هذه الوقفة الثالثة مع الجزء السادس والعشرين:
قال الله -جل وعلا- في سورة الفتح : (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا) هذا كان زمن الحديبية، و"قَدْ" حرف يفيد التحقيق.
والله يقول -ولا مُعقِّب لحكمه- : (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) أيُّ مؤمنين؟ الذين بايعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- تحت الشجرة ، أيُّ شجرة؟ شجرةٌ كانت في الحديبية ، سبب البيعة : خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- في ألفٍ وأربعُ مائة لا يريد إلا العمرة في إحرامه وصدّته قريش فأناخ بالحديبية وأضحى بينه وبين قريش مفاوضات ، فبدا له أن يبعث رجلاً من أصحابه فأُشير عليه بعثمان ، لمَ عثمان؟ لأن عثمان -رضي الله عنه- من عبد شمس -من بني أمية- وهؤلاء قلَّ من دخل منهم في الإسلام فأبو سفيان ومعاوية -رضوان الله تعالى عليهما- وغيرهما كانوا في مكة ولم يكونوا قد أسلموا بعد ، فعصَبة عثمان في مكة كثيرة تمنعه وإن كان مسلماً ، فبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- عثمان، ثم أُشيع أن عثمان قُتل فدعى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه للبيعة على أن لايفروا وقد يقول قائل لِمَ لم يدعهم للبيعة في بدر أو في أُحُد أو في غيرهما؟ لأن تلك خرجوا لحرب أو شبه حرب، أما هنا خرجوا للعمرة، مازالوا في إحرامهم وهم يبايعون فبايعوه تحت شجرة قيل أنها سِدر وهم ألف وأربعمائة رجل لم يتخلف منهم إلا رجل يقال له الجد بن قيس اختبأ تحت ناقته وقيل أنه مات على النفاق. هؤلاء الألف والأربعمائة مقطوع بأن الله قد رضي عنهم وهذا مذهبٌ حق لأن هذا كلام رب العالمين (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) فربنا المُطّلع على كل شيء قال:( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِم) من الصدق والدّين والإيمان واليقين والنُصح لك ونصرة كتابه وسُنّة نبيّه -صلوات الله وسلامه عليه-. (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) هم الآن يحتاجون إلى من يطمئنهم والقرآن يبدأ بالأولويات (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) أصابتهم الطمأنينة وهم في أرض الحديبية (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) أي وعدهم الله -جل وعلا- فتحاً قريباً سيكون وهذا على الأرجح سيكون في خيبر كما سيأتي.
عثمان -رضي الله تعالى عنه- أين هو في الألف والأربعمائة ؟ أين ؟ في مكة والآن بسط -صلى الله عليه وسلم- يده والصحابة يبايعونه حتى أتموا أمرهم، من بقي؟ عثمان ، فوضع -صلى الله عليه وسلم- يده وقال : وهذه عن عثمان وبايع نفسه بنفسه، فأصبحت يد رسول الله لعثمان خير من يد عثمان لعثمان.
هناك أمر هام هو اللب في القضية : لِمَ آتى الله -جل وعلا- عثمان هذه المنزلة ؟ ستستنبط أن التجارة مع الله تجارة رابحة، عثمان لما دخل مكة في عُصبة بني عبد شمس قالوا له: نُمكّنك أن تطوف بالبيت، قال : أستحيي من الله أن أطوف بالبيت ورسول الله محبوسٌ في الحُديبية، فرفض أن يطوف تأدباً مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو لا يدري أنه أُشيع أنه قُتل، ولايدري أن الصحابة عقدوا البيعة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولايعلم عن ذلك شيئاً، معززاً مكرّماً عند عصبته في مكة ، لكنه لما قال هذا -هذا عمل صالح وتجارة مع الله- على الجانب الآخر يمُدّ يده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول وهذه عن عثمان فقال العلماء: "فكانت يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعثمان خيراً من يد عثمان لعثمان" وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، لكن الذي أريدك أن تستله في حياتك اليومية: أن تعلم أن التجارة مع الله -جل وعلا- تجارة رابحة ، لا تتصور أنك يقابلك مسكين سائل عند بيتك وقد بيّتَ أن تذهب إلى وجيه فالسائل هذا بعثه الله ابتلاء، إن أقبلت عليه وأعطيته فتح الله لك قلوباً وأبواباً موصدة، لكن إن صددته لا تنتظر من أن الله يُسخر لك خلقه، لابد أن يُعرَف كيف تُستجدَى رحمة الله، العاقل من يعرف كيف يستجدي رحمة الله -جل وعلا- وهذا باب واسع يصعُب شرحه لكن يبدأ بيقين أولي ، اليقين الأول يكون هناك مطلوب ويكون هناك مرهوب ، أول يقين الذي بعده تأتي الخطوات لا يمكن أن يتحقق المطلوب حتى تعلم يقيناً أنه لن يأتي به إلا الله ، ولا يمكن أن يُدفع المرهوب حتى تعلم يقيناً أنه لن يدفعه ويمنعك منه إلا الله ، ثم بعد ذلك كل الأسباب التي تستجدي بها رحمة ربك -تبارك وتعالى- كن على يقين بهذا ستصل إلى مطلوبك وسيُدفع عنك ما تخافه وتخشاه والله يقول: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)
هذه خاتمة الوقفات مع الجزء السادس والعشرين .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق