظيم أثر الماء في حياة كل أحد وقد مر معنا كثيرا أن العرب تقول عن الماء أنه "أعز مفقود وأذل موجود" فهم يقولون -أي العرب- إذا كان الماء عذباً سموه فراتاً، وإذا كان ملحاً سموه أجاجاً، ويأتون للماء إذا كان نتناً لكنه يمكن أن يُقبل شربه يسمونه آجن، فإذا كان منتنا ومحال شربه سموه آسن، فإذا كان هذا الماء مُنتنا باردا في آن واحد سمّوه غساق وبه نزل القرآن، فإذا كان مُنتنا لكنه ساخنا سموه حميماً وبكلٍ نزل القرآن ربنا يقول (هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيم وَغَسَّاق) فالحميم والغساق كلاهما ماء منتن إلا أن الحميم ماء حار مُنتن والغسّاق ماء بارد مُنتن.
 هذا كله الإثراء اللغوي هنا يدل على عناية العرب بالماء وأنت تعلم ان النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر عندما أعزه الله ونصره -وكل حياته عليه الصلاة والسلام حياة عزة ونُصره- أشير عليه أول الأمر أن يحول بين قريش وبين الماء و جعل الآبار تحيط فقط بمعسكر المسلمين فلما نزل جيش قريش لم يكن لهم هم أول الأمر إلا أن يصلوا إلى تلك البئر التي قُتل عندها الأسود بن يزيد الذي كان أول من طُعن من قريش، والمراد: قضية حياة الناس على الماء عبر التاريخ كله ولذلك العرب تقول للماء إذا خرج من الحجر انبجس، وإذا كان من السقف يقولون وكف، وإذا كان من السحاب قالوا سح السحاب، وإذا كان من الينبوع قالوا نبع، ولهم في هذا طرائق إذا كان من القِربة قالوا صَرَب وأردت بهذا بيان أنهم لو لم يكن لديهم أن الماء شيئ عظيم في حياتهم لما أكثروا من كثرة مفرداته وهذا لا يحتاج إلى دليل بيان أن الماء عند العرب وعند الغير شيئ به قوام الحياة. إذا استصحب الإنسان هذه الثلاث: الماء وفضله وما جعل الله فيه، والإنفاق وأثره على حياة الفرد في الحياة الدنيا والآخرة، وقبل ذلك أن القرآن الذي نتلوه ونريد أن نتأمله ونتدراسه ونفسره نزل على سَنن كلام العرب في كلامها. إذا فقه المؤمن هذه الثلاث قدر بعد ذلك على أن يفقه الآية الكريمة.
 الآن نأتي للآية قال تعالى (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) قلنا المثل بينا الحاجة إليه في التأصيل الأول.
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ) هذا الإنفاق جاء مقروناً بقوله ( فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لكن الآية لم تكتفِ بهذا جاء قول الله -عز وجل- فيها (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ) هي ليس فيها ( فِي سَبِيلِ اللَّهِ)  (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) ،( فِي سَبِيلِ اللَّهِ) جاءت في الآية التي قبل في قوله -عز وجل- (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) في الآية الأولى قال ( فِي سَبِيلِ اللَّهِ) هنا قال (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) لا خلاف بين جماهير أهل النحو أن (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) مفعول لأجله لكنهم اختلفوا فيما نصبت (تَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) على اختلافهم في بيان معناها وقالوا من الصعب أن نقول أنها معطوفة عليها مفعول لأجله مع اتفاقهم في غالب القراءات على أنها منصوبة. سيأتي تحريرها.
 قال ربنا (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) والمعنى: أن هؤلاء القوم عندما ينفقون من أموالهم التي أفاء الله بها عليهم إنما ينفقونها لا يريدون بذلكم الإنفاق إلا ابتغاء وجه الله وهذا هو المادح فاعله المُكرم صانعه المقبول من قام به أن يكون الإنسان قد أراد بعمله وإنفاقه وغير ذلك من الأعمال التي يقوم بها ابتغاء مرضاة الله وهذا دلالة على إخلاص العبد ويقينه بلقاء ربه وهذا العمل إذا أريد به وجه الله هو الذي يربيه الله -جل وعلا- لعبده كما يربي أحدكم فُلُوَه كما يقول -صلى الله عليه وسلم- أي أن الله يُضاعِفه له حتى يلقى ذلكم العبد ربه وقد ضاعف له العمل كما دلّ على ذلك القرآن والسنة فقال ربنا (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ).
 ثم قال (وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وللعلماء رحمهم الله في قول الله-عز وجل- (وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) قولان:
 الجمهور: على أن المعنى يصنعون ذلك على يقين احتساب الأجر من الله،  ويمكن أن تضيف على كلمة يقين أنهم يصنعونه بلا تردد لعلمهم أنهم سيلقون الله. هذا قول الجمهور وهو الصحيح.
 وقال مجاهد -رحمه الله- على جلالة قدره ويُروى هذا عن الحسن البصري -رحمة الله تعالى عليهما- أنهم قالا أن المراد بقول الله (وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أن هذا المُنفق أو المنفقون يتثبتون أين يضعون صدقاتهم، يتحرون أين يضعون صدقاتهم.
 لكن جُلّ أهل التفسير خاصة من أوتي حظا منهم في علم اللغة يقول أن هذا لا يستقيم وأكثر من دافع عن هذا -أي عارض هذا القول ورده- ابن عطية -رحمه الله- في تفسيره المُسمّى (الوجيز في تفسير الكتاب العزيز)، أشهر من رد هذا القول ابن عطية -رحمه الله- فرده وقال أن قواعد اللغة لا تقبلها.  وأكثر أهل العلم -قلت- على رده فنبقى على قول الجمهور وهو معنى قوله تعالى (وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي دون تردد وعلى علم ويقين أن ثوابهم حاصل لا محالة -بإذن الله- عند رب العالمين فقال ربنا (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) وهذا ما سنُتِم عليه الحديث -إن شاء الله- في اللقاء القادم. وقفنا الله وإياكم لما يحب ويرضى وألبسني الله وإياكم لباسي العافية والتقوى وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق