الثلاثاء، 27 أغسطس 2013

الوقفــ الثانية ــة من جـ 18 / مع قوله تعالى (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ..)


الوقفة الثانية : تتمة للأولى :
 الله يقول (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) فإذا جاء يوم البعث كيف يكون ؟!
 أجاب رب العالمين قال (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) إذن يوجد آلة يُنفخ فيها ولابد في الآلة هذه حتى تُنفخ أن يكون هناك نافخ والذي سينفخ إجماعاً إسرافيل أين هو؟ قد أحنى جبهته وأصغى أُذنه ينتظر الأمر من الله أن ينفخ والصُّور في يده قال هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- للصحابة قالوا : يارسول الله ما نقول ؟! قال (قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل)
 (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ)  أي إنقطع الانتفاع بالأنساب (فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) ولا ريب أن النسب اليوم ينفع صاحبه لكن حياة الآخرة ، بعد البعث غير حياة الدنيا ، بل إن الإنسان يحاول أن يفر ممن يعرفهم والسؤال الذي دائماً يؤتى لأهل العلم قضية تقديم الأخ وتأخير الأب والأم في آيات كُثر في القضية هذه.
 يجعل الإنسان يفر ممن حوله سبب يسير وهو: أن الإنسان بسبب كثرة خلطته بالغير تنشأ مظالم فإذا جاء يوم القيامة خاف أن يكون قد ظلم زيداً ، ظلم عمراً وهو يومئذ ضنينٌ بحسناته فيخاف أن تذهب حسناته لمن ظلمهم ، ولو أن أحداً لديه أسرة أبوان وزوجة وأبناء وإخوة وهو في تعامله معهم -عقلاً- أيهم يكون أكثر نيلا لظلمه ؟! سيكون ظلمه لإخوته أكثر من ظلمه لأبويه ، وظلمه لأبويه أكثر من ظلمه لأولاده لأن أولاده المحبة نحوهم شديدة ثم الوالدان ثم الإخوة ، إذا جاء يوم القيامة يبدأ يفِر ممن غلب على ظنه أنه ظلمه قال الله (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ*وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) لأنه يعلم أن يومها لا دينار ولا درهم إنما هي حسنات وسيئات أين العاقل ؟! العاقل من احتاط لهذا وتجنب أن يظلم أحداً قرُب أم بعُد قال ربنا (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ).
 ثم أخبر الله عن الميزان قال (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ*تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) الميزان له كِفتان لكن السؤال ما الذي يوزن ؟! هذا فيه خلاف بين العُلماء :
 قال بعضهم: الذي يوزن العمل واحتجوا بأحاديث منها (والحمد لله تملؤ الميزان)
 قال آخرون: إن الذي يُوزن صحائف الأعمال واحتجوا بحديث إن الله سيُخلص رجُلاً من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق يُنشر له تسعٌ وتسعون سِجلاً.
قال آخرون: الذي يُوزن هو صاحب العمل واحتجوا بحديث (أتعجبون من دقة ساقيه) يعني في حديث عبد الله بن مسعود : (والله لهما في الميزان أثقل من جبل أُحد) وبآية (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا).
وقال آخرون: إن الذي يوزن العمل وصاحب العمل وصحائف الأعمال هذا هو الراجح من أقوال العلماء.
 قال ربنا (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ*تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ) ثم يُسألون لا سؤال استعلام لكن سؤال توبيخ (أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ) فلا يجدون جواباً إلا أن يقولوا قالوا (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ) ثم يتوسلون إلى ربهم أن يُخرجهم (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) ذكر الله سؤالهم في مواطن عدَّة ، موطن يسألون فيه خزنة النار لكنهم لا يجدون جواباً ، فإذا يئسوا من خزنة النار لجأوا إلى خازن النار الأول وهو مالك (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ) ، فإذا يئسوا من مالك سألوا رب العالمين (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ*قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) فلا يتكلمون بعدها أبداً ، نعوذ بالله من أن نكون ممن نسأل هذا أويُرد علينا بمثل هذا (قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ).
ثم بيَّن حال الأتقياء في الدنيا قال (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي) ترونهم ويرونكم ، تُخالطونهم ويُخالطونكم ، تُبصرونهم ويُبصرونكم (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَنعم نحن آمنا لكننا نعترف بالتقصير فلمَّا اعترفوا بالتقصير وأنهم لم يعبدوا الله حق عبادته كان بدهياً أن يستغفروا (رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا) فإذا اجتمع الدُعاء في القرآن (فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا) غالب الظن أن المغفرة تُصبح إلى ما قد سلف أن تغفره ، والرحمة أن تعصمنا فيما بقي ، تُصبح الرحمة تُحصننا فيما بقي هذا قول حسنٌ في المسألة (رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا  وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) لمَّا كنتم أيها الكُفار تُبصرون هذا ماذا وقع منكم ؟! (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ) فرجعتم ورجعوا إليّ ، ومما خوّف الله به عِباده كلما رأيت أحد مُسرف على نفسه في المعصية مُقبل عليها ذكِّره بآية (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) يعني أين أنت غادٍ؟ أين أنت رآئح؟ أين أنت ذاهب؟ الله يقول (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) هذا التخويف الذي جاء في (إقرأ) قال الله هنا (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ) الآن ماذا حصل ؟! أنتم وهم رجعتم إلي وقد خوفتكم من قبل (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) كلاكم رجعتم إليّ وأنا الحكم العدِل -جل جلاله- فيقول -جل وعلا- (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَمن كنتم تتخذونهم سخريا (بِمَا صَبَرُوا) "الباء" سببية أي بسبب صبرهم ، (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) هذا لفظ "هم" الضمير هنا وهو منفصل إقحامه هنا كأنه يعني معنى أن لا فائز غيرهم (هُمُ الْفَائِزُونَ) أي لا فائز غيرهم وهذه الشهادة من رب العالمين تدل على أن الفوز الحق هو من يرضى الله عنه ومن يُكرمه الله بدخول جنته ومن يشمله الله -جل وعلا- برحمته (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) .
فيتساءلون (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)  بل إن الله قال في سورة طه إن أمثلهم طريقة -أعقلهم أفهمهم أشدهم علماً وفهما يقول  (إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا) ، (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ*قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ثم يتنصلون من الإجابة يقولون (فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ) فيأتيهم الجواب مهما بلغ خلودكم في الدنيا فإنه قليل (قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ*أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) لا لأمرٍ عظيمْ وخطبٍ جليلٍ وهو عِبادته -جل وعلا- (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) أعاد لفظ الرُجعى حتى يُعلم أنه من أعظم طرائق التخويف أن يعلم العبد أنه سيرجع إلى ربه -تبارك وتعالى- فقال -جل وعلا- (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) فلمَّا قضي الأمر واستقر هؤلاء في الجنة وأُولئك في النار تبيَّن لكل أحد من الفريقين عظمة الله وجلاله فقال الله (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) تعالى الله أن يُشرك به ، تعالى الله أن يُنسب له ولد ، تعالى الله أن يُقال فيه نقص ، تعالى الله عن كل نقصٍ وعيب (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) ولو تدبرت القرآن تجد أن الله إذا أراد أن يثني على نفسه كثيراً في هذا وفي غيره أنه ينعت نفسه -جل وعلا- بأنه ربٌ للعرش العظيم قال في النمل (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) والله أعلم . ‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق