الثلاثاء، 14 يناير 2014

الحلقــ الخامسة عشرــة / جنة بربوة -٢-


نستأنف ما كنا قد بدأناه في الدرس الماضي وقلنا إن عنوان الحلقة (جنة بربوة) وأنها مجزوءة من آية كريمة في سورة البقرة، ومرّ معنا التأصيل حول هذه الآية ثم ذكرنا تفسير صدرها ونستانف الآن ما بقي منها.
قال رب العزة (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) وبيّنا خلاف العلماءحول قول الله -عز وجل- (وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) واتفاقهم على معنى (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ).
 ثم قال رب العزة : (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) الكاف للتشبيه، (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) الجنة: البستان، فإذا حفّها الشجر أخفى ما بداخلها، ومفردة "جنة" في اللغة تدل على الاستتار. وهذا مرّ معك كثيرا في الدروس. 
قال ربنا: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) الربوة : ما ارتفع من الأرض لكن هذا الارتفاع لا يكون مُبالغا فيه وغالبا ما يكون بسبب تل من تراب ولا يكون حَزَنا صعبا وإن كانت العرب تمدح الرياض -جمع روضة- التي تكون على حَزَن قال الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن مُعشبة ...الخ ما قال،لأن فيها غزل نُنزه المساجد عنها لكن الذي يعنينا أنه جعلها روضة حَزَن يعني الحَزَن الأرض الصلبة عالٍ. فربنا يقول هنا (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) ولفظ  "الربوة" جاء ذكرها في القرآن في خبر عيسى وأمه ربنا يقول (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) ولما كان عيسى وُلد من رحم مريم فهو وأمه لأنه وُلِد منها سمّاهم الله -جل وعلا- آية ولم يقل آيتان مع أنه قال  -جل وعلا- عن الليل والنهار (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ۖ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً) لكن لما كان المسيح عليه السلام هو شيء من أمه جعلهم الله -جل وعلا- آية واحدة قال  (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا) أي المسيح وأمّه (إِلَىٰ رَبْوَةٍ) مكان مرتفع (ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)
هنا قال ربنا -جل وعلا- (كَمَثَلِ جَنَّةٍ) أي بستان (بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا) أصاب ما؟ الجنة.  (أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) يوجد محذوف دلّ عليه المعنى ربنا يقول (أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) فطلٌ ماذا؟ الأصل أن البستان يؤتي أُكله مرة واحدة فربنا يقول(كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا  فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ) نحن لا نحتاج هذا الضعف فـ"طل" معنى كلمة (فَطَلٌّ) فطلٌ يكفيها، فالطل أقل المطر والوابل أعلى المطر، دائما -يا بني- له ارتباط يعني لا يمكن أن يكون وقفا على تلك الكلمة، الجذر اللغوي يمشي معاك، الآن خذ كلمة (وابل) قلنا إن وابل: أعلى وأشدّ وأقوى المطر، خذ كلمة "وابل" تجدها في كل مكان بهذا المعنى ربنا يقول (فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا) "وبيلا" هي مفردة وابل هي نفس الجذر "وبل" ويقول (فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ) كل شيء في التعظيم تأخذ نفس المفردة. الآن نأتي إلى بيوت في الديار مهجورة متروكة لم يبقَ منها إلا شيء يسير، هذا الشيء اليسير المنثور هنا وهناك يُسمّى أطلال -طلل- لأنه قليل كذلك المطر إذا قلّ يُسمى طل، فرب العزة والجلال يقول هنا (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) والتقدير : فطلٌ يكفيها. هذا مثل وقلنا إن العرب تضرب الأمثال لتُقرب المعقول بالمحسوس. ضربه الله -عز وجل- ليُبين أن المؤمن لا يمكن أن يبور عمله فهذه الجنة إن أصابها طلٌ حسُنت وإن أصابها وابل أضعفت. 
الآن تعال في حياتك اليومية هذا القرآن من شرّفه الله أن يُفسره لابد أن يُقربه للناس ليس طلاسم . الآن انظر لنفسك -وانا أكاد أقسم إن شاء الله- أنكم كلكم كذلك، أنت في أول الشهر عندما تُعطي تُعطي بالمئة بالخمسين بالعشرين إذا جاء آخر الشهر وقلّ ما في يدك تُعطي بالريال وبالخمسة لكنك لا في أول الشهر ولا في آخره تخلو من الخير فمثلك مثل هذه الجنة التي بربوة إن جاءها وابل الله بقول آتت أُكلها ضعفين وإن لم يصبها وابل قال ربنا (فَطَلٌّ) والمقصود: أنها غير محرومة من الخير كذلك المؤمنون -جعلنا الله وإياكم منهم- غير محرومين من الخير إن عندهم شيء زائد أنفقوا وإن لم يكن عندهم إلا ما يكفيهم أنفقوا لكن بقدر، فما تُنفقه يوم 24 من الشهر لا يمكن أن يكون مثل ما تُنفقه يوم 30 و1و2 في أول الشهر والمال يدر في يدك لكنك في كلا الحالتين أنت على خير عظيم مثلُك مثل هذه الجنة التي بربوة لا تُحرم الخير ولا يبور فعلها، والمعنى: أن هذه الجنة لا تصحُر أي: لا تكون صحراء هي بين اثنين يا ما بين وابل يا ما بين طل وكذلك المؤمن بين إنفاق إما كثير وإما قليل لكن المُبتغى -الأصل- الذي يُبنى عليه العمل كله قول الله
-عز وجل-  (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) هو المُهم أن تبتغي بعملك مرضات الله -وجه الله- ظاهر هذا.
قال رب العزة: (كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ) ثم قال (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وقد جاءت هذه (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تذييلا في الآية لأن الآيات التي قبلها كانت تتحدث عن بعض إنفاق المنافقين الذين يُنفقون رياء الناس فقول الله -عز وجل- (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يُخاطب به المؤمن وغير المؤمن وفيه تثبيت لقلب المؤمن أن الله بصير مُطّلع على عمله، على إخلاصه، على رغبته فيما عند الله وأن الله -عز وجل- كذلك مُطلع على ذلك المنافق -عياذا بالله- الذي لا يريد بعمله وجه الله -جل وعلا- أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
قال ربنا -نعيد إجراء الآية- (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ  أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) وقد حررنا أن القضية تتكلم عن الإنفاق في سبيل الله -تبارك اسمه وجلّ ثناؤه-.
 هذا الإنفاق منه ما هو واجب -من حيث العموم- وهذا في حق من كلفك الله -عز وجل- بأن تعولهم كإنفاق الرجل على زوجته وأبنائه وبناته وأهل بيته وأمه وأبيه إن لم يكونا قادرين على الإنفاق على نفسيهما، ثم يزداد هذا بحسب قدرة الرجل المالية قال ربنا (وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ..) وقال (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ..) في عصرنا هذا توجد مواطن للإنفاق ولا يُعذر أثرياء المسلمين في التغافل عن تلك المواطن ومن أعظمها -ونقوله على يقين- المساجد والمراكز الإسلامية في الغرب،المساجد والمراكز الإسلامية في الغرب أولى ما يُنفق فيه الأموال في زماننا هذا ذلك أن تلك المراكز تؤدى فيها الصلوات والجُمع والجماعات، وفيها يُغسل موتى المسلمين ويُكفنون ويُعنى بهم عناية شرعية، ولهم مقابر تحتاج إلى من يُصلحها ويقوم على شأنها وكل هذا لا يتأتى إلا بالمال فيحسُن بأثرياء المسلمين، بالملوك، بالوزراء، بالأمراء، بالتجار بالقادرين، بالأغنياء أن يتقوا الله -عز وجل- في المال الذي آتاهم الله -عز وجل- إياه، ومامن أحد يعقِل إلا ويريد أن يفِر من حرّ القبر وقد مرّ معنا في اللقاء الماضي أن الصدقة تطفئ حرّ القبور فيسعى المسلم إذا كان قادرا على هذا الإنفاق الذي يُعان به إخواننا المسلمون في شتى بقاع الأرض مِمن يُعينهم على الطاعة، يُعينهم على العبادة ويُعينهم على أن يُقيموا عبادة ربهم على الوجه الأتمّ. هذا يُخاطب به الطبقة العُليا مِمن بأيديهم المال. تبقى طبقة أقل مالا فهؤلاء مُطالبون أولا بقراباتهم ثم بذوي الحاجات مِمن حولهم من جيرانهم ثم بعد ذلك يمكن أن يُعطوا الفقراء الذين خارج ديار أهليهم، خارج الديار التي يسكنونها لكن هذه الأولويات لابد منها. فإذا صنع المسلمون ذلك واستشعروه وعلِموا أن هذا الإنفاق يعين المسلمين في شتى بقاع الأرض على أن يعبدوا ربهم كان ذلكم المال الذي خوّلهم الله -عز وجل- إياه نعمة عليهم وصلاحا في الدنيا والآخرة. وأما من -عياذا بالله- يُمسكه ولا يكاد يُنفق منه شيئا فإن هذا من الخسران العظيم وقد مرّ معنا في لقاء مضى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال 
*(المؤمن يكره الموت والموت خير له من الفتنة، والمؤمن يحب المال وقِلة المال أنفع في الحساب) والمراد فهم سياق القرآن والإنفاق في سبيل الله على الوجه الأتمّ والنحو الأكمل. يتأكد الإنفاق في رمضان أكثر لفعله -صلى الله عليه وسلم- وكفى بهديه هديا وقد مرّ معك كثيرا قول الحبر ابن عباس -رضي الله تعالى عنه وعن أبيه- : كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان إذا لقيه جبرائيل يُدارسه القرآن. فكأنه ثمة ارتباط بين مُدارسة القرآن وما بين الإنفاق في سبيل الله لأن القرآن يزيد المؤمن يقينا والمؤمن إذا زاد يقينه أنفق مافي يده لِعلمه أن الذي يُنفقه سيجده أمامه (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ) .
قال ربنا (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ  أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ) ضعفين مثنى ضِعف، والعرب تعرف في كلامها التثنية والجمع والإفراد ومن حيث اللغة أحيانا يقوم المفرد مقام المثنى، ويقوم الجمع مقام المُثنى وقد جاء في هذا القرآن (فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) مع أنهما -عليهما السلام- اثنان وهذا كثير لمن تتبع القرآن. لكن -هذا كلام للطلبة خصوصا- يحسُن الوقوف على كلام الأئمة من اهل النحو واللغة خاصة في الألفاظ والمفردات التي يقوم بعضها مقام بعض، فهذا -بعون الله- ينفع في فهم القرآن ومن الكتب النافعة في هذا (فقه اللغة وسِر العربية) للثعالبي وهو كتاب زاخر بمثل هذه المواطن، بمثل هذه الإرشادات التي يحتاجها -في المقام الأول- طالب العِلم كما أنه يحسُن بطالب العِلم إذا سلك هذا الطريق أن يفطن للأئمة الكبار كابن السِكيت وابن قتيبة والجاحظ -على اعتزاله- وغيرهم مِمن أُوتوا حظا في البيان فإن هذا -بعون الله وتوفيقه- تعين على فهم القرآن لكن يتجنب من كان لديه زللا عقديا فيأخذ ما نفع الله به وما كان عنده من شبهات لم يُحسِن أن يقوم بها على سوقه يتركها على بصيرة وبيّنة ولو استرشد بالأكابر مِمن سبقوه في هذا الطريق لكان أولى. وصلى الله على محمد وآله والحمد لله رب العالمين.
-------------------------------
(*) عن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اثنان يكرههما ابن آدم: الموت، والموت خير للمؤمن من الفتنة، ويكره قلة المال، وقلة المال أقل للحساب)) قال الهيثمي في مجمع الزوائد : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح .../ وصححه الألباني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق